قبيل الغروب
في القاهرة، وفي مبنى مجمع اللغة العربية نرى طه حسين يتحدث مع رئيس المجمع لطفي السيد باشا.
يقول لطفي باشا: «رأيته آخر مرة هنا في المجمع، يجادل عن اللغة العربية وعن إصلاح الكتابة العربية، ويحاول ما استطاع أن يتم هذا.»
ويقول لطفي باشا: «عاد جسمًا بلا روح …»
ويرد طه حسين قائلًا: «كان ذلك يوم الخميس، ثم سافر إلى الحجاز، وبعد يومين إلى نجد، ثم لم يمكث إلا أيامًا قليلة حتى عاد إلى وطنه.»
ويقول لطفي باشا: «عاد جسمًا بلا روح …»
ويرد طه حسين: «الموت حق، وعبد الوهاب عزام كان خير من يعرف ذلك، وإنما أفكر من جديد فيمن يبقون في هذه الدنيا بعد رحيل أصدقائهم، إنهم يموتون قليلًا بموت الصديق، منذ أقل من ستة شهور قمنا في هذا المجمع بتأبين زميلنا الأستاذ «ليتمان»، ومنذ حوالي سنتين ودعت صديقي «هيكل».»
ويقول طه حسين: «قلت إن قلوب الأصدقاء قبور حية … كل واحد من أصدقائنا الذين سبقونا إلى جوار الله يحيا في قلوبنا بمقدار ما نحيا نحن، على أن هيكل وعزام وأمثالهما يعيشون أيضًا في ذاكرة أمتهم.»
ويرد لطفي باشا: «نعم، لقد كتب هيكل القصة، وشارك معك في تذليل الكتابة السياسية الصحفية، شارك في جعل اللغة العربية ملكًا للذين يكتبونها والذين يتكلمون بها ويطوعونها لحاجاتهم، ومهد معنا طريق الحرية للأجيال المقبلة، حرية الرأي وحرية التفكير وحرية التعبير، وكتبه الكثيرة ستبقى، ستعيش بعد موته.»
ويعلق طه حسين بقوله: «أذكر منها الآن كتابًا ليس هو أكثر هذه الكتب شهرة، كان قد فُجِع هو وزوجه بموت ولدهما، فحملها على السفر معه إلى أوروبا، يريد أن يلهيها عن حزنها، فكان هذا السفر مصدر هذا الكتاب الرائع الذي ألفه بعنوان «ولدي»، ومصدر ما جاء فيه من أوصاف الجبال والبحار والسماء والأجواء.»
ويلاحظ لطفي باشا أن هذا كتاب أملته على «هيكل» عواطف الحزن والحب والحنان.
ويرد طه حسين بقوله: «متى نفع الحزن من يحزنون؟ إنما نحن غرض لسهام لا نستطيع أن نجد عنها محيدًا …»
ويقول لطفي باشا: «لقد تأثرت كثيرًا بالبيتين اللذين بدأت بهما اليوم وداعك لعزام.»
ويردد طه حسين البيتين:
ويقول: «ألا يصور هذان البيتان ما نحس به أصدق وأدق تصوير؟
ألسنا نمد الراحلين عنا كل يوم فيزدادون عددًا ويقل عددنا نحن الباقين بعدهم؟»
•••
وتمر أيام فنرى طه حسين مع ولده وزوجته في مكتبه في «رامتان»، ومؤنس يقرأ على والده صحف الصباح.
يقول مؤنس: «هذا خبر من روما: «قرر رئيس الجمهورية الإيطالية إيفاد السنيور مديتشي إلى مدينة مقديشو مندوبًا عنه للاشتراك في احتفالات استقلال الصومال، وتتضمن مراسم الاحتفال تسليم مندوب رئيس الجمهورية الإيطالية السنيور مديتشي وثائق الاستقلال لرئيس مجلس الأمم المتحدة الاستشاري للصومال الدكتور محمد حسن الزيات ممثل مصر في المجلس، الذي يسلمها للرئيس المنتخب لجمهورية الصومال السيد آدن عبد الله عثمان، في أول ساعة من اليوم الأول من شهر يوليو عام ١٩٦٠.»
ويقول طه حسين: «لقد كتب محمد إليَّ يخبرني بذلك، لقد وُفِّق هو وزميلاه في المجلس الاستشاري للأمم المتحدة إلى الاتفاق مع إيطاليا ومع مجلس الوصاية الدولي للتعجيل بالاستقلال، فهو سيُعلن قبل الموعد الذي حددته الأمم المتحدة بستة أشهر.»
ويقول مؤنس: «المهم الآن هو أن أمينة ستعود هي وزوجها وأولادها إلى القاهرة قريبًا، وإذن فلن تحسوا بفراغ عندما نترككم أنا وزوجتي وابنتي للعودة إلى عملي في اليونسكو بباريس.»
ويقول طه حسين: «إن استقلال الصومال، إن تم، ستكون له نتائج بعيدة الأثر في كل أفريقيا، إن لبلادنا أن تفخر بعملها في الصومال لتحقيق استقلاله. وحضور أمينة ومحمد وأولادهما سيسعدنا بطبيعة الحال ولكنه لن يملأ الفراغ الذي سوف يحدثه سفركم.»
•••
وينقضي الصيف ويتبعه الخريف ويقبل شتاء عام ١٩٦١.
فنرى الدكتور محمد كامل حسين في فيلا رامتان وهو يخرج منها إلى الحديقة مع طه حسين بعد أن قام بفحصه فحصًا دقيقًا، وطه حسين يسير متعبًا وكامل حسين يبدو مهمومًا ولكنه متمالك لنفسه، ويجلس الصديقان على مقعدين متجاورين في الحديقة.
ويدخل الخادم بصينية عليها ستة أكواب ماء، فإنه يعرف أن الدكتور كامل حسين يحس بالعطش دائمًا وأنه يطلب الماء باستمرار، ويضحك كامل حسين، ويفسر ضحكه لمضيفه فيضحك معه، ولكنه يسأل بعد قليل: «ماذا وجدت يا كامل؟ وإن كان هذا السؤال لا يعني أنني سأثق فيما تقول … أنت ناظر مدرسة المنافقين، وقد قال تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ….»
وهنا تدخل أمينة وأمها، وأمينة تتلو ختام الآية: وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ.
ويقول كامل حسين: «يا ستي أنت راجعة من الصومال شديدة الرضا عن نفسك، زوجك أعلن بنفسه استقلال الصومال من شرفة الجمعية التشريعية الصومالية في منتصف الليل كما أخبرتنا الصحف، وأنت عدت لنا بسلامة الله وما زلت فاكرة الآية الكريمة التي يستعملها والدك في اتهامه لي بمنافقة والدتك.»
وتتساءل أمينة: «اتهام؟ وأنت تنكر التهمة يا دكتور؟»
ويضحك كامل حسين ويقول: «لا، لا، هذا الاتهام في نفسه شرف، ثم إن هذه تهمة عمرها الآن أكثر من عشر سنين ونحن نبقيها تهمة معلقة، لا نثبتها ولا ننفيها … تعالي نبحث عن زوجك لنشرح له أصل الموضوع ولأحاول أن أقول لك الرد على سؤالك!»
ويدخل كامل حسين وأمينة إلى المنزل وينضم إليهما زوجها.
ويقول كامل حسين في جد: «لا بد من نقل الدكتور إلى المستشفى حالًا، العمود الفقري يحتاج إلى عملية ضرورية قطعًا وإلا واجهنا خطر الشلل، ومن حسن الحظ عندنا الآن أستاذ من أكبر أساتذة هذه العملية في العالم، جراح أعصاب سويدي اسمه أوليفا كورونا يجري عملياته الآن في مستشفى الطيران، المستشفى الفرنسي سابقًا، وطبعًا سنجري هناك كل الفحوص وسيكون معنا كل من يلزم من الأطباء … مسئوليتكم كبيرة والسرعة لازمة.»
وتسأل أمينة: «متى؟»
ويرد الدكتور كامل: «حالًا!»
وتقبل عليهم السيدة سوزان وتسأل: «ما الحالة يا دكتور؟» وتترك أمينة والدتها وتخرج من المنزل لتجلس مع والدها في الحديقة.
ويقول طه حسين: «كامل إذن يرى أن الحالة خطيرة، هل يرى ضرورة للانتقال إلى المستشفى؟»
وترد أمينة قائلة: «يظهر أن هناك أستاذًا سويديًّا كبيرًا اسمه «أوليفا كورونا» موجود الآن في مستشفى الطيران بالعباسية لمدة أيام، والدكتور كامل يقترح أن تذهب لاستشارته.»
ويرد طه: «لا يا ابنتي أبوك لا يرضى بنصف الحقائق. وينادي كامل.»
ويقبل الدكتور كامل ومعه السيدة سوزان ومحمد.
•••
وفي اليوم التالي، في مستشفى الطيران بالعباسية تُرى أمينة وأمها وليلى العلايلي ومحمد الزيات خارج غرفة العمليات.
وتقول السيدة سوزان: «مر أكثر من نصف ساعة على دخوله قاعة العمليات.»
ويرد محمد قائلًا: «هذا منتظر، الدكتور أوليفا كورونا قال إنها ستستغرق أكثر من ساعتين.»
وتقول السيدة سوزان: «لم يرضوا أن أدخل معه، منعوني من الدخول معه …»
وتقول أمينة: «لم يدخل مع أوليفا كورونا إلا الدكتور البنهاوي والطاقم الذي حضر مع الدكتور أوليفا كورونا من السويد.»
وتقول السيدة سوزان: «لم يكن حضوري سيضايقهم، كنت فقط أريد أن أكون معه.»
وفي القاعة الخارجية للمستشفى يتجمع عدد كبير من الأطباء والأصدقاء والأساتذة والطلبة وهم ينتظرون في سكون، يحاولون إخفاء قلقهم على المريض العزيز.
ويخرج الدكتور البنهاوي مساعد «أوليفا كورونا» في العملية ويطمئن الموجودين.
يقول الدكتور البنهاوي: «الدكتور العميد نُقل لغرفة الإنعاش، وكل شيء سار كما كنا نرجو أن يسير، والحمد لله.»
وفي الداخل أمينة ومؤنس مع أمهما وهي متوترة الأعصاب، وابنتها تقول لها: «يا أمي إن أهل شمال أوروبا، ومنهم السويديون، لا يعرفون التلطف في ذكر الحقائق، كل ما قاله هو أننا يجب أن نعرف أن بين الاحتمالات …»
وتقاطعها أمها تقول: «لقد قال إنه من المحتمل ألا يستطيع السير أبدًا.»
ويقول مؤنس: «لماذا لا تتذكرين أيضًا أنه قال إن العملية نجحت، وإن المرض قد أُوقف تقدمه، وإن من المرجو أن يستعيد أبي قدرته على السير قبل مرور زمن طويل.»
وترد السيدة سوزان: «لأن ما قاله مخيف، مخيف!»
وتقول أمينة: «الطبيب هو الله، وما أظن إلا أنه سيشمل برحمته رجلًا يحبه وهو طه حسين.»
•••
إلى العَلَم الشامخ في الأدب المعاصر
إلى الساحر بفصاحة لسانه، ونصاعة بيانه، وعذوبة موسيقى أسلوبه، وإيقاع
كلماته ونبراته
إلى الدكتور طه حسين
يهدي نفر من أصدقائه ومريديه، العارفين بعظيم فضله وبالغ أثره في الأدب والفكر بعامة، والبعث الروحي العربي بخاصة، يهدون هذه الدراسات التي تدور حول موضوعات كان له فيها جميعًا مكان الصدارة، ومنزلة الملهم الأكبر، والفاتح لكثير من أغلاقها، والمثير لعديد من مشكلاتها، والدارس الواعي المبين من نواحيها الدقيقة والجليلة.
ويقول طه حسين: «إنني متطلع إلى قراءة هذه البحوث كلها، وهي بريئة فيما أرجو من هذه المبالغات التي ألاحظها في المقدمة. هل تقرأ عليَّ أسماء الباحثين العرب؟»
ويرد الأستاذ بدوي: «نعم، الأسماء هي: عبد العزيز الأهواني وبحثه هو أطول البحوث، وخليل يحيى نامي، وعبد الهادي شعيرة، وشوقي ضيف، والأب جورج قنواتي، وعبد القادر القط، ومحمد كفافي؛ من المصريين. ومن الدول العربية حسن باشا حسني عبد الوهاب، ومحمد عبد العزيز الحبابي. ومن أوروبا …»
لا غرابة في أن تقتصر المساهمة على علماء المغرب العربي، لأننا يظهر أننا في هذا العام نلفت رأسنا، في كثير من الحزن، عن المشرق العربي؛ في سبتمبر تم انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة، وفي ديسمبر انحل اتحاد الدول العربية وانتهت بذلك محاولة المشاركة مع اليمن. لقد تركنا طموحنا يسبق قدراتنا، ونسينا، في تلهفنا، أن أساس النهضة في كل بلد من بلادنا وأساس التقارب والتضامن هو العلم، الذي لا بد أن يتكافأ حظ شعوبنا منه، لنعرف على هداه أهدافنا وغاياتنا، ولنتبين ونسلك سبيلنا إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات.
ويرد الأستاذ عبد الرحمن بدوي قائلًا: «نحن نتابع مقالاتك في جريدة الجمهورية عن هذا الموضوع بالإعجاب الذي تعودته من تلاميذك، من تلاميذك في كل بلاد العالم العربي.»
ويرد طه حسين قائلًا: «أشكرك وزملاءك جميعًا من جديد، هذا الكتاب ليس هدية جميلة فقط، بل هو هدية عظيمة الفائدة أيضًا، ثقوا أنني سأقرأ هذه البحوث جميعًا، وسأقرؤها لأستفيد، لأستفيد من علم تلاميذي وليس فقط من علم الزملاء.»
•••
وتمر الأسابيع ويقبل اليوم الحادي والعشرون من إبريل عام ١٩٦٣، ونرى الدكتور طه حسين وزوجته في السيارة متجهين إلى دار مجمع اللغة العربية.
ويقول طه حسين: «عرفته وأنا في سن الثامنة عشرة، هي إذن صداقة دامت أكثر من نصف قرن.»
وترد سوزان: «وعرفته أنا معك منذ حضورنا إلى مصر، مدة تجاوزت الأربعين عامًا، وتبدو لي الآن أكثر من ذلك، إن عمر الصداقة لا يقاس بمرور السنين.»
ويقول الدكتور طه: «هو الذي حدثني لأول مرة عن أوروبا، هو الذي ذكر لي أسماء لم أكن قد سمعت بها من قبل، أسماء فولتير، وجان جاك روسو، وديدرو، ومونتسكيو.»
وتقول سوزان: «ومع ذلك كان مصريًّا صميمًا، تذكر لهجته؟»
ويرد الدكتور طه: «نعم، كان يحب أن يحتفظ بلهجة إقليم الشرقية.»
ويتبارى في ذلك مع صديقنا الأستاذ مصطفى عبد الرازق ومعي، ونحن نتحدث بلهجتنا الصعيدية.
وتقول سوزان: «كانا أخوين بالنسبة لك.»
ويرد طه: «كان لطفي أبًا وأخًا، كان يحدثنا عن السياسة المصرية والسياسة العالمية في غير تكلف، منه سمعت ألفاظ الديمقراطية والأرستقراطية وحكم الفرد وحكم الجماعة وآراء الفلاسفة، وكنا نقرأ في مقالاته أن الأمة فوق كل مقام.»
وتسأل السيدة سوزان: «فوق كل مقام؟! ألم يكن ذلك حديثًا شديد الجرأة في تلك الأيام؟»
ويقول لها زوجها: «نعم، كان يقول إن الحكام ليسوا في حقيقة الأمر إلا خدامًا أجراء للشعب، يخدمونه ويأخذون منه أجرهم.»
وتقول السيدة سوزان: «ألم تذكر لي أن صاحبك أبا العلاء قال شيئًا مثل هذا؟»
ويرد الدكتور طه: «نعم، قال أبو العلاء عن بعض الحكام الجائرين:
على أن لطفي السيد هو نفسه الذي حببني إلى أبي العلاء، وقد أسعدني جدًّا رضاؤه عن الرسالة التي كتبتها عن أبي العلاء وقدمتها للحصول على درجة الدكتوراه من مصر.»
وتقول السيدة سوزان: «كذلك أذكر أنك لم تقدم رسالتك عن ابن خلدون إلى السوربون إلا بعد أن أرسلتها من باريس إليه في القاهرة فقرأها واستحسنها.»
•••
ونحن نرى بعد ذلك داخل المجمع الدكتور طه حسين، نائب رئيس المجمع، ينهي خطابه في توديع الرئيس.
يقول طه حسين: «إني فقدت كثيرًا من الأحباء الأعزاء عليَّ، فوجدت ما يجد الإنسان من اللوعة والأسى، ولكني لم أجد قط مثل ما أجد الآن، بعد أن فقدت هذا الأب الرحيم والصديق الحميم، ولم يخطئ الشاعر القديم حين قال:
وينصرف أعضاء المجمع بعد انتهاء الجلسة ويبقى طه حسين مع الدكتور مدكور.
يقول الدكتور إبراهيم بيومي مدكور لطه حسين: «كان عسيرًا علينا حبس الدموع، هذا لطفي باشا قد تركنا، الله المسئول أن يبارك لنا في عمرك.»
•••
بعد خمسة شهور، في فندق صغير في قرية كولي إيزاركو في سبتمبر ١٩٦٣، نرى طه حسين مع سكرتيره الذي يقرأ عليه البريد والصحف المصرية.
يقول السكرتير: «صدر قرار رئيس الجمهورية بتعيينكم رئيسًا لمجمع اللغة العربية.»
يقول طه حسين: «يرحم الله لطفي السيد! ما أظن خسارة المجمع بوفاته يمكن أن تعوض، على أن العمل ينبغي أن يستمر، عندما نعود أريد أن يعرض عليَّ الأستاذ إبراهيم الإبياري أعمال لجنة المعجم الكبير، إنني أريد أن نبذل مجهودًا أكبر في هذه اللجنة.»
ويقول السكرتير: «وعندكم أيضًا لجنة الأدب ولجنة ألفاظ الحضارة المتفرعة منها.»
وينقضي الصيف ويعود طه حسين إلى مصر، فنراه في مكتب رئيس المجمع، وقد انتهى الأستاذ إبراهيم الإبياري من عرض ما طلبه الرئيس فيستأذن في الانصراف، ويدخل الدكتور إبراهيم بيومي مدكور فيقول له طه حسين: مرت الآن سبع سنوات منذ نشر المجمع خمسمئة صفحة تقريبًا من المعجم الكبير في طبعة محدودة ليتلقى عليها ملاحظات المتخصصين، هل ترى جاء الوقت بعد مرور هذه السنوات السبع لكي ينشر المجمع الجزء الأول من المعجم الكبير؟
ويرد الدكتور مدكور قائلًا: «إن هذا المعجم يحظى كما تعلمون بما لم يحظَ به معجم قبله من الدرس المتصل والمراجعة الدقيقة والمتابعة الواعية؛ المحررون، الذين دُرِّبوا في كنف المجمع وتحت إشرافه، يعملون في جد ومثابرة، والمتخصصون في اللغة العربية وكذلك اللغات السامية والشرقية يراجعون، ويُعرض العمل بعد ذلك كله على لجنة المعجم الكبير، واللجنة لا تتردد في الرجوع إلى الزملاء المجمعيين من غير أعضائها في نواحي اختصاصهم، ثم يجيء بعد ذلك دور أعضاء مؤتمر المجمع ولهم دائمًا ملاحظاتهم وتوجيهاتهم السديدة، وهذا كله يستلزم وقتًا وصبرًا لا أرى أن يبخل بهما المجمع على هذا العمل الذي سيكون عملًا خالدًا في تاريخ اللغة العربية بإذن الله.»
ويقول طه حسين: «طبعًا لا نريد التعجل، ولا نريد أن نبخل على هذا العمل بشيء، لا الوقت ولا الصبر ولا الجهد المضاعف، ولكن الزمن يمر، وأخشى ألا يكلل عمل المجمع ولجنة المعجم بما نأمله من النجاح في وقت معقول.»
ويرد الدكتور مدكور قائلًا: «أرجو ألا يتأخر صدور الجزء الأول كثيرًا، على أنه لن يتسع فيما أظن إلا للحرف الأول من حروف الهجاء.»
•••
وفي رامتان في شهر مارس ١٩٦٤ وفي غرفة مكتب طه حسين نرى «لجنة الأدب» من لجان المجلس الأعلى للثقافة، وقد انتهت من اجتماعها برياسة طه حسين وأعضاؤها يأخذون في الانصراف.
ويسأل طه حسين الأستاذ يوسف السباعي: «كيف حال الأستاذ العقاد اليوم؟»
ويرد الأستاذ السباعي بقوله: «سمعت أن صحته تتقدم، وكان قد رفض الانتقال إلى المستشفى، ويظهر أنه كان مصيبًا فهو يسترد الآن عافيته ونشاطه دون أن يغادر البيت.»
ويقول طه حسين: «مضى الآن أكثر من أربعين سنة وأنا أتابع كل ما يكتبه الأستاذ العقاد وهو يتابع كل ما أكتبه، وعندما يهدي إليَّ كتابًا من كتبه يقول إنه ليس هدية ولكنه قرض ينتظر مني أن أؤديه بتأليف كتاب جديد وإهدائه نسخة منه!»
ويقول يوسف السباعي: «لقد دخلتما المجمع في يوم واحد.»
ويرد طه: «نعم، كنا عشرة، كان أحمد أمين يسميهم العشرة الطيبة: هيكل ومصطفى عبد الرازق وعلي إبراهيم والمراغي وعبد العزيز فهمي ولطفي وعبد القادر حمزة وأحمد أمين والعقاد وأنا، إنه زميل قديم وكاتب كبير. على أنه، وهذا هو الأهم، رجل بمعنى الكلمة، لقد جاءني بعض الشباب يومًا فانتهى حديثهم إليه، وأخذوا يوجهون إليه من الانتقاد ما كانوا يعتقدون بغير شك أنه سيرضيني، فقلت لهم إن هناك في أغلب الظن، في نفس ذلك الوقت، شبابًا مثلهم في مجلس العقاد يحاولون أن ينالوني بمثل ما تحاولون أنتم أن تنالوه به، وقلت إنني ما أظن العقاد سيُسرُّ بذلك أو سيُعجب به، فإنني أنا لم أُسرُّ بما قلتموه الآن عنه، ولم أُعجَب به.
إن العقاد كان هو النائب الوفدي الوحيد الذي وقف في مجلس النواب يدافع عني ضد هجمات زملائه، وهو مدرك أن رئيس المجلس وهو سعد زغلول باشا ذاته، لم يكن يكره في ذلك الوقت أن تزداد نار هجومهم اشتعالًا. وبعد سنوات، عندما أقصاني حلمي باشا عيسى عن الجامعة ثم عن الحكومة، كتب العقاد مقالًا عنوانه أن حل مشكلة الجامعة هو أن يستقيل وزير المعارف، وختمه بأن أحدًا لن يأسف على استقالة الوزير لا من خصومه ولا حتى من رجال حزبه!»
ويقول الأستاذ السباعي: «لقد قامت بينكما مساجلات في موضوعات شغلت الصحف المصرية كلها، مثلًا خلافكما حول الثقافة اللاتينية والثقافة السكسونية، والذي استفاد حقيقة من هذه المساجلات هو جمهور القراء.»
ويقول طه: «لم يرد في هذه المساجلات لفظ واحد ينبو عنه الذوق السليم، ولقد كانت سببًا ووسيلة لتنشيط حياتنا الأدبية.»
ويقول السباعي: «لقد أهديت قصتك دعاء الكروان إليه.»
ويرد طه قائلًا: «نعم، قلت إنها تحية خالصة من صديق مخلص.»
ويقول السباعي: «ولكنك انتقدت بعنف بعض كتبه، مثلًا كتابه عن أبي نواس.»
ويقول طه: «وهل ينتقد الكاتب من أعمال زملائه إلا ما يستحق العناية به؟ على أن انتقادي كتاب العقاد عن أبي نواس ناشئ أساسًا عن استعمال العقاد فيه لأساليب المحللين النفسيين، ولست أدري حظ هؤلاء المحللين النفسيين من التوفيق في تعاملهم مع الأحياء، فكيف بتحليلنا لنفس الأموات؟ وعندنا الدكتور مصطفى زيور، وهو من تلاميذي الذين أحبهم، ولكني أداعبه دائمًا بالتشكيك في هذا العلم الذي تعلمه في باريس.»
وبعد لحظة سكوت يقول طه حسين: «أظن يحسن أن نسأل عن الأستاذ العقاد ولو أن الوقت متأخر.»
ويطلب السكرتير منزل الأستاذ العقاد بالتليفون ويتحدث طه حسين إلى من يرد عليه، ثم يقول: «الحمد لله، وإذن نراه في جلسة المجمع القادمة إن شاء الله.»
•••
وكذلك فارقتنا أيها الأخ الكريم والصديق الحميم والزميل العزيز، فارقتنا فجأة على غير إذن لنا بهذا الفراق، وعلى غير انتظار من عوَّادك وأطبائك ومن أهلك الأقربين، الذين كانوا يحوطونك بعنايتهم ورعايتهم، والذين كنا نسألهم عنك فلا نسمع منهم إلا خيرًا كل خير.
ولقد سألتهم أمس حين تقدم الليل فأنبئوني بأنك على خير حال، سعدت بذلك، وعرفت أن الملتقى في مجمع اللغة العربية قريب، ولكني أصبح فإذا النبأ يفاجئني فيقع عليَّ موقع الصاعقة! وأقسم لقد ذهلت له ذهولًا أفقدني الشعور بمن حولي وما حولي أو كاد يفقدني هذا الشعور.
إيه أيها الأخ الكريم، إن موتك لا يفجع أسرتك وحدها، ولا وطنك وحده، وإنما يفجع العالم العربي كله، فقد كنت علمًا من أعلام العروبة الشاهقة، ونجمًا من نجومها المشرقة، ملأت الدنيا أدبًا وحكمة وفلسفة وعلمًا، تألق نورك بين مواطنيك منذ شبابك الأول وما فتئ أن تجاوز وطنك وأشرق على العالم العربي كله، ثم لم يلبث أن تجاوزه إلى المعنيين بشئون الأدب العربي في جميع أقطار الأرض.
أنت أيها الأخ الكريم والصديق الحميم والزميل العزيز ملأت الدنيا حقًّا وشغلت الناس حقًّا، وستشغلهم بعد وفاتك أكثر مما قد شغلتهم في حياتك.
ما أشد ما كان بينك وبيني من خصام في السياسة أحيانًا وفي الأدب أحيانًا أخرى! وما أحلى ما كان بينك وبيني على ذلك من مودة وإخاء ووفاء!
وينتهي طه حسين من الإملاء، ويطلب إلى السكرتير أن يأخذ المقال لجريدة الجمهورية، وأن يتركه وحده لا يدخل عليه أحد.
•••
بعد قليل تدخل السيدة سوزان وتقول: «فريد قال لي إنك لا تريد أن يدخل عليك أحد.»
ويرد طه حسين: «نموت قليلًا عندما يغادرنا في هذا الدنيا الأهل والأصدقاء، لقد كنت بالأمس أذكر الأعضاء العشرة الذين دخلت معهم المجمع عام ١٩٤٠، لقد ودعنا منهم الآن لطفي وهيكل وعبد العزيز فهمي ومصطفى عبد الرازق، كما ودعنا علي إبراهيم والمراغي وعبد القادر حمزة وأحمد أمين والآن العقاد، لم يبق على قيد الحياة من الزملاء العشرة سواي!»
ويقول طه: «لا، ابقي معي قليلًا.»
فتقول سوزان: «وصل خطاب من أمينة من نيويورك، يظهر أن زوجها قد تقرر تعيينه سفيرًا في الهند، وسيمرون علينا في طريقهم إلى نيودلهي.»
ويرد طه قائلًا: «من نيويورك إلى الهند؟! سيبقون إذن بعيدين عنا بعدًا عظيمًا … سيمرون، تقولين إنهم سيمرون فقط؟ متى يسافرون إلى الهند وتُرى متى يعودون؟!»
•••
في مارس ١٩٦٥ يزور الدكتور طه حسين ابنته في منزلها بالمعادي، وقد عاد زوجها من الهند؛ حيث نُقل الآن وكيلًا لوزارة الخارجية، فيجد عند صهره عددًا من سفراء الدول يدور الحديث معهم حول حاجة الدول المسماة بدول العالم الثالث إلى التعاون والتكامل فيما بينها أولًا، لتتعامل بعد ذلك وتتعاون مع الدول الكبرى.
ويقول الدكتور طه حسين: «لا بد أولًا أن تحقق كل هذه البلاد لنفسها الحرية الكاملة، وأن تحقق لشعوبها العدل الاجتماعي.»
ويرد سفير الباكستان قائلًا: «الحرية والعدالة! إن كل المذاهب السياسية تدعي أنها تستهدف ذلك!»
ويقول طه حسين: «إن كثيرين منا يفكرون في العدل الاجتماعي ومظاهر المطالبة به والسعي إليه، ينظرون إلى الديمقراطية المعتدلة، وينظرون إلى الاشتراكية الدولية وإلى الاشتراكية الوطنية وقد ينظرون إلى الشيوعية في كثير من التردد والاستحياء، ولكنهم لا ينظرون أو لا يكادون ينظرون إلى فكرة المطالبة بالعدل الاجتماعي كما وجدها المسلمون قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة، ومع ذلك فقد كان للمطالبة بتحقيق العدل الاجتماعي في التاريخ الإسلامي أبطال من حقهم أن يُدْرسوا، وأظن أن شاعركم محمد إقبال قد ألف كتابًا اسمه «مجلس الشيطان» تحدث فيه بشيء من ذلك، فقد حدثني مضيفنا اليوم الدكتور الزيات عن هذا الكتاب.»
ويقول سفير الباكستان: «نعم، الكتاب معروف، والشيطان في هذا الكتاب لا يخاف من كل هذه المذاهب، بل إنه يُسَر لما ينشأ عنها من اختلاف ونزاع، ولكنه يخشى الإسلام ويخاف مبادئه، وبهذه المناسبة كم تحب الباكستان لو استطعتم زيارتها!»
ويقول طه حسين: «عندما كان صهري سفيرًا في الهند نقل إليَّ دعوة من رئيس الجمهورية الهندية لزيارة بلاده، وكم كنت أحب أن أزورها وأزور بلادكم أيضًا! فأنتم شركاء في تاريخنا الإسلامي، وأنت شركاء في مستقبلنا أيضًا، ولكن الوصول إليكم يستلزم ركوب الطائرة، وأنا لا أركب الطائرة، لم أركبها إلا مرتين؛ مرة لزيارة مدينة الرسول ﷺ ومرة لزيارة المغرب، وكانت الرحلة إلى المغرب من باريس، أي عبر البحر الأبيض فحسب.»
ويقول السفير الباكستاني: «يمكن التفكير في رحلة بحرية من بورسعيد إلى كراتشي.»
ويرد طه حسين: «لا أظن أنه توجد الآن خطوط ملاحية منتظمة.»
ويقول السفير الباكستاني: «لا للآسف، ولكن نرجو أن توجد في المستقبل، لقد كنا نتحدث عن ضرورة تعاون دول العالم الثالث، وتسهيل المواصلات بين هذه الدول هو من أهم وسائل تعاونها.»
ويتدخل في الحديث السفير العراقي فيقول: «نحن ننتظر زيارتكم للعراق أولًا، إن أهل العراق يتابعون كتاباتكم بنفس الاهتمام الذي يتابعها به المصريون، ولا أريد أن أقول باهتمام أكثر، ومنذ ستة أعوام كتبتم مقالًا تستنكرون فيه مذابح الموصل التي كانت تزعج العالم العربي كله كما كانت تزعج ضمير العراق، فكان لمقالكم أثر في بلادنا دعا رئيس محكمة الثورة، السيد المهداوي، إلى وقف جلسات محكمته ليخصص جلسة للرد عليكم، وكان رده سبابًا، وكان أثر هذا الرد في إثارة نفوس الناس ضد المهداوي وكل ما كان يمثله أشد وأعنف من تأثير مقالكم نفسه! وبهذه المناسبة لم نعد نقرأ لكم يا سيدي شيئًا في جريدة الجمهورية منذ فترة.»
ويقول طه حسين في هدوء: «منذ فترة استغنوا عن خدماتي يا سيدي، علمت ذلك من خطاب وصلني بالبريد، جاء فيه أن الجريدة تستغني عن خدمات عدد من المحررين منهم طه حسين.»
ويهم السفير بالتعليق ثم يسكت، ويحل الصمت على المجتمعين، ثم يقطعه أحدهم بقوله: «لقد أوشكت الشمس على المغيب، ونحن هنا منذ وقت الغداء، نستأذن الآن، وقد أسعدنا حقيقة أن نلبي هذه الدعوة، ويشرفنا خصوصًا أن نقابل فيها عميد الأدب العربي.»
وينصرف المدعوون وصاحب الدار يودعهم حتى الباب.
ويقول طه حسين لابنته: «أظن أن الأحسن أن نترك الحديقة وندخل البيت الآن، لقد أوشكت الشمس فعلًا على الغروب.»