مقدمة
بغضِّ النظر عن المجال الذي تعمل فيه، من المرجح أن المنافسة الشديدة وحالة التقلُّب المتفاقمة ومطالب العملاء المتزايدة تزيد من الحاجة إلى الابتكار، لكن مجرد الدعوة إلى الابتكار ليست كافيةً لتحقيقه.
(١) ماذا يتطلَّب الابتكار؟
إن القدرةَ على ابتكار منتجات أو خدمات جديدة ومبتكرة وعمليةٍ تحلُّ مشكلة معينة، أو تُلبِّي حاجةً ما، بل تفعل ذلك أيضًا على نحو مربح؛ تتطلَّب عملًا جماعيًّا وثقافةً مؤسسية تحتضن المتناقضاتِ، وعقليةً قيادية استثنائية.
(١-١) العمل الجماعي
ينجح الابتكار حين يجتمع أشخاصٌ من تخصُّصات وخلفيات مختلفة، لوضع احتمالات جديدة لم يكن أيٌّ منهم يستطيع تصوُّرَها بمفرده. يتطلَّب تحقيقُ هذا أن يتعاون الأفراد المختلفون في العمل معًا على أفضل نحوٍ ممكن. إنَّ أفرادَ الفِرَق الذين يحققون الابتكارات، لا يكتفون بمجرد وضع خبراتهم وأفكارهم ونزعاتهم في مشروعٍ بعينه ثم مزجها معًا، بل يجدون سبلًا فاعلة للعمل معًا والتعاون المثمر فيما بينهم. إنهم يجدون طرقًا لإحداث تكامل بين وجهات نظرهم المختلفة تمامًا؛ وذلك من أجل وضع احتمالاتٍ غير مسبوقة؛ وهذا هو العمل الجماعي.
ما السبب في تسميته العملَ الجماعي بدلًا من أن نقول ببساطة بناء فريقِ عملٍ فعَّالٍ؟ السبب في ذلك أن الابتكار عمليةٌ كثيرةُ التغيُّر لا تتبع مسارًا محددًا، وهذا يعني أنه ليس من الممكن دائمًا معرفةُ ماهية المهارات التي ستحتاج إليها في الفريق بالضبط مقدمًا، أو معرفةُ المدة التي ستحتاجها فيها؛ ممَّا يُصعِّب عليك تخطيط وبناء فريق ثابت ومُعَدٍّ جيدًا قبل بَدْء المهمة.
على سبيل المثال: في أي غرفة طوارئ عادية بأي مستشفًى، تعتمد نتائج علاج المرضى على التنسيقِ المتلاحم والتواصُلِ الفائق بين أطباء من تخصُّصات مختلفة، ربما لا يعرف بعضُهم أسماءَ الآخَرين في بداية مباشرتهم للحالات؛ هذا هو العمل الجماعي. يمزج العمل الجماعي العالي الجودة بين سرعة التعرُّف على الأشخاص — وعلى خبراتهم ومهاراتهم وأهدافهم — وبين الاستماع إلى وجهات نظر الآخرين، وتنسيق الجهود، واتخاذ قرارات مشتركة.
تتمثَّل الرسالةُ الجوهرية لهذا الكتاب في أن قادة الأعمال اليومَ يحتاجون إلى فهْمِ تلك العملية المتمثلة في «العمل الجماعي من أجل الابتكار»، ودعْمِها لضمان نجاح أعمالهم في المستقبل.
(١-٢) ثقافة المتناقضات
عادةً ما تتبنَّى المؤسسات المُبتَكِرة ثقافاتٍ تتبنَّى المتناقضات؛ ذلك لأن الابتكار يعتمد على تعايش أزواج من المتناقضات ظاهريًّا: كاللَّهْو والانضباط، والمعايير الصارمة والتجاوز عن الإخفاق والفشل، والاستعانة بالخبراء المُتَمَرِّسين والموظفين غير المتخصصين الذين يتعاطفون بشدة مع العملاء.
بالنسبة إلى ريبو، تتحقَّق الاستراتيجية حين يأتي الموظفون بفكرة جديدة، وليس حين يتبعون الدليلَ الإرشادي.
إنَّ منهجية آيديو لتحقيق الابتكار في تطوير المنتجات تقوم على التعاون بين أفراد الفرق المتعددة التخصصات، والتفكير الإبداعي، والتركيز الشديد على احتياجات المستخدمين، لكنها تتضمن كذلك عملية منضبطة. على الرغم من كل عمليات الاستكشاف والتجريب، فإن كل مرحلة من هذه العملية تتضمَّن «أمورًا يجب إنجازها»، كما تسود عقلية مادية تسعى للوصول لنتائج.
أدرك ثاد سيمور — رئيس معهد ليك نونا — أنه لتحقيق أهداف المدينة الطموحة، عليه أن يعمل بفعالية بالتعاون مع مجموعة متزايدة من الشركاء عبر قطاعات وصناعات مختلفة. وبدلًا من الاستعانة بمطورين عقاريين تقليديين، زوَّد قادةُ شركةِ تافيستوك شركةَ ليك نونا بروبرتي هولدينجز ومعهدَ ليك نونا، بمسئولين تنفيذيين من خلفيات مختلفة، كلٌّ منهم يمثِّل مجال خبرة يعكس ركنًا أو اثنين من الأركان الأربعة الآتية: الاستدامة، والتكنولوجيا، والصحة والطب البديل، والتعليم.
أشار كثيرٌ من المشاركين في هذا المشروع إلى الدور الذي لعبته ثقافة المعهد في دعم الابتكار؛ فمن أجل التشجيع على الابتكار، اتَّبع قادةُ المشروع منهجيةً استثنائية في التطوير العقاري. وقد وصف قادةُ المؤسسات المختلفة التي تمت الاستعانة بخبراتها في إقامة المشروع، قادةَ المشروع بأنهم قاموا بدور «المحفز» و«المدير» و«المهندس» و«الموجِّه» و«داعم التعاون»، وقد أكَّدوا على أن استراتيجية فريق قيادة المشروع تمحورت حول التشجيع على الابتكار من خلال الاستثمار في التعاون.
(١-٣) عقلية قيادية استثنائية
في أي مؤسسة ناجحة، تستخدم القيادة ثلاث أدوات أساسية من شأنها التأثير في أفعال الآخرين؛ الأداة الأولى هي توصيل صورة مُلهِمة لمستقبل مرغوب فيه، وسواء اعتبرتها رؤية أم هدفًا مشتركًا مُحفِّزًا، فإن الهدف من هذه الصورة الخاصة بالمستقبل هو إلهام وتحفيز الآخرين كي يبذلوا جهدًا أكبر مما يبذلونه في المعتاد. أما الأداة الثانية فهي تصميم سلوكيات مرغوب فيها؛ فيُراقب أصحاب المناصب والمراتب العليا عن كثبٍ، وعلى هذا النحو، يؤثِّر ما يفعله القادة بقوةٍ فيما يفعله الآخرون. أما الأداة الثالثة فهي التوجيه المباشر والتقييم؛ مما يساعد الأفرادَ والفِرَقَ على تحوُّلهم هم أنفسهم إلى مُنتجين وقادة مُتميزين.
وبالاشتراك المنتظم في هذه الأنشطة، يُطوِّر الأشخاصُ أنفسَهم إلى قادةٍ، بينما يساعدون المؤسسة التي يعملون لها كذلك على تنفيذ مهمتها؛ لكن هذا لن يحدث دون التزام ودعم ثقافي. علاوة على ذلك، قيادة الابتكار مهمة صعبة بسبب سمات الابتكار المتناقضة في ظاهرها.
يتعيَّن على القادة، الذين يريدون تعزيزَ الابتكار، أن «يدعموا التوجُّهات والأفعال المتناقضة ويشكلوها»؛ يجب أن يتعايشوا مع التناقض. ومثلما رأينا سابقًا عند عرضنا للثقافة المؤسسية، فإن دور القائد في تعزيز الابتكار هو أن يبني ثقافةً مَرِحة ومنتظمة، فوضوية وموجهة، مليئة بالخبراء وغير المتخصصين ذوي التفكير الواسع الأفق؛ ثقافة تدعم المعايير الصارمة وتتسامح مع الفشل؛ إنها ثقافة الاحتمالات.
(٢) تحديد موضع الابتكار على نطاق المعرفة الخاصة بالعمليات
عند أحد طرفَيْ نطاق المعرفة الخاصة بالعمليات، نجد العمل المتكرر الكبير الكم، مثل ما قد نراه في مطاعم الوجبات السريعة، أو مراكز الاتصالات، أو مصانع التجميع؛ وعلى الطرف الآخر، توجد عمليات البحث والاكتشاف. ونظرًا لأن وجود خبرة سابقة في تحقيق هدف مرغوب فيه يكون قليلًا، فإن إحراز تقدُّمٍ يتطلَّب المخاطرة والتجريب. وفي المنتصف، توجد العمليات المعقدة التي تتمثَّل فيما تقوم به المؤسسات الخدمية التي تقدِّم خدمات معقَّدة، مثل المستشفيات التي تقدِّم رعايةً تخصُّصية؛ حيث تكون بعض المعرفة مكتملةً، مثل سحب عينات الدم، لكن الكثير من المعرفة — مثل: كيفية علاج مرض نادر، أو مزيج المرضى المتوقُّع في أي يوم بعينه — ليس معروفًا أو دائمَ التغيُّر. في مثل هذه الأحوال، يشكِّل العمل الجماعي تحديًا، لكنه يكون كذلك بالغَ القيمة.
العمليات الروتينية | العمليات المعقَّدة | العمليات الابتكارية | |
---|---|---|---|
شركة تصنيع سيارات | مصنع التجميع | إدارة سلسلة الإمداد | تصميم السيارات المستقبلية وتطويرها |
مصنع رقائق الكمبيوتر | مصنع التصنيع | إدارة سلسلة الإمداد | تصميم رقائق الجيل التالي وتطويرها |
شركة أجهزة كمبيوتر شخصية | مصنع التجميع | دعم وخدمة العملاء من الشركات الكبرى | تصميم أجهزة حاسوبية مستقبلية وتطويرها |
شركة وجبات سريعة | المطاعم | إدارة سلسلة الإمداد | إجراء أبحاث بشأن المنتجات والخدمات المستقبلية وتطويرها |
جامعة | إدارة سكن الطلاب | مشروع تشييد المباني | معامل أبحاث، مجموعة مختصَّة بإعادة تصميم المناهج |
وكالة استكشاف فضائي | عمليات إعداد كشوف الرواتب | رحلات الفضاء | تطوير برامج مستقبلية |
مطار | الأمن والخدمات الغذائية | مراقبة الحركة الجوية | التخطيط المستقبلي |
مستشفى | الفصد | حجرة الطوارئ | تنفيذ فكرة السجل الطبي الإلكتروني |
(٢-١) العمليات الروتينية
تعتمد كل مصانع التجميع — سواء أكانت خاصة بأجهزة الكمبيوتر المحمولة، أم أجهزة تحميص الخبز، أم السيارات — على معرفة مكتملة ومقننة بدقة بالعمليات ذات الصلة وتُطبِّقها؛ فلا توجد مساحة لعدم اليقين. ويركِّز التعلم — في سياق هذه العمليات — بنحوٍ كبير على التطوير، وجعْلِ العمليات القائمة أكثرَ دقةً وأقل تكلفةً مع تقليص مدتها. باختصار، النجاح يعني تحسين الكفاءة.
لكنْ حتى العمليات الروتينية لا تستمر على حالها إلى الأبد. تتطلب الآلات والمنتجات الجديدة، في كثير من الأحيان، حلَّ المشكلاتِ المؤقتة من أجل تطوير عمليات جديدة سرعان ما تصبح نمطية، وبمجرد أن تُحل المشكلات وتُزال أوجه القصور والعقبات، يمكن وضع معايير ونماذج جديدة، فتصبح العمليات الخاصة بالمنتجات أو الخدمات الجديدة روتينيةً. فالفترة الانتقالية محدودة؛ لذا فالعمل الجماعي وتخطيط عملية التعلُّم لا غنى عنهما من أجل التخطيط لعملية التنفيذ.
(٢-٢) العمليات المعقَّدة
إن عدم اليقين بشأن مواعيد الوصول، والاحتياجات الخاصة بالعملاء، والتفاعلات غير القابلة للتوقع؛ تجعل العمليات المعقدة عسيرةَ الإدارة. وبالرغم من أن المعرفة بكيفية تحقيق معظم النتائج المحددة تكون مكتملةً عند بعض الأشخاص، فإن كثيرًا من المواقف قد يكون من الصعب توقُّعه؛ فمجموعة المهام التي تنطوي عليها هذه العمليات في تغيُّر مستمر، وفي كثير من الأحيان، تتفاعل المهامُّ القديمة والجديدة لإنتاج نتائج جديدة، أو غير متوقَّعة، أو منطوية على مشاكل معقدة.
(٢-٣) العمليات الابتكارية
في العمليات الابتكارية، يتمثل الهدف الرئيسي في تجربة وتوليد احتمالات جديدة، يمكن أن تُحوَّل إلى منتجات وخدمات تُطرح في الأسواق، أو يمكنها حل مشكلة مؤسسية أو اجتماعية. ودائمًا ما يكون الابتكار الناجح مصحوبًا بالتجديد؛ فالابتكار — سواء أكان في تطوير منتج أم حلِّ مشكلة — يعني العمل دون نموذج سابق.
كثيرًا ما تكون للعمليات الابتكارية أهداف غامضة، وإن كانت طموحة، يتطلب تحقيقُها التجريبَ والمحاولة والخطأ والعصف الذهني الجماعي. يتعلَّم المصمِّمون والمهندسون والمُسوقِّون والباحثون على نحوٍ نَشِط ومستمر، لكي يتوصَّلوا إلى منتجات وخدمات جديدة تُبقِي شركاتهم قادرةً على التنافس. ويمكن أن تكون حدود الفريق مليئة بالثغرات؛ فقد ينضم أفراد للمشروع ويتركونه في مراحل مختلفة خلال سير العملية، كما أن أدوار كل فرد من أعضاء الفريق قد تتغيَّر مع تقدُّم المشروع؛ فكثير من المهام يجب أن يُحدَّد ويُكلَّف به ويُنفَّذ دون تخطيط سابق في أثناء تقدُّم المشروع. ويتطلَّب العملُ التعلمَّ المستمر لخلْق احتمالات جديدة؛ ونظرًا لعدم اليقين الذي تتسم به العملية الابتكارية، يكون الإخفاق متكررًا على طول الطريق، بل متوقَّعًا أيضًا، وقد تبلغ معدلات الفشل المقبول في الأعمال القائمة على البحث، مثل مؤسسات التكنولوجيا الحيوية، أكثر من ٩٠ بالمائة.
(٢-٤) الجمع بين تنفيذ عمليات النطاق الثلاث
(٣) وصفة للابتكار
غالبًا ما يتساءل القادة الذين يسعون إلى التحفيز على الابتكار أو تعزيزه أو إحيائه داخل مؤسساتهم؛ عمَّا عليهم القيام به. إنهم يَعُونَ جيدًا أن مجرد طلب الابتكار لن يحقِّقه، ويدركون أن المجموعات المتعددة التخصُّصات لا تأتي دائمًا بأفكارٍ جديدة ورائعة، وليس بالضرورة أن يُثمِرَ التعاوُنُ بين التخصُّصات المختلفة عن التآزُر. في الواقع، بغير مزيج استثنائي من الانفتاح والتواضع والموهبة والحافز والإبداع، ربما لا يتحقَّق الابتكار، ومن الواضح أن القيادة ضروريةٌ لتنميةِ هذه السمات في مجموعات الأفراد الدائمة التغيُّر — غالبًا داخل وخارج المؤسسة — وتوجيهِها من أجل تحقيق غايات محددة.
يتميَّز العملُ الجماعي من أجل الابتكار بطبيعة ديناميكية؛ إذ يتضمَّن تحديدَ المشاركين (الذين يكونون مؤقَّتين في الغالب)، والتحديدَ السريع لما يتعيَّن القيام به، والدورَ الذي يستطيع كلُّ فرد من هؤلاء الاضطلاعَ به. إن بيئة العمل في كثير من المجالات في حاجةٍ للمزيد والمزيد من هذا النوع من المرونة؛ وجزءٌ متزايد من العمل نفسه — سواء أكان تصميمَ منتجٍ، أم رعايةَ مرضى، أم إنتاجَ برامج مخصَّصة، أم اتخاذ قرارات استراتيجية — يفرض أوجهَ ترابُط معقَّدة كثيرًا ما يلزم التعامُل معها على عجَل.
لكن، مهما كانت درجة المرونة والاستعداد للعمل مع الآخرين، التي قد يكون عليها زملاءُ المرء، فنادرًا ما يحدث العمل الجماعي الفعَّال من تلقاء نفسه؛ إنه يتطلب بذل الجهد. يحتاج العمل الجماعي إلى ترْكِ المرءِ الحذرَ الذي يكون لديه عند عمله مع الآخرين، وإلى تعاوُنِه مع زملائه على أساس الاعتماد المتبادل؛ إنه يتطلَّب تقديمَ أفكارك ومهاراتك بنحوٍ مدروسٍ، على أن تكون مهتمًّا بنفس القدر — إن لم يكن أكثر — بما يجب أن يقدِّمه الآخرون، بغضِّ النظر عن منزلتهم أو وضعهم في السلم الوظيفي. إنه يتطلَّب قبولَ أنه من المستحيل أن تبدو بمظهر جيد أو تكون على حقٍّ طوالَ الوقت. إن العمل الجماعي من أجل الابتكار يتطلَّب الإبداعَ والتواضعَ والتعاطف والحافز؛ ونظرًا لأن هذه السمات يمكن أن تزيد وتنقص في العالَم الواقعي، خاصةً في مكان العمل، يحتاج القادة إلى دعمها.
باختصار، مهمةُ القيادة في الابتكار تتمثَّل في الحفاظ على تركيز الأفراد منصبًّا على الغرضِ الذي تسعى المؤسسة لتحقيقه، والأهدافِ التي تكافح لتحقيقها، وأن يكونوا رعاةً لثقافة الابتكار القائمة على التناقض والتعارض.
- (١)
التطلُّع إلى هدف طموح.
- (٢)
تشكيل فريق العمل.
- (٣)
الإخفاق بذكاء.
- (٤)
التعلُّم بسرعة.
هذا هو كل شيء. إن الأمر بسيط (لاحِظْ أن البساطةَ لا تعني السهولة!) كما أن ثمة توصيةً خامسةً كذلك؛ وهي:
- (٥)
تكرار العملية.
أُضِيفت هذه التوصية الخامسة لأن الحاجة إلى الابتكار لا تتوقف أبدًا، واحتماليةُ الفشل في أي مرحلة من العملية لا تقل أبدًا. يتحقق الابتكار عبر رحلة مستمرة من التكرار، و«التكرار» أحيانًا يعني أن ثمة بحثًا آخر أضيق نطاقًا وأكثر تركيزًا يُجرَى، لكنه في أحيان أخرى يعني البدء من جديد؛ أي إعادة النظر في الأهداف في ضوء التغيُّرات التي ربما تكون قد طرأت منذ وُضِعت هذه الأهداف، والتعاوُن مع مشاركين جُدُد، وتحقيق حالات فشل جديدة، والتعلم مرة أخرى بسرعة.
إن طريق الابتكار ليس ممهَّدًا بطبيعته. ولفهم كل توصية من هذه التوصيات المهمة على نحو أفضل، سنتناول في الفصول التالية من الكتاب دراساتِ حالةٍ من أبحاثي التي أجريتها على مؤسسات مختلفة. توضح دراسات الحالات هذه كيف أن العمل الجماعي من أجل الابتكار يستطيع أن يُثرِي عمليةَ الإبداع ويوضح الأهداف، بل يعيد تعريف معنى القيادة أيضًا. في هذه الأمثلة، نرى ابتكارات في منتجات وخدمات وعمليات قدَّمت قيمةً لشركات أو عملاء أو مجتمعات. ويجمع هذا الكتاب رؤًى تُعَدُّ ثمرات عقدين من البحثِ على الفِرَق والتعلُّمِ في المؤسسات في شكل مجموعة من التوصيات القابلة للتنفيذ.
وفيما يلي نظرة عامة وملخَّص سريع لهذه التوصيات:
(٣-١) التطلُّع إلى هدف طَموح
ما الذي يدفع عملية الابتكار؟ دعُونا نواجه الأمر. إن التوصُّلَ إلى شيء جديد وعملي وتطويره بالكامل عملٌ صعب. توضِّح توصية «تطلَّع إلى هدف طَموح» أن الابتكار يحفِّزه — على أفضل نحوٍ — هدفٌ قوي يجيب عن الأسئلة التالية: لِمَ أكترث؟ لِمَ أُتعبُ نفسي؟ هل يستحق الأمر حقًّا أن أركِّز على القيام بشيء جديد ومفيد أولًا، وأن أضع ذاتي في المرتبة الثانية؟ إن الهدف الطموح الموجَّه للمستقبل يكون مُحفِّزًا بقوة، ولا سيما إذا كانت علاقتُه بعمل اليوم واضحةً؛ وهذا يسهِّل أكثرَ المخاطرةَ ومعاناةَ ألمِ العمل الشاق في بيئة كثيرة المطالب حيث لا يوجد شيء أكيد، كما يعني وضْعَ أهدافٍ طموحة تمتد إلى ما وراء ما يبدو عمليًّا في البداية؛ مثل: إنقاذ ٣٣ عاملَ مناجم علِقوا تحت ألفَيْ قدمٍ من الصخور، أو إخراج ستِّ رهائن أمريكيين بارزين من إيران، أو تجنُّب الأخطاء الطبية في المستشفيات.
(٣-٢) تشكيل فريق العمل
إن الابتكارَ لعبةٌ جماعية؛ فقليلة هي الطموحات المؤسسية المهمة التي يمكنك تحقيقها بمفردك، أو التي تستطيع حتى مجموعة من الأشخاص ذوي الخبرات المتشابهة تحقيقَها. إن إنتاج شيء جديد ومفيد يتضمن غالبًا، تقريبًا، تجاوُزَ حدود المعرفة، وهذا يعني أن أفراد الفريق لن يتفقوا على كل شيء طوال الوقت. وبالرغم من أن الصراع يمكن أن يولِّدَ أفكارًا جديدة ومبدعة، فإنه يستطيع كذلك أن يؤدي إلى الشعور بالاستياء والإحباط وخروج قطار الابتكار عن قضبانه. إنني أتحدث عمَّا تتطلبه إدارةُ الاختلافات لصالح المشروع، وكيفية تجنُّب مخاطر الخلاف أو التخفيف من وطأتها.
(٣-٣) الإخفاق بذكاء
على طول الطريق نحو تحقيق الطموحات الجديرة بالجهد في التعاون مع زملاء من مجالات مختلفة، ستواجه بالتأكيد إخفاقات. أُوضِّح في هذا السياق أن مفتاح الإخفاق بذكاء هو الاستفادة من تجارب الجميع ورُؤَاهم لتحديد ما لدينا من معرفة بالفعل؛ وذلك لكي نتمكَّنَ من تجنُّب حالات الإخفاق «المتوقَّعة»، وإجراء تجارب تساعد على سدِّ فجوات المعرفة لدينا. وبهذه الطريقة، تكون حالات الإخفاق التي تحدث ذكيةً ومحدودة قدر الإمكان.
(٣-٤) التعلُّم بسرعة
بعد ذلك، سأستكشف ما يتطلبه «التعلُّم» من الإخفاق، ومن التجارب الأخرى كذلك. فتأمُّلُ فريق العمل فيما حدث، وفي الدروس المستفادة، وما يتعيَّن تجربته بعد ذلك؛ خطوةٌ أساسية في عملية الابتكار، ويتعيَّن فعل ذلك علانيةً وبسرعة، وذلك عن طريق مشاركة الرؤى المتبصرة على نطاق واسع؛ لكي يستطيع بقية الأفراد في المؤسسة تحاشيَ إعادةِ إنتاج نفس الإخفاقات مرة أخرى. يساهم القادة في دعم عملية التعلم هذه من خلال طرح أسئلة تحفِّز على التأمُّل والنقاش. وطرْحُ أسئلة حول العملية وأسباب الإخفاق إجراءٌ بالغُ القيمة. ويتمثَّل الغرضُ من التأمُّل في التوصُّل في النهاية إلى التجربة التالية، مما يعني أحيانًا الإذعانَ للتوجُّه إلى الإخفاق التالي، وإتْباعه بمزيدٍ من التأمُّل. إن مفتاح التعلُّم والابتكار داخل المؤسسات هو عدم توقُّفِ دورة التعلُّم على الإطلاق، ويظل الغرض (الذي يسعى الفريق لتحقيقه) ثابتًا. أما العملية — وهي الكيفية التي نضطلع بها بالأمور — فعادةً ما يمكن تطويرها.
(٣-٥) تكرار العملية
دعونا نواجه الواقعَ. في بيئة العملِ اليومَ، لا تتوقَّف عمليةُ التعلم أبدًا؛ فنحن نحقِّق بعضَ الأهداف ونُخفق في تحقيق أخرى، لكن دورة تحديد الأهداف، وتشكيل فِرَق العمل، والقيام بإخفاقات ذكية، والتعلم منها؛ تظلُّ مستمرةً. وللتأكيد على هذه الرسالة، سأختم الكتاب بتلخيص هذه التوصيات، مع تقديم بعض الأفكار الأخيرة المقتضبة لهؤلاء الذين يقودون رحلةَ الابتكار.