الثورة
في فندق في قرية «كولي إيزاركو» في شمال إيطاليا على حدود النمسا يجلس طه حسين مع سكرتيره وهو مستمر في إملاء كتاب «علي وبنوه» يتوقف ويسأل: «أظن فات موعد وصول البريد؟ انظر هل هناك خطابات وجرائد من مصر، مفروض أن الأستاذ عبد العزيز أحمد يرسلها بنظام.»
ويعود السكرتير ليقول: «لا يوجد بريد من مصر، يوجد خطاب من اليونسكو بشأن مؤتمر الفنانين والأدباء في سبتمبر، في ظرف يحوي أوراقًا كثيرة، هل أبدأ قراءتها؟»
ويقول طه حسين: «لا، ليس الآن، كنت أرجو أن تصل خطابات من مصر.»
ويدخل مدير الفندق مسرعًا يقول: «تليفون من روما، من السفارة المصرية لمعالي الدكتور.» ويحضر التليفون ويضعه أمامه ليتحدث فيه يقول: «نعم، أنا طه حسين، أهلًا سيادة السفير، ثورة؟ في مصر؟ سمعتم إذاعة القاهرة بأنفسكم؟ … والملك؟ والإنجليز؟ شكرًا سيادة السفير، سأنتظر بجوار التليفون.» ويضع السماعة وينادي منفعلًا: «سوزان! سوزان قامت الثورة في مصر، ثورة ضد الملك.»
وتسأل سوزان: «الثورة؟ كيف علمت؟ بالتليفون؟ تليفون من السفارة؟»
ويرد طه: «نعم … أظن نعود إلى مصر.»
وتقول سوزان: «نسمع الإذاعة أولًا، هذا خبر ستذيعه قطعًا كل إذاعات العالم.»
ويقول طه: «طبعًا، كما أني طلبت أن يوالوني بالأخبار من روما.»
وتقول سوزان: «نسمع الإذاعة أولًا، نعود إلى مصر! ومؤتمر البندقية الذي لم يبق على موعد انعقاده سوى أسابيع قليلة، وأنت، أنت مقرر لجنة الأدب في المؤتمر؟!»
ويقول طه حسين: «نعم، وقد وصل هذا الصباح خطاب آخر من اليونسكو وداخله وثائق جديدة لم أقرأها بعد، اليونسكو يكتب بانتظام لإبلاغي كل التطورات، إن المشرف على المؤتمر يرسل لي كل الوثائق، ويلخص لي كل الأوراق، ولا ينسى حتى أن يصف لي اللوحات والتماثيل التي سيراها أعضاء المؤتمر في البندقية وصفًا دقيقًا جميلًا.»
وتقول سوزان: «هذا جميل ومؤثر، ويدل على مدى اهتمامهم بك وتقديرهم لك. خطابك في اليونسكو في سبتمبر سيكون أول خطاب يُلقى باسم مصر بعد الثورة، خطاب مصر الجديدة، مصر التي لم تتجاوز الشهر الثاني من عمرها، أظن من الضروري حضور المؤتمر، ثم نسافر فورًا إلى مصر.»
ويقول طه حسين: «نسمع أخبار الإذاعة أولًا، وننتظر الأخبار من السفارة.»
•••
في هذه الحقبة المضطربة في حياة الإنسان، لا من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية فقط، بل من الناحية النفسية أيضًا، في هذه الحقبة التي يتساءل فيها الإنسان عن مصيره، يجدر بالكاتب أن يلقي ضوءًا على موقفه من نفسه ومن قرائه ومن مجتمعه …
•••
وفي الصباح التالي يجلس طه حسين مع زوجته في غرفتهما بالفندق يتناولان طعام الإفطار.
تقول سوزان: «خذ قطعة من التوست وإلا فإني لن أقرأ لك ما نُشر عنك في الجرائد الإيطالية في هذا الصباح.»
ويقول طه: «هل تعرفين أني أهتم؟»
وتقول سوزان: «يجب أن تهتم، عندما أردت أن تعود إلى مصر بعد الثورة مباشرة تتذكر أنني عارضت وقلت لك إن خطابك في اليونسكو سيكون أول خطاب دولي لمصر الجديدة، التي ستكون قد بلغت الشهر الثاني من عمرها يوم إلقائك الخطاب.»
ويقول طه: «اقرئي إذن.»
وتقول سوزان: «خذ التوست.»
ويأخذ طه حسين قطعة الخبز.
يعقد الآن مؤتمر اليونسكو دورته في مدينة البندقية، ومقرر اللجنة الأدبية هو الكاتب المصري طه حسين، ملهم الثورة الاجتماعية والاقتصادية القائمة في مصر.
ويقول طه حسين: «أستغفر الله!»
وتقول سوزان وهي تتابع القراءة: «وطه حسين عضو في الأكاديمية الإيطالية بروما، وعضو مراسل لأكاديمية الآداب الرفيعة في باريس، والمهمة …»
ويقول طه حسين ضاحكًا: «مصيبتهم سودة … نسوا مجمع اللغة العربية في مصر، لطفي باشا لن يغفر لهم هذا …»
وتستمر سوزان في القراءة فتقول: «والمهمة الخطيرة التي عُهد بها إليه في المؤتمر الدولي المنعقد الآن في البندقية توطد دعائم صيته الذائع في أرجاء العالم.»
ويقول طه: «كفاية …» وتتجاهل سوزان طلبه فتقول: «جريدة ثانية تقتبس جزءًا من خطابك، الجزء الذي قلت فيه: «كل كاتب وكل فنان لا يستطيع الإبداع إلا بالإخلاص والصدق، شأنه شأن بطل الشاعر دانتي الذي كان يحمل المصباح معلقًا إلى ظهره لينير الطريق للذين يتبعونه.» ثم تقول: «والجريدة الأخرى.» ولكنها تتوقف وتقول: «لا … لا بد أن تأكل التوست قبل أن أقرأها لك.»
ويقول طه: «حاضر.» ويأكل التوست!
وتقول سوزان: «الجريدة الأخرى فيها عنوان رئيسي «مانشيت» أفرحني بالنيابة عنك وعن مصر كلها، إن «المانشيت» هو: هونيجر، وهنري مور، وطه حسين، ورو، يدافعون عن كرامة الفنان.»
وتمر فترة صمت ثم تقول سوزان: «هل تسمع؟ من بين المئات من أدباء القارات الخمس التي تحضر مؤتمر اليونسكو في البندقية الآن تلمع أربعة أسماء وترتفع إلى «المانشيت»، من هذه الأسماء الأربعة اسم أحد الكتاب العرب، اسم طه حسين، مندوب مصر، مندوب مصر الجديدة، ألا تسمع؟»
ويقول طه: «سمعت، ولكني كنت أفكر في شيء آخر، كنت أفكر في أول مرة سمعنا فيها موسيقى هونيجر.»
وتقول سوزان في رقة: «نعم، في إقليم سافوا، في سنة ١٩٢٦، أذكر ذلك، كان هونيجر قد كتب مقطوعته «جوديت»، وكنت قد أحضرت أسطوانتها لك؛ لأنك …»
ويقول طه: «لأنها كانت سنة ١٩٢٦، وكانت الأصوات التي أسمعها في مصر لا تطربني، وكنت مضطرًا إلى الصمت، كنت … كنت مثل «هيلين كيلر» لا أستطيع الكلام، كنت مضطرًا ألا أتكلم، خوفًا على الجامعة التي كان يُراد لها أن تُخْنق في المهد، كنت مثل هيلين كيلر لا أتكلم، ولكني كنت أسمع.»
وتقول سوزان: «على ذكر هيلين كيلر، هل تعرف أنها صرحت بعد مقابلتك بأن يوم مقابلتها لطه حسين كان أجمل يوم من أيام حياتها؟»
ويقول طه: «وأنا كتبت لها قصيدة وأرسلتها إليها.»
وتقول سوزان: «لم تخبرني.»
ويرد طه: «كانت كلمة شكر في الحقيقة. الآن سنعود إلى مصر الجديدة، والأصوات التي سنسمعها في مصر ستبعث فينا النشاط وتملأ نفوسنا رضا إن شاء الله، وسنتكلم، سنتكلم الآن بصراحة وبوضوح، سنتكلم لأن هذا هو واجب كل رجل من رجال الفكر، ولأن قادة مصر الجديدة سيرحبون، فيما أرجو، بآراء المفكرين، ويطلبون، فيما أرجو، سماعها في صراحة ووضوح وباستمرار، لن يصدهم الحكم عن سماع أصوات المفكرين.» ثم يسأل — في شيء من الشك — بعد لحظة صمت: «أم تُرى سوف يصدهم الحكم يومًا عن سماع أصوات المفكرين؟»
•••
في مصر، في أوائل أغسطس عام ١٩٥٢ تظهر جريدة الأهرام وفيها مقال لطه حسين عن الثورة تقرؤه جماعات مختلفة، في الجامعة، وعلى مقهى من المقاهي، وفي القرية، وغير ذلك من الأماكن.
طه حسين يقول في مقاله إن ما تم في يوليو ١٩٥٢ كان ثورة ولم يكن انقلابًا ولا حركة مباركة أو غير ذلك، إنه يؤمن أن الجيش قد استجاب للمطالب الحقيقية للشعب في الخلاص من حكم الفرد وفي العمل لإنهاء الاحتلال.
ويقرأ طالب في الجامعة هذه الفقرات من المقال: «وأخص ما تمتاز به الثورة الأصيلة الخصبة أنها تفكر بالأمس لتمحو سيئاته، وتفكر في اليوم لتصلح شئونه، وتفكر في الغد لتبني فيه مستقبل الشعب على أساس صالح متين.»
«وتفكيرها في الماضي يهيئ لها طريق العظة والاعتبار، وتفكيرها في الحاضر يمهد لها طريق العمل والإنتاج، وتفكيرها في الغد هو الذي يحقق لها الإنتاج الخصب ويقيم الدليل على أنها لم تكن شيئًا طارئًا، أثارته الشهوة ودفع إلى الهوى، ولم تكن سطحية جاءت اليوم لتذهب غدًا كما تجيء الأحداث العارضة وتذهب، وإنما كانت صدى صادقًا مخلصًا لصيحة صدرت من أعماق نفس الشعب وضميره، وكانت مظهرًا لتفكير عميق، عكف عليه قوم أولو حزم وعزم، يعرفون مصادرهم ومواردهم، ويحققون في نفوسهم ما يريدون، لا يأتون شيئًا إلا عن إرادة وروية وأناة، ولا يدعون شيئًا كذلك إلا عن إرادة وروية وأناة.»
«وما أشك في أن ثورتنا هذه القائمة هي ثورة أصيلة، لا يكفيها أن تسقط حكومة وأن يُنفى ملك، وإنما سقوط الحكومة ونفي الملك عندها وسيلة لإصلاح أعمق وأكمل وأشمل.»
•••
… إن ثورتنا إذن صادقة، تصور طموح الشعب إلى الحياة الكريمة النقية، وأمل الشعب في المستقبل الكريم المجيد، وهي من أجل ذلك ثورة إصلاح شامل عميق بأدق معاني هذه الكلمات، وهناك نواح مختلفة لهذا الإصلاح الشامل العميق: ناحية الإصلاح السياسي، ولست أعرض لها الآن.
وناحية الإصلاح الاجتماعي، الذي يمس نظام الشعب في حياته اليومية، ليجعل فقر الفقير محتملًا، ومرض المريض يمكن علاجه، حتى يأتي اليوم الذي يُعصم فيه الشعب من التعرض للفقر والمرض، ولست أعرض لهذه الناحية لأن غيري أجدر بالحديث عنها مني.
وهناك ناحية الإصلاح التعليمي، الذي يحقق للشعب كرامته، ويحقق له شعوره بواجباته، وشعوره بحقوقه بعد ذلك.
وما أعرف شيئًا يجب على الثورة أن تأخذه بالحزم والعزم والقوة والجد كشئون التعليم، فكل إصلاح اجتماعي أو سياسي في شعب جاهل لا قيمة له، ولا بقاء.
وما أظن أن مصريًّا — بعد الثورة — يحب أن يصلح غذاء الشعب وصحته دون تعليم، كما يصلح أصحاب القطعان غذاء قطعانهم وصحتها، وإنما المصريون يريدون أن يصلحوا غذاء الشعب وصحته. على أنه شعب من الناس الذين يعقلون ويشعرون ويعرفون أنفسهم ويريدون أن يعرفهم غيرهم من الناس.
والسبيل إلى ذلك كله واحدة ليس لها ثانية، وهي التعليم قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، التعليم الذي يجعل المصري إنسانًا يحتال للفقر حتى يخرج منه، ويحتال للعلة حتى يبرأ منها، ويتحدث إلى الناس فيفهمون عنه، ويتحدث إليه الناس فيفهم عنهم، وينهاه المصلحون عن الشر فينتهي، ويدعوه المصلحون إلى الخير فيجيب.
•••
وتمتلئ غرفة مكتب العميد في منزله بعدد من الأساتذة الشبان والطلبة والصحفيين وضابط، يتحدثون عن هذا المقال الأخير وعما جاء فيه من نواحي الإصلاح الثلاث التي أشار إليها.
أستاذ شاب يسأل طه حسين عن أسباب ركود الفكر في مصر.
ويقول طه حسين: «الأسباب واضحة، هناك الظروف السياسية، بما في ذلك الرقابة التي استمرت خمسة عشر عامًا، إن الحرية هي قوام الحياة الأدبية الخصبة … إذا ذهبت أجدب الأدب وعقم الفكر.»
ويضيف أحد الأساتذة الحاضرين: «وهناك أيضًا مشكلة النشر.»
فيقول طه حسين: «نعم، وهذا سبب ثانٍ، إن الشباب يكتب فلا يجد قبولًا من الناشرين ولا تشجيعًا من شيوخ الأدب للأسف. وهناك سبب ثالث وهو طريقة تدريس الأدب في مصر، إن الأدب يُدرَّس الآن في المدارس والمعاهد والجامعات على نحو يحزن أكثر مما يسر، وإنتاج الأساتذة ضعيف، والمتخرجون في قسم اللغة العربية بالجامعات الآن لا يعرف بعضهم كيف يبحثون في كتاب «الأغاني» لأنهم لم يسمعوا عن الفهرس الذي وضعه له الأستاذ «جويدي».»
ويقول طالب من الحاضرين: «سيادة العميد، صحيح أن التعليم في الجامعات قد ضعف، ونحن نحتاج إلى نهضة جامعية حقيقية بعد الثورة، لقد كتبت كتابك «مستقبل الثقافة في مصر» ردًّا على تساؤل بعض زملائنا عن مستقبل الثقافة بعد معاهدة ١٩٣٦ ودخول مصر في مرحلة الاستقلال، الآن وقد دخلت مصر مرحلة ما بعد الثورة، ما عسى أن يكون مستقبل جامعاتنا؟ ماذا يجب، في رأيك، أن تكون جامعاتنا عليه غدًا؟»
ويرد طه حسين قائلًا: «ماذا يجب أن تكون عليه جامعاتنا غدًا؟» قبل أن نحاول أن نرد على هذا السؤال يجب أن نسأل سؤالًا آخر وأن نجيب عليه، وهو: ماذا نريد أن نكون نحن غدًا؟
أنريد أن نظل كما نحن، نلم بأطراف من المعرفة دون تعمق؟ أنريد أن نظل كما نحن خاطفين، نخطف العلم من هنا وهناك دون أن يكون مستقرًّا بيننا، متأصلًا في نفوسنا، ودون أن نبرأ من هذه الغربة الغريبة المنكرة التي يجدها كل واحد منا حين يريد أن يتقن حقًّا فنًّا من فنون المعرفة؟
أنريد أن نظل كما نحن، ننتظر الخير الثقافي والعقلي والفني من الترجمة، ننقلها عن هذه اللغة أو تلك، ونسعى إليها في هذا الوطن الأجنبي أو ذاك، أم نريد أن نكون أصلاء في هذا كله، وأن نترجم، لا عن حاجة، بل عن ميل إلى الاستطلاع، وأن نترجم من الفرنسية، لا لأننا محتاجون إلى الترجمة، بل لأننا نحب أن نعرف ماذا يقول زملاؤنا الفرنسيون، ولأننا نحب أن يترجم الفرنسيون عنا وأن يعرفوا ماذا يقول زملاؤهم العرب، وقولوا مثل ذلك بالنسبة للإنجليز، والألمان، والأمريكيين، والإيطاليين، والروس، وما شئتم من الأمم الكبرى.
إن كنا نريد أن نظل كما نحن، فمستقبل الجامعة بسيط، وهو أن تظل حيث هي، كما نظل نحن كما نحن، أشبه بالضفادع في قاع فيه ماء ضئيل تتصايح، ويصح فينا قول الأخطل:
وأؤكد لكم أن حيات البحر كثيرة، وأنها تراقبنا، لا نريد إذن — فيما أعتقد — أن نظل ضفادع تتجاوب في ظلمات الليل، وندل على أنفسنا المستعمرين من هنا وهناك.»
ويقول الطالب: «طبعًا نريد أن نكون رجالًا، وأن نترك طور الضفادع إلى طور الرجال.»
ويقول طه حسين: «يجب إذن أن تتطور حياتنا إلى حيث نبلغ ما نريد، وسبيلنا إلى التطور هي الجامعات أولًا والجامعات أخيرًا والجامعات قبل كل شيء، والجامعات بعد كل شيء.
إن التطور لا يأتينا من خارج، وإنما يأتينا من ذات نفوسنا، يأتينا من ذات نفوسنا عندما نهذب هذه النفوس، وعندما نصفي أذواقها ونزكي قلوبها وعقولها، وعندما نريد لها أن تقوى فيها الملكات المدركة القاهرة الواعية التي تتسلط على الحس والشعور، والتي تتسلط على قوى الإنسان فتدفعه إلى الأمل، ثم تدفعه إلى العمل، ثم تدفعه إلى الإنتاج، ثم تجعله وكأنه شجى في حلق الذين يريدون به المكروه.»
وتطل السيدة سوزان من الباب فيستأذن الحاضرون في الانصراف، ولكن طه حسين يستبقي الأستاذ يوسف السباعي.
يقول له طه حسين: «يا يوسف، روايتك عظيمة، وإن كانت طويلة قليلًا، سأسميها المطولة عندما أكتب عنها! أهنئك بها، ولكن اللغة يا يوسف …»
ويرد يوسف السباعي: «أنا في غاية السعادة بهذا التقدير يا سيدي العميد، أما اللغة فإن والدي كان يوصيني باللغة أيضًا، والتوصية كانت أحيانًا تكون بالضرب، وكنت أطلب إليه الرحمة وأنا أطلبها منكم الآن! سأنتظر مقالكم بفارغ الصبر، وأعد بالعناية باللغة كما تأمر يا سيدي العميد، والآن أستأذن فقد أخذت من وقتك أكثر مما كنت أطمع فيه.»
طه: يرحم الله والدك! لقد علمني أنا أيضًا عندما كنت أقرأ ترجمته للقصص الروسي.
ويقف الأستاذ يوسف السباعي ويقول للسكرتير فريد: «أظن أنني تركت «الكاب» في الخارج.»
ويسأل طه: ««كاب» إيه؟»
ويقول يوسف السباعي: ««الكاب» بتاعي؛ لأن عندنا اليوم طوارئ ولا بد من الزي العسكري الكامل.»
ويسأل طه حسين: «زي عسكري بتاع إيه؟»
ويرد السباعي: «بتاعي، أنا ضابط.»
ويسأل طه حسين: «ضابط؟ لم أكن أعرف ذلك، كنت أعرف أنك ابن محمد السباعي، ضابط وأديب! على كل حال هناك سوابق، محمود سامي البارودي مثلًا …»
ويقول السباعي: «وأين أنا من البارودي يا سيدي العميد؟ شكرًا جزيلًا مرة ثانية، والآن أستأذن، يظهر أن السيدة تنتظركم للغداء.»
ويرد طه حسين: «لا ليس للغداء، موعد الغداء لم يحِن بعد، ولكن زوجتي مصممة على نزهة قصيرة في طريق حلوان، قبل أن نعود للغداء والقهوة وسماع القرآن ثم الراحة قليلًا قبل حضور «مدام غنيم» للقراءة، إنها تقرأ معي آخر ما يرد إلينا من المؤلفات الفرنسية. مع السلامة، وخلنا نراك، ونرى عملًا ثانيًا لك، يحترم النحو ويتحدى الانتقاد.»
•••
وفي الطريق إلى حلوان يجلس طه حسين والسيدة سوزان في سيارة بويك سوداء موديل ٤٩.
تقول سوزان: «النيل سحر كله، ومياهه تعكس، في جمال، ما يقوم على شاطئه الشرقي من النخيل.»
ويقول طه حسين: «النخيل في طريق حلوان، عندنا شعر عربي قديم يتحدث عن نخلتي حلوان … النخيل دائمًا مقترن في ذاكرتي بمصر، وعندما أكون في أوروبا أحلم دائمًا بالنخيل.»
وتقول سوزان: «على ذكر أوروبا، لم نرد بعد على خطاب السنيور «لابيرا» الذي يدعوك فيه للاشتراك في مؤتمر السلام.»
ويقول طه حسين: «منذ انتُخب «لابيرا» عمدة لفلورنسا، وهو مصمم على أن يجذب إليها الناس، وأن يعيد إشعاع النور منها. نرسل ردًّا مساء اليوم.»
وتسأل سوزان: «بالقبول طبعًا؟»
طه حسين: «لا، بالاعتذار، لا أدري ماذا نقول عن السلام، نحن الذين فُرضت علينا الحرب، المظلوم والمعتدى عليه يجب أن يحارب، إنه إن لم يحارب لرفع الظلم عن نفسه يكاد يكون شريكًا في هذا الظلم … ثم إن عنوان المؤتمر هو السلام والحضارة المسيحية، لماذا الحضارة المسيحية وليس الحضارة الإسلامية مع أن لفظ الإسلام نفسه مشتق من السلام؟!»
وتقول سوزان: «هذا كلام جميل، تقول هذا الكلام إذن في المؤتمر، إنه خطبة كاملة!»