الكاتب المصري
في دار الكاتب المصري: طه حسين يستمر في إملاء «البرنامج» الذي قرر أن يقدم به المجلة إلى القراء، يقول: «هذه المجلة لا تريد إلا أن تكون أداة من أدوات مصر …»
وخارج المكتب في إدارة المجلة: الأستاذ حسن محمود سكرتير التحرير يسأل عن مقالة الأستاذ توفيق الحكيم هل وصلت، ومقال نجيب الهلالي باشا هل تم طبعه، ومقالات الدكتورة سهير القلماوي، والأساتذة محمد رفعت وسليمان حزين وعبد الله عنان، ومقال الدكتور حسين فوزي، وشعر الأستاذ عزيز فهمي، والأستاذ عبد القادر القط، وبحث الدكتور غالي عن القنبلة الذرية ومستقبل الذرة.
إن المجلة لا تريد أن تتخلف عن معالجة الموضوعات العالمية الجديدة، إلى جانب معالجتها الموضوعات الإسلامية والعربية والمصرية. والأستاذ حسن محمود يطلب بروفات مقاله الذي ترجمه عن أدب القصة في الاتحاد السوفييتي، وبروفات مقالات العميد، تُقدَّم إليه البروفات: هذه بروفة مقال «الأدب العربي بين أمسه وغده»، ثلاث وثلاثون صفحة حرف صغير، والمقالين الآخرين … هذه بروفة مقال العميد عن «بريطانيا العظمى والشرق الأوسط»، إن الحياة الدولية موضوع هام وستكون بابًا ثابتًا في كل عدد من أعداد المجلة وسيحرره في المستقبل أحسن من يمكن دعوتهم لتحريره، ولكن في هذا العدد الأول قام طه حسين بتحرير هذا الباب. وهناك مقال ثالث عن بول فاليري في اثنتي عشرة صفحة بإمضاء «طه» فقط.
ويدخل الأستاذ حسن محمود على الدكتور طه حسين فيجده مستمرًّا في الإملاء.
طه حسين يملي: «… وستأخذ هذه المجلة نفسها بقانونين لن تحيد عنهما؛ أحدهما: الشدة على نفسها وعلى كُتابها وقرائها فيما تنشر وما تنقل من الفصول، فلن تقدم إلى قرائها إلا هذا الأدب الذي ينفق صاحبه في إنتاجه الجهد العنيف والوقت الطويل … والقانون الثاني هو الحرية الواسعة الكاملة السمحة فيما تنشر وفيما تختار من آثار القدماء والمحدثين ومن آثار الشرقيين والغربيين، لا تنظر في ذلك إلا إلى الفن الخالص وإلى قيم الثقافة العليا وما يحقق التعارف والتواصل بين الذين يمثلون هذه الثقافة من رجال الأدب والعلم والفن.
وهي تنظر إلى أمس وتنظر إلى اليوم، وتنظر كذلك إلى غد، فتنشر ما يحيي الأدب القديم، وستنشر ما يقوي الأدب الحديث، ولكنها في الوقت نفسه ستُعنى بهؤلاء الشباب الذين يجربون أنفسهم ويحاولون أن يشاركوا في الإنتاج الأدبي فتفسح لهم مكانًا رحبًا بين صفحاتها، وستتلقاهم رفيقة بهم ولكن قاسية عليهم في النقد والاختبار.»
ويخرج الأستاذ حسن محمود بهدوء ليترك الدكتور طه حسين يملي بقية البرنامج الذي سيتصدر العدد الأول من مجلة الكاتب المصري، وسرعان ما يكون العدد الأول من مجلة الكاتب المصري في أيدي القراء.
•••
قارئ لزميله: «أخيرًا … هذه أول مجلة شهرية عربية يصدرها مصري، كان عندنا قبلها الهلال والمقتطف، وقد أنشأهما أديبان من لبنان.»
يقول الزميل: «إن نجيب الهلالي يقول في المقال إن هناك من الناس من يخشون أن يؤدي تطبيق قاعدة تكافؤ الفرص إلى تقويض نظام المجتمع المصري، ويقول: «إن هذا المبدأ، يعني مبدأ تكافؤ الفرص، قد خاب الآن وأصيب بشيء من العطب، ولكنه لم يخب إلا إلى حين».»
•••
وفي كلية الآداب يقول أستاذ لزميله: «هل لاحظت أن دار الكاتب المصري هي أيضًا دار نشر كتب؟ سنستطيع إذن أن ننشر كتبنا.»
ويتصفح الأستاذ الأول الكتاب ويقول: «إن الترجمة مصدرة بكلمة من المؤلف ويلي المقدمة ردٌّ عليها بقلم طه حسين. إن «أندريه جيد» يتساءل كيف يمكن أن يُترجم كتابه إلى اللغة العربية! إن كتابه قلق وحيرة وبحث عن الحقيقة، وأغلب قراء العربية من المسلمين، والإسلام يدعو أهله إلى القبول لما يتلقون من الأحكام باطمئنان وبغير بحث أو قلق.»
ويقول الزميل: «إن طه حسين يرد على أندريه جيد بقوله: «إنك قد عرفت بعض المسلمين ولكنك لم تعرف الإسلام؛ لأن الإسلام دين فحص وبحث، لا تسليم فيه إلا بما يثبت بالحجة والبرهان».»
ويختم الأستاذ الأول الحديث بقوله: «أندريه جيد عاشر المسلمين في شمال أفريقيا، والحمد لله أن رد طه حسين جاء بهذه القوة، رده مُفحِم.»
ويصل أندريه جيد إلى مصر، ويزور طه حسين في منزله، ويمتد حديثهما ويتشعب، يتناول كتاب «الباب الضيق» وترجمته، ويستمع أندريه جيد إلى حديث طه حسين عن الإسلام وما أنشأ من مدنية، وما يستطيع أن يعيد إنشاءه الآن من الحضارة، وفي آخر الحديث يدعو طه حسين أندريه جيد إلى إلقاء محاضرة عامة في نادي متخرجي الجامعات بشارع شريف بالقاهرة.
وتكتظ القاعة بالحاضرين والحاضرات وتضيق، ويتزاحم من يريدون الدخول على سلم العمارة، ويفيضون على المدخل، يحاولون سماع كلمة من طه حسين أو من أندريه جيد أو حتى مجرد رؤية الأديبين الكبيرين عند الدخول أو عند الخروج.
وفي منزل طه حسين يقرأ أندريه جيد بصوت عالٍ قصة من تأليفه عن بطل يوناني قديم هو «تيسيه»، وقد سبق له أن قرأ لهم كتابًا آخر من تأليفه أيضًا هو «أوديب».
وطه حسين يستمع ثم يتكلم عندما ينتهي أندريه جيد من القراءة، فيقول للمؤلف: «سأعلم أبطالك العربية، سأترجم الكتابين، وستنشرهما دار الكاتب المصري، إذا أذنت، وسترى أن القارئ العربي ذكي قادر على تذوق أرقى الكتب، ولقد سبق أن تُرجمت كتب أخرى من كتبك إلى العربية وكانت الترجمة ناجحة ورائجة أيضًا، وأنا الآن أقرأ كتابك «بروميثيوس ذو الغل المطلق» وأفكر في تعريبه.»
ويرد أندريه جيد قائلًا: «لقد أصبحت أعرف المسلمين معرفة أحسن، وعلى ذكر ذلك لقد قابلت حتى الآن الكاتب والعالم المصري وأريد الآن أن أقابل الفنان، أريد أن أقابل المهتمين بشئون التمثيل.»
ويدعو طه حسين صديقه أندريه جيد لمشاهدة مسرحية من مسرحيات الأستاذ نجيب الريحاني، أندريه جيد لا يفهم النص طبعًا ولكنه يفهم ما يجري في المسرحية لقوة تعبير الريحاني وفرقته، ولأن المسرحية مقتبسة عن رواية فرنسية اسمها «بائعة الشكولاتة»! … بعد انتهاء المسرحية يصعد أندريه جيد مع طه حسين إلى المسرح لتهنئة نجيب الريحاني ويقول له إنه ليس فنانًا مصريًّا فحسب، إنه فنان عالمي.
•••
السراي لا تزال غاضبة على طه حسين، والحكومة كذلك غاضبة. وتبدأ الصعوبات تقابل مجلة الكاتب المصري والاتهامات أيضًا:
وزارة التموين تعتذر عن إعطاء المجلة حصة من الورق، المطبعة التي تتعطل يتعذر إصلاحها، الكتب التي تطبعها الدار لا تُوزَّع، وصول المجلة إلى الأسواق العربية يتأخر، حالة المجلة وحالة الدار تتدهور.
السراي ساخطة على مقالات «المُعذَّبُون في الأرض» و«ما وراء النهر»، وأصحاب الدار لا يريدون الدخول في مشاكل وخسائر، تتزايد المضايقات ولا يستطيع طه حسين استكتاب المحررين، طه حسين يتفق مع حسن محمود سكرتير التحرير على أن يصدرا هما وحدهما عددي أغسطس وسبتمبر ١٩٤٨، طه حسين يحرر عدد أغسطس ٤٨ بكامله تقريبًا، فينشر فيه ترجمته لقصة «زاديج» — أو «القدر» — تأليف «فولتير»، وحسن محمود يحرر عدد سبتمبر ٤٨ بأكمله تقريبًا، ينشر فيه ترجمته لكتاب «هيروشيما» عن إسقاط القنبلة الذرية على اليابان.
يصدر عدد أغسطس وعدد سبتمبر، ولكن محاولة إبقاء «الكاتب المصري» في الوجود تفشل، أصحاب المجلة مصممون على إغلاقها هي ودار النشر التابعة لها، طه حسين يملي الكلمة الأخيرة في العدد الأخير الذي تتوقف المجلة بعده عن الصدور، يمليها على حسن محمود في أسى شديد، يقول: «لقد أرجف المرجفون والذين يسرهم الطعن في طه حسين والذين لا يعملون ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس، وقالوا إن مجلة الكاتب المصري قد صدرت لنشر الصهيونية، والآن وقد انتهى عمر المجلة فإن أعدادها كلها بين يدي القراء، فهم لا يرون فيها إلا دفاعًا عن مصر والعروبة وخدمة لهما بقدر الوسع والطاقة.»
وحسن محمود يقاطع ويقول: «والكتب التي نشرتها الدار هل فيها إلا ما يخدم مصر والعرب والعروبة والثقافة العربية؟ والمقالات التي نشرتها المجلة للأستاذ سيد قطب وللأستاذ سعيد العريان وللسيدة بنت الشاطئ والأستاذ سامي الدروبي والأستاذ عبد المنعم مراد وغيرهم وغيرهم، هؤلاء جميعًا صهيونيون؟!»
ويسأل طه حسين: «هل لديك قائمة بالكتب التي نشرناها؟»
ويقرأ حسن محمود قائمة ببعض هذه الكتب.
يقول طه حسين: «ترجمنا إلى اللغة العربية إذن عن الإنجليزية والألمانية والفرنسية والفارسية، وقدمنا موسوعة قانونية ضخمة لعبد العزيز باشا فهمي، وترجمة عن أندريه موروا للشيخ الأستاذ عبد الحليم محمود، ونشرنا كتبًا عربية لأعلام مثل الجاحظ وغيره، لقد التزمنا بما عاهدنا عليه قراء العربية فوصلناهم بعصورنا العربية والإسلامية الزاهية من جهة، وبهذا العصر الحديث الذي نعيش ويعيشون فيه من جهة أخرى.»
حسن محمود: «وحاولنا أن نضع مثلًا عاليًا في الترجمة وأمانتها، وفي النشر ودقته، وفي التأليف وارتفاع مستواه، وكذلك في معاملة الأدباء واحترام القراء.»
ويقول طه حسين بعد صمت قصير: «إن أصحاب الدار لم يؤدوا كل حقوق المؤلفين والمترجمين، وقد طلبت إلى نجيب الهلالي رفع دعوى لنحصل لهم على كل حقوقهم، وقد فعل.»
•••
في خريف سنة ١٩٤٧، تتهدد الكوليرا مصر، الخطر يتزايد، أمينة تريد أن تتطوع للعمل مع سيدات الهلال الأحمر في مكافحة الوباء، طه حسين يتذكر الوباء القديم الذي أودى بحياة أخيه محمود، وكان محمود قد تطوع كذلك لمقاومة الوباء، ولكنه لا يحاول إقناع ابنته بعدم التطوع.
أمينة تعمل مع سيدات الهلال الأحمر في قسم الدرب الأحمر بالقاهرة، وفي آخر أكتوبر ١٩٤٧ كان معدل الوفيات المعلنة أربعمئة شخص يوميًّا، غير المتوفين الذين كان أهلهم يخفونهم خوفًا من إجراءات الحكومة. الوباء يستشري في الريف، تسافر بعض سيدات الهلال الأحمر إلى الصعيد وتسافر أمينة معهن، البعثة تدخل الطمأنينة على نفوس نساء الصعيد فيقبلن التعاون مع سيداتها، وفي آخر نوفمبر يهبط عدد ضحايا الكوليرا من أربعمئة شخص إلى عشرين شخصًا، وتعود أمينة مع بعثة الهلال الأحمر إلى القاهرة بعد أداء المهمة التي سافرت لأدائها.
•••
وفي بيت الأسرة بالزمالك تقرأ أمينة لوالدها صحف الصباح، لقد نشرت أسماء الوفد الذي ألَّفته الحكومة المصرية ليشترك في مؤتمر اليونسكو الذي سوف يُعقد في بيروت، واسم طه حسين لم يرد بين أسماء أعضاء هذا الوفد.
وتقول أمينة لوالدها: «أنت كما ترى لا تصلح الآن لتمثيل مصر في مؤتمر لليونسكو، وإن كانت دول العالم قد سبق أن انتخبتك رئيسًا للجنة الأدبية في عصبة الأمم منذ سنين.»
ويرد طه حسين، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة: «إذا كانت مصر هي الملك، فإنني لا أمثل مصر طبعًا. المهم هو عشاء الليلة، قد دعوت الدكتور الزيات للعشاء.»
على مائدة العشاء في منزل طه حسين أفراد الأسرة ومعهم محمد حسن الزيات، يقول الدكتور الزيات في آخر العشاء: «والدي وأخواي إبراهيم وعبده يحضرون من دمياط غدًا، ويرجون زيارتكم في نفس اليوم إن أمكن …»
وفي اليوم التالي، بعد ساعة يلتقي فيها الوالدان لقاء طويلًا وسعيدًا يهنئ طه حسين ابنته وصهره بخطبتهما، وتهنئهما أمها، ويدور حديث حول موعد الزواج، والعروسان يريدان زواجًا بسيطًا وعاجلًا.
وفي أثناء الحديث تصل برقية من الحكومة اللبنانية تقدم الدعوة لطه حسين بصفته الشخصية ليشترك في مؤتمر اليونسكو ضيفًا على لبنان، وتمر لحظات لا يعلق فيها طه حسين على الدعوة، إن بلاده عزيزة عليه دائمًا وأهله كرام لديه في كل الأوقات، ولكنه يرى الآن أن بلاده هي كل البلاد العربية وأن أهله هم العرب أجمعون، وتلح عليه أمينة وخطيبها في أن يرد بالقبول.
•••
ويصل طه حسين إلى لبنان في نوفمبر عام ١٩٤٧ ضيفًا على حكومة لبنان.
وفي الصالة التي شيدتها لبنان خصيصًا لانعقاد «مؤتمر اليونسكو» يجلس طه حسين على المنصة العالية، وحيدًا بغير مذكرات أو أوراق أو سكرتير، مطلًّا على الجمهور الذي ملأ القاعة على اتساعها وفاض عنها إلى الطريق.
طه حسين ينتهي من خطابه عن «أثر الحضارة العربية في الحضارة الغربية»، القاعة تضج بالتصفيق الحاد، ومدير عام هيئة اليونسكو مسيو «توريز بوديه» يتقدم إلى المنصة لينزل مع طه حسين إلى القاعة، ويقبل على المحاضر للتحية والتهنئة كثيرون، منهم «جوليان هكسلي» العالم البريطاني، وأعضاء الحكومة اللبنانية، وأعضاء الوفد المصري والوفود العربية، الجميع يهنئون ويتحدثون فيما بينهم بإعجاب كبير … وزوجته تنتظر لتخرج معه وتقول له: «لقد تألمت وفي صمت عندما عرفت أنك لن تكون من بين ممثلي الثقافة المصرية في مؤتمر اليونسكو، والآن أدرك أنك قد تجاوزت ذلك إلى تمثيل الثقافة العربية كلها، والمشاركة المشرفة في الحياة الثقافية في العالم كله.»
ويقول طه حسين لزوجته: «لبنان جميلة، كنا نحب أن نبقى مدة أطول، ولكن لا بد من العودة للإعداد لزواج أمينة.»
•••
في منزل طه حسين بالزمالك ١٢ يونيو ١٩٤٨ يُحتفل بزواج أمينة.
الشيخ عبد المجيد سليم يعقد العقد، والشاهدان هما مصطفى النحاس باشا وأحمد لطفي السيد باشا، ويشهده كذلك المستشار إبراهيم الزيات وعبده حسن الزيات المحامي، ويخرج العروسان من الحفل بسرعة إلى المستشفى القبطي في القاهرة ليزورا والد العريس الذي كان قد وصل مع زوجته إلى القاهرة لحضور حفل الزفاف ولكنه أحس في محطة القاهرة بتعب مفاجئ فنُقل إلى المستشفى القبطي، وذهبت زوجته معه، وأُجريت له جراحة عاجلة هناك، وقد ألح على ولده وعلى الدكتور طه حسين عندما زاراه في المستشفى كي يتم عقد القران في موعده، وهو يبدو الآن في حالة معنوية طيبة يقبِّلهما، وتباركهما وتقبلهما الأم، وهما يريدان أن يرجئا السفر لقضاء شهر العسل في الخارج حسبما كان متفقًا عليه حتى يغادر الوالد المستشفى، ولكنه يطلب منهما في إلحاح عدم تغيير برنامجهما، ويرجو لهما سفرًا طيبًا وعودة سريعة ليسعده استقبالهما في منزل الأسرة في دمياط.
في ميناء الإسكندرية وفوق ظهر السفينة «إسبريا» يصل رسول إلى السفينة يبلغ العروسين بما حدث: انتكس الوالد فجأة ونادى في الليل زوجه وطلب منها كوب ماء وشرب منها جرعة وابتسم ونام وتخيلت زوجه أنه قد نام، ولكن قضاء الله كان قد وقع، استعاد الله وديعته، أمينة تخلع ملابس العرس وتلبس ملابس الحداد، ينزل العروسان من الباخرة، ليسافرا إلى بيت الأسرة في دمياط.
•••
ويقبل يناير من عام ١٩٤٩ ويقرأ فريد سكرتير طه حسين عليه الصحف ثم الخطابات، إن أهم الأخبار هو أن رالف بانش وسيط الأمم المتحدة قد نجح في وقف إطلاق النار في فلسطين.
وأهم الخطابات خطابان: الأول إخطار بأن الحكومة المصرية قد منعت نشر كتاب «المُعذَّبون في الأرض» وقررت مصادرته، والثاني بأن «الكوليج دي فرانس»، التي كانت قد دعت طه حسين للمحاضرة فيها خلال عام ١٩٤٩، قد قررت سحب دعوتها له.
ويقول طه حسين في سخرية هادئة: «ومع ذلك فإن الكوليج دي فرانس إنما يميزها تاريخها الطويل في مقاومة اضطهاد الحكومات للعلماء، العلماء الفرنسيين.»
•••
وفي الشهر التالي، فبراير ١٩٤٩، يصبح إبراهيم عبد الهادي باشا رئيسًا للوزارة، بعد سلسلة حوادث خطيرة بدأت باغتيال رجل البوليس سليم زكي ومقتل النقراشي باشا ثم تولى إبراهيم عبد الهادي رياسة حزب السعديين.
•••
وفي مستشفى الدكتور علي إبراهيم «الابن» في جاردن سيتي، في إبريل ١٩٤٩، أصبح طه حسين جَدًّا، رُزقت أمينة بولدها «حسن الزيات»، في التاسع والعشرين من الشهر في الساعة السادسة مساءً.
وتقضي أمينة بعد خروجها من المستشفى أربعين يومًا — حسب التقاليد التي يصر طه حسين على احترامها — في بيت أبيها بالزمالك، وطه حسين في هذه المدة مشغول بحمل حفيده وتهدئته — عندما يبكي — بقراءة أبيات من الشعر الجاهلي، يقول إن هذا الجيل الجديد لا بد أن يسلح نفسه بالثقافة العميقة من أول الأمر!
وفي صيف ١٩٤٩ ينتهي طه حسين من إملاء مقال للأهرام عن ثلاثة عظماء هم الجاحظ وشكسبير وجوته، عربي وإنجليزي وألماني، فهو لا ينفك يتحدث عن فضل العرب كلما تحدث عن أمم الحضارة!
ويقول لزوجته بعد أن ينتهي من الإملاء: «لم يعد لدينا ما يبقينا في مصر؛ أمينة عادت إلى زوجها وبيتها ومعهما ابنهما، مؤنس متغيب في الخارج للدراسة، وكتبي تُصادر في مصر، وليس لي عمل منتظم، وأنا لا أطيق هذا الجو الحار.»
وترد السيدة سوزان: «الجو الحار نعم، أما كتبك فإنها لا يمكن أن تُصادر إلى الأبد، وسنجد مؤنس في استقبالنا في باريس، وسنجد أمينة وزوجها في استقبالنا في مصر عندما نعود.»
ويقول طه في شيء من المرارة: «نعم، والآن سيكونان هما وحدهما اللذين يستقبلاننا.»
وترد سوزان: «بل سيكون معهما تلاميذك الأوفياء، وهؤلاء سوف يكونون معك دائمًا، إلى الأبد.»
وفي سبتمبر عام ١٩٤٩ نرى طه حسين في مكتبه وقد عاد من رحلة الصيف، يتحدث مع الجراح الدكتور محمد كامل حسين الذي حضر للتهنئة.
الدكتور كامل حسين يقول له إن وزارة إبراهيم عبد الهادي باشا قد استقالت بعد خمسة أشهر من تأليفها، وحسين باشا سري سوف يجري الانتخابات وينتظر طبعًا أن تسفر عن فوز الوفد.
وأجريت الانتخابات، وفاز الوفد، ودُعي النحاس باشا لتأليف الوزارة، ويحضر النحاس باشا إلى منزل طه حسين دون موعد فيجده مع عدد من الشباب، من بينهم الأستاذ محمد سعيد العريان والأستاذ محمد فتحي … فيسلم النحاس باشا عليهم ويخرج مع طه حسين إلى الحديقة، فيفاجئه بأن يطلب منه أن يتولى منصب وزير المعارف في وزارته التي يجري تأليفها.
وطه حسين يشكره، ولكنه يرجو معاودة التفكير لأسباب: الأول أنه ليس عضوًا في الوفد، وأعضاء الوفد الذين شاركوا رئيسهم جهاده أحق بالاشتراك معه في الحكم، والثاني أن السراي غاضبة عليه منذ زمن بعيد، ولا يُنتظر أن توافق على تعيينه، والثالث أنه ملتزم أمام نفسه وأمام الشباب ببرنامج للتعليم سبق أن شرحه عام ١٩٣٧ في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي كان يعده في الأصل ليقدمه تقريرًا إلى النحاس باشا نفسه، وهو لا يعرف رأي وزارة الوفد عندما تتولى الحكم في تطبيق هذا البرنامج الذي يؤكد ضرورة إعلان مجانية التعليم الابتدائي والثانوي، وهناك سبب رابع لا يحتاج إلى تبيين.
النحاس باشا يفنِّد هذه الأسباب الأربعة ويبدأ من الرابع؛ السبب الرابع كلام فارغ، إن سمح الدكتور بهذا التعبير، فقد قام طه حسين بواجباته في إدارة كلية الآداب وفي مراقبة الثقافة وأدى عمله مستشارًا لوزارة المعارف ومديرًا لجامعة الإسكندرية بكفاية ودقة لا تُعرف عن المبصرين. والسبب الثالث هو سبب يزكيه وليس العكس، فإن الوزارة تتطلع إلى إصلاح التعليم وتيسيره للشعب. والسبب الثاني الرد عليه بسيط: إن السراي مخيَّرة بين النحاس باشا ومعه طه حسين وبين رفض تعيين طه حسين وزيرًا للمعارف ورفض تعيين النحاس رئيسًا لمجلس الوزراء. أما السبب الأول فإن النحاس يقول: «إن الذي يهمني هو مصلحة الأمة وليس مصلحة الحزب ولا مصلحة الأفراد، وأعضاء الوفد سوف يسرهم جميعًا قبولك مشاركتنا في تحمل أعباء الوزارة.»
وطه حسين يقول: «في اعتقادي أن التعليم العام يجب أن يكون مجانيًّا كي لا يُحرم واحد من أبناء الوطن، كي تتاح لجميع المواطنين فرصة متكافئة.»
ويرد النحاس باشا: «عارف، وأنت لا بد متذكر أننا التقينا مرة في قطار من قطارات الصعيد وتحدثنا في هذا الموضوع.»
ويقول طه حسين: «وإذا أصبحت أنا وزيرًا للمعارف، فإن رفعتكم ستحبون قطعًا إعلان مجانية التعليم في أول خطاب للعرش تلقونه أمام البرلمان.»
ويسأل النحاس باشا: «هذا شرط؟»
ويرد طه حسين: «لا، معاذ الله! ليس شرطًا ولكنه توقع، إنني أتوقع أن دولتكم ستعلنون مجانية التعليم في أول خطاب للعرش.»
ويقول النحاس باشا وهو يتأهب للانصراف: «يعني شرط، على كل حال شرط مقبول … اتفقنا، مبروك!»