الفصل التاسع
أقيم فرح سهير الحزينة، فكان على أروع ما أريد له أن يكون، وطرِبَ الزوار وانتشوا بالغناء، فكانوا هم ومعهم سليمان وسميحة رمز الفرح في القصر.
كان سليمان فرِحًا يغشى فرحه بعض اضطراب، فهو إن يكن قد ربط جأشه وسكن مضطربه بعد كتابة عقد الزواج، إلا أنه عاد لنفسه يسألها: ماذا هو قائل في ليلته تلك؟
ماذا هو قائل لسهير في لقائهما الأول، إنه لا يفكِّر فيما هو فاعل، لأن أمه منعته أن يفعل شيئًا في ليلته الأولى، فشأن العروس في الليلة الأولى أن تكون مضطربة، ويجب على العريس أن يُطمئن روعها ليلة أو أكثر من ليلة، حتى يزول عنها الروع ويهدأ المضطرب.
فماذا هو قائل إذن؟ لو أنه كان مثل وصفي لفتح للحديث أبوابًا، أما وهو لا يستطيع حديثًا فماذا يفعل؟! آه لقد تذكَّر، ألم يكن يحكي على صديقاته في أوروبا ما يجعلهنَّ يضحكن حتى تسيل الدموع من عيونهنَّ، أو لم يكن أترابه وأصدقاؤه هناك يضحكون منه هم أيضًا؟ نعم إنه لم يجد بمصر منذُ عادَ مَن يضحك من حديثه، إلا أن هذا لن يقف به عن المحاولة، فإن عروسه مثقفة، ولا بد أنها ستضحك كما كان أصحابه يضحكون، لقد هداه الله إلى الحل، وإنه لمتبعه فبالغ ما أراد لنفسه أن يبلغ في ليلته.
وراح سليمان يُعيد على ذهنه ما كان يحكيه بأوروبا لأصدقائه، منصرفًا عن الفرح إلى تلك الأيام المزدهرة في حياته، والمدعوُّون في شغلٍ عنه إلى الغناء وإلى أصدقائهم، لا يحفل واحدٌ منهم شأن سليمان؛ فلم يكن ذا شأن بينهم أو بين غيرهم، فهو من أولئك الذين إذا حضروا أو غابوا لم تحسَّ حضورهم أو غيابهم، وقد كان في هذه اللحظة حاضرًا غائبًا، يفكِّر ويبتسم ويفرح، لقد هُدي إلى الحل، ووُفِّق إلى السبيل!
وكانت سهير في الطابق الأعلى، يُعينها على ستر ما بنفسها من ألم وحسرةٍ الخجلُ الذي تتَّشح به العروس في ليلة زفافها، فهي صامتة عن ألم، وتظنُّ المدعُوَّات أنها صامتة من خجل، والله يعلم، والباشا وأمها، على أي لاعج من أسى ينطبق صمتها.
وانتهى الفرح، وخلا العروس إلى عروسه، ولم يجد سليمان من كلِّ ما كان يُعِدُّه في رأسه إلا: مساء الخير.
ونظرت إليه سهير، إنه في القرب أبشع منه في البُعد، وجاهدَتْ نفسها أن تجيب، فلم تستطع، فأشاحت متخذة من خجل العروس وقاء لها من الإجابة.
وتمطَّى سليمان وألقى نفسه إلى كرسي وهو يقول: متعب الفرح.
وسخرت سهير في نفسها من كلمة الفرح، وظلَّت في صمتها.
– أليس عجيبًا أن تكوني ابنة عمي ولا أراك إلا الليلة؟ عادات سخيفة! عندنا في أوروبا كان النساء يقابلن الرجال حتى الأغراب، تصوري!
عندنا في أوروبا؟ لا، لا أطيق، أيجمع إلى قبح المنظر، وصفاقة الوجه، ثقل الدم أيضًا؟ لا، لا يا رب، لم أقدِّر لنفسي كلَّ هذا العقاب، النجاة يا رب النجاة! عندنا في أوروبا؟ ويقول تصوري؟ أنا متصورة! أنا عارفة، فلا حاجة بي إلى التصور، الشيء الوحيد الذي لا أتصوره هو أنت يا زوجي، يا شريك حياتي، يا مستقبلي كله، يا بقية عمري، وأخشى والله أن تكون بقية العمر طويلة.
– كان النساء يجلسن معي، وهنَّ لا يعرفنني، وكنا نتكلم ونتبادل الأحاديث.
ثم يضحك سليمان في غرور شائِهٍ ثقيل.
– كُنَّ يُعجَبن بي إعجابًا كبيرًا.
بك أنت؟ لا، إني أعلم، لقد كُنَّ يضحكن منك لا لك، كنتَ سخرية الأصدقاء والصديقات، ويلي أنا، لقد كنتَ تقيم مع الواحدة منهن ساعة أو يومًا أو شهرًا، ثم تنصرف عنك، ولا يمكن أن تنصرف أنت عنها لأنك صفيق، أما أنا فالعمر، العمر كله.
– تعرَّفتُ هناك ببنات كثيرات جميلات، ولكنهنَّ طبعًا لسنَ في مثل جمالك.
وتُغازل أيضًا؟ يا لها من مصيبة! إنه يستعرض أمامي مهارته مع النساء، ويغازلني في وقت واحد، كان من المفروض أن أفرح أن كان له سوابق مع أخريات، نعم والله كنت خليقة أن أتعزَّى لو أن هذا الذي يرويه حق، كنت خليقة أن أعزِّي نفسي بأن أخريات نُكِبنَ به قبلي، ولكن مَن أدراني أنه الحق!
– أنت غيرَى، أليس كذلك؟ لا، لا، لا تغاري، فقد انتهى ما كان بيني وبينهنَّ، ولقد شئتُ أن أقصَّ عليكِ هذا الحديث، حتى أكون صريحًا معكِ منذ أول ليلة، هيه لا تغاري!
أغار؟ عليك أنت؟! ألم ينظر في مرآةٍ هذا الثور؟ أنا أغار عليه؟!
وقام سليمان عن كرسيه واقترب منها في كرسيها الذي جلسَتْ إليه، وقد ألقَت برأسها إلى كفيها تدير إجاباتها على زوجها في ذهنها ولا تنطق منها بشيء، اقترب سليمان من زوجته ووضع يده على كتفها، لم تكن رأته وهو يقوم عن كرسيه مقتربًا منها، لم ترَ شيئًا من هذا، ولم تُحسه، لم تُحس إلا بيده تهبط على كتفها، فلم تشعر بنفسها إلا وهي في آخِر الغرفة، تصطك أسنانها من المقت والخوف، محدِّقة فيه مذعورة، لا تنطق بلسانها شيئًا، وإن كانت عيناها قد نطقتا بكل شيء.
ولم يكن سليمان يفهم من لغة العيون شيئًا، وإنما قال في نفسه «إن أمي خبيرة، إنها تدرك الذعر الذي تلتقي به العروس في ليلة زفافها الأولى».
•••
وفي الصباح بكرت سهير تخرج من غرفتها، وتركت زوجها نائمًا هادئ البال مطمئنًا، لم تجد أحدًا صاحيًا، فاتخذت لنفسها مكانا في البهو، وراحت تفكِّر فيما أصابت به نفسها، وحاولت جهدها أن تنفي عن نفسها هذه الأفكار، ولكن الأفكار كانت أقوى منها، فهي تمور بعقلها في ثورة عارمة، فليس لها منها نجاة.
قامت سهير تتمشى في أرجاء البيت، وقصدَتْ إلى الشباك المُطِل على باب البيت والشارع، وكانت الحياة قد بدأت تدب هونًا في الطريق، فبائع الفول يدفع عربته، لم تتحلق حوله الخادمات والخدم بعدُ، وبائع اللبن يسير حاملًا بيده إناء اللبن، وفوق رأسه ذلك اللوح الكبير الذي استقرَّتْ عليه أطباق القشدة وأوعية لبن الزبادي الفارغة، والموظفون يسيرون فُرادى، والتلاميذ يسيرون جماعات، وعم إدريس يُصلِّي، وقد وضع بجانبه موقدًا من الفخار اشتعلَتْ فيه النار واستقرَّ عليه إناء الشاي والعيش، ورأت سهير النار تشتعل وتكاد تلتهم العيش، فما يملك عم إدريس إلا أن يخرج من الصلاة بغير انتهاء، بل إنه حتى لا يستأذن ربه في الخروج من ساحته بأن يلقي السلام على الملائكة الذين يحفون به وهو قائم، لا يفعل شيئًا من هذا، بل هو يترك الصلاة في جزع عاجل وينكفئ على النار، يختطف منها العيش أن تلتهمه قبله، وتلوح ظِلُّ ابتسامة على شفتَي سهير، كانت جديرة بأن تكون ضحكة عريضة، لولا ما بالقلب من ألم، وتظل سهير رانية إلى عم إدريس وإلى الشارع، وقد ماجت فيه الحياة وتسارعت فيه الخطوات، وجرَتْ به العربات تجرُّها الجياد، مُطهَّمة حينًا أو كسيرة وانية الخطو حينًا آخَر، وقد ترى من حين إلى حين سيارة تخترق الطريق في زهو، مدلة بسرعتها وأناقتها، فتلقاها الخيل وسائقوها بكبر، كبر صاحب الأصل الدارس صار إلى الفقر، ولا يزال متشبِّثًا بأصله العريض، وإن يكن قد تهدى إلى فقر وإرهاص بزوال.
واستطاعت الحياة أن تُلهي سهير عما يمور بنفسها بعض الحين، فلم تنتبه من وقفتها إلا على عربة مُطهَّمة الجياد تقف أمام بيتهم وينزل منها ابن خالها سامي عبد الحميد، أمل أختها سميحة وفتاها، وحين تركت النافذة خشية أن يراها سامي، سمعت جرسًا يدق، فأدركت أن أباها قد صحا، فذهبت إلى غرفته، وقالت وهي تفتح الشباك، وقد حملت جرائد الصباح في يدها: صباح الخير يا أبي.
وقال الأب في بعض دهشة: صباح الخير يا بنتي، صباح الخير يا عروسة!
وكانت سهير قد أصبحت بجانب سرير أبيها، تضم الكلة المسدلة عليه، وهي تقول: أرجو أن تكون قد نمت نومًا هانئًا؟!
– أرجو أن تكوني أنتِ قد نمتِ نومًا هانئًا، لقد صحوتِ مبكرة يا سهير، خير يا سهير.
– خير يا أبي.
– قولي يا سهير، هل أنت مرتاحة؟
ولم تستطع سهير أن تحتمل حزنها أكثر مما احتملت، لم تستطع أن تكتم الدموع الطافرة من عينَيها، فأدارت وجهها عن أبيها، وانهملت دمعات صامتة، وألحَّ الأب في السؤال، والدموع لا تزال تتزاحم في عينَي سهير، حتى إذا عجزت عن وقف دفاعها جلست على سرير أبيها، وألقت برأسها على حافته، وقد تشبثَّت يداها بهذه الحافة وبكت، في همهمة خافتة أول الأمر، ثم ما لبثت أن انفجرت عن بكاء صاخب، تكاد تذرف فيه قلبها، وأمسك أبوها بها، واحتواها في صدره، فازداد بكاؤها عنفًا، والأب الراسخ الصلب لا يجد ما يفعله سوى أن يربت كتفها، وقد ثارت في نفسه عاطفة الأبوة جياشة، رقراقة عنيفة، حتى لم يستطع وهو الرجل الذي عرك الحياة وعركته، إلى أن صار من الحوادث كالجبل الأشم، تدور به الرياح فلا تنال منه، لم يستطع أحمد باشا إلا أن يسكب دمعات، سارعت يده إلى تجفيفها قبل أن تراها ابنته.
وأحسَّت سهير في حضن أبيها بعض راحة، وأحسَّت أن بكاءها لن يفيدها شيئًا إلا أن تعذِّب أباها، فتمالكَتْ وانتفضت عن سرير أبيها إلى خارج الغرفة، لم تغِب عنها كثيرًا، بل هي تعود إلى الأب الحزين، وعلى شفتَيها شبح ابتسامة باهتة، وتجد أباها يختم صلاته، فتجلس رانية إليه في حب، حتى إذا قام عن السجادة قالت: إن أكُنْ قد آلمتُك يا أبي هذا الصباح، فإني أحمل لك خبرًا تفرح له.
– والله يا بنتي لا أعلم أن شيئًا يفرحني وأنت حزينة.
– لا عليك مني يا أبي، إن سامي قد جاء الآن ويرجو لقاءك.
– وأي شيء يُفرِح في هذا؟
– ألا تدري يا أبي، إنه يريد أن يخطب أختي سميحة، فبحياتي عليك يا أبي إلا قبلته.
– سامي ابن حلال، ولكن هل سميحة تريده؟
– نعم يا أبي، إني سألتها.
– هل أعتمد على قولك هذا وأقبله، وأحمل عن نفسي مئونة سؤالها وخجلها؟
– نعم يا أبي.
– إذن فأرسلي إليه مَن يصعد به إلى هنا، وأخلوا له الطريق.
وما هي إلا دقائق، حتى صعد سامي إلى زوج عمته التي كانت قد صحَتْ هي أيضًا، وانضمت إلى زوجها في حجرته، وما هي إلا دقائق أخرى، حتى خرجت تفيدة هانم من الحجرة، وأعلنت إلى ابنتها سميحة أن أباها قد قبل خطبة سامي لها، وانطلقت الزغاريد في القصر، صاخبة فرِحة هذه المرة، لا يعوق انطلاقها شيء.
وصحا سليمان من نومه على هذه الزغاريد، فظنَّ أنها مُوجَّهة له، وحدَّثَ نفسه أنه لا يستحقها بعد، ولكنه لم يستطع أن يصرِّح، ووضع على نفسه معطف المنزل، وقصد إلى حجرة عمه، وهناك عرف ما أطلق هذه الزغاريد من عقالها، فهنَّأ سامي وأصابت نفسه غصة، فقد كان يعلم أن سامي أغنى منه، ولكنه تذكَّر ما نال من عمه في أمسه، فثارت في نفسه فكرة جاهد أن يكتمها، إنه يريد أن يدعو زوجته إلى رحلة خارج القاهرة، يتمتعان فيها بشهر العسل، حتى يُظهِر لعمه أنه سينفِّذ أمره له بإظهار كرمه أمام زوجته، وحتى يستطيع أن يتيح لزوجته أن تأنس به من تلك الوحشة التي عرفها منها في ليلة البارحة، وكان يجاهد نفسه ألا ينفِّذ هذا العزم، حرصًا على الأموال، واحتفاظًا بها، ليشتري قطعة أرض يضيفها إلى تلك الأفدنة القليلة التي تركها له أبوه.
وبينما كانت هذه الأفكار تتصارع في نفس سليمان، كان القصر يموج في فرحة غامرة، فسهير مع سميحة تحضنها، وتبكي بكاء اختلط فيه الفرح بالحزن … فرح بأختها وحزن على نفسها، وتجيبها سميحة بالبكاء، لا يبتعثه إلا الفرح الخالص، تشوبه الأحلام الوردية، عن الهناءة التي ترنو إليها في ظل هذا الزواج السعيد.
وكانت الأم فرحة هي أيضًا، فرحة بريئة ساذجة، ولكنها لم تسعد بهذا الفرح كثيرًا، فهي تنظر إلى وجه زوجها فتجد فيه ألمًا يجاهد في إخفائه.
– خير يا باشا، أنت متعب؟
– والله يا تفيدة نعم.
– وما لك لا تقول؟
– اتركي البنات يفرحن.
– البنات لا يفرحن إلا بك يا باشا، صحتك أهم من كل شيء.
وانكتمَ الفرح في الصدور، وانكتمَ معه حزن سهير، وحيرة سليمان الذي وجد في مرض الباشا قرارًا حاسمًا، إذ لا يمكن أن يدعو زوجته إلى رحلة وأبوها مريض.
وسرعان ما جاء الأطباء، وهرول سامي ليشتري الدواء، وتكاسل سليمان متظاهرًا أنه يريد أن يظَلَّ إلى جانب عمه، مرتئيًا في هذا العذر إعفاء له من دفع ثمن الدواء، وجاء الدواء، ولكن متى نفع الدواء، وقضاء الله مقضي، سبحانه يهب الحياة ويختارها إلى جواره، هو وحده صاحب الأمر فيها مبتدئة ومنتهية.