رامتان!
في المنزل بالزمالك، طه حسين وزوجته يتناولان القهوة، وقد خلا المنزل من أثاثه الذي تم نقله إلى المنزل الجديد في طريق الهرم.
تسأل سوزان: «هل سيكون لمنزلنا الجديد اسم؟»
ويرد طه حسين: «نعم، إن أردت.»
وتقول سوزان: «أريد، ماذا نسميه؟»
ويقول طه حسين — بعد تفكير: «رامتان!»
وتسأل سوزان: ««رامتان» كلمة عربية؟»
ويقول طه حسين: «نعم، الرامة موضع بالبادية يستريح لديه المسافر، وتثنى الكلمة فتصبح «رامتان» ما دام البيت الجديد سيتكون من سكنين، سكننا وسكن مؤنس وليلاه.»
سوزان: «الاسم جميل، والمثنى جميل … رامتان، سيكون في البيت سكنان، أرجو ألا نفترق عن مؤنس كما افترقنا عن أمينة. لكن رامتان هل سيفهم الناس وخاصة الأصدقاء العرب معنى هذه الكلمة؟»
ويقول طه حسين: «في المثل العربي القديم: «تسألني برامتين سلجما» يعني تطلب منه أن يحضر لها السلجم، والسلجم هو «اللفت»، وهما في رامتين، ومن أين يأتي لها باللفت في البادية؟!»
وتقول سوزان: «من يريد «اللفت» في رامتان؟ رامتان لن يوجد فيها لفت، سيوجد فيها بساط أخضر تمشي عليه في هدوء كما تحب، وسنزرع فيها أشجار الفتنة التي تحب عطر زهورها، وقد استبقيت في الأرض أشجارها القديمة الطويلة، لتدعو إليها الطيور وليغني في سمائها الكروان.»
•••
الاسم «رامتان» مكتوب على باب الفيللا الخارجي.
في الحديقة طه حسين مع ولده مؤنس يسيران عائدين إلى المنزل بعد جولة فيها.
يدخل الوالد وولده إلى غرفة الطعام وفيها السيدة سوزان وليلى، ويدخل الطباخ «محمد» الذي كان يعمل في سكن الدكتور طه في الزمالك، والذي انتقل مع الأسرة إلى المسكن الجديد، فيحييه مؤنس، ويدخل «السفرجي» الذي انتقل أيضًا مع الأسرة من الزمالك، يقدم القهوة، ثم تنسحب ليلى للراحة ويتناول الثلاثة القهوة، ويتحدثون عن خطاب وصل من أمينة من طهران تصف فيه زيارتين قامت بهما مع زوجها وأولادهما الثلاثة إلى ساحل بحر قزوين ومدينة شالوس المشهورة بصناعة الحرير ومدينة رامسار على ساحل بحر قزوين، وتقول إن ابنهما «حسن» يذهب إلى المدرسة الأمريكية، و«سوسن» وأختها إلى مدرسة الليسيه، وهم جميعًا موفقون في دراستهم والحمد لله!
بعد القهوة، يصعد طه حسين إلى غرفته للراحة، وإلى جانب السرير جهاز راديو، يفتحه ليستمع إلى القرآن الكريم، وفي الساعة الثالثة تصل مدام غنيم لتقرأ عليه كتابًا من الكتب الفرنسية الحديثة الوصول إلى القاهرة، وفي المساء ينزل إلى مكتبه، ويحضر سكرتيره فريد ليقرأ له ما يريد، وقد يحضر الأستاذ إبراهيم الإبياري أو الأستاذ محمد الدسوقي من رجال المجمع لقراءة بعض النصوص العربية القديمة، وقد يحضر بعض الأصدقاء مثل الدكتور سليمان حزين، والدكتور كامل حسين، والشيخ أبو رية، والأستاذ عبده حسن الزيات، والمهندس عبد المجيد حسين شقيق الدكتور الأصغر، والدكتور محمد عوض محمد، والدكتور سهير القلماوي، والدكتور يحيى الخشاب، والأستاذ ثروت أباظة، والأستاذ كمال الملاخ، والأستاذ يوسف السباعي الذي يحدثه في شئون نادي القصة واتحاد الكتاب والمجلس الأعلى للفنون والآداب، ويحضر أحيانًا الأستاذ لطفي السيد الذي لم ينقطع عن زيارته مع بعد المسافة بين منزليهما الآن، بين مصر الجديدة والهرم. كل من يدخل المنزل لأول مرة يهنئ العميد بأول دار يملكها.
وبعد العشاء يجلس مع زوجه في الصالون يسمعان بعض الموسيقى، ثم تقرأ له زوجه في كتاب.
المقطوعة الموسيقية هذا المساء هي موسيقى موزارت المسماة «القيثارة السحرية»، أما الكتاب فأحد مؤلفات الكاتب الإيطالي إنجاريتي، فلقد طلبت إحدى الصحف الإيطالية من الدكتور طه حسين مقالًا عن الكاتب «إنجاريتي»، لنشره في العدد الخاص الذي تصدره عنه، وطه حسين يقرأ الكتاب تمهيدًا لكتابة كلمته وإرسالها للمجلة، زوجته تذكره بالفصل الجميل الذي كتبه عام ١٩٤٩ في الكتاب الذي أصدرته منظمة اليونسكو عن الشاعر الألماني «جيته»، فبين فيه أثر الحضارة الإسلامية في مؤلفات الشاعر الألماني.
•••
في نفس الصالون يسمع طه حسين إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس من الإسكندرية، بعد سحب العرض الأمريكي لمشروع السد العالي في أسوان.
يحس طه حسين بالقلق لتطور الأحداث، ولكنه معجب بمصر المستقلة التي تبادر فترد عن نفسها كل إهانة.
ويقع العدوان الثلاثي على مصر وتشترك إنجلترا وفرنسا مع إسرائيل في العدوان.
طه حسين شديد الغضب على العدوان، يتحدث بالتليفون مع الأستاذ عبد القادر حاتم مدير إدارة الاستعلامات، الذي يريد إصدار كتاب بأقلام عدد من الكتاب البارزين في مصر ضد هذا العدوان، سيكتب طه حسين أول فصل من فصوله.
ويترك التليفون ويتحدث مع زوجته عن موقف فرنسا؛ إن فرنسا لا يمكن أن تؤمن بالحرية لنفسها وأبنائها وتنكر هذه الحرية على غيرها من الأمم والشعوب، ويسأل عن شعار الثورة الفرنسية «الحرية» هل هو للفرنسيين فقط؟ و«الإخاء» هل هو للأوروبيين فقط؟ وكذلك «المساواة»؟
•••
وفي المكتب، يطلب طه حسين إلى سكرتيره أن يقرأ عليه المقال الذي كان قد نشره في جريدة «الجمهورية» منذ عامين تقريبًا بمناسبة اعتقال فرنسا للمراكشيين، الذين ثاروا عليها بعد اعتقالها ونفيها للسلطان محمد الخامس.
السكرتير يقرأ: «ثار المراكشيون العام الماضي حين أراد الفرنسيون العبث بعرشهم وخلعوا سلطانهم بغيًا وعدوانًا، وكان في هذه الثورة صدام بين الظالمين والمظلومين وكان فيها قتلى من الفريقين، وقد تغلب الأقوياء بالطبع وأُخذ المغلوبون من أصحاب الحق وأُلقوا في غياهب السجون على أنهم ثاروا لحقهم، وغضبوا لكرامتهم، وأبوا أن يحكم عليهم من لا يحبون، فكان هذا في نفسه إنكارًا لأصل من أصول الثورة الفرنسية وانحرافًا عن أساس من أسس الديمقراطية التي تنكر الظلم، وتبيح للمظلومين أن ينكروه، وأن يصلحوه ما وسعهم إصلاحه.»
ويقول طه حسين: «اقرأ الفقرة الختامية للمقال.»
ويقرأ السكرتير: «هيهات لن تُحترم حقوق الإنسان ولن تُرعى كرامته، ولن تسمو الحضارة الحديثة إلى المُثل العليا، ولن تُلغى الفروق بين الأقوياء والضعفاء إلا يوم يُلغى نظام الاستعمار إلغاءً، ويوم لا يُباح لفريق من أصحاب المطامع والمنافع أن يستغلوا ويستذلوا شعوبًا بأسرها، وأن يضحوا في سبيل منافعهم ومطالبهم ومطامعهم بحياة الناس وحقوقهم وكرامتهم، ومن يدري؟ عسى أن يكون هذا اليوم قريبًا، وعسى الله أن يكون أقرب مما يظن المستعمرون.»
ويقول الدكتور طه: «نعم، وأظن أن هذا اليوم قد حل فعلًا، إن هذا العدوان على السويس عدوان ترتكبه دول ثلاث مدججة بالسلاح على شعب يريد أن يمارس حقه في أرضه ومائه، هذه نهاية عصر الاستعمار ويجب أن تعلم إنجلترا وفرنسا ذلك، ويجب أن تعلمه مصر، وتعلمه كل الشعوب المستعبدة، ولكن … اتركني الآن وسنبدأ الإملاء بعد قليل.»
ويترك الدكتور طه المكتب عائدًا إلى الصالون حيث تجلس زوجته.
ويقول لها: «سوزان، تذكرين وسام اللجيون دونور الذي منحته الحكومة الفرنسية لي من طبقة جراند أوفيسيه؟»
سوزان: «تقوم إلى دولاب في الصالون فتفتحه وتخرج منه علبة وتقول نعم، وقد أحضرته، هذا هو، إنك تريد أن ترده على فرنسا؟»
ويقول طه: «أنت تقرئين دائمًا صفحة ضميري.»
وتقول سوزان: «وضميرك لن يغفر لفرنسا أنها شاركت في العدوان.»
ويقول طه: «سوزان، أين مبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي تربيت عليها؟ ما مُقام فرنسا في المغرب وتونس والجزائر بالرغم من أهلها واستغلالهم لهذه البلاد ولبلاد الشام بالقوة والعنف؟ والآن ما هذا العدوان على مصر وهذا الانحدار إلى التواطؤ عليه مع إنجلترا وإسرائيل عقابًا لنا لمطالبتنا بتحرير المستعمرات الفرنسية وخاصة الجزائر وفقًا للمبادئ التي تتأسس عليها الدولة الفرنسية نفسها؟!»
وتقول سوزان: «ألا يتركونك لما يهمك من شئون الثقافة؟»
ويرد طه حسين: «وهل تنفصل شئون الثقافة عن شئون الحكم وشئون الاستعمار؟ تذكرين عندما كنت أريد أن أنشئ معهدًا للدراسات العربية والإسلامية في الجزائر؛ وافقت فرنسا أولًا عملًا بما تفرضه حرية الثقافة، ولكنها رفضت أخيرًا عملًا بما تفرضه سطوة الاستعمار؟»
وتقول سوزان: «أذكر.»
ويقول طه حسين: «وعندما أردت إنشاء معهد عربي في مدينة طنجة، قامت الدول الاستعمارية المتحكمة هناك بمقاومة الفكرة بعنف شديد وساندتها فرنسا أو قولي دفعتها فرنسا إلى المقاومة!»
وتقول سوزان في مرارة: «ذلك أن فرنسا تعرف خطر الثقافة، لك الحق كل الحق، إن فرنسا قد اعتدت على مصر، ومصر محقة في غضبها وفي وقفتها ضد المعتدين، وأنت محق في غضبك. إنك سترد الوسام الفرنسي، على أنك إنما ترده على الحكومة الفرنسية التي أمرت بالعدوان، والتي أعتقد أن الشعب الفرنسي لا يمكن أن يوافق على تصرفاتها.»
ويقول طه: «إنما يغضب الشعب الفرنسي إذا فشلت الحكومة الفرنسية في عدوانها، وليس إذا نجح العدوان! وهذا سبب جديد لضرورة المقاومة وإيقاع الهزيمة بالمعتدين.»
وتقول سوزان: «وهل يتيسر مقاومة ثلاث دول مدججة بالسلاح، وإيقاع الهزيمة بهذه الدول الثلاث؟»
•••
في حديقة رامتان يقول مؤنس لوالده: «كل شيء في الجامعة جميل، الدراسة والتدريس، الطلبة، وكثير من الزملاء المشتغلين بالدرس والتدريس، ولكن …»
ويتأهب مؤنس للانصراف، ويقول له والده: «قبِّل عني ليلى، قبلها مرتين أو ثلاثًا إذا شئت!
وفي رامتان بعد ثمانية أشهر …
•••
يقول طه حسين لزوجته وهو يتأهب للذهاب للنوم: «ألم يقل لنا الطبيب أن نترقب الحادث السعيد هذه الليلة؟»
وترد السيدة سوزان: «ومتى كان الطبيب يستطيع أن يحدد اليوم والساعة؟ على أنه مطمئن جدًّا؛ الحالة عادية تمامًا.»
ويقول طه حسين: «أذكر بالألم والرعب تعبك.»
وترد سوزان: «لم أعد أذكر مولد أمينة ومولد مؤنس إلا بالرضا والحب والحنان.»
ويقول طه حسين: «وإذن ننتظر خبرًا من المستشفى هذه الليلة.»
وترد السيدة سوزان: «ليس هذه الليلة قطعًا، هذا ما أكده الطبيب، اذهب لتنام … سأستيقظ مبكرة في الصباح.»
وتعود ليلى من المستشفى بعد عشرة أيام، تحمل ابنتها سعيدة بها وتقول بصوت عالٍ، وهي ما زالت في الحديقة: «أقدم لكم الآنسة أمينة مؤنس طه حسين»، وينهض طه حسين ويسرع مع زوجته متجهَين إلى مسكن مؤنس لاستقبال الآنسة أمينة مؤنس طه حسين وعمرها أسبوع.
•••
في يونيو ١٩٥٧ تدعو حكومة تونس طه حسين لزيارتها للإشراف على لجنة امتحانات آخر العام لشعبة اللغة العربية والآداب في دار المعلمين العليا. طه حسين أول مصري وأول عربي يقوم بهذا العمل في تونس بعد استقلالها عام ١٩٥٦، الرئيس الحبيب بورقيبة يحتفل به احتفالًا كبيرًا؛ إنه يذكر كيف أحسن طه حسين استقباله عندما فر لاجئًا إلى مصر، وكيف قدم طه حسين إليه وإلى حركة الاستقلال التونسية كل معونة ممكنة، وكيف دعاه للتحدث في الإذاعة المصرية، ويتذكر بورقيبة كيف أن بعض رجال الإذاعة لم يُعنوْا به وهو لاجئ لا مكانة له، وكيف أن طه حسين هو الذي آزره ومكَّنه من استعمال إذاعة مصر. لقد كان طه حسين مؤمنًا بضرورة الكفاح وجدواه، واثقًا كل الثقة أن الاستعمار الفرنسي سينحسر عن تونس أمام مقاومة أهلها الصادقين الصامدين.
إنني أذكر عندما كان الاستعمار الفرنسي جاثمًا على البلاد التونسية كيف كنا نستقبل طه حسين في الأربعينيات ونحن تلاميذ بالمدرسة الصادقية، وكيف كانت أفكاره ولغته تروي غُلَّتنا التَّوَّاقة إلى الجديد. وكانت آراؤه وأفكاره تبعث فينا الاعتزاز بانتسابنا إلى الحضارة العربية الإسلامية الناهضة المتوثبة في مصر آنذاك، وتحفزنا إلى الأمل الأكيد في الخروج من الهيمنة الاستعمارية والتبعية الفكرية، وكانت مواقفه الذائدة عن الكيان المتحمسة إلى صيانة الثقافة العربية الإسلامية بالتجدد والخلق؛ تعيننا أكثر على الكفاح من أجل حماية شخصيتنا التي كانت مهددة بالمسح والتذبذب والذوبان.
ويقول طه حسين: «أستغفر الله! يظهر أن أهل تونس بطبيعتهم مبالغون!»
•••
وفي يونيه ١٩٥٨ يدعو المغرب طه حسين لزيارته فيستقبله الملك محمد الخامس أعظم استقبال، ويمنحه أكبر الأوسمة، فهو شديد التقدير لعلم طه حسين وأدبه، وهو لم ينسَ نهوض طه حسين بالدفاع عنه ضد الفرنسيين عندما نفوه عن عرشه وعن بلاده، ويحضر الأمير الحسن (الملك الحسن الثاني الآن) المحاضرة التي يلقيها طه حسين في كلية العلوم بالرباط عن مكانة اللغة العربية والأدب العربي بين اللغات والآداب العالمية، وفيها يبين الدكتور طه حسين كيف انتشرت العربية بقوتها الخاصة وبقوة الإسلام وقوة القرآن الكريم، فاستطاعت أن تكون لغة عالمية بأوسع معاني هذه الكلمة، ويبين أنها لم تكن لغة حديث فحسب ولكنها كانت لغة حديث ولغة سياسة ولغة إدارة ولغة الدين، وكانت في الوقت نفسه لغة التفكير والإنتاج الأدبي والعصري، ويقول إنها في أقل من قرنين أساغت كل الثقافات التي كانت معروفة في العصور القديمة، وتمثَّلتها.
ثم يقول: «وبعد ذلك جاءت المعجزة الكبرى، وهي أن هذه اللغة التي انتشرت بهذه الطريقة المدهشة أنشأت أمة جديدة قوامها اللغة العربية والدين الإسلامي عند الكثرة، والمسيحية والإسرائيلية عند القلة، وكل هذه الأمم امتزجت والتأمت وأصبحت أمة واحدة هي الأمة الإسلامية العربية وجعلت عناصرها المختلفة تتعاون على إنشاء هذه الحضارة الإسلامية العليا، التي لا أعرف أن حضارة أخرى سبقتها في عالميتها وفي انتشارها.»
•••
وحيثما قابل طه حسين شباب المغرب ومثقفيه كان يسمع منهم طويلًا ويتحدث إليهم، كانوا يستصعبون النحو العربي فيقول لهم إن من اللازم ومن الممكن تيسيره، ويشكلون الكتابة العربية التي لا بد أن يفهمها الإنسان أولًا ليقرأها صحيحة بعد ذلك، فيقول طه حسين: «لقد أعلنت مرارًا وأعلن الآن أنه لا بد من إصلاح الكتابة العربية مع رفضي التام للكتابة بالحروف اللاتينية، ويجب على هذا الجيل من العرب أن يبحث عن أحسن الوسائل لإتمام هذا الإصلاح المطلوب والضروري.»
ويقول طه حسين ردًّا على سؤال عن قدرة اللغة العربية على التعبير عن مصطلحات السياسة والحضارة الحديثة: «إن مجمع اللغة العربية بالقاهرة يسلك في هذا الشأن مسلكًا حميدًا، وهو البحث عن الاصطلاح العربي القديم إذا وجد واستعماله إذا كان ملائمًا أشد الملاءمة وأدقها للمعنى العلمي الذي يؤديه المصطلح الأجنبي، وإلا عُرِّب المصطلح الأجنبي نفسه. وليس في التعريب أي حرج، فإن كل الدول الأوروبية مثلًا تستعمل اللفظين اليونانيين أكسيجين وهيدروجين، ولا داعي لأن نحاول ترجمة هذين اللفظين للغة العربية.»
•••
ويزور طه حسين مدن الرباط ومكناس والدار البيضاء وفاس (حيث يستقبله الزعيم علال الفاسي) وتطوان، ويصعد بالسيارة في جبال الأطلس إلى مراكش، ويتوقف عند قرية في الجبل أمام محل صغير وقد استرعى نظر زوجته رداء مغربي أبيض جميل توقفت لشرائه.
وأمام المحل الصغير في القرية المغربية يتجمع بعض أهل القرية يتحدثون فيما بينهم عن الزائر الذين عرفوا أنه طه حسين، ويتقدم رجل عجوز من سكرتير طه حسين ويقول له: «إن الأستاذ لا يعرفني طبعًا، أنا رجل من عجائز هذه القرية، ولكني أرسلت من هنا برقية إلى طه حسين في القاهرة منذ سنين.»
ويلتفت طه حسين للعجوز ويسأله: «أرجو أن تذكرني … ماذا كان موضوع البرقية؟»
وداخل المحل تقول السيدة سوزان: «ما أجمل هذا الرداء! سوف يكون جميلًا عندما ترتديه أمينة بنت مؤنس، سأعطيه لها عندما تحضر مع والديها لقضاء يومين معنا في إيطاليا، في تريستا، قبل عودتنا إلى مصر.»
صاحب المحل يحاول أن يقدم الرداء هدية، ثم لا يتقاضى في آخر الأمر إلا أصل ثمنه دون أخذ أي ربح من طه حسين.
وفي السيارة في طريق العودة إلى مدينة الرباط تعرض سوزان على زوجها الرداء الذي اشترته لحفيدتهما، بنت مؤنس، ويقول طه حسين: «لقد طالت غيبتهم عنا، ولقد تفرق الجميع؛ إن أمينة بنتنا مع زوجها وأولادهما في مقر عمل زوجها في الصومال، في مقديشو، ومؤنس وزوجته وابنته في مقر عمله باليونسكو في باريس.»
وتسأل سوزان: «ألم يحِنْ موعد استقلال الصومال بعد؟ أنا مشتاقة جدًّا إلى إعلان استقلال الصومال، فإن مهمة محمد هناك كما أخبرني موقوتة بانتهاء الوصاية الإيطالية على الصومال وإعلان استقلاله.»
ويرد طه حسين فيقول: «إن الموعد المحدد لإعلان الاستقلال حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة هو الثاني من ديسمبر ١٩٦٠، ولكن محمد أخبرني أنهم يجتهدون في تقديم الموعد إلى صيف ١٩٦٠، وأنا واثق أنه سينجح. لقد أرسلت مصر إلى الصومال شبابًا من أحسن شبابها، تذكرين كمال الدين صلاح مندوبنا الذي استُشهد هناك والذي حل محله محمد؟ سنقابل أمينة وأسرتها الصيف القادم إن شاء الله، أما في هذا الصيف فسوف نرى ليلى ومؤنس وابنتهما في «تريستا» بعد قليل.»
•••
وفي تريستا نرى أمينة بنت مؤنس مع أمها في الرداء الأبيض الذي اشترته لها جدتها من بلاد المغرب، ونرى مؤنس يتحدث مع والده عن أعمال اليونسكو، يقول له إن أحد زملائه قد لفت نظره إلى مقال لوالده يتحدث فيه عن الأمم المتحدة، وقرأ له منه فقرات جاء فيها: «لم أومن قط بهيئة الأمم المتحدة، لأن هيئة أخرى شبيهة لها قامت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لم تكفَّ معتديًا، ولم تقمع باغيًا، ولم تقر أمنًا، ولم تشِعَّ عدلًا، ولم تزد على أن أنفقت مالًا كثيرًا، وملأت الأرض كلامًا وأوهامًا، وأغرت الضعفاء أن يطمئنوا إلى ضعفهم، والأقوياء بأن يتزيدوا من قوتهم»، والمقال الآن بين يدي مؤنس وهو يقرؤه على والده بكامله، يقول لأبيه: «أنت تنهي المقال بقولك: «إن الخير كل الخير أن نذود عن حوضنا بسلاحنا، وألا نظلم أحدًا، وألا نرضى أن يظلمنا أحدًا».» ويسأل طه حسين ولده: «أليس هذا صحيحًا؟ ما اعتراضك على هذا المقال إذن؟»
فيقول مؤنس: «على كل حال نحن الآن في ١٩٥٩، وولدك يعمل في اليونسكو، وهي منظمة من منظمات الأمم المتحدة، وصهرك مشغول بإعداد الصومال للاستقلال باسم الأمم المتحدة.»
ويرد طه حسين: «أنا لم أقل شيئًا ضد اليونسكو، بالعكس هذه منظمة هامة تعمل في ميدان عظيم الخطر، وأنت تعرف أنني شاركت في أعمالها وأنني شاركت من قبل ذلك في أعمال لجنة التعاون الفكري التي كانت متصلة بالمنظمة الدولية السابقة؛ أي عصبة الأمم، إن الثقافة ميدان من الميادين التي نرجو أن يتحقق فيها تعاون البشر للخير والحضارة والتي يتيسر فيها هذا التعاون. وفيما يخص إعداد الأمم المتحدة للصومال للاستقلال، فهذا فضل واضح وخير عظيم، وأنا سعيد جدًّا بعمل محمد هناك، وقد سبق لي أن كتبت أطالب بإلغاء نظام الاستعمار من أساسه، ولكن الفضل الحقيقي في استقلال الصومال، عندما يستقل، لن يكون للأمم المتحدة، ولكن «الفضل» سيرجع إلى هزيمة المستعمر الإيطالي في الحرب العالمية الأخيرة، وإلى أن المنتصرين، وهم الأمريكان والإنجليز والروس والفرنسيون، لم يستطيعوا أن يتفقوا على من يرث الصومال، فانتهوا إلى أن يرفعوا أيديهم جميعًا عنها. هذه هي الحقيقة المؤلمة التي لا تغض من مجهودات مصر ولا من مجهودات زوج أختك، فقد كان من الممكن جدًّا أن يستقر الاستعمار الإيطالي في الصومال لولا هذه المجهودات المشكورة.»
ويقول مؤنس: «أنت متشائم، وعهدي بك التفاؤل.»
ويرد طه حسين قائلًا: «أنا في الحقيقة متفائل، ولكني أريد أن يقوم التفاؤل وخاصة تفاؤل الشعوب على أساس من التعقل والاحتياط. المهم كيف عملك الآن في اليونسكو؟»
ويقول مؤنس: «تعرف أننا نشرف على ترجمة التراث الإنساني إلى اللغات الحية باسم مجموعة «الروائع» الإنسانية، وفيما يخص التراث العربي فإن اللجنة الدولية لترجمة الروائع، التي سبق أن تقرر أن يكون مركزها بيروت، ستصدر قريبًا كتاب «الأخلاق والسير» لابن حزم، وستترجم كذلك كتاب الغزالي «أيها الولد» وكتابه «المنقذ من الضلال»، كما ستترجم «المقدمة» لابن خلدون و«فصل المقال» لابن رشد، وغيرها.»
ويسأل طه حسين عن العملية العكسية؛ عن ترجمة الروائع الأجنبية إلى العربية.
ويجيب مؤنس: «تتم الآن ترجمة «مقال الطريقة» لديكارت، و«مسامرات الأموات» للوسيان، و«العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، و«السياسات» لأرسطو … صديق لطفي باشا.»
ويقول طه حسين: «نعم، وصديقي أيضًا، إنك تذكر كتاب «نظام الاثينيين» لأرسطو الذي ترجمته منذ ثلاثين عامًا.»
ويلاحظ مؤنس أن هذا الكتاب أيضًا قد ترجمه راهب لبناني للعربية، ويقول: «وأخشى أنه لم يشرْ إلى ترجمتك التي سبقته بها بثلاثين عامًا.»
ويقول طه حسين: «إن هذا لا يليق، وإن يكن غير مهم، فلعله لم يعرف أنني ترجمت الكتاب، المهم أن تصدر هذه الترجمات، وأن تكون بين أيدي قرائنا العرب، إن الترجمة العلمية الدقيقة وسيلة لتعارف الشعوب وتفاعل الأفكار الإنسانية وتلاقي الحضارات … ولم توجد نهضة إنسانية إلا وقد اقترنت بها حركة كبرى من حركات الترجمة سواء كان ذلك في بغداد على عهد الرشيد والمأمون عندما أخذ العرب عن غيرهم، أو في أوروبا على عهد النهضة (الرينسانس) عندما أخذت أوروبا عن العرب. إنك تبدو راضيًا عن عملك موفقًا فيه يا مؤنس فلله الحمد، وإن كانت القاهرة تبدو موحشة من غيرك أنت وأختك، ومن غير أسرتيكما … ورامتان التي كنا نحلم بها سنوات عديدة موحشة بغيركم الآن. ثم يقول بعد فترة سكوت: «في بعض الأيام، أحس ونحن وحدنا في رامتان بشيء من الوحشة التي يحس بها المرء أحيانًا قبيل الغروب.»