بيني وبين أمين الريحاني
وجدت في الريحاني أخا رأسي ساعة عرفته عام ١٩٠٨. أما كيف عرفته فقد سردت خبر ذلك في غير هذا الموضع. جاءنا الريحاني من أميركا صوفيًّا، ولكن صوفيته كانت غير مائعة فأحببته. جاء من بلاد العم سام ومعه في جرابه «بزور للمزارعين» فألقاها في تربة بلاده، ثم استحالت صوفيته عملًا فصار كاتبًا نضاليًّا، فمشيت وإياهُ ورافقته حتى آخر خطوة، فأعجبني منه تصلبه؛ فلم يكن قط كبعض أصحابنا مع كل خيل مغيرة.
كان أمين أول من حلم «بالجامعة العربية» وسعى لها، وفي كتابه ملوك العرب وغيره بيان ذلك. ولسوء حظه لم يُكتب له أن يعيش ليرى ثمرة نضاله، ولكن هذا لا يعني الفيلسوف العامل فهو يحيا للأجيال، وفي الأجيال، ومع الأجيال.
ليس هنا مقام درس الريحاني؛ فلهذا موضعه في كتبي. أما الآن فأقول ما لا بدَّ منهُ في كتابي هذا، فهو صورة لقضية لم أدَّعِ التبجح بها إلا حين صار القول فيها مباحًا، وكثر المدَّعون، وحام حولها المتذبذبون الاستغلاليون …
أسميت ابني محمدًا عام ١٩٢٦، فكان الريحاني أول من طرب وانتشى لهذا العمل. أدرك أبعد مداهُ؛ فكتب إليَّ هذا الكتاب:
أخي مارون عبود
أُصافحك بيدي الحب والإعجاب، وأهنئك بصبيِّك الجديد، وأهنِّئهُ باسمه الأجد، وبالقصيدة التي نظمتها لهُ ولهذا الوطن الغني بالأديان، الفقير بين الأوطان.
أحسنتَ يا مارون، أحسنتَ وخيرُ الآباء أنت.
وحبذا في المسلمين وفي الدروز وفي اليهود مَن يقتدون بك فيُسمُّون أبناءهم بأسماء آبائنا القديسين، ونُسمِّي أبناءنا بأسماء أبنائهم الأولياء؛ فينشأ في هذه البلاد جيل جديد من الإخوان — الإخوان الحقيقيين — الذين لا يعرفون من أسمائهم أنهم لأحمد أو لموسى أو للمسيح، بل لا يعرفون خارج المعابد أنهم مسيحيون أو مسلمون أو موسويون.
إن المستقبل لهذا الجيل من الإخوان، وفي مقدمتهم محمد بن مارون بن عبود اللبناني — حرسه الله.
الفريكة، لبنان
١١ نوفمبر سنة ١٩٢٦
وتلت هذا الكتاب اجتماعات عديدة بيننا دُبِّرت فيها خططٌ غايتها «التوحيد» — أعني من التوحيدِ القوميَّ منه — فكان أمين رسولًا، وكنت أنا معلمًا، فعملنا ما عملنا ولا فخر.
وكان العام ١٩٣٤، فدُعيتُ وأمين لنخطب الناس، وكان الداعي لي تلميذي الأستاذ معضاد معضاد، فتخلفت أنا ولبَّى أمين، فلم يكد يخرج من الحفلة حتى قبضت عليه السلطة ونُفي من البلاد، وبعد قليل من الزمن عاد أخونا أمين إلى الفريكة فكتبت إليه:
أخي أمين دمت عزيزًا مشرفًا
ما أدري كيف عدت! أَتائبًا كداود أم متمردًا كأبيشالوم؟ واليد التي أعادتك، أقفازها من فراء الهررة وريش الديوك، أم من جلود الأسود والنمور؟ أم الجنة لا يدخلها إلا من توسل إلى الله بأحد القديسين الاختصاصيين كالخضر وغيره …
يا أخي أمين، خبِّرني، أليس الانتداب في كل مكان، حتى السماوات في كوخ الفقير وقصر الملك، طورًا تُنتدب الأناس وتارة الإناث …؟
فإلى أين يا أمين، أَإلى القبر؟ ففيه انتداب منكر ونكير، أإلى السماء؟ ففيها انتداب بطرس ورضوان، وفي هذه الأرض يتنازعنا الملاكان … وفي جهنم لوسيفوروس وأصحابه ذوو الأذناب والقرون …
فما أرى هذه الأمة إلا مفلتة من نير لتقع تحت النير، وما شكر السوق إلا من ربح. لا يثير شجوني شيء، يا أخي، كالذين غرقوا حتى الآذان في لجة الفرنك، حتى إذا انقطعت الجراية كفروا بالفرنج، ولا أدري إذا كانوا يندمون كبطرس عند صياح الديك.
ألَا رحِم الله ابن الرومي حين قال يهجو إسماعيل بن بلبل:
فما أكثر المرتدين في هذه الأرض — وإن إلى حين — ونحن كرجال الدين نعد الارتداد هداية وهو وليد الغاية! والغايات أكثر عجائب من الليالي.
علَّلت النفس برؤيتك في العراق فإذا بك تعود إلى الفريكة، فهنيئًا لك ربيعها الضاحك كسِنِّك، وإن خلا من سخريتك، وأنعم بمنظر سنابلها الطريئة! فكل ما على «أرضنا» فريك … الحصاد كثير والفعلة قليلون؛ فاطلب ما شئت من رب الحصاد.
قرَّت بطلعتك عين «عجوز منبج» يا أبا فراس، وعليك ألف سلام من أخ يشتاقك وهو جد مؤمن بوفائك ومروءتك وإبائك.
٢٢ / ٤ / ١٩٣٤
أما جواب أمين فكان حاميًا، ولكنه استحال في قلبي بردًا وسلامًا. وإليك نصه:
أخي مارون — حفظهُ الله
وأبيشالوم، إنك مازح في كتابك الجميل إليَّ، أو إنك هازئ يائس، ليس أخوك ممن ينشدون المثل الأعلى في الزبور، ويقتدون بمن غيَّر فكره عند صياح الديك، فقد عدت إلى الوطن لأني مثل الذين أبعدوني أحب هذا الوطن، ومثلهم أحب أن أقيم فيه على الدوام.
وإننا نحن — والله — المقيمون على الدوام لا هم. أجل إنني أعلم وأعتقد وأتيقن وأتأكد أن سيجيء اليوم الذي يُرى فيه المستعمر الأثيم حاملًا بندقيتهُ ومدفعهُ وطبلهُ وزمرهُ — وكيسه الفارغ — وراحلًا راحلًا.
البرهان؟ الدليل؟ أنا وأنت والقلائل الكرام، إخواننا في كل مكان، البرهان؟ الدليل؟ مدرستك وتلاميذك، ومدرستي السيارة وتلاميذي، وذريتهم وذريتنا، وإيمانهم وإيماننا، وجهادهم الذي سيكون أضعاف جهادنا شدة وانتشارًا، لا يُريبنك ذلك.
فلا تزال الشعوب سائرة إلى الأمام.
ولا يزال الإنسان عاملًا جادًّا في سبيل الرقي في كل مكان، ولا تزال البنود الحمر تخفق فوق رواسي الفكرِ والأملُ الخالد يشع حولها.
ولا يزال الله على عرشه حيًّا يرزق.
عفوًا يا أخي مارون، ما جئتُ أقرع الطبول في حزنك، ولا جئت أعزيك بوفاة الوالد — رَحِمَه الله — وسيَرْحمهُ الله، وكيف لا يرحمه وأنت ابنه؟ بل سيكرمه لأنك ابنه، لا يريبنَّك ذلك.
إن يقيني بما سيكون لأشد جدًّا من يقيني بما هو كائن. الغد لنا يا مارون، الغد لنا هنا وهناك.
والسلام عليك من أخيك المشتاق إليك.
سلم على الأخ الرئيس والإخوان زملائكم. دمتم متمردين فيما تعلمون، مُوفَّقين فيما تزرعون.
الفريكة، لبنان
في ١١ نيسان ١٩٣٤
أيها الأخ الحبيب لبيب الرياشي
أُقبِّلك مشتاقًا إليك، وبعدُ: فأسميتُ ابني محمدًا؛ لأن لسَمِيِّه النبي العربي مقامًا ساميًا في نفسي، وأحبهُ حبًّا جمًّا، وأعجب جدًّا بشخصيته الفذة، ولأنني كرهت — حتى الاشمئزاز — أن تكون أسماؤنا مثل «تذاكرنا». نعم، كرهت أن يكون اسم ابني طائفيًّا كاسمي؛ فرأيت أن أمزج الاثنين عملًا برأي الأخطل التغلبي … وأنا مطمئن كل الاطمئنان إلى هذه الأسماء، وفي اسمه — جوابًا على سؤالك — كل التأثير عليه، وعلى إخوته، وعلى البيت، وعلى الضيعة، وعلى المحيط.
لم أعمِّد أحدًا يا أخي من أولادي، ولكن والدي عمَّدهم جملة في غيابي. وهذا الوالد الطيب المتساهل كان أول المؤمنين برسالتي — إن صح التعبير — وهو أول من سايرني فتبعه الناس.
تسأل ماذا قال الكاهن؟ الكاهن كالعادة المألوفة عندنا أسماه «بالكتاب» … نسيت والله، ذُكر هذا مرة أمامي وامَّحى أثره. وقد كان نصيب أخويه نديم ونظير كنصيبه من تغيير الاسم؛ لأنني — كما لحظتَ — لم أُسَمِّ أحدًا على اسم الآباء القديسين، رزقك ورزقني الله شفاعتهم آمين …
أما «التثبيت» — وهذا فاتك السؤال عنه، وهو سرٌّ من أسرار أمي وأمك الكنيسة المقدسة — فلا يقوم به إلا أُسقف، فالمطران إلياس شديد — أحببت جدًّا هذا المطران وأعظمت مسيحيته وإنسانيته — «ثبَّته» باسم محمد مارون، في غيابي، على سمع الناس وبصرهم في كنيسة مار روحانا عين كفاع. لا تظن أنني أحببته لأنه جاراني. لا وحياتك يا أخي، ولا أشك أبدًا أنك إذا عرفته لتحبه مثلي. فالحق أقول لك: لو عرفه النابغة الذبياني لم يقل «أي الرجال المهذب؟» إنه لا يكلفك شيئًا من تقاليد الكتبة والفريسيين … خارج هيكله. ولا أشك أنه يستقبل ربهُ بقلب نقي، ويبسط إليه يدًا نظيفة …
القصيدة، يا أخي، طبعت في أقطار عديدة. وها أنا أبعث إليك بنسختين لديَّ غيرهما؛ واحدة بيروتية، والأخرى شامية.
افعل ما بدا لك، وكن مخلصًا للفن، وإياك أن تنصر أخاك … الفن للفن، والصداقة في حرز حريز، يا لبيبُ.
والسلام عليك وعلى أهلك من أخيك العتيق.
٢٢ / ٥ / ١٩٣٥