عوالم جديدة وعوالم قديمة
قامت إنجازات الفترة الحديثة المبكرة على الأسس الفكرية والمؤسَّسية التي وُضعت في العصور الوسطى. والكثير من الأسئلة التي اجتهد المعاصرون الأوائل من أجل الإجابة عنها قد طُرحت في العصور الوسطى، فضلًا عن أن الكثير من الوسائل المستخدمة في الإجابة عنها هي نتاج عمل الباحثين في العصور الوسطى، إلا أن الدارسين المعاصرين الأوائل مالوا إلى الحط من شأن تلك الفترة، فزعموا أن أعمالهم جديدة بالكامل، رغم الحقيقة القائلة إن ما احتفظوا به وما اعتمدوا عليه من الأعمال القديمة لا يقل عما استبعدوه أو أعادوا توفيقه ليناسب العصور المتغيرة. ولم تحدث التغيرات المميزة بين العصور الوسطى وبين الفترة الحديثة المبكرة — سواء أكانت فكرية أو تكنولوجية أو اجتماعية أو سياسية — في الوقت نفسه عبر أوروبا. بدرجة واضحة، كانت التطورات «الحديثة» في مجالات مثل الطب والهندسة والأدب والفن والشئون الاقتصادية والمدنية قد ترسخت تمامًا في إيطاليا قبل وقت طويل من ظهورها في الأجزاء الأكثر تطرفًا من أوروبا مثل إنجلترا. بالمثل، حدثت فترات التطور في أزمان مختلفة وبسرعات مختلفة في الفروع العلمية المختلفة. وكانت الفترة من عام ١٥٠٠ إلى عام ١٧٠٠ تقريبًا — ولتسمِّها ما تشاء — نسيجًا غنيًّا بالأفكار والتيارات المتشابكة، وسوقًا صاخبة من الأنظمة والمفاهيم المتنافسة، ومعملًا مزدحمًا بالتجارب في جميع مجالات الفكر والممارسة. وتشهد النصوص المتتابعة من تلك الفترة على الإثارة التي كان يشعر بها المؤلفون تجاه عصورهم. ولن يكفي عنوانٌ أو كتاب أو باحث أو جيل واحد لفهم هذه الفترة في المجمل. ولكي نبدأ في فهمها وفهم أهميتها، يلزمنا أن نلقي نظرة عن كثب على ما حدث بالفعل حينئذ وسبب حدوثه.
ويتطلب فهم الثورة العلمية أولًا فهم خلفيتها في العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبية، فقد شهد القرن الخامس عشر على وجه التحديد تغيرات جوهرية في المجتمع الأوروبي، واتساعًا هائلًا في آفاق أوروبا بالمعنيين الحرفي والمجازي، وعملت أربعة أحداث أو حركات رئيسة بشكل أساسي على إعادة تشكيل العالم للشعوب التي عاشت في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ وهي: ظهور الحركة الإنسانية، وظهور الطباعة بالحروف المتحركة، واكتشاف «العالم الجديد»، ومحاولات الإصلاح في الديانة المسيحية. ومع أن هذه التغيرات ليست تطورات علمية تمامًا، فإنها أعادت تشكيل العالم لمفكري تلك الفترة.
النهضة الأوروبية وأصولها من العصور الوسطى
إن لفظ «عصر النهضة الإيطالية» غالبًا ما يعيد إلى الأذهان روائع الفن والعمارة التي أبدعتها شخصيات بارزة مشهورة مثل ساندرو بوتيتشيلي، وبييرو ديلا فرانشيسكا، وليوناردو دافنشي، وفرا أنجليكو وآخرين كثيرين، إلا أن عصر النهضة لم يقتصر على ازدهار الفنون الجميلة؛ فقد ازدهر أيضًا كلٌّ من الأدب، والشعر، والعلوم، والهندسة، والشئون المدنية، واللاهوت، والطب ومجالات أخرى. ويجب ألا نبخس بريق عصر النهضة الإيطالية الذي شهده القرن الخامس عشر وأهميته للتاريخ والثقافة الحديثة قدرهما. رغم ذلك، يجب أن نتذكر أيضًا أن تلك النهضة الإيطالية لم تكن أول ازدهار مهم للثقافة الأوروبية بعدما حدث في القرن الخامس من انهيار للحضارة الكلاسيكية عقب سقوط الإمبراطورية الرومانية؛ فقد سبقها على الأقل اثنان من عصور النهضة (بمعنى «الولادة من جديد»):
الأول — ويسمى عصر النهضة الكارولينجية — أعقبَ حملات الإمبراطور شارلمان العسكرية في أواخر القرن الثامن، والتي حققت استقرارًا أكبر لأوروبا الوسطى خلال فترة طويلة من القرن التاسع. أصبح بلاط شارلمان بمدينة آخن (المعروفة أيضًا باسم «إيكس لا شابيل») مركزًا للمعرفة والثقافة. وتعود أصول المدارس الكاتدرائية — التي قدَّمت فيما بعد الأسس التي قامت عليها الجامعات — إلى هذه الفترة. ويلخص تتويج شارلمان على يد البابا ليو الثالث عام ٨٠٠ «إمبراطورًا للرومان» فكرة أساسية فيما يتعلق بالإصلاحات الكارولينجية؛ وهي محاولة العودة إلى مجد روما القديمة. نهضت فنون العمارة، وسك النقود، والأشغال العامة، بل وابتُكرت أنماط للكتابة في محاولة لاستعادة الخطى التي كان يسير عليها الرومان الإمبراطوريون، أو على الأقل الخطى التي تخيَّل الناس في القرن التاسع أن الرومان كانوا يسيرون عليها، لكن هذا الازدهار كان قصير الأجل.
كانت «الولادة» الثانية لأوروبا اللاتينية أكثر اتساعًا وأطول أمدًا. واستمر زخم هذه الفترة حتى بداية عصر النهضة الإيطالية، وإن كانت قد تضاءلت حدتها. وهذه «الولادة الثانية» هي «نهضة القرن الثاني عشر»، وهي ثورة إبداع كبرى في العلوم، والتكنولوجيا، واللاهوت، والموسيقى، والفنون، والتعليم، والعمارة، والقانون، والأدب. ولا تزال العوامل الباعثة على هذا الازدهار مثارًا للجدل؛ فبعض الباحثين يشيرون إلى مناخ دافئ ومواتٍ أكثر للقارة الأوروبية بدءًا من القرن الحادي عشر (فيما يعرف باسم «الحقبة القروسطية الدافئة»)، إضافةً إلى التطورات التي شهدتها الزراعة، والتي وفَّرت ما يكفي من الطعام والرفاهية لسكان أوروبا؛ مما جعل أعدادهم تزداد مرتين، وربما ثلاث مرات في فترة قصيرة نسبيًّا. وظهور المراكز الحضرية، ومزيد من الاستقرار للنظم الاجتماعية والسياسية، والمزيد من الطعام، ومن ثم المزيد من الوقت للتفكير والدراسة، كلها عوامل ساهمت في بدء هذه النهضة.
وجدت الشهيَّة الفكرية لأوروبا التي أفاقت من سُباتها وليمة دسمة تتغذى عليها في العالم الإسلامي؛ فحينما بدأت أوروبا المسيحية تتحرك نحو حدود الإسلام في إسبانيا وصقلية وبلاد الشام صادفتها كنوز المعرفة العربية. كان العالم الإسلامي قد أصبح وريث المعرفة الإغريقية القديمة، وترجمها إلى اللغة العربية، وأثراها مرات كثيرة بالاكتشافات والأفكار الجديدة. ففي علوم الفلك، والفيزياء، والطب، والبصريات، والخيمياء (الكيمياء القديمة)، والرياضيات، والهندسة، تفوقت «دار الإسلام» على الغرب اللاتيني، ولم يتوانَ الأوروبيون في الإقرار بهذه الحقيقة، ولا في بذل جهودهم لتحصيل المعرفة العربية واستيعابها. بدأ الباحثون الأوروبيون «حركة ترجمة» كبرى في القرن الثاني عشر. قطع عشرات المترجمين — من الرهبان غالبًا — الطريق إلى المكتبات العربية، لا سيما في الأندلس، وأنتجوا ترجمات لاتينية لمئات الكتب. ومما يلفت النظر لأهميته، أن نصوص الكتب التي اختاروها للترجمة كادت تكون كلها في العلوم، والرياضيات، والطب، والفلسفة.
لم تَرِث العصور الوسطى اللاتينية من العالم الكلاسيكي سوى النصوص التي كان يمتلكها الرومان، وعند أفول نجم إمبراطوريتهم لم يكن هناك إلا عدد قليل من الباحثين الرومان يستطيع القراءة باللغة اليونانية، ومن ثم كانت النصوص الوحيدة فعليًّا التي كان على الرومان نقلها هي تبسيطات وتلخيصات، وإعادة صياغة لاتينية للمعارف اليونانية. الأمر أشبه بحصول خلفائنا على التقارير الصحفية وتبسيطات للعلوم الحديثة فحسب دون أي مجلات أو كتب علمية. وهكذا وقَّر باحثو العصور الوسطى اللاتينيةِ أسماءَ كبار المؤلفين القدماء، وكانت لديهم أوصاف لأفكارهم، لكنهم كادوا لا يملكون شيئًا من كتاباتهم.
غيَّر مترجمو القرن الثاني عشر كل ذلك، فترجموا الأعمال المؤلفة بالعربية والتراجم العربية للأعمال اليونانية القديمة، وهكذا وصلت أغلبية النصوص اليونانية القديمة إلى الأوروبيين في ثوب عربي. ومن العربية جاء طب جالينوس، وهندسة إقليدس، وعلم فلك بطليموس، ومجموعة أرسطو الكاملة التي لدينا اليوم، ناهيك عن الأعمال الأكثر تقدمًا للمؤلفين العرب في جميع هذه المجالات وأكثر. ونحو عام ١٢٠٠ تبلورت هذه الثورة المعرفية إلى مناهج دراسية ربما تكون التركة الأكثر ثباتًا من فترة العصور الوسطى للعلوم والدراسة، وهي الجامعة. وقد شكَّلت كتابات أرسطو عن الفلسفة الطبيعية جوهر المنهج الدراسي، وأدت أعماله المنطقية إلى ظهور السكولائية (أو الفلسفة المدرسية)، وهي منهجية صارمة، رسمية الصبغة من النقاش والتحقيق المنطقي تطبَّق على أي موضوع، وعليها تأسست الدراسات الجامعية.
لا يمكن التوكيد بما يكفي على أهمية الجامعة بوصفها بيتًا مؤسسيًّا للدراسة. وكما كتب الباحث البارز إدوارد جرانت، فإن الجامعة في العصور الوسطى «شكَّلت الحياة الفكرية لأوروبا الغربية»؛ فبينما كانت أعلى درجات الجامعة في علم اللاهوت، لم يكن في وسع المرء أن يصبح عالم لاهوت دون أن يتقن أولًا علوم المنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية آنذاك؛ إذ كانت تلك الموضوعات تدخل بصفة منتظمة ضمن دراسة اللاهوت المسيحي في العصور الوسطى. والواقع أن أغلب الفلاسفة الطبيعيين العظام في تلك الحقبة كانوا أساتذة في اللاهوت؛ مثل: القديس ألبرت الكبير (الذي يُعرف حاليًّا بأنه راعي العلماء الطبيعيين)، وثيودوريك من فرايبورج، ونيكول أوريسم، وهنريش فون لانجنشتاين، وكلهم أشخاص درَسوا في الجامعة، ودرَّسوا فيها، ووجدوا فيها مستقرًّا.
أُعيقت الحياة الثقافية النشطة في القرن الثالث عشر بفعل نكبات القرن الرابع عشر؛ ففي مطلع القرن — ربما نتيجة لانتهاء الحقبة القروسطية الدافئة — تعرضت أوروبا المأهولة بالسكان آنذاك لخسائر متكررة في المحاصيل ومجاعات، وفي منتصف القرن اكتسح الطاعون الأسود أوروبا بسرعة مذهلة ليقضي على ضحاياه في غضون أسبوع من انتشار العدوى. وليس لدينا اليوم أية تجربة لفقدان أرواح، أو اضطراب مجتمعي سريع، أو مكتسح، أو مدمِّر كتجربة الموت الأسود؛ ففي أربع سنوات — من عام ١٣٤٧ إلى عام ١٣٥٠ — أودى بحياة نحو نصف سكان أوروبا. وكانت أولى العلامات على نهضة إيطالية مميزة قد بدأت تظهر قبل تلك الفترات المضطربة مباشرةً؛ فظهر نشاط الشاعر دانتي (١٢٦٥–١٣٢١) قبل الطاعون، بينما عاصر الكاتبان الأصغر سنًّا، بوكاتشيو (١٣١٣–١٣٧٥) وبترارك (١٣٠٤–١٣٧٤)، هذا الوباء.
الحركة الإنسانية
قدَّم عصر النهضة الإيطالية — التي اكتملت بعد ذروة انتشار الطاعون بجيل أو اثنين — أول خلفية أساسية للثورة العلمية؛ وهي ظهور الحركة الإنسانية. يصعب تعريف «الحركة الإنسانية» تعريفًا محكمًا دقيقًا؛ ولذا فمن الأفضل الحديث عن الحركات الإنسانية عامة، وهي مجموعة من التيارات الفكرية، والأدبية، والاجتماعية السياسية، والفنية والعلمية المترابطة. وكان من بين أكثر المعتقدات تشاركًا بين المهتمين بالإنسانيات الاعتقاد بأنهم يعيشون عهدًا جديدًا من الحداثة والتجديد، وأن هذا العهد الجديد يجب تقديره بالنظر إلى إنجازات القدماء. لقد تطلعوا إلى تحقيق ما يسمى تجديد الفنون والآداب جزئيًّا من خلال دراسة الإغريق والرومان القدماء ومحاكاتهم. وتبعًا لذلك فإن المؤرخين التابعين للحركة الإنسانية في عصر النهضة الإيطالية — أمثال الفلورنسيَّيْن: ليوناردو بروني (١٣٦٩–١٤٤٤)، وفلافيو بيوندو (١٣٩٢–١٤٦٣) — هم من ابتكروا تقسيم التاريخ إلى ثلاث فترات، وهو التقسيم المألوف لنا جميعًا (والذي لا يزال علينا أن نسعى جاهدين لتحرير أنفسنا من تبعاته). ووفق هذا التقسيم، تشكِّل العصور اليونانية والرومانية القديمة الحقبة الأولى، بينما الحقبة الثالثة هي حقبة الحداثة التي تبدأ بالطبع مع كتَّاب عصر النهضة أنفسهم. وبين هاتين الحقبتين البارزتين تقع — وفقًا لأنصار الحركة الإنسانية — حقبة «وسطى» من التبلد والركود؛ ولذلك تسمَّى «العصور الوسطى». والواقع أن مفهوم «العصور الوسطى» ربما يكون أكثر ابتكارات عصر النهضة بقاءً، حتى إنه لا اسم لدينا للفترة ما بين عامي ٥٠٠ و١٣٠٠ إلا وقد تشرَّب بالازدراء الذي كان يكنُّه أنصار الحركة الإنسانية الإيطاليين لتلك الفترة. وإذا وضعنا في الاعتبار الذكرى الغضة لسنوات المجاعة والطاعون بوصفها خلفيتهم المباشرة، فلا بد أن استعادة الرفاهية في إيطاليا نحو عام ١٤٠٠ بدت من غير ريب فجر «عهد جديد».
من المفترض أن تكون المحاكاة أصدق صور الإطراء، وقد عبَّر المهتمون بالإنسانيات عن إعجابهم بالعصور القديمة عن طريق تقليد الأنماط الرومانية، وكانت محاولات العودة إلى العصور القديمة قد وقعت من قبلُ، وأبرزها في عصر النهضة الكارولينجية قبل ٦٠٠ عام. والحقيقة أن عظمة روما تلقي بظلال ممتدة الأثر في الذاكرة الإنسانية. وقد تجلَّى تعطُّش المختصين بالإنسانيات لمعرفة المزيد عن ذلك العصر الماضي في التنقيب عن النصوص الكلاسيكية المفقودة منذ زمن بعيد. نقَّب أحد الأوائل المهتمين بالإنسانيات — وهو بوجيو براشيوليني (١٣٨٠–١٤٥٩) الذي استغل فترات التوقف أثناء دعوات الإصلاح التي نادى بها مجلس كونستانس المسكوني (١٤١٤–١٤١٨)؛ حيث وظَّف سكرتيرًا بابويًّا — في مكتبات الأديرة القريبة بحثًا عما تبقى من الأدب الكلاسيكي، ووجد كتاب كوينتيليان عن فن الخطابة، وخطبًا لم تكن معروفة من قبل للخطيب الروماني سيسيرو، ووجد أيضًا — فيما يمثل أهمية كبرى لتاريخ العلم — كتاب لوكريتيوس «حول طبيعة الأشياء» وهو عمل يطرح أفكارًا قديمة عن المذهب الذري، وكتاب مانيليوس عن علم الفلك، وفيتروفيوس عن العمارة والهندسة، وفرونتينوس عن قنوات المياه والهيدروليكا. وقد نُسخت هذه الأعمال واحتُفظ بها على مر القرون على يد رهبان العصور الوسطى، ووُضعت — ربما في شكل نسخة باقية وحيدة — في مكتبات أديرتهم على مدى أجيال.
اقترنت استعادة المهتمين بالإنسانيات للمعارف الرومانية بإحياء دراسة اللغة اليونانية، وكانت ملابسات إحياء اللغة اليونانية الكلاسيكية — التي كادت لا تدرَّس على الإطلاق في الغرب اللاتيني طوال ألف عام — هي وصول دبلوماسيين ورجال كهنوت يونانيين ملحقين بالسفارات إلى إيطاليا نحو عام ١٤٠٠. كانت مهمتهم تأمين المساعدة ضد التهديد التركي، وإعادة توحيد الكنيستين الشرقية والغربية اللتين انفصلتا بسبب الشقاق الذي وقع بينهما منذ عام ١٠٥٤. وأحد هؤلاء الأوائل مانويل كرايسولوراس (نحو ١٣٥٥–١٤١٥)، الذي وصل بصفته دبلوماسيًّا، لكنه عمل مدرسًا للغة اليونانية، وعلى يديه تتلمذ الكثيرون من المهتمين البارزين بالإنسانيات. تنبَّهت شهية الإيطاليين للكتب اليونانية، فارتحلوا إلى القسطنطينية بحثًا عن المخطوطات. وجلب جوارينو دا فيرونا (١٣٧٤–١٤٦٠) معه صناديق مليئة بالمخطوطات، ومن بينها كتاب «الجغرافيا» للمؤرخ سترابو الذي ترجمه هو فيما بعدُ، ويقال إن أحد تلك الصناديق فُقد أثناء نقله؛ مما جعل الشيب يخط شعر جوارينو سريعًا من شدة الأسى. وقد شمل الوفد اليوناني إلى «مجلس فلورنسا» في ثلاثينيات القرن الخامس عشر عالِمَين يونانيَّيْن بارزَيْن؛ أحدهما: باسيليوس بيساريون (١٤٠٣–١٤٧٢) الذي أصبح واحدًا من الكرادلة فيما بعد، والذي أهدى مجموعته المكونة من نحو ألف مخطوطة يونانية إلى فينيسيا، والثاني: شخص غريب يدعى جورجيوس جيمستوس عُرف باسم «بليثو» (نحو ١٣٥٥–نحو ١٤٥٣)، وهو مَن نادى فيما بعد بالعودة إلى الإيمان بتعدد الآلهة الذي كان سائدًا لدى الإغريق القدماء. درَّس بليثو اللغة اليونانية في فلورنسا، ولفت انتباه الغرب إلى أعمال أفلاطون والأفلاطونيين. كانت دروسه سببًا في تأسيس الدوق كوزيمو الأول دي مديتشي أكاديمية أفلاطونية في فلورنسا. ترجم رائدها الأول مارسيليو فيسينو (١٤٣٣–١٤٩٩) أعمال أفلاطون وأعمال العديد من الأفلاطونيين التي لم يكن أغلبها معروفًا لقارئي الكتب في أوروبا الغربية.
وهكذا شهد القرن الخامس عشر استعادة أعداد هائلة من الكتب القديمة — كثير منها يتناول موضوعات علمية وتكنولوجية — كما حدث في القرن الثاني عشر، إلا أن المهتمين بالإنسانيات لم يشتهروا بحبهم للكتب قدر حبهم للكتب «الأصيلة الدقيقة»؛ ولذا كانوا يزدرون كتب أرسطو وجالينوس المتداولة داخل الجامعات، معتبرين إياها كتبًا فاسدة بما تعجُّ به من البربرية، والهوية العربية، والإضافات، والأخطاء، ورفضوا الفلسفة السكولائية باعتبارها عقيمة، وغير متمدنة، وغير راقية، واعتبروا الجامعات (الشمالية على وجه التحديد، تليها في مرتبة أقل الجامعات في إيطاليا) بقايا بالية من تلك العصور الوسطى الراكدة، ووبَّخوا دارسيها على كتابة لغة لاتينية منحطة القدر خالية من الرقي. ومن ثم كان من بين السمات المهمة للحركة الإنسانية تأسيس مجتمعات دراسية جديدة خارج الجامعات.
ثمة اعتقاد خاطئ حديث بأن المهتمين بالإنسانيات كانوا إلى حد ما علمانيين غير متدينين، بل ومناوئين للدين. وصحيح أن بعض الإنسانيين انتقدوا المفاسد الكنسية، وازدروا اللاهوت المدرسية، لكنهم لم يرفضوا المسيحية أو الدين بأي وجه كان. والحقيقة أن الكثيرين منهم نادوا بإصلاح الكنيسة بالتوازي مع ما أرادوا من إصلاحٍ للُّغة؛ وذلك بالعودة إلى العصور القديمة وإلى النظام الكنسي الذي كان قائمًا في القرون الميلادية العديدة الأولى. وكان الكثير من الإنسانيين ذوي رتب في السلم الكهنوتي، ويعملون في الإدارة الكنسية، أو يحصلون على دخل من الكنسية، فضلًا عن شمول هيئة الكهنوت الكاثوليكية الحركة الإنسانية برعايتها. وكثير من باباوات عصر النهضة كانوا إنسانيين متحمسين؛ ومنهم على وجه التحديد: نيكولاس الخامس، وسكستوس الرابع، وبيوس الثاني، وكذلك تابعيهم من الكرادلة وأفراد البلاط؛ حيث كان الإنسانيون يلقون التشجيع. أما الفكرة الخاطئة الحديثة فمصدرها خلط بين ذلك وبين ما يسمى «الإنسانية العلمانية»، وهي من مستحدثات القرن العشرين، وليس لها نظير في الفترة الحديثة المبكرة.
وقد كان تأثير الحركة الإنسانية في عصر النهضة على تاريخ العلم والتكنولوجيا إيجابيًّا وسلبيًّا في الوقت نفسه. من الناحية الإيجابية، أخرج الإنسانيون إلى الوجود مئات من الكتب الجديدة المهمة، وأيدوا مستوًى جديدًا من النقد النصي. رفعت إعادة إحياء كتابات أفلاطون — بفضل تبنِّيه رياضيات فيثاغورث على وجه التحديد — مكانة الرياضيات، وأتاحت بديلًا للأرسطية التي كانت تحظى بالتفضيل في الجامعات. وحفَّزت الرغبة في مجاراة القدماء إقامة المشروعات الهندسية والمعمارية في أنحاء إيطاليا، مع السير على خطى المهندسين القدماء، مثل: أرشميدس، وهيرو، وفيتروفيوس، وفرونتينوس. وأما من الناحية السلبية، فلعل تملُّق العصور القديمة يتجاوز الحد إلى رفض كل ما جاء بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية باعتباره ضربًا من الهمجية والتخلف. هكذا بدأت أوروبا تفقد تقديرها للإنجازات العربية وإنجازات العصور الوسطى ومعرفتها بها؛ تلك الإنجازات التي كانت بلا أدنى شك تطورًا جوهريًّا في العلوم والرياضيات والهندسة.
اختراع الطباعة
استفاد اهتمام الحركة الإنسانية بالنصوص كثيرًا من اختراع الطباعة بالحروف المتحركة نحو عام ١٤٥٠. ويعود الفضل في هذا الاختراع — أو على الأقل في انتشاره الناجح — إلى يوهان جوتنبرج (نحو ١٣٩٨–١٤٦٨) الذي كان يعمل صائغًا في مدينة ماينتس الألمانية. وكانت فكرة الطباعة بالحروف المتحركة إنتاج حروف معدنية كل منها يحمل حرفًا أبجديًّا بارزًا. ويمكن ترتيب هذه الحروف لتشكل صفحات كاملة من كتاب ما، ثم يُطلَى سطحها بحبر زيتي الأساس، ويُضغَط بها على الورقة، ومن ثم تُطبع صفحة كاملة (أو مجموعة صفحات) دفعةً واحدة. وبعد طبع عدة نسخ، يمكن تفكيك الحروف وإعادة ترتيبها بسهولة لطباعة مجموعة جديدة من الصفحات. قديمًا كانت الكتب تُنسخ بخط اليد؛ مما يؤدي إلى بطء الإنتاج وارتفاع الأسعار. وقد أدت زيادة أعداد الجامعات في الفترة المتأخرة من العصور الوسطى وزيادة أعداد الملمين بالقراءة والكتابة إلى زيادة الطلب على الكتب عن العرض؛ مما أوجد ضغطًا من أجل إنتاج الكتب بسرعة أكبر، وهو ما أدى بدوره إلى ظهور مؤسسات تنتج الكتب خارج نطاق غرف النسخ التقليدية في الأديرة والجامعات، وأدت هذه الزيادة في إنتاج الكتب إلى المزيد من أخطاء النسخ؛ وهو ما استهجنه أنصار الحركة الإنسانية. أتاحت الطباعة إنتاجًا أسرع يعتمد عليه، غير أن الجهد المبذول في صناعة الورق، والكتابة، والطباعة أبقى على ارتفاع الأسعار (كانت نسخة الإنجيل التي طبعها جوتنبرج عام ١٤٥٥ تتكلف ٣٠ فلورينًا، وهو ما يفوق أجر عامل ماهر لمدة عام كامل).
لم يكن التحول إلى الطباعة فوريًّا؛ إذ استمر بقاء المخطوطات جنبًا إلى جنب مع الكتب، إلا أن استخدامها كان يزداد اقتصارًا يومًا بعد يوم على التداول المحدود للمواد الخاصة أو النادرة أو المميزة. كانت الحروف المطبوعة تحاكي الكتابة بخط اليد، وكان هذا في أوروبا الشمالية يعني أسلوب الكتابة القوطية، لكن سرعان ما أصبحت إيطاليا — وفينيسيا تحديدًا — مركزًا لصناعة الطباعة. استخدم القائمون على الطباعة الإيطاليون — أمثال تيوبالدو مانوتشي المعروف أكثر باسمه اللاتيني ألدوس مانوتيوس (١٤٤٩–١٥١٥) — الأشكال الأكثر نظافة ودقة من الحروف التي طورها الإنسانيون الإيطاليون (والتي اعتقدوا أنها تحاكي الطريقة التي كان يكتب بها الرومان)، وهكذا أوجدوا خطوطًا لم تحلَّ محل الحروف القديمة فحسب، بل كانت الأساس لأغلب الخطوط المستخدمة في يومنا هذا؛ ولذا لا يزال الخط المائل الأنيق يُعرف لدينا باسم «إيتاليك».
انتشرت آلات الطباعة سريعًا عبر أوروبا، وبحلول عام ١٥٠٠ كان هناك نحو ألف آلة مستخدمة، وطُبع ما بين ثلاثين وأربعين ألف عنوان. وهذا يمثل ما يقرب من عشرة ملايين كتاب. وهذه الزيادة الهائلة لم تحدث إلا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. أصبحت الكتب بالتدريج أقل تكلفة (وكان هذا مصحوبًا في الغالب بنقصان في الجودة)، وأصبح اقتناؤها من قبل محدودي الدخل أكثر سهولة، وأتاحت الطباعة اتصالًا أسرع عن طريق النشرات الإعلانية، والرسائل الإخبارية، والكتيبات، والدوريات، والكثير من المطبوعات الورقية الوقتية الأخرى. ومع أن أغلب تلك المواد الوقتية كانت تفنى بعد وقت قصير من إنتاجها (مثل صحيفة من الأسبوع الماضي)، فإنها كانت شائعة جدًّا في الفترة الحديثة المبكرة، ومن ثم أوجدت الطباعة عالمًا جديدًا من الكلمة المطبوعة، ومن الإلمام بالقراءة والكتابة لم يُعرف له مثيل من قبل.
ومن مزايا الطباعة التي يسهل إغفالها قدرتها على نسخ الصور والأشكال البيانية. كانت الرسوم التوضيحية تشكِّل عقبة في حالة الكتابة باليد؛ إذ كانت القدرة على إعداد الرسومات بدقة تعتمد على موهبة الناسخ في الرسم، وغالبًا على فهمه للنص، وتبعًا لذلك كانت كل نسخة تعني تراجعًا في الرسوم التشريحية، والصور التوضيحية الحيوانية والنباتية، والخرائط، والرسوم البيانية، والمخططات الرياضية أو التقنية. كان بعض الناسخين يحذفون الرسوم الصعبة، لكن مع ظهور الطباعة، أصبح بوسع المؤلف أن يشرف على إنتاج رسم أو نقش خشبي رئيسٍ تُنتَج منه بعد ذلك نسخٌ متطابقة بسهولة ودقة. وفي ظل ظروف كهذه، صار المؤلفون أكثر رغبة وقدرة على تضمين الأشكال في كتبهم؛ مما أدى إلى زيادة الأشكال العلمية للمرة الأولى.
الرحلات الاستكشافية
لأن صورة واحدة تغني عن ألف كلمة، فقد ثبتت الأهمية الخاصة للقدرة على تزويد النص بالرسوم في ظل التقارير والأشياء الجديدة الغريبة التي ستغمر أوروبا عما قريب. كانت الأراضي الجديدة التي احتكَّ بها الأوروبيون احتكاكًا مباشرًا مصدر هذه المعلومة. المصدر الأول كان آسيا والدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. ويرجع الفضل في اتصال الأوروبيين بهذه الأماكن إلى محاولات البرتغاليين لفتح طريق بحري للتجارة مع الهند؛ للاستغناء عن وسطاء التجارة — العرب وأهل فينيسيا في الأغلب — الذين سيطروا على الطرق البرية وطرق البحر المتوسط؛ ففي أوائل القرن الخامس عشر، بدأ الأمير البرتغالي المعروف باسم هنري الملَّاح (١٣٩٤–١٤٦٠) في إرسال حملات جنوبًا على طول الساحل الأفريقي الغربي؛ لتحقيق اتصال مباشر مع التجار في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. واصل البحارة البرتغاليون توغلهم جنوبًا حتى داروا في النهاية حول رأس الرجاء الصالح عام ١٤٨٨، وبلغوا أوج هذا الإنجاز برحلة الملاح فاسكو دا جاما التجارية الناجحة إلى الهند عامي ١٤٩٧ و١٤٩٨. أسس البرتغاليون قواعد تجارية على طول الطريق ظل الكثير منها ملكًا للبرتغاليين حتى منتصف القرن العشرين، وفي النهاية مدُّوا رحلاتهم المنتظمة وصولًا إلى الصين حاملين السلع الترفيهية، مثل: التوابل، والأحجار الكريمة، والذهب، والخزف، أثناء عودتهم إلى أوروبا، وجلبوا معهم أيضًا قصصًا عن أراضٍ بعيدة، ومخلوقات غريبة، وشعوب مجهولة.
لم يبدأ هذا التوسع في الآفاق الأوروبية فجأة في عصر النهضة، بل وضعت العصور الوسطى الأسس لرحلات عصر النهضة. والواقع أن رحلات القرن الخامس عشر المتجهة شرقًا استأنفت الاتصالات التي أجريت في القرن الثالث عشر وانقطعت في القرن الرابع عشر بسبب التقلبات السياسية في آسيا. بدأ رحَّالة العصور الوسطى — الذين كانوا في الغالب من الطائفتين الدينيتين الجديدتين الدومنيكان والفرنسيسكان — بعثات دينية ودبلوماسية بعيدة إلى حد لم نبدأ في التعرف إليه سوى الآن، وأسسوا دور عبادة في أنحاء آسيا وصولًا إلى بكين، وأيضًا في بلاد فارس والهند، وأرسلوا معلومات إلى أوروبا كانت زادًا معرفيًّا ومصدر إلهام لرحلات تجارية لاحقة، ونتج عن رحلات العصور الوسطى هذه إحساسٌ أكبر بمكانة أوروبا ضمن عالم أكبر على وشك أن يُستكشف.
وبينما كان البرتغاليون يفتحون طرقًا بحرية شرقًا باتجاه آسيا، كان كريستوفر كولومبوس يرنو ببصره في الاتجاه العكسي، ولأنه كان على يقين من أن محيط الأرض أقل بمقدار الثلث تقريبًا عن التقديرات الدقيقة التي تمت في العصور القديمة — والتي لا تزال معروفة على نطاق واسع في أوروبا — فقد ظن أن بإمكانه الوصول إلى شرق آسيا أسرع عن طريق الإبحار غربًا. وهذا الانطباع الخاطئ كان يرجع جزئيًّا إلى بطليموس عالم الجغرافيا والفلك في القرن الثاني. كان المهتمون بالإنسانيات قد استعادوا حديثًا كتاب بطليموس «الجغرافيا» الذي تضمَّن شكلًا صغيرًا تشوبه الغرابة لحجم كوكب الأرض، مع مبالغة كبيرة في الامتداد الشرقي لقارة آسيا. كان الداعمون الماليون لكولومبوس متشككين، ولديهم الحق في ذلك؛ إذ أدركوا أن الطريق الغربي هو الطريق الأطول، ومن دون أماكن وسيطة يتزود الطاقم فيها بالمؤن الجديدة ربما يتعرضون للهلاك جوعًا (لم يظن أحد أن كولومبوس سوف «يبحر حتى حافة الأرض»؛ إذ كانت فكرة كروية الأرض قد ترسخت تمامًا في أوروبا بما يزيد على ١٥٠٠ سنة قبل كولومبوس. والفكرة القائلة إن الناس قبل كولومبوس كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة هي من مبتدعات القرن التاسع عشر. ولو سمع الناس في القرون الوسطى هذا الكلام لضحكوا منه كثيرًا!) ومن ثم، حينما وصلت سفن كولومبوس عام ١٤٩٢ إلى شواطئ جزر الكاريبي كان يظن أنه وصل إلى آسيا، ولم يعرف وقتها أنه اكتشف قارة جديدة!
وسواء اعترف كولومبوس بخطئه فيما بعد أم لا، فقد اعترف آخرون بذلك سريعًا، وأسرعوا بالإبحار إلى هذا «العالم الجديد»، وسرعان ما انتشرت أخبار القارة الجديدة مدعومة بالمطابع الناشئة حديثًا. وفي عام ١٥٠٧، أعطى رسام خرائط ألماني للأراضي الجديدة اسم «أمريكا» نسبة إلى المستكشف الإيطالي أمريجو فسبوتشي. وبفضل هذه الخرائط وما نُشر معها من روايات فسبوتشي عن أمريكا الجنوبية، ترسَّخ هذا الاسم. وفي عام ١٥٠٨، ابتدع فرديناند الثاني، ملك إسبانيا، منصبَ كبيرِ بحارة «العالم الجديد» من أجل فسبوتشي. ووُجد هذا المنصب الجديد داخل ما يسمى «بيت التجارة»، وهو مكتب مركزي تأسس عام ١٥٠٣ ليس فقط من أجل جمع الضرائب على السلع الواردة إلى إسبانيا، وإنما أيضًا لجمع شتى أنواع المعلومات من البحارة العائدين وتدوينها، وتدريب مرشدي السفن والملاحين، والتحديث المستمر للخرائط الرئيسة بالمعلومات الجديدة المستقاة من قباطنة السفن العائدة. وهذه المعلومات والمعرفة العملية التي جُمعت في إشبيلية ساعدت إسبانيا على تأسيس أول إمبراطورية في التاريخ لا تغيب عنها الشمس أبدًا.
لحقت الأمم الأخرى — التي لم تشأ أن تبقى بعيدة عن المناطق والثروات التي كانت تجمعها إسبانيا والبرتغال — بالركب، وإن كانت قد تخلَّفت عن الأيبيريين (الإسبان والبرتغاليين) بقرن أو أكثر. ومن ثم فعلى مدى مائة عام، كانت جميع تقارير «العالم الجديد» وعيِّناته التي غيَّرت وجه المعرفة الأوروبية عن النباتات والحيوانات والجغرافيا كلها تأتي إلى أوروبا عن طريق إسبانيا والبرتغال. ومن الصعب أن نتخيل سيل البيانات الذي تدفق في أوروبا قادمًا من «العالم الجديد»؛ فالجديد من النباتات، والحيوانات، والمعادن، والأدوية، وأخبار الشعوب الجديدة، واللغات، والأفكار، والملاحظات والظواهر فاق قدرة العالم القديم على الاستيعاب. كان هذا «حملًا معلوماتيًّا زائدًا» احتاج مراجعة للأفكار المعروفة عن العالم الطبيعي، ووسائل جديدة لتنظيم المعرفة. فقدت نظم تصنيف النباتات والحيوانات التقليدية مصداقيتها مع اكتشاف مخلوقات جديدة غريبة. فنَّدت الملاحظات الخاصة بأماكن معيشة البشر التي يمكن وصول المستكشفين إليها في كل مكان فعليًّا الفكرةَ القديمة القائلة إن العالم ينقسم إلى خمس مناطق مناخية؛ اثنتين معتدلتين، وثلاثٍ صارت غير قابلة للسكنى بسبب الحر أو البرد الشديدين. واحتاجت الاستفادة من القدرة الاقتصادية الهائلة في الأمريكتين وآسيا إلى مهارات علمية وتكنولوجية جديدة. حفَّزت البيانات الجغرافية وتسجيل الطرق البحرية استحداثَ تقنيات جديدة في رسم الخرائط، بينما احتاج التنقل الآمن والمعتمد عليه بين أوروبا والأراضي الجديدة إلى تطوير الملاحة، وبناء السفن، والتسليح.
إصلاح المسيحية
في الوقت الذي عرَّضت فيه الرحلات الاستكشافية حول العالم الأوروبيين إلى تنوع في الآراء الدينية، كان هناك تنوع في تلك الآراء في الداخل أيضًا. شهد عام ١٥١٧ بداية تصدُّع عميق، وعنيف غالبًا، ومستمر داخل الديانة المسيحية؛ ففي ذلك العام قدَّم القس الأوغسطيني وأستاذ اللاهوت، مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦)، «الأطروحات الخمس والتسعين» الشهيرة في مدينة فيتنبرج الجامعية. كُتبت هذه الأطروحات أو الافتراضات في صورة موضوعات للجدل السكولائي، وتركَّزت على الممارسات المحلية المعاصرة غير السليمة، والتي يتعذر تبريرها لاهوتيًّا، وتشمل بيع صكوك الغفران. ومع أن حالات جدال مشابهة بشأن قضايا عملية ومذهبية كانت شائعة في الثقافة الجامعية الجدلية في العصور الوسطى، فإن احتجاج لوثر قد تجاوز الحدود المعتادة للجدال اللاهوتي الأكاديمي، وسرعان ما أصبح حركة سياسية واجتماعية ذات قاعدة عريضة خرجت عن سيطرة لوثر نفسه. ورغم أن دعاوى لوثر كانت في البداية معتدلة إلى حد بعيد، فإنها أصبحت تزداد جسارة وتصادمية؛ إذ انتقلت من مناقشة قضايا ثانوية نسبيًّا تتعلق بالممارسات المحلية إلى مسائل عقائدية خطيرة. وسرعان ما انتشرت هذه الدعاوى عبر الصحافة لتعمِّقها الارتباطات بالقومية المحلية، ويشجعها الحكام الألمان الذين رأوا أن الانفصال عن روما يصب في مصلحة اهتماماتهم السياسية. من ثم، وعلى غير المتوقع، تحوَّل احتجاج محلي إلى الحركة البروتستانتية. انشقت البروتستانتية على نحو كاد يكون فوريًّا إلى طوائف متناحرة. وسرعان ما تلت النزاعات اللوثرية-الكاثوليكية نزاعاتٌ كالفينية-لوثرية، وبعدها نزاعات بين الكالفينيين بعضهم البعض، وهكذا دواليك. وقد زلزلت ما أُطلق عليها «حروب الدين» — المدفوعة غالبًا بالمناورات السياسية والملَكية لا بالقضايا العقائدية — أوروبا؛ لا سيما ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، على مدى قرن ونصف قرن تاليين.
لم يكن لوثر نفسه من المهتمين بالحركة الإنسانية، وإن كانت بعض أفكاره — مثل التركيز على القراءة الحرفية للإنجيل على عكس القراءات المجازية التي يحبذها الكاثوليك — تحمل بعض أوجه التشابه مع تركيز الإنسانيين على النصوص. لكن أوجه الشبه هذه كانت أقل أهمية من شكِّه في الآداب والأفكار الكلاسيكية (الوثنية)، ورغبته في حذف كتب من الإنجيل (مثل «رسالة يعقوب») التي لم تكن تتفق مع أفكاره الشخصية. أما فيليب ميلانكثون (١٤٩٧–١٥٦٠) — صاحب المعرفة الأوسع — فكان حكاية مختلفة تمامًا؛ فاسمه (ميلانكثون) يُظهر نزعته الإنسانية، وهو مترجَم إلى اليونانية الكلاسيكية عن الاسم الألماني الأصلي شفارتسرد (ويعني «الأرض السوداء»). كان أخو جدِّه يوهانس رويشلين — الذي اقترح إضفاء هذه الصبغة الكلاسيكية على الاسم — أبرز رواد الحركة الإنسانية في ألمانيا. وفي أعقاب رفض لوثر للفلسفة السكولائية الجامعية، جدَّد ميلانكثون (الذي كَرِه الفلسفة السكولائية أيضًا كونه واحدًا من المهتمين بالإنسانيات) المناهج الجامعية وعلم أصول التدريس في الجامعات الألمانية — وتحديدًا جامعة لوثر في فيتنبرج — مع انتقالها من الكاثوليكية إلى اللوثرية. وبسبب المناهج الجديدة التي ابتكرها نال لقب «معلِّم ألمانيا». ولم يكن منهجه يدعو إلى إقصاء الفلسفة الأرسطية، بل — على النمط الإنساني الحق — إلى التخلص من «إضافات» العصور الوسطى التي لحقت بالفلسفة الأرسطية، وإلى استخدام نسخ أفضل من هذه الفلسفة الإغريقية. وجدت الجامعات البروتستانتية الجديدة نفسها في وضع تُحسد عليه؛ إذ كان يتعين عليها أن تبدأ من جديد، بمعنى أنها ستبدأ وعلى عاتقها حمل خفيف من المناهج المعروفة، ومن ثم كانت قادرة على دمج أساليب ومواد جديدة لم تجد لنفسها مكانًا في المؤسسات القديمة.
وداخل نطاق الكاثوليكية، كانت حركات الإصلاح قد بدأت أيضًا؛ ففي القرن الخامس عشر تطرقت مجمعات الكنائس لبعض القضايا، وإن لم تكن قد حققت نجاحًا تامًّا. التغير الأهم كان انعقاد «مجمَّع ترينت» (١٥٤٥–١٥٦٣)، وهو مجمع كنسي عُقِد استجابة للبروتستانتية عن طريق مواجهة الفساد، وتوضيح المعتقدات، وتوحيد الممارسات، وتحقيق المركزية في الرقابة الضبطية. أطلق «مجلس ترينت» — المجمع الكنسي الأهم فيما بعد العصور الوسطى وحتى انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني (١٩٦٢–١٩٦٥) — حركةَ «الإصلاح الكاثوليكي» أو «الإصلاح المضاد». وشملت إجراءات هذا الإصلاح تطوير تعليم القساوسة — وهي خطوة كان يطالب بها الكثير من الإنسانيين — وأيضًا زيادة الرقابة على المعتقد الأرثوذكسي المضمَّن في الأعمال المنشورة. كانت هذه الإصلاحات محل قبول هائل من جانب جمعية مكونة حديثًا من القساوسة، وهي «جمعية يسوع» أو اليسوعيون. أسس الجمعية القديس إغناطيوس لويولا، وحصلت على ترخيص باباوي عام ١٥٤٠، وكرَّس اليسوعيون أنفسهم بصفة خاصة للتعليم والدراسة، وحققوا إسهامات ملحوظة لا سيما في العلوم، والرياضيات، والتكنولوجيا.
وكان التأثير الأوسع نطاقًا لليسوعيين — بجانب التبشير بعودة البروتستانت إلى الكاثوليكية — يكمن في مئات المدارس والكليات التي أنشئوها خلال السنوات الأولى من وجودهم. قام علم أصول التدريس لدى اليسوعيين على أسلوب مبتكر في التدريس ووضع المناهج. وهو أسلوب احتفظ بأهمية النظم الأرسطية، غير أنه اقترن بتركيز جديد على الرياضيات (فبحلول عام ١٧٠٠ كانت أكثر من نصف درجات الأستاذية في الرياضيات في أيدي اليسوعيين) والعلوم. وغالبًا كانت مدارس اليسوعيين الأولى في تدريس بعض الأفكار العلمية الجديدة المرتبطة بالثورة العلمية، فضلًا عن أنها علَّمت الكثير من المفكرين المسئولين عنها. انتشر اليسوعيون في العالم على طول الطرق التجارية المفتتحة حديثًا، منشئين لأنفسهم حضورًا بارزًا (ومدارس بالطبع) في الصين والهند والأمريكتين، وأول شبكة مراسلة عالمية. نقلت هذه الشبكة إلى روما كل شيء بدءًا من العينات البيولوجية والملاحظات الفلكية، وصولًا إلى الإنتاج الثقافي والتقارير الشاملة عن معارف السكان الأصليين وعاداتهم. يعبِّر التوجه اليسوعي في دراسات العلوم والرياضيات عن شعار اليسوعيين «رؤية الرب في كل شيء». ومع أن اليسوعيين أكدوا على هذا الدافع، فإنه لم يكن قاصرًا عليهم؛ فالواقع أنه كان أساسًا للثورة العلمية بأكملها.
العالم الجديد في القرن السادس عشر
استوطن الأوروبيون في القرن السادس عشر عالمًا جديدًا سريع التغير، وكما يحدث في أيامنا الحالية بإيقاعها السريع، رأى الكثيرون في ذلك الوضع مصدرًا للقلق، بينما رآه آخرون عالمًا من الفرص والاحتمالات. اتسعت آفاق أوروبا بكل ما تحمله هذه العبارة من معنًى؛ فقد أعاد الأوروبيون اكتشاف ماضيهم، وواجهوا عالمًا بشريًّا وطبيعيًّا أكثر اتساعًا، وابتدعوا مناهج جديدة وتفسيرات حديثة لأفكار قديمة. والواقع أن أفضل تصوُّر لعالمهم هو تشبيهه بسوق صاخبة، مكتظة بالسلع، عزَّز تنافرُ الأصوات فيها تنوعَ الأفكار والسلع والاحتمالات، بينما تدافعت الحشود لاختبار السلع المعروضة، أو شرائها، أو تركها جانبًا، أو الثناء عليها، أو انتقادها، أو الاكتفاء بلمسها. يكاد كل شيء يكون معروضًا أمام الجميع. وسواء خلُصنا إلى أن «الثورة العلمية» أمر مستحدث بالكامل، أو أنها إحياء لمادة فكرية مختمرة من أواخر العصور الوسطى بعد التوقف الذي شهده القرن الرابع عشر المشئوم، فلا شك أن المتعلمين الذين عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر رأوا زمنهم زمنَ تغييرٍ وحداثة. كانت تلك أزمنة مثيرة؛ أزمنة لعوالم جديدة حقًّا.