في مدينة الرسول
«قرئت عليَّ قصيدة مطولة من مكة المكرمة، من إنشاء الشاعر طاهر زمخشري، مطلعها:
وقصيدة من مكة المكرمة أيضًا من الشاعر حسين عرب، فيها تعبير عن إحساس قومي عميق ودعوة متحمسة ليقظة العرب وتعاونهم جميعًا للتقدم، يختمها ببيت جميل خرج به الكرم فيه إلى المبالغة كما فعل صديقنا طاهر زمخشري من قبله، يقول فيه:
وأنا أستغفر الله لهؤلاء الشعراء ولنفسي، أستغفره لهم لمبالغتهم فيما أسدوا إلينا من المديح، وأستغفره لنفسي لما أحسست به وأنا أسمعهم من الرضا، وإن كان الرضا إنما كان عن فنهم، وقد جاءتني أبيات من الشاعر فؤاد شاكر، يقول فيها:
وليس في شعره ولا شعر زملائه ما يستحق الإغضاء، فإن أكثر ما قرأت أو سمعت من الشعر هنا يستحق كما قلت الرضا والإعجاب.»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «قدم إليَّ أحد أعضاء الوفد السعودي، وهو الأستاذ علي حسن غالي، قصيدة تحية وتقدير لكم أيضًا، مطلعها:
ويقول لي فيها: يا أمين التدريس والبحث والتنقيب والمنهج الذي لا يحول.
وقد أحسست أنه جعلني بهذا من علماء البحث عن الآثار!
ويقول طه حسين: «اقرأ القصيدة كلها.»
ويقرأ أمين الخولي القصيدة، ويصل إلى هذه الأبيات:
ثم يصل إلى ختام القصيدة، فيقرأ مديح الشاعر للعاهل المفدى سعود ثم لوزير المعارف الأمير فهد، فيقول:
ويقول طه حسين: «أنا سعيد حقيقة بما يلقاه هذا الاجتماع العربي في المملكة من إكرام من جلالة الملك ومن سمو الأمير فهد، وزير الثقافات كما يسميه الشاعر، وقد أسعدني أن كل عضو من أعضاء اللجنة، وهم من مختلف البلاد العربية، يحس أنه هنا في بلاده وبين إخوانه.»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «وقد وجدنا هذا الشعور نفسه عند المصريين المقيمين هنا ومنهم البعثة الأزهرية.»
ويرد الدكتور طه حسين قائلًا: «نعم، قابلونا بالترحيب والفرح حقيقة.»
ويقول الأستاذ الخولي: «إن الشاعر السعودي حسين عرب جعلكم من العدائين، ولكن الشاعر المصري الشيخ محمد متولي الشعراوي عضو البعثة الأزهرية جعلكم من العدائين ومن الحدائين — إن كان هذا التعبير صحيحًا — فقد قال:
ويقول طه حسين: «أستغفر الله لأخينا الشعراوي ولأنفسنا كذلك! لقد قرأت قصيدته وهي طويلة جيدة جدًّا.»
ويقول الشيخ أمين الخولي: «إنه طويل النفس حقًّا، القصيدة أكثر من مئة وعشرة أبيات، وقد جمعت فأوعت كما يقولون، انظر كيف ذكر كتبك عن الإسلام ذكرًا جميلًا حين قال:
ويقول طه حسين: «لقد أثرت في نفسي أبيات من قصيدته تحدث فيها عن هذه البلاد، التي كان صديقنا الدكتور محمد حسين هيكل يسميها منزل الوحي.»
ويقول أمين الخولي: «لا شك أنك تقصد الأبيات التي يقول فيها:
ويقول طه حسين: «نعم، «كل أرجائها جلالات ذكرى»، متى نزور مدينة الرسول؟»
ويرد أمين الخولي: «لقد ذكرت لأعضاء الوفد السعودي رغبتك في القيام بزيارة المدينة المنورة وسيبلغوننا بما يمكن تدبيره اليوم، ولكن قصيدة الشيخ متولي الشعراوي وحديث الدكتور هيكل عن منزل الوحي يذكرانني بالقصيدة البديعة الطويلة، خمسة وأربعين بيتًا، التي نظمها الشاعر حسن عبد الله القرشي، ويقول فيها:
ويقول طه حسين: «أعود فأستغفر الله لهم جميعًا، وأستغفره لنفسي أيضًا.»
•••
وفي اجتماع اللجنة الثقافية في جدة، يقول طه حسين: «هؤلاء العرب الذين خرجوا من جزيرتهم هذه، وليست لهم في الحضارة سابقة، ولا حظ لهم من العلم إلا ما علمهم الله في كتابه الكريم؛ خرجوا فوجدوا حضارات كثيرة قوية بعيدة الأثر في الحياة الإنسانية، متنوعة مختلفة الألوان والفنون والعلوم، فلم يمضِ عليهم إلا قرن واحد حتى كانوا قد أساغوا كل هذه الثقافات، ثم لم يكتفوا بإساغتها وتمثُّلها، وإنما أخذوا يضيفون إليها ويزيدون فيها ويضيفون إلى كنوز الإنسانية في العلم والمعرفة كنوزًا … ثم لم يكفهم هذا حتى أشركوا فيه الإنسانية كلها، ثم لم يستأثروا لأنفسهم منها بشيء، وإنما أشركوا الأمم التي كانت تستظل بظلهم فيه، اتخذوهم أول الأمر معلمين، ثم أصبحوا لهم أساتذة ومعلمين، ثم أصبحوا لهم إخوة يدعونهم إلى الخير، ويستعينون بهم على الحق، ويجدُّون معهم في إغناء فنون العلم والثقافة والأدب من جميع وجوهها، ثم لم يكفهم هذا حتى نشروا هذه الثقافة في أقصى أقطار الأرض التي عرفوها، وأتاحوا بعد ذلك للأجيال التي ستخلفهم على الحضارة، والتي أُتيح لها التفوق في هذه الأيام، أن يتعلموا وأن يتقنوا وأن يعرفوا أنفسهم وأن يعرفوا أصول ثقافتهم.
وثقوا أننا لا نغلو ولا نكثر ولا نفاخر بالباطل إذا قلنا إن الغرب الأوروبي والأمريكي الآن، على تفوقه، إنما هو مدين بتفوقه كله، وبعلمه كله لهذه الأصول الخصبة الدائمة التي نقلها العرب إلى أوروبا في القرون الوسطى. ولا ينبغي مطلقًا أن نتحرج من أن نطالب الأوروبيين — وقد طالبتهم كثيرًا — بأن يردوا إلى الشرق دينهم عنده، وألا يكونوا ملتوين بما عليهم من الدين، وأن يشعروا بأن للشرق العربي عليهم جميلًا يجب أن يقدروه، وأن يشكروه، لا أن يسرفوا في العزة والإثم، ولا أن يبغوا على الذين أحسنوا إليهم وعلموهم كيف يكون الإحسان.»
•••
بعد انتهاء اجتماع اللجنة، جاء صحفي سعودي يطلب حديثًا …
قال الصحفي: «سيدي الدكتور، ماذا تحب لكل عربي؟»
وأجاب الدكتور طه: «أنا أحب لكل عربي، فيما بينه وبين نفسه، أن يزكي نفسه بالعلم والثقافة والمعرفة، حتى إذا لقي الأمريكي أو الأوروبي لم يحس لهذا الرجل أو ذلك تفوقًا عليه، ولم يحس في نفسه بالاستحياء، ولم يشعر بأنه من وطن قليل الحظ من العلم والثقافة.»
وسأل الصحفي: «وإلى جانب الثقافة العربية الخالصة، هل تنصح البلاد العربية بالاتصال بثقافة أخرى؟»
وقال طه حسين: «يجب أن تفتح الأمم العربية نوافذها على مصاريعها لكل لون من ألوان العلم، ولكل فن من فنون الثقافة، ولكل ضرب من ضروب المعرفة، وأن تكون قلوبنا جميعًا هي التي تستقبل هذا كله، فتميز منه الخبيث من الطيب وتستبقي منه ما يلائم طباعنا وأمزجتنا، وننتفع به في ترقية الحضارة العربية بحيث لا نكون عيالًا على الأوروبيين والأمريكيين حتى في أيسر حاجيات حياتنا.»
قال الصحفي: «أي إن علينا أن ندرس ثقافتنا الأصيلة، وأن نتعرف بعد ذلك إلى الثقافات الأخرى ونختار ما يلائم ثقافتنا فنضيفه إليها ونرفض ما لا يلائمها.»
وأجاب طه حسين: «نعم، ولكن هذا لا يكفي، يجب أن نعيش في الأرض منتجين لا مستهلكين فقط، يجب أن نعطي وأن نأخذ، وأن يكون ما نعطيه من العلم والثقافة أكثر مما نأخذه من العلم والثقافة، كذلك كنا من قبل … وما ينبغي أن يقصر الأبناء عما بلغه الآباء، وإنما الأصل أن يضيف الأبناء إلى ما أنشأ الآباء، يجب أن تذكروا دائمًا أن العرب القدماء فعلوا كثيرًا في سبيل العلم والثقافة والإنسانية، وأننا نحن إلى الآن لم نفعل شيئًا.»
وفي فندق الكندرة في جدة يسأل طه حسين الأستاذ أمين الخولي والأستاذ فتحي: «هل سألتما عن كيفية الوصول إلى المدينة المنورة؟»
ويقول الأستاذ فتحي: «لا سبيل إلا بالطائرة.»
ويرد الدكتور طه حسين قائلًا: «أنا لا أركب الطائرة، ألا توجد سبل أخرى إن عمر فريضة الحج أكبر من عمر الطائرة؟»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «فتحي عنده حق، لقد عملت كل شيء، وحاولت كل طريقة، وكلمت سمو الأمير ولكن الطريق البري مقطوع بسبب السيول الغزيرة التي هطلت هذا العام، ألا تؤجل زيارة المدينة المنورة هذه المرة؟»
ويقول طه حسين: «لن أغفر ذلك لنفسي أبدًا، شوقي إلى هذه الزيارة يتزايد منذ أكثر من سنتين؛ أي أنواع الطائرات تطير إلى المدينة؟»
ويرد محمد فتحي قائلًا: «أخشى أنها الطائرة الصغيرة، طيارات «داكوتا»، الركوب فيها غير مريح.»
ويقول طه حسين: «لا، لن أتعب … لقد كنت أعيش بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عامًا منذ بدأت أكتب «على هامش السيرة» حتى الآن، وهنا، في جدة، أحسست أنني أعيش فيها بفكري وعقلي وجسدي جميعًا.»
ويقول السكرتير: «إن سفير سوريا السيد عمر بهاء الدين الأميري ترك رسالة يأسف فيها أسفًا شديدًا لأن مشاغل اللجنة تجعل من المستحيل الاستجابة لرغبات السفارات العربية هنا في إقامة حفلات لتكريمكم.»
ويقول طه حسين: «حقيقة، وشكرًا للسيد السفير.»
ويقول السكرتير: «وهو يبدي إعجابه العظيم بكلمتكم في افتتاح اللجنة الثقافية، وخصوصًا بحديثكم عن «تعريب قلوب المسلمين غير العرب» بمساعدتهم على فهم القرآن بلغته.»
ويسأل طه حسين: «يعني أعجبه التعبير؟ أعجبته كلمة «تعريب القلوب»، أم أعجبته الدعوة للعمل في البلاد الإسلامية غير العربية؟»
ويقول السكرتير: «يقول إنه كان وزيرًا مفوضًا لبلاده في الباكستان وإن أهل الباكستان متلهِّفون على مثل هذا التعريب.»
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «أنا قابلت السفير الأميري وقال لي نفس الكلام، وكان أيضًا يتكلم بإعجاب عن مناظرتكم في العام الماضي مع السيد رئيف خوري التي ذهب فيها الأديب اللبناني إلى أن الأديب يكتب للكافة، وذهبتم أنتم فيها إلى أن الأديب يكتب للخاصة.»
ويقول طه حسين للأستاذ الخولي: «أنت تعرف طبيعة هذه المناظرات، لقد ذكرت في أول حديثي عندما تكلمت في المناظرة الحقيقة، وهي أنني تسلمت دعوة كريمة من جمعية المقاصد الإسلامية أمضاها الصديق الأستاذ سهيل إدريس، وعرض فيها أن تكون المناقشة حول الكتابة هل هي للخاصة أم للكافة، وعرض عليَّ أن أتحدث عن أن الكتابة هي للخاصة، قلت للسامعين الحقيقة وهي أن هذه المناظرة شيء مصطنع، لسبب بسيط وهو أنني في كل ما كتبت لم أفهم عامة ولا خاصة بالقياس إلى الأدب، ولست من الذين تفتنهم هذه الآراء الكثيرة الخطيرة الحديثة التي يشغل الأوروبيون أنفسهم بها منذ زمن.»
ويقول أمين الخولي: «نعم، هذا أشبه بالعميد.»
ويقول طه حسين: «المهم الآن حجز التذاكر بالطيارة للمدينة المنورة.»
•••
في القاهرة بعد العودة من المملكة العربية السعودية وفي منزل طه حسين بالزمالك، يجلس الأستاذ كامل الشناوي مع العميد في مكتبه، وهو يسأل: «هل زرتم الأماكن المقدسة مرتين؟»
الدكتور طه حسين يقول: «لا، مرة واحدة، وكنت في هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسي في وقت واحد.»
ويقول كامل الشناوي: «هذا كلام يحتاج إلى إيضاح.»
ويرد طه حسين: «إليك الإيضاح: لقد جرت العادة عندما يصل المرء إلى الكعبة أو المسجد الحرام أن تتسلمه طائفة من أناس يُسموْن في مكة بالمطوفين، أي الذين يقومون بإجراءات الطواف بالكعبة، ويسمون في المدينة بالمزورين، أي الذين يقومون بإجراءات الزيارة لقبر الرسول عليه الصلاة والسلام.»
ويقول كامل الشناوي «مقاطعًا»: «علمت أنكم سافرتم للمدينة المنورة في طائرة صغيرة خطرة مع أنكم لا تركبون الطائرات أبدًا، وسبق أن رفضتم دعوات هامة جدًّا لأمريكا ولروسيا والهند … لأن تلبيتها كانت تستلزم ركوب الطيارة، ولم تلبوا حتى دعوات ابنتكم وصهركم لزيارتهما وهما في أي منصب في السلك الدبلوماسي في أي بلد لهذا السبب.»
ويقول له طه حسين: «لم يكن من الممكن أن أتخلف عن هذه الزيارة، ولم تكن هناك طريقة أخرى غير الطيارة، كنت أحس أنه لا بد لي من زيارتها، لولا خوف الغرور لقلت إنها كانت دعوة من خارج نفسي … دعوة آمرة!»
ويستفهم كامل الشناوي: «دعوة آمرة؟!»
ويقول طه حسين: «دعوة آمرة لا بد أن تُلبَّى.»
ويقول كامل الشناوي بعد سكوت: «نعود إلى المطوفين والمزورين.»
ويقول طه حسين: «حاولت جهدي أن أتخلص من المطوفين والمزورين ولكن محاولاتي ذهبت هباءً، ووجدتني بين أيديهم أردد بلا وعي ما يقولونه، ووجدتني في الوقت نفسه وحدي وإن كنت في صحبتهم، كنت شخصية واعية بلا كلام، وشخصية متكلمة بلا وعي؛ كانت الشخصية المتكلمة تردد كلام المطوفين والمزورين، وكانت الشخصية الواعية بلا كلام تناجي ربها في صدق وصمت وخشوع.»
ويسأل كامل الشناوي: «وبماذا ناجيت ربك في صمت وصدق وخشوع؟»
ويقول طه حسين: «بدعاء سبق أن ألقيته في فلورنسا، فأثار الدموع في عيون السامعين من غير المسلمين، وأثار الشوق في قلبي أنا لزيارة مدينة الرسول.
أوله: اللهم لك الحمد.
وآخره: أنت إلهي لا إله إلا أنت. أنت نور السموات والأرض.»
•••
بعد خروج الأستاذ كامل الشناوي دخلت السيدة سوزان تسأل زوجها: «طال الحديث، أثقل عليك؟»
ورد طه حسين: «لا، لم أحس بطول الحديث، كنت أتحدث عن رحلة الحجاز، أجد في نفسي راحة كبيرة عندما أتحدث عنها فلا أحس بأن الوقت قد طال. تذكرين ما كتبته إليك وأنا هناك؟ لقد كتبت إليك: «إن الإسلام هو دين الصفاء.»
وتقول السيدة سوزان: «نعم، أنت سعيد برحلتك إلى السعودية وأنا سعيدة بسعادتك، ولكن الآن أريد أن أحدثك في موضوعات أرضية؛ أولًا: موضوع البيت الذي نبنيه في طريق الهرم ومشاكل المباني المتعِبة، الحلم ببناء المنزل كان حلمًا كله سعادة، تحقيق الحلم أو خطوات تحقيق الحلم كلها متاعب، وأخشى أنك لا بد أن تشاركني في البحث عن الحلول. ثانيًا: أريد أن تملي عليَّ رد خطاب الدعوة لحضور مؤتمر البندقية، وهناك أيضًا دعوة لمؤتمر في بيروت عن «مهمة الجامعة في العالم العربي».»
ويقول طه حسين: «نعم هذه دعوة قديمة ومهمة، الجامعة في العالم العربي موضوع حيوي، وقد سبق أن قبلت الدعوة لأهمية هذا الموضوع.»
•••
يخرج الدكتور طه من قاعة الاجتماع في بيروت، ويلتف حوله عدد من الشباب اللبنانيين يسألونه عن اللغة العامية والأدب العامي …
وطه حسين يكسو وجهه الجد عند سماع السؤال، وكان قبل ذلك يبتسم مرحبًا بالشباب، ويقول لهم جادًّا: «فلنحذر من أن نشجع الكتابة باللهجات العامية، فيمعن كل قطر في لهجته، وتمعن هذه اللهجات في التباعد والتنافر، ويأتي يوم يحتاج فيه المصري إلى أن يترجم لهجته إلى كتب السوريين واللبنانيين والعراقيين، ويحتاج أهل سوريا ولبنان والعراق إلى مثل ما يحتاج إليه المصريون، كما يترجم الفرنسيون عن الإيطاليين والإسبانيين.»
ويسأل شاب لبناني: «وأي بأس في أن نكون مثل فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا؟»
ويرد طه حسين: «أيهما خير؟ أن يكون للعالم العربي كله لغة واحدة وهي الفصحى يفهمها أهل مراكش كما يفهمها أهل العراق، أم أن تكون له لغات بعدد الأقطار التي يتألف منها؟ أما أنا فأؤثر وحدة الفكرة، وأثق الثقة كلها بأن لها النصر آخر الأمر، وأرى أن وحدة اللغة خليقة بأن يجاهد في سبيلها المجاهدون.»
•••
وعلى الباخرة إسبريا يقول طه حسين لزوجته، وقد ركبا الباخرة من بيروت: «لقد أوشكنا على الوصول، هذه هي الإسكندرية.»
وترد سوزان: «ما أشد شوقك إليها!»
ويقول طه: «وأنت، ألا ترين منذ الآن وجوه المصريين تبتسم لك؟»
وترد سوزان: «نعم، أرض مصر كلها تبتسم … وهذه المرة ستجد كثيرًا من المستقبلين، تذكر عندما عدنا عام ١٩٤٩؟»
ويقول طه: «في عام ١٩٤٩ كان الملك موجودًا، وكان الملك غاضبًا عليَّ، ولم يكن من الحكمة استقبال رجل قد غضب عليه الملك.»
وتقول سوزان: «والآن لحسن الحظ لا غضب ولا ملك، ولكن لسوء الحظ لا أمينة ولا زوجها أيضًا ولا الأولاد؛ حسن الزيات الآن في السادسة من عمره، وسوسن في الخامسة، ومنى في الرابعة، وكلهم في طهران.»
ويقول طه: «محمد يقوم بعمل ممتاز هناك فيما أسمع، إنه قائم بأعمال السفارة كما تعرفين، وقد كتب يلح علينا في أن نزورهم.»
وتسأل سوزان: «ألا نستطيع؟»
ويقول طه حسين: «لا سبيل للوصول إليهم إلا بالطيارة! ولولا ذلك لأسرعت بالسفر لأني أريد أن أزورهم، ولأني أريد أن أزور إيران أيضًا؛ الحضارة الإسلامية والعربية ملأى بأسماء من إيران، وكل اسم من أسماء هذه المدن يثير في النفس الذكريات، تذكرين الأبيات التي كنت أغنيها لحسن؟
وتسأل سوزان: «هذا شعر شاعر فارسي؟»
ويقول طه: «نعم، شعر حافظ الشيرازي، وشعراؤنا العرب زاروا إيران أيضًا وتغنوا بجمالها، المتنبي ركب حصانه هناك وسار في واد اسمه «شِعب بوان»، فُتِن بالأرض الخضراء حوله ترتفع جبالًا، والماء يسيل منها إلى الوادي، فدفعه ذلك إلى مخاطبة حصانه.»
وتتساءل سوزان: «إلى مخاطبة حصانه؟!»
ويقول طه: «نعم، والمهم أن حصانه قد رد عليه.»
وتسأل سوزان: «رد عليه بالعربي؟! ولكن ألم يكن الحصان فارسيًّا؟!»
ويقول طه حسين: «تذكرين عندما أخذنا أمينة وهي صغيرة إلى فرنسا لأول مرة؟»
وتتذكر سوزان: «نعم، وسألتني عن الخيل التي رأيناها في فرنسا هل جنسيتها فرنسية! لكن قل لي ماذا قال الحصان في إيران؟»
ويقول طه: «المتنبي هو الذي نقل إلينا ما قاله، قال:
لكن قولي لي يا سوزان هل آدم هو الذي خلق المعاصي أم حواء؟»
وتقول سوزان: «لا أرد على هذا الكلام. إذا لم نذهب قريبًا إلى إيران فأرجو أن يحضروا هم إلى مصر، عملت ترتيب إقامتهم في بيتنا الجديد.»
ويقول طه حسين: «بيتنا الجديد!»
وترد سوزان: «حديقة المنزل ستكون متسعة، يلعب فيها الأطفال الثلاثة، لكن المهم أن تنتهي الأعمال المرهقة التي يسمونها «التشطيب»، وأن تنتهي ليلى ومؤنس من إعداد سكنهما.»
ويعود طه حسين للتأمل ويقول: «بيت لنا، وحديقة، وأمينة وزوجها، وأطفال لهما يلعبون في الحديقة، ومؤنس وزوجته في مسكنهما الهادئ معنا في «رامتان»! اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض!»