الإخفاق بذكاء
يتعلَّم كلُّ طفل في مرحلةٍ ما أن الإخفاق أمر سيئ، وأن تجنُّب اللوم استراتيجية ناجحة؛ وما إن نصبح بالغين عاملين، يصبح تجنُّبُ الفشل والإخفاق عادةً شبهَ متأصِّلة فينا. ربما تحافظ هذه الاستجابة الذاتية الوقائية على سمعتنا (أو على الأقل هذا ما يظن معظم الأشخاص أنهم يفعلونه)، إلا أنها تضرُّ الشركات التي نعمل لديها؛ والسبب هو أنه من المستحيل تقريبًا أن يتعلم الأشخاص من الإخفاقات إنْ لم يعترفوا بها ويُحلِّلوها. في أي مجال يكون الابتكار ضروريًّا للبقاء، تكون القدرةُ على التعلم من الإخفاق مهارةً أساسية.
إذن فالتعلُّم من الفشل يبدأ بالتخلِّي عن فكرتنا السابقة عن الفشل. يرجع هذا إلى أن الأفكار الطفولية عن النجاح، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتقدير الذات والمكانة والحاجة إلى الحصول على رضا الآخَرين عنا. وعندما نصبح بالغين، ندرك أن المعرفة في حالة تدفق مستمر، وأن التكنولوجيا تأبى إلا أن تتغير باستمرار، وأن مواجهة المواقف الجديدة وغير المألوفة هي ببساطة جزء من طبيعة العمل في القرن الحادي والعشرين، كما أن توقُّعَ أداءٍ مجردٍ من حالات الإخفاق أمرٌ غير منطقي في هذا السياق الديناميكي. علاوة على ذلك، إذا كنَّا نريد الابتكار، يتعيَّن علينا التخلِّي عن استجاباتنا التلقائية إزاء الفشل، وإعادة برمجة أنفسنا. إن تخلِّينا عن فكرة أن الإخفاق أمر سيئ، يبدأ بفهمٍ أعمق للإخفاق.
(١) تحليل الإخفاق
على مدار العشرين عامًا الأخيرة التي قمتُ فيها بعمل أبحاث عن مؤسسات من مجالات مختلفة، وتقديم خدمات استشارية لها، رأيت المديرين يكافحون بحقٍّ من أجل قبول حقيقة أن الإخفاق شرط أساسي للابتكار. في الواقع، تبدو لهم توصية «أَخفقْ بذكاء» كما لو أنها جمع لا معنى له بين لفظتين متضادتين؛ هذا لأنهم لم يدركوا تمام الإدراك أن الإخفاقات ذات أنواع عديدة ومختلفة، ليست جميعها تستحقُّ اللومَ (بل في الواقع قليل منها فقط).
السبب المحتمل وراء الإخفاق | الوصف | هل إلقاء اللوم مناسب؟ |
---|---|---|
الإخلال العمدي | أن يتعمَّدَ شخصٌ الإخلالَ بعمليةٍ أو ممارسةٍ منصوصٍ عليها | نعم |
الإغفال | أن يحيد الفرد دون قصدٍ عن عمليةٍ أو ممارسةٍ منصوصٍ عليها | ربما |
انعدام الكفاءة | ألَّا تتوافر في الفرد المهارات أو الشروط، أو ألَّا يتلقَّى التدريبَ اللازم لتنفيذ مهمةٍ بعينها | مُستبعَد |
قصور العملية | أن يلتزم الفرد بإجراءات عملية منصوص عليها، لكن العملية خاطئة أو ناقصة | مُستبعَد |
صعوبة المهمة | أن يواجِه الفردُ مهمةً أصعب من أن تُنَفَّذ على نحوٍ موثوقٍ به كلَّ مرة | غير أكيد |
التعقيد | أن تتوقَّف عمليةٌ مكوَّنة من عناصر كثيرة حين تحدث تفاعلات جديدة | نادرًا |
عدم اليقين | مع قلة المعرفة الكافية للأحداث المستقبلية، يتَّخِذ الأفرادُ إجراءاتٍ معقولةً تُسفِر مع ذلك عن نتائج غير مرغوب فيها | لا |
تجارب اختبار الفرضيات | أن تفشل تجربةٌ تُجرَى لاختبار توقُّعٍ بأن تصميمًا أو إجراءً بعينه سوف يُثمِر عن نتيجة معينة في تأكيد الفرضية | لا |
التجارب الاستكشافية | أن تؤدِّي تجربةٌ، تُجرَى لتوسيع نطاق المعرفة والتحقُّق من احتمال بعينه، إلى نتيجة غير مرغوب فيها | لا |
(١-١) أسباب الإخفاق
دعونا نبدأ بالسبب الواضح. «الإخلال العمدي» — الذي يختار الشخص خلاله أن يُخِلَّ بإجراءٍ أو قاعدة محددة — يمثِّل بوضوح الطرفَ القصي على نطاق استحقاق اللوم؛ أما «الإغفال» — الذي يحيد فيه الشخص عن المطلوب منه بغير قصدٍ بسبب فقْدِ تركيزه أو تشتُّت ذهنه — فهو سبب أقل وضوحًا بدرجة ضئيلة؛ فمن الممكن أن تنتج الغفلة عن الانشغال بإرسال رسائل نصية عبر الهاتف أو ما شابه، حين ينبغي عليك أن تكون منتبهًا إلى الطريق، وهذا أمر يستحق اللوم؛ أو من الممكن أن يحدث حين يُوضَع العاملُ في موقف عصيب يكون عليه فيه العمل دوامَينِ متصلين، فيصبح الانتباه الكامل مستحيلًا بفعل الإرهاق. إن إلقاء اللوم مطلوب هنا، لكن الذي يجب أن يُلام هنا هو المدير الذي وضع العامل في هذا الموقف، وليس العامل نفسه. أما السبب التالي على النطاق، فهو «انعدام الكفاءة»؛ يعبِّر هذا السبب عن موقف لا يملك فيه الفرد أو لم يتعلَّم المهارات الضرورية لأداء المهمة. (خطأ مَن هذا برأيك؟)
أما الإخفاق بسبب «قصور العملية»، فيُعبِّر عن موقفٍ يعمل فيه الفرد أو الفريق وفقًا لمجموعة من الإرشادات الخاطئة أو الناقصة، وغالبًا ما يحدث ذلك حين تكون العملية جديدةً ولم تُكتَشَف مواطنُ الخلل فيها بعدُ. والسبب التالي «صعوبة المهمة»، ويصف تلك المواقف حيث تكون المهمة المطروحة ببساطة أكثرَ صعوبةً من أن تُنَفَّذ بنجاح في كل مرة؛ وكمثال بسيط على ذلك، تصوَّرْ لاعبَ التزلُّج الفني الشهير على الجليد، وهو يؤدي قفزة لوتس الرباعية المذهلة، ليُتوَّج أداؤه الناجح في دورة الألعاب الأوليمبية. بالأخذ في الاعتبار أنه ما من لاعب نجح في أداء قفزة لوتس الرباعية هذه البالغة الصعوبة في أي منافسة حتى عام ٢٠١١، يتضح أن أداء هذه الحركة أمر أصعب من أن يكون هناك أمل واقعي في إمكانية نجاح أي لاعب في أدائها كل مرة. حين يحدث الإخفاق في تنفيذ مهمة عسيرة إلى حدٍّ مفرط، فمن الخطأ أن يقال إن هذا إخفاق يستحقُّ اللوم.
بعد ذلك، بعض المواقف تكون مفرطة التعقيد؛ فحين ضرب الإعصار ساندي مدينة نيويورك في خريف عام ٢٠١٢، كانت الاستجابة الناجحة تعني الاستعانة بعدد ضخم من الأفراد من تخصُّصات مختلفة، وتطبيق عدد كبير من الإجراءات للتعامل مع مشكلة سريعة التطور تأثَّرَ بها كثيرٌ من الأشخاص والمباني والمؤسسات. وبالرغم من تفعيل بروتوكولات جيدة للتعامل مع الإعصار، يتمثَّل «التعقيد» في أنه لم يكن من الوارد أن يسير كل شيءٍ على ما يرام تمامًا؛ أي إنه ليس من الوارد ألَّا تقع إخفاقات (بسيطة كانت أم كبيرة) أثناء العملية. وقد كان أداء نظام الاستجابة للطوارئ في نيويورك جديرًا بالإعجاب، لكن هذا لم يكن يعني أن كل شيء سار على ما يرام، وأن أحدًا لم يتضرَّر.
وعلى نحوٍ مرتبط، يعني «عدم اليقين» أننا لا نملك معرفة كاملة عن الأحداث المستقبلية. بأخذ الأشخاص ما يعرفونه في الوقت الجاري في الاعتبار، فإنهم سيتخذون إجراءات معقولة قد تنتج عنها على الرغم من ذلك نتائجُ غير مرغوب فيها (إخفاقات). لاحِظْ أنه من غير المعقول أن نُلقِي باللوم على أي فرد لمثل هذه الإخفاقات؛ ومن ثَمَّ يكون ردُّ الفعل المناسب شيئًا من قبيل: «لقد بذلنا أقصى ما بوسعنا في ظل ما نملكه من معرفة.»
وأخيرًا، تقع بعض الإخفاقات نتيجةً للتجريب. هناك نوعان من التجارب؛ أولًا: تختبر «تجارب اختبار الفرضيات» توقُّعًا بعينه. ثانيًا: ربما تكون التجارب مركزة — على سبيل المثال — على ما إذا كان تصميم جديد لعبوةٍ سيروق للعملاء أم لا. أحيانًا تكون فرضياتنا صحيحة، وأحيانًا تكون خاطئة (إخفاق آخر!) وفي كلتا الحالتين، نتعلَّم شيئًا جديدًا. من الأفضل أن نكتشف أن العبوة لا تروق للعملاء قبل أن نطرحها على نطاق واسع. تُجرَى «التجارب الاستكشافية» — على النقيض من التجارب القائمة — على فرضية محددة، لتُقصِي احتماليةً ما دون أن يكون لدينا إدراكٌ قوي لما نتوقَّع حدوثه. مثل هذه التجارب توسِّع نطاقَ معرفتنا في مجالٍ بعينه عبر الإجراء الاستكشافي.
لقد عرضت نطاق الأسباب هذا على مسئولين تنفيذيين من مجموعة مختلفة من المجالات، وطلبت منهم تقدير نسبة الإخفاقات في مؤسساتهم التي قد تنجم عن أفعال تستحق اللوم؛ عادةً ما كانوا يحدِّدون رقمًا أقل من ٥ بالمائة. وسألتهم بعد ذلك عن عدد المرات التي تُعامَل فيها الإخفاقات بالفعل على أنها تقتضي إلقاء اللوم، وبعد صمت لبُرْهة (أو إصدار ضحكة متوترة)، ذكروا رقمًا أعلى كثيرًا؛ لنقل إنه يتراوح ما بين ٧٠ إلى ٩٠ بالمائة؛ ويمثل ذلك الفارق (بين أقل من ٥ إلى ٩٠ بالمائة) مشكلة أكبر كثيرًا مما يدرك معظم المديرين. فإذا كان المديرون ذوو الرؤية والبصيرة يتفهَّمون أن الإخفاقات تحدث، وأنه من النادر أن يستحق الموظف اللوم، فإنهم مَن سيرون كذلك أن الانخراط في توجيه اللوم أمرٌ يتجاوز كونه غيرَ منطقي؛ بل يأتي بنتائج عكسية.
ما السبب في ذلك؟ السببُ هو أن الإخفاقات النافعة تمرُّ دون الإبلاغ عنها. وكذا تضيع الدروس المستفادة من الإخفاقات، وتكون التكلفة الحقيقية لتوجيه اللوم للأفراد على النتائج السيئة — حين تكون الأسباب الحقيقية هي عدم اليقين أو التعقيد، على سبيل المثال — هي عرقلة الابتكار. ولفهم هذا الأمر على نحو أفضل، دعونا نُلْقِ نظرةً على ثلاثة أنواع من الإخفاق.
(١-٢) أنواع الإخفاق
على الرغم من أن عددًا لا نهائيًّا من الأمور يمكن ألَّا يسير على ما يرام في المؤسسات، فإنها تندرج تحت ثلاث فئات عامة للفشل: فشل يمكن تجنُّبه، وفشل مرتبط بالتعقيد، وفشل ذكي. تتوافق أسباب الإخفاق المذكورة أعلاه بوجه عام — وفي مجموعات ثلاثية — مع هذه الأنواع الثلاثة من الإخفاق. في هذا الكتاب، نهتم اهتمامًا خاصًّا بالإخفاقات الذكية التي تقع في المجالات التي لم يطرقها أحدٌ من قبلُ (حيث يحدُث الابتكار)، لكن أفضل طريقة لفهم الإخفاقات الذكية هي مقارنتها بالنوعين الآخرين.
تتجلَّى إحدى طرق تلافي الإخفاقات التي يمكن تجنُّبها، في نظام إنتاج شركة تويوتا الذي بلغت شهرتُه الآفاقَ، والذي يرسِّخ التعلُّمَ المستمر من الإخفاقات البسيطة (الانحرافات البسيطة عن الإجراءات) في طريقة الشركة المنهجية للتطوير. وكما يعلم معظم طلاب العمليات جيدًا، يشجع أفراد فريق خطِّ تجميعِ تويوتا — الذين يرصدون مشكلة، ولو حتى مشكلة محتملة — على شد حبل يُطلَق عليه «حبل أندون» الذي يعمل على البدء في عملية حل المشكلة على الفور. («أندون» هي كلمة يابانية تشير إلى نوع من الفوانيس، وتشير في مجال التصنيع إلى إشارة مرئية.) ويستمر الإنتاج بلا عراقيل إذا عُولجت المشكلة بنجاح في أقل من دقيقة، وإلَّا يُوقَف الإنتاج — بالرغم من الخسائر الضخمة في الإيرادات التي تنجم عن إيقاف الخط — إلى أن يُدرَك الخطأ ويُعالَج. وبهذه الطريقة، تكون هناك أرباح على المدى الأطول، وذلك من خلال إنتاج منتجات عالية الجودة تزيد من ولاء العميل للعلامة التجارية.
في المشروعات الابتكارية، تُعتبَر التجارب التي أُجريَتْ من قبلُ وفشلت، لكنها أُجرِيت مرةً أخرى دون قصدٍ؛ إخفاقاتٍ يمكن تجنُّبها. إن الممارسة المُثلَى من أجل الابتكار لا تتمثَّل في تجنُّب الإخفاق، وإنما تتمثَّل في تجنُّب تكرار نفس الإخفاق مرةً أخرى.
بينما يمكن تجنُّب الإخفاقات الخطيرة من خلال اتباع الممارسات المثلى لإدارة المخاطر، بما في ذلك تحليل دقيق لكل الحوادث التي كادت تحدث (كما أوضحنا في الفصل الأول)، ستحدث حتمًا إخفاقات الإجراءات البسيطة؛ واعتبارُ هذه الإخفاقات «سيئةً» سوءُ فهمٍ للكيفية التي تعمل بها الأنظمةُ المعقدة، علاوة على أنه يأتي بنتائج عكسية؛ إذ إنه يعرقل عملية التحديد والتصحيح السريع للإخفاقات البسيطة، التي تُعَدُّ ضروريةً لتجنُّب الإخفاقات التالية. تحدث غالبية الأخطاء التي يتعرَّض لها المرضى الذين يتلقون العلاج داخل المستشفيات — مثل الجرعات الزائدة الضخمة من الهيبارين التي أضرت بأطفال رُضَّع في مستشفيَيْن مختلفين منذ سنوات قليلة — نتيجةَ سلسلةٍ من إخفاقات الإجراءات البسيطة، التي تتجمع معًا — للأسف — بالطريقة الخاطئة لتتسبَّب في إيذاء المرضى؛ والممارسة المثلى تعني رصْدَ هذه الإخفاقات البسيطة وتصحيحها قبل أن يحدث ذلك؛ لأن هذه الإخفاقات البسيطة — مجددًا — ستحدث في أي عمل معقد مخصص. ومع ذلك، فإن الإخفاقات الكبرى يمكن تجنُّبها من خلال الحذر والتواصل الجيد والتعلُّم النشط. (بالتأكيد، يمثِّل الأمان النفسي ضرورةً حتميةً لكل هذه السلوكيات.)
غالبًا ما يشار إلى هذا النوع من التجريب ﺑ «التجربة والخطأ»، لكن هذه تسمية خاطئة؛ فكلمة «خطأ» تعني ضمنًا أنه كان بإمكانك أن تُنجِزَ المهمةَ على نحوٍ صحيح من البداية، وأن عدم القيام بذلك يُعَدُّ خطأً، لكن التجربة تكون ضروريةً بالتحديد حين لا يمكن معرفة النتائج سابقًا؛ ولهذا السبب، أُطلِق على عملية التجريب «التجربة والإخفاق». (إننا نفتقر إلى كلمة تعني «الإخفاقات الجديدة التي لا يمكن تجنُّبها»، لتكون معبِّرةً في حد ذاتها.)
(٢) الإخفاق على نطاق مناسب
بالرغم من المخاطر التنفيذية الحقيقية للغاية التي تحيق بالتكنولوجيا الجديدة غير المختبرة، أطلقت تليكو هذه التكنولوجيا على مستوى سوقها بالكامل، في وقت واحد، وقبل أن تكون قادرةً بحقٍّ على توصيلها بنحوٍ موثوق به. وللأسف، كانت النتيجة فشلًا ذريعًا، وهبط مستوى رضا العملاء — الذي عادةً ما يكون أعلى من الثمانين بالمائة — إلى ما بين العشرة والعشرين بالمائة، وكان حوالي خمسمائة عميل يوميًّا ينتظرون تلقي ردٍّ بشأن جانبٍ من الخدمة، وكانت نسبة عشرين بالمائة من الشكاوى تستغرق ٣٠ يومًا أو أكثر قبل أن تُحَلَّ، وأصيب العملاء بالإحباط والغضب، وانخفضت معنوياتُ الموظفين كذلك.
بالطبع، لم يكن خطأ تليكو كامنًا في محاولة الابتكار، أو حتى التعرُّض للفشل كجزءٍ من عملية الابتكار؛ لقد تمثَّل خطؤها في أنها بدأت تجربةَ عمليةٍ خدميةٍ جديدة غير مضمونة على مثل هذا النطاق الواسع الشاق. من خلال طرح الخدمة الجديدة في السوق بأكمله، بدلًا من إطلاق خدمة تجريبية محدودة يمكن أن تساعدها على رؤية الجوانب الناجحة (والجوانب غير الناجحة)؛ فقدَتْ تليكو فرصةَ إجراءِ تغييراتٍ سريعةٍ نتيجةً للتجريب المدروس، وهكذا حوَّلَتِ الشركة ما كان من الممكن أن يكون فشلًا ذكيًّا، إلى فشل (محدود الذكاء) يمكن تجنُّبه. في هذه المرحلة، لم تكن المعرفةُ الإجرائية المتعلِّقة بكيفية تقديم الخدمة الجديدة بنحوٍ موثوق به لعملاء في مواقف مختلفة؛ مكتملةً. ومع عدم أخذ الشركة لهذا الأمر في الاعتبار، فإنها كانت في موقف إدارة مبادرة كان ينبغي التعامُل معها على أنها عملية جديدة معقَّدة، وليست عملية روتينية.
بمقدورنا أن نتغنَّى بمزايا الإخفاق الذكي مثلما نريد، لكن الطفل الكائن بداخلنا، الذي يريد أن ينجح دائمًا ويرتعد خوفًا من الفشل، لا يتقبَّل ذلك بسهولةٍ؛ هنا يأتي دور القيادة.
(٣) قيادة الإخفاق
كما سبق ورأينا، الإخفاقُ بذكاء يعني تقبُّلَ الإخفاقات الإجرائية التي لا يمكن تجنُّبها في الأنظمة المعقدة، والاحتفاءَ بالإخفاقات الذكية في أحدث مجالات المعرفة. وبدلًا من تعزيز التقليدية، يكون هذا التقبُّل ضروريًّا لأي فريق أو مؤسسة تبحث عن المعرفة الجديدة التي يقدِّمها الإخفاقُ في الأنظمة المعقدة والجديدة.
إن إنتاج الإخفاقات على نحوٍ استراتيجيٍّ يتقدَّم بنا خطوةً للأمام في هذا الشأن. يعرف الباحثون في العلوم الأساسية أنه نادرًا ما تحقِّق أيُّ تجربة نجاحًا مذهلًا، لكن فشل التجارب أمرٌ يحدث أكثر (بل أكثر كثيرًا). لن يستطيع العلماء النجاحَ إذا لم يتعلَّموا تقديرَ الفشل بصفته خطوةً في سبيل النجاح. مُدرِكًا تلك الحقيقةَ، يُقِيم مديرُ قطاع الأبحاث بشركة إيلي ليلي — عملاقة صناعة الأدوية — حفلاتٍ للفشل؛ للاحتفال بالتجارب الإكلينيكية أو البرامج العلمية التي فشلت على الرغم من أنها كانت ذكيةً. وهذا الطقس الغريب يجعل العلماءَ أكثر استعدادًا لتحمُّل المخاطرات الذكية، لكنه كذلك يشجِّعهم على المصارَحة عاجلًا وليس آجلًا بمسارات العمل الفاشلة. ليس الفشل بالأمر المشين ولا الذي يستحق اللوم، بل هو جزء من محاولةٍ جريئةٍ لتوليد معرفةٍ جديدةٍ.
ومع ذلك، يشعر معظمُ مديري الشركات بقدر هائل من الضغط للتأكُّد من كوْنِ منتجهم — أو خدمتهم — كاملًا حين يُطرَح في الأسواق؛ هذا الضغط يؤثر على المشروعات التجريبية التي صُمِّمت لاختبار الفكرة الجديدة. إن المديرين توَّاقون جدًّا للنجاح (يمكننا تفهُّم ذلك!) لدرجة أنهم كثيرًا ما يُصمِّمون تجاربَ تضمُّ ظروفًا مُثْلَى وليست ظروفًا تمثيلية. ماذا تكون النتيجة؟ نجاحات هشَّة! إن الهدف من الإطلاق التجريبي للمنتجات والخدمات هو معرفة الجوانب غير المثمِرة، وليس مجرد إثبات العبقرية من وراء الابتكار. يجب أن تُصمَّم التجاربُ لكي تفشل.
لفهم السبب، تأمَّلْ مجددًا قصةَ إخفاق شركة تليكو؛ فقبل إطلاق الخدمة على نطاق واسع في المناطق الحضرية، أجرى المديرون تجربةً بسيطة في إحدى الضواحي التي يقطنها مستهلكون على مستوًى جيد من التعليم، ولديهم معرفة جيدة بالتكنولوجيا، واعتبرَتْ أن التجربة قد حقَّقت نجاحًا بالغًا. لكن للأسف، لم تكن ظروفُ التجربة ممثِّلةً على الإطلاق للسوق الحضري الضخم والمتنوِّع الذي أُطلِقت فيه الخدمةُ على نطاق واسع، ومما زاد الأمورَ سوءًا أنه عُيِّن لهذا الإطلاق التجريبي ممثِّلو خدمةٍ خبراء وودودون — إلى حدٍّ كبير — كانوا ضليعين في التكنولوجيا الجديدة، وكانوا يستطيعون جعْلَها تعمل على أجهزة الكمبيوتر المنزلية الخاصة بالعملاء مهما كانت إعداداتها. لم يكن ذلك الإطلاق التجريبي تجربةَ اختبارِ فرضيةٍ، بقدر ما كان مشروعًا لتوضيح قيمة الخدمة الجديدة لكبار المديرين بالشركة؛ لقد صُمِّم لينجح، لا ليفشل بذكاءٍ لكي يتمكَّن الإطلاقُ التالي للخدمة على نطاقٍ واسعٍ من النجاح.
ما الذي كان ينبغي على تليكو فعله؟ بدايةً، كان يتعيَّن اختبار التكنولوجيا في سوق صغيرة غير معقدة (على أجهزة كمبيوتر أقدم، وعددٍ أقل من العملاء البارعين في التكنولوجيا)، مع عددٍ من الموظفين العاديين لدعمها. لقد كان ينبغي أن تُصمَّم التجربةُ بهدف الكشف عن أي تفصيلة صغيرة يحتمل أن تخفق، وذلك قبل الإعلان عن تقديم الخدمة الجديدة لكل العملاء؛ كان يجب على المديرين أن يكونوا على استعدادٍ لمكافأة الإخفاقات الذكية، ومساعدةِ الفِرَق على التعلُّم منها بسرعةٍ لتحسين المنتَج والخدمة التي تُصاحِبه. ولتعميم هذا الدرس المستفاد، يسرد النموذج رقم ١ بضعةَ أسئلة ينبغي الإجابة عنها بالإيجاب عند تصميم النوع الصحيح من المشروعات التجريبية؛ ذلك النوع الذي يفشل بذكاء.
مثلما توضِّح الأسئلة المعروضة في النموذج رقم ١، ينبغي على المديرين، الذين يأملون في إطلاق مُنتَج مبتكر أو جديد بنجاح، ألَّا يحاولوا تحقيقَ النجاح من أول مرة؛ بل ينبغي أن يحاولوا تصميمَ وتنفيذَ أكثر عملية «تجربة وفشل» إمدادًا بالمعلومات يمكن تصميمها. إن هذه الاستراتيجية الخاصة بالتعلُّم من الإخفاقات على المستوى التجريبي، وسيلةٌ لضمان نجاح الخدمات الإلكترونية التي تُطلَق على نطاقٍ واسع.
النموذج رقم ١: الإخفاق الذكي في المشروعات التجريبية الفعَّالة5
يجب على مديري المشروعات التجريبية أن يكونوا قادرين على الإجابة ﺑ «نعم» على الأسئلة التالية:
• هل يُختَبَر البرنامجُ التجريبي تحت ظروفٍ عاديةٍ لا ظروفٍ مُثْلَى؟
• هل الموظفون والعملاء والموارد يمثِّلون بيئةَ التشغيل الحقيقية للشركة؟
• هل الهدف من التجربةِ التعلُّمُ بأكبر قدرٍ ممكن، بدلًا من توضيح قيمة النظام الجديد لكبار المديرين؟
• هل يدرك جميعُ المشاركين بالتجربة، بمَن فيهم من موظفين ومديرين، هدفَ التعلُّم بأكبر قدرٍ ممكن؟
• هل من الواضح أن المكافأة وتقييمات الأداء لا تعتمدان على نجاح التجربة؟
• هل أُجرِيت تغييراتٌ واضحة نتيجةً للبرنامج التجريبي؟
(٤) الشجاعة والخوف
كما هو الحال بالنسبة إلى الأسد الجبان في فيلم «ساحر أوز»، علينا أن نتعلَّم أن الخوف والشجاعة يُوجَدان جنبًا إلى جنب. لم يكن الأسد يدرك في البداية أن الشجاعة لا تعني انعدام الخوف، وإنما الاستعداد للتصرُّف على الرغم من الخوف.
إن مواجهة الإخفاق والفشل تعني مواجهة نقصنا؛ يحتاج ذلك إلى شجاعةٍ؛ لأنه بالطبع أمر بغيض، لكن الإقرار بقصور قدراتنا بطِيب نفسٍ وحسٍّ فكاهي، يتيح لنا أن نتقبَّلَ الأمورَ وأن نكون مبدعين ومبتكرين. والبيئات التي تثبِّط الإبلاغَ عن المشكلات والأخطاء والإخفاقات تعرقل هذه الحركة التقدُّمية؛ هذا النوع من التعلُّم. أما المديرون الذين يطلبون من الموظفين أن يتحلَّوْا بالشجاعة، وأن يتحدَّثوا بصراحة، فيجب ألَّا يُعبِّروا لاحقًا عن استنكارهم أو حتى غضبهم، بل إن التعبير عن الامتنان مطلوبٌ حين يكشف الموظفُ عن الأنظمة المعقدة القائمة التي تقف وراء الإخفاقات المؤسسية؛ حينئذٍ يمكن أن يبدأ الابتكارُ الحقيقي.
كما ذكرت، يتخوَّف المديرون غالبًا من أن يخلق الفشل بيئةَ عملٍ عبثيةً وفوضوية، يباح فيها أيُّ شيء ولا يُنجَز فيها أيُّ شيء. لكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ فأحدهما لا يترتب على الآخر؛ فالحقيقة هي أن الفشل والإخفاق أمران حتميان، وخاصةً في ظل اقتصاد المعرفة المعقَّد في وقتنا هذا. والتعلُّم من الفشل — بل حتى مجرد التحرُّك في هذا الاتجاه — سيمنح أيَّ مؤسسة ميزةً تنافُسيةً.
وبغضِّ النظر عن نوع الفشل الذي يقع، تجنَّبْ لُعْبةَ إلقاء اللوم — ذلك الإغراء بإلقاء اللوم على أحدٍ بدلًا من تحديد الأسباب الحقيقية — فهذه اللعبة تأتي بنتائج عكسية تمامًا. تصالَحْ مع الرؤية التي ترى أن الفشل جزء حتمي وقيِّم من رحلة الابتكار.
بالطبع، إن الفشل لا قيمةَ له إذا لم نتعلَّم منه (وبسرعة!) دعونا نُلْقِ نظرةً على ما يتطلَّبه القيامُ بذلك على نحوٍ جيد.