حديث الأحد … وحديث الأربعاء
في دار صحيفة السياسة يتحدث الدكتور طه حسين مع صديقه الدكتور محمد حسين هيكل رئيس التحرير عن خطته في تحرير الصفحة الأدبية، إنه سوف يستأنف فيها أحاديثه التي كان يمد الصحيفة بها كل يوم أربعاء، سيحدث قراءه عن بعض شعراء العرب في القرنين الثاني والثالث الهجريين وعن العصر الذي عاشوا فيه، وعن ثقافته كيف كانت وكيف تكونت، إنه يريد أن يصل قراء العربية المعاصرين بتراثهم الضخم الذي يجب أن ينفض عنه التراب، وأن يحبب إليهم لغتهم الجميلة التي أخذت بعض الأصوات تدعو إلى هجرها واستخدام العامية مكانها. وهو كذلك ينوي أن يتحدث في صفحة «السياسة» الأدبية عن بعض روائع المسرح الفرنسي المعاصر كل يوم أحد إن أمكن. إنه يريد أن يصل القراء من جهة بالتراث العربي الذي يحرص على جلائه وعلى صيانته، ومن جهة أخرى بأدب الغرب المعاصر الذي لا يجوز جهله ولا تجاهله.
هيكل يوافق طه حسين ويتحمس له، وهما يتذكران كيف تعارفا، حين كانا ناشئين، في مكتب الأستاذ لطفي السيد مدير «الجريدة»، كيف كانا يختلفان إليه في الضحى بين حين وحين فيراقبان عمله في إدارة الجريدة وتحريرها، ويسمعان أحاديثه في السياسة والفلسفة والمنطق وفي الأدب العربي أيضًا. يقول طه: «كنت أنت طالبًا في مدرسة الحقوق عند ذلك، وكنت أنا مجاورًا في الأزهر ثم طالبًا في الجامعة المصرية، وسافرت أنت إلى فرنسا لإتمام دراسة الحقوق وتركتني في مصر.» ويقول هيكل: «نعم، وعلينا نحن الآن إدارة صحيفة السياسة وتحريرها، ونرجو أن نكون قد استفدنا من ترددنا على «الجريدة» ومن علم وتجربة أستاذنا لطفي السيد.»
سيدي الفاضل الدكتور حسين بك هيكل
أرسل إلى السياسة هذه الرسالة، عاتبت بها ظريفًا من أدباء الشام، كنت كتبت إليه فتفتَّر في رد كتابي؛ لأن جماله ظرف وظرفه جمال، وهما إذا اجتمعا كان لهما حكم خاص في قانون الرسائل، وقد كتبتها من النمط الأول الذي هو فن من زينة البلاغة العربية يشبه فنون الزخرفة والتنسيق، وهو حين يكون في مثل هذه الرسالة لا يكون أبدع منه شيء من الأساليب الأخرى. فأرجوكم الحفاوة برسالتي هذه في «السياسة» الغراء والتمهيد لها بما يبين عن سبب كتابتها، حفظكم الله للمخلص الأمين مصطفى الرافعي.
… فإن كان قلبك شيئًا غير القلوب فها نحن شيء غير الناس، وإن كنت هندسة وحدها في بناء الحب فما خُلقت أيامنا في طولها وقصرها للقياس، وهب قلبك في هذه الهندسة مربعًا أفلا يسعنا ضلع من أضلاعه؟ أو مدوَّرًا أفلا يمسنا محيطه في انخفاضه وارتفاعه؟ وهبه مثلثًا فاجعلنا منه بقية في الزاوية، أو مستطيلًا …
أما أنا فأعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت مضطرًا أن هذا الأسلوب الذي ربما راق أهل القرنين الخامس والسادس للهجرة، لا يستطيع أن يروقنا في هذا العصر الحديث الذي تغير فيه الذوق الأدبي تغيرًا كبيرًا.
وتنشر «السياسة» كلمة الأستاذ الرافعي مع تعليق طه حسين، ويرسل الأستاذ الرافعي تعليقًا على التعليق، وتنشب معركة أدبية يتوالى الأخذ والرد فيها بين أنصار القديم وأنصار الجديد. ويدخل المعركة كتَّاب ومفكرون آخرون، منهم الأستاذ سلامة موسى والأستاذ أحمد زكي أبو شادي مؤيدين لطه حسين، ومنهم الأستاذ عباس محمود العقاد الذي كتب رسالة قال عنها طه حسين: «إن فيها خيرًا وشرًّا وفيها ثناء وذمًّا.» ويكتب آخرون يدافعون عن الرافعي ويهاجمون طه حسين.
ويقول طه لهيكل: «إننا إذا وافقنا أنصار القديم على الكتابة بلغة القرون الماضية المعقدة، فإن الشباب سينصرف عن اللغة العربية الفصحى، سوف يجدها قديمة لا تلائمه ولا تؤدي ما يحس به، إننا لا بد أن نلائم بين اللغة والحياة، لا بد ألَّا تتخلف اللغة العربية عن عصرها، وأن تكون قادرة على التعبير عما يريده أهلها تعبيرًا صادقًا واضحًا.»
ويتساءل: «ماذا يمكن أن ينكر علينا الأستاذ الرافعي وأصحابه؟ متى كان القصد إلى الصدق وإلى حسن الملاءمة بين ما نجد وبين ما نصطنع في وصف ما نجد ذنبًا يُذكر أو شيئًا يُعاب؟!»
ويقول: «إنهم يقولون إنهم مشفقون كل الإشفاق على القرآن الكريم وعلى الإسلام أن يصيبهما من المذهب الجديد شر أو ينالهما منه ضيم … ولكن المذهب الجديد لا يقتل اللغة ولا يغير من أصولها وقواعدها، وإنما يريد أن تكون اللغة حية نامية، ومن ذكر الحياة والنمو فقد ذكر التطور …»
ويتناول طه حسين في «أحاديث الأربعاء» العصر الذي انحلت فيه الدولة الأموية وقامت فيه الدولة العباسية، فيقرر أثناء بحثه أن «الشك والعبث والمجون كانت أظهر مميزات ذلك العصر.» على أنه يعرف أن الناس عادة يكرهون الحديث عن القدماء بغير التبجيل والإكبار فيكتب: «ما كان لي ولن يكون لأحد من الباحثين الذين يقدرون العلم وكرامته، أن نغير التاريخ أو أن نظهر عصرًا من عصور الأمة العربية على غير ما كان عليه.»
ويقول أيضًا: «ونحن نعلم حق العلم أن ليس على عقول الناس ولا أخلاقهم خطر من مثل هذه البحوث الأدبية، فالناس لم ينتظروا لهو أبي نواس وأصحابه ليعرفوا اللهو، والناس لم ينتظروا هذه الفصول وأمثالها ليعرفوا العبث، ونحن لم نكتب هذه الفصول وأمثالها لنحبب العبث إلى الناس ونرغِّبهم فيه، فإن في ظروف هذه الحياة التي نحياها مرغِّبات في اللهو ومحرِّضات على العبث أقوى وأبلغ من لهو أبي نواس وعبث مطيع وحماد.»
ويلاحظ طه حسين فيما بعد أن أحاديث الأربعاء كان لها — على كل حال — نتيجتان قيِّمتان: «الأولى أنها جلت ناحية من نواحي تاريخ الأدب العربي لم تكن واضحة ولا بينة وليس هذا بالشيء القليل، والثانية أن فيها ضربًا من مناهج البحث تمكن من استغلال هذه الكنوز القيِّمة التي لا تزال مجهولة والتي نشأ من جهل الناس إياها غضبهم من الأدب العربي وانصرافهم عنه في أنفة وازدراء»، وهو يؤكد: «إن الذين يزدرون الأدب العربي ويغضبون منه يجهلون هذا الأدب جهلًا منكرًا»، ويقول: «نحن نحب لأدبنا القديم أن يظل قوامًا للثقافة وغذاء للعقول لأنه أساس الثقافة العربية، فهو إذن مقوِّم لشخصيتنا محقِّق لقوميتنا، عاصم لنا من الفناء في الأجنبي، مُعين لنا على أن نعرف أنفسنا.»
ويكتب إليه مهندس يعمل في بعض مدن الصعيد يقول إنه لم يُعْنَ من قبل بالأدب العربي قط ولم يقرأ لغير المحدثين لا شعرًا ولا نثرًا، ولكنه منذ اطَّلع مصادفة على أحد أحاديث الأربعاء قد جعل يترقبها ويحرص على الحصول على أعداد جريدة السياسة التي تنشرها، لا يستطيع أن يعود إلى منزله إلا والجريدة معه، ولا يستطيع أن يأوي إلى فراشه إلا وقد قرأ حديث طه حسين عن شعراء العرب الأقدمين ثم أعاد القراءة ثانية وربما أعادها ثالثة، يجد في هذا الحديث الجديد وفي ذلك الشعر القديم ما يعجبه كل الإعجاب ويرضيه كل الرضا، ويعلمه ما لم يكن يعلم وهو أن للعرب الأقدمين تراثًا لا يجوز إهماله.
•••
وتنتقل أسرة طه حسين إلى ضاحية مصر الجديدة وتستقر أخيرًا في منزل فيها بشارع المنيا له حديقة مشمسة، فإن الطبيب قد نصح بالسكن في مكان مثل مصر الجديدة أو حلوان يتعرض فيه الصغير «مؤنس» للشمس مراعاة لصحته.
وربة الدار تُعنى بحديقة المنزل، وتعد فيها مكانًا لجلوس زوجها للقراءة ولتحضير الدروس، وتزرع أربع شجرات من أشجار البوانسيانس تحيط بالمكان الذي خصصته لجلوسه، وقد أخذت هذه الأشجار تنمو قوية بفضل رعاية البستاني عم إسماعيل.
على مقربة من هذه الأشجار تلعب ابنته أمينة وابنه مؤنس، الذي قد تعلم المشي الآن، وفي ظلها يجلس والدهما يستمع إلى سكرتيره توفيق يقرأ له حين يقبل لطفي السيد، الذي يسكن على مقربة بمصر الجديدة أيضًا، فينصرف السكرتير، وتقترب أمينة من الزائر لتحييه فتسمعه يقول لوالدها: «فلنتناقش كما كان أرسطوطاليس يتناقش، سأسأل أنا وسوف تجيب …» وبعد أن تستمع أمينة إلى حديثهما برهة قصيرة تتركهما لتعاود اللعب.
وينصرف لطفي السيد بعد ساعة وتُهرع أمينة إلى والدها تقول له: «نتكلم مثل طاليس، أنا أسأل وأنت تجيب!» ويقول والدها مبتسمًا: «نعم؟!» وتسأل أمينة: «هل يجب أن نحب الأشياء الحلوة أم لا؟» ويقول والدها: «يجب» … فتسأل: «وهل الحلاوة الطحينية حلوة أم لا؟» ويجيب والدها: «حلوة» … وتسأل: «لماذا إذن تمنعني أمي وتمنع أخي من أكل الحلاوة الطحينية؟» فيبتسم ويقول لها: «سأسألها، وسوف ترد عليَّ بغير شك، وسوف أبلغك بالرد غدًا، ولكن اذهبي الآن واتركيني أستأنف القراءة، ولا تنسي أن تطلبي إليَّ غدًا أن أقص عليك القصة التي أقرؤها الآن، قصة رجل كان اسمه أوديب، عاش منذ زمن بعيد، في بلاد جميلة بعيدة.»
وتغفل أمينة عن أخيها، وهو يحاول الصعود على السلم فيقع، يقع عند شجرة ورد، أبوه يلتفت، وأخته تسرع إليه، وينظر مؤنس إلى الورد ويقول: «ودة»، هذه أول كلمة ينطق بها، وتساعده أخته وهي فرحة وتدخل به إلى المنزل، وعندما تغلق الباب خلفها تتسرب منه موسيقى جميلة هادئة، وطه حسين يبتسم، يتذكر أيام طفولته، كيف كان يلعب وحيدًا بقطع الحديد يضرب بعضها ببعض في ركن من أركان منزل متواضع بريف الصعيد، لا يعرف أشجار الورد، ولا أنغام الموسيقى … ولا يتحدث الأطفال فيه عن طاليس …
•••
ويقول طه: «كان معنا في ذلك الوقت مصطفى عبد الرازق ومنصور فهمي وعبد الحميد حمدي صاحب مجلة السفور، ولقد راقتنا جميعًا فكرة اصطناع هذه المعركة اصطناعًا لأنها تدعو القراء لمتابعة ما نكتب، فالناس لا يحبون شيئًا حبهم الخلاف والجدل.»
ويعود طه حسين بالحديث إلى صفحة السياسة الأدبية وتحريرها، إنه يقرأ الآن مسرحية للكاتب الفرنسي «موريس دونيه»، من أعضاء الأكاديمية الفرنسية، عنوانها «السيل»، ينوي أن ينشر في السياسة فصلًا عنها يوم الأحد القادم، ويقول طه لهيكل: «لقد قرأت أنت ولا شك أن لامرتين دعا إليه يومًا الكاتب الفرنسي المشهور فلوبير عندما نشر قصته «مدام بوفاري»، فلامه لأنه أبكاه بتلك القصة، وأنا أيضًا وددت لو صنعت بمؤلف قصة السيل ما صنع لامرتين مع فلوبير، أدعوه لألومه لأنه أبكاني.»
ويسأل هيكل كيف سيكون تعليق طه عليها، يقول طه: «سيكون تعليقي هو: إننا ضعاف نكره العلم ونخشاه لأننا أضعف من أن نتحمله، ونؤثر الظلمة ونهواها لأن أبصارنا أضعف من أن تثبت للضوء، ونحب أن نظل مخدوعين فلولا الجهل والانخداع ما عمل الناس ولا أمَّلوا ولا أحبوا، وأي شيء هي الحياة وما فيها من عظيم لولا العمل والأمل والحب؟»
•••
ويسعى طه حسين إلى الجامعة ليلقي محاضراته في الأيام المحددة لها، لا يقتصر نشاطه على المحاضرات والتدريس، فإن زملاءه الأساتذة يختارونه عضوًا في اللجنة التنفيذية التي تضع البرامج ونظم التعليم.
- أولًا: يجب التفكير في إدخال تعليم لغتين في كلية الآداب؛ اللغة الأولى هي اليونانية لأهميتها لدارسي التاريخ والأدب والحضارة العالمية، والثانية هي اللغة القبطية لأهميتها لدارسي التاريخ والأدب والحضارة المصرية.
- ثانيًا: يجب التفكير في تنظيم الإرساليات للطلاب المتفوقين إلى الخارج، إلى كل بلد يوجد فيه الأساتذة الممتازون في فروع العلم المختلفة.
- ثالثًا: لا بد للجامعة من أن تشارك عن طريق أساتذتها في المؤتمرات وحلقات الدراسة العالمية، لا ليستفيدوا منها فقط بل ليفيدوا أيضًا بمساهمتهم العلمية في ميادين دراستهم …
ويقدم التقرير إلى اللجنة لتبدي فيه رأيًا ترفعه إلى المسئولين في الجامعة.
أخرج طه حسين نص المعاهدة العربي سليمًا بعد دراسة نصها الإسباني «اللاتيني» الموجود في المكتبة الأهلية في باريس، وكان كتاب صبح الأعشى «قد سجل لها نصًّا عربيًّا مشوَّهًا وفيه اضطراب كثير وضروب من التحريف غريبة»، وكان على طه حسين تقويم الاضطراب والتحريف، كما كان عليه إثبات أن هذا النص صحيح من الوجهة التاريخية، وأن هناك معاهدة عُقدت حقًّا بين مصر وإسبانيا المسيحية في زمن قلاوون، وقد فعل ذلك كله وتحقق منه ثم قدم بحثه الممتاز إلى المؤتمر.
•••
وعندما يعود طه حسين من بروكسل إلى القاهرة يذهب لمقابلة مدير الجامعة حسين رشدي باشا، ثم لمقابلة وكيل الجامعة أحمد لطفي السيد بك، وهما يهنئانه لتوفيقه في البحث الذي قدمه إلى المؤتمر والذي شرف الجامعة حقيقة.
ويتحدث طه حسين مع مدير ووكيل الجامعة عن اهتمام الملك ألبير والملكة إليزابيث بالمؤتمر وموضوعاته وعن معاملتهما لأعضائه في بساطة وإحساس بأن المُلك لا يقوم على القهر، بل على مودة الناس وتقبلهم لملكهم وملكتهم، ويذكر لهما كيف كان إعجاب أعضاء المؤتمر بمصر القديمة مقترنًا بإعجاب مماثل بمصر الحديثة ونهضتها، وبما حققته بجهادها من الاستقلال واشتراكها في المؤتمر باعتبارها دولة مستقلة بعد صدور تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، وإعجابهم أيضًا بالنهضة التي يمثلها وجود الجامعة المصرية.
ويرد لطفي السيد قائلًا: «إننا نحتاج إلى المال، إن جامعتنا تبذل أقصى جهدها في حدود ما يتيحه لها مالها المحدود، على أنها تعتمد أكثر ما تعتمد على تبرعات أهل الخير وهذا غير كافٍ، إننا نريد أن نستعين بخير الأساتذة، ونريد أن نضع في متناولهم ومتناول طلابهم أحدث المراجع، وأن نصلهم، عن طريق الإرساليات وعن طريق المؤتمرات، بالحياة العلمية في الجامعات والمعاهد الأجنبية، ولكن الميزانية لا تتسع حتى لالتزاماتنا الحالية، وقد كان لذلك أثره على أعضاء مجلس الإدارة، وأخشى أن يكون للخلاف الذي وقع بينهم نتيجة لذلك عواقب بالغة السوء.»
•••
يتذكر طه حسين كيف عانت الجامعة ماليًّا في الماضي، وكيف أثرت هذه المعاناة فيه شخصيًّا حين هددت دراسته في أوروبا، ويذكر أن الجامعة قد لجأت أخيرًا إلى الاقتصاد المخل، ويتساءل: «لماذا لا تعيننا الحكومة وقد استقلت مصر وتخلصنا من معارضة الإنجليز لقيام الجامعة وتقدمها؟» ولطفي السيد يقول: «إن الحكومة لا تعيننا كما يلزم، بل إنها لا تعترف بشهادات الجامعة حتى الآن، وهذه عقبة ضخمة أمام متخرجينا، وقد تمت اتصالات مع الملك فؤاد — الذي كان يهتم حين كان أميرًا بشئون الجامعة اهتمامًا كبيرًا — ومع الحكومة، فقيل لنا إن حكومة جلالة الملك تفكر في إنشاء جامعة تابعة لها سيكون فيها بطبيعة الحال كلية للآداب، ولم تنتج اتصالاتنا شيئًا إيجابيًّا من شأنه مساعدة جامعتنا وإتاحة الموارد اللازمة لها حتى الآن.»
ويذكر طه حسين أن زكي باشا أبو السعود — وزير المعارف في ذلك الوقت — رجل مستنير، ويستأذن في أن يزوره ليعرف مدى استعداده واستعداد الحكومة لمساعدة الجامعة، ولا يعارض الوكيل ولا المدير.
وبعد أيام يجتمع مجلس الجامعة برئاسة حسين باشا رشدي فيعرض الرئيس على المجلس نتيجة الاتصالات مع وزير المعارف، ويذكر لهم أن الوزارة قد أبدت استعدادها لضم الجامعة إليها، وهي ستتكفل في هذه الحالة بموازنة ميزانيتها وتمكينها من الموارد اللازمة لها، كما أنها ستعترف بشهاداتنا.
رشدي باشا يلاحظ أن طه حسين، الذي ساهم في هذا المسعى، سيكون هو نفسه معرضًا لكثير من المضايقات إذا أصبحت الجامعة حكومية؛ هناك مشكلة الكشف الطبي وشروط الاستخدام في الوظيفة التي سيُطالب باستيفائها، وهذه مشكلة مقدور عليها، ولكن هناك أيضًا ما أثارته المقالات التي كتبها في الصحف من سخط وغضب لدى كثير من الجهات، إن حديثه عن الأمة وأنها — هي وحدها — مصدر كل السلطات قد أغضب السراي، ومقالاته التي اعترض فيها على التعويضات الضخمة التي كانت إنجلترا تطالب بدفعها للموظفين البريطانيين المستغنى عنهم بعد الاستقلال قد أغضب الإنجليز، وكذلك أغضبهم احتجاجه العنيف على إهمال لقب ملك مصر والسودان في دستور ١٩٢٣. ويقول رشدي باشا: «إن الجامعة هي التي أذنت لطه حسين بالكتابة في الصحف، ويحسن الآن أن تشترط على الحكومة احترام تعهداتها نحو موظفيها، كما يحسن التأكد من أنها سوف تحتفظ باستقلالها وشخصيتها المعنوية وبحقها في إدارة شئونها بنفسها، تحت إشراف وزارة المعارف نعم، ولكن بكيفية مستقلة كما هي الحال في جامعات أوروبا.»
ويذكر رشدي باشا أن الإنجليز قد أرسلوا في شهر مارس الماضي مذكرة إلى الدول الأجنبية ينبهونها بها إلى أن علاقة إنجلترا «الممتازة» بمصر ما زالت قائمة، وأن التدخل في شئون مصر من أي دولة سيكون عملًا غير ودي بالنسبة لبريطانيا، ويقول: «إن الإنجليز يعتبرون أنفسهم مسئولين عن الأجانب حسب التحفظات الأربعة الشهيرة، وهم — على هذا الأساس فيما يظهر — مهتمون بمناصب العمادة في الجامعة إذا أصبحت حكومية؛ يريدون أن يُحتفظ بها للأجانب.»
ويعلق أحد الأعضاء بأن هذه المناصب لا بد أن يشغلها المصريون كلما وُجد المصري الكفء ليشغل منصبًا منها، ويقول المدير: «إن أستاذًا مثل طه حسين كفء لشَغل مركز وكيل كلية الآداب، أو حتى عميدها، ولكن قد تكون الحكمة الآن في تأجيل ذلك منعًا لاصطدام الإنجليز بالحكومة.»
ويقول أحد الأعضاء بهذه المناسبة إن العالم العربي كله قد تابع باهتمام وإعجاب كبيرين مقالات طه حسين في الأدب العربي، ويسأل: «ألا يحسن أن يترك الآن تدريس التاريخ القديم ليصبح أستاذًا للأدب العربي؟»
ويتم إعداد عقد إلحاق الجامعة بالحكومة متضمنًا أن «تكون الجامعة المصرية معهدًا عامًّا محتفظة بشخصيتها المعنوية وتدبير شئونها بنفسها بكيفية مستقلة، تحت إشراف وزارة المعارف العمومية، كما هو الحال في جامعات أوروبا.»
وكذلك: «أن تحترم تعهدات الجامعة المصرية نحو أساتذتها وموظفيها الحاليين، أما فيما يتعلق بالدكتور طه حسين فقد رئى — نظرًا لحالته الشخصية — أن يبقى أستاذًا بكلية الآداب.»
ويقرر مجلس الجامعة تأليف لجنة لتحضير نظام الجامعة الداخلي الجديد، ويعين لطفي السيد وطه حسين عضوين فيها.
وتجري في يناير ١٩٢٤ أول انتخابات لمجلس النواب في ظل الدستور الجديد، ويفوز الوفد المصري فوزًا ساحقًا، ويُدعى رئيسه سعد زغلول باشا لتأليف الوزارة.
وتفصل الوزارة الجديدة بعض مديري الأقاليم، ويُنسب إلى سعد باشا أنه قد صرح بأنه يريد حكومة «زغلولية اسمًا ولحمًا ودمًا»، ويضيق طه حسين بهذا التصريح، ويهاجم صاحبه هجومًا عنيفًا، وكذلك يهاجم الدكتور هيكل نفس التصريح فتحقق معه النيابة العامة، وتنشر جريدة السياسة فصلًا عما أجرته النيابة مع هيكل من تحقيق، وتقرر الوزارة مصادرة عدد جريدة السياسة الذي نشر أخبار التحقيق على أن يُعرض أمر المصادرة على المحكمة في اليوم التالي، وفي اليوم التالي يحضر توفيق دوس بك المحامي عن جريدة السياسة وكان أخوه قد توفي في نفس اليوم، فيقول لمن دُهش لحضوره: «لقد تركت مأتم أخي وجئت أشهد مأتم الحرية»، ثم يستدرك بكلمة يحفظها الناس في مصر زمنًا طويلًا وهي «ولن يكون للحرية مأتم وفي مصر قضاة»، وتقضي المحكمة في أمر المصادرة بأنه «إجراء تحكمي لا مسوغ له …»
تبدأ وزارة سعد باشا زغلول في بحث إمكان التفاوض مع الإنجليز في موضوع التحفظات الأربعة التي تقيد الاستقلال، ومنها تحفظ الإنجليز بشأن السودان.
ولكن الصحف المصرية تنقل في شهر يونيو ١٩٢٤ تصريحًا أُلقي في لندن في مجلس اللوردات مضمونه أن إنجلترا لا تنوي الجلاء عن السودان، وبعد أيام تنشر مضمون تصريح مماثل ألقاه رئيس الوزارة مستر رامزي ماكدونالد، وهو زعيم حزب العمال الذي كانت تتعلق به آمال الوطنيين المصريين، فلا يكذِّب ماكدونالد التصريح ولكنه يسارع بدعوة سعد باشا إلى لندن للتباحث، ويرفض سعد أي تفاوض على أساس التصريحات التي أُلقيت في مجلس اللوردات والعموم، ويقدم استقالته فتُرفض تحت ضغط الرأي العام، ثم يتم الاتفاق على صيغة مقبولة للدعوة فيسافر سعد إلى لندن في ٢٥ سبتمبر ١٩٢٤، وسرعان ما تفشل المفاوضات ويعود سعد فيقدم استقالته وتُرفض الاستقالة تحت ضغط الرأي العام أيضًا، وتقوم المظاهرات في السودان؛ في الخرطوم وعطبرة وبور سودان، وتشتعل الثورة في مصر من جديد.
وفي ١٩ نوفمبر ١٩٢٤ يُقتل سير «لي ستاك» سردار الجيش المصري وحاكم السودان في القاهرة في وضح النهار، فيتقدم الإنجليز بإنذار يتضمن سبعة طلبات منها ما لا علاقة له بهذه الجريمة على الإطلاق، فتقبل الوزارة السعدية أربعة منها، ويصر الإنجليز على قبول طلباتهم الباقية كلها بما فيها إخلاء السودان من الجيش المصري، وعندما ترفض الوزارة يهاجم الإنجليز بقواتهم العسكرية جمرك الإسكندرية ويحتلونه، ويقومون بأنفسهم بالقبض على بعض من اتهموهم بالاشتراك في مقتل السردار، وتُقبل استقالة وزارة سعد زغلول ويُدعى أحمد زيور باشا لتأليف وزارة «لإنقاذ ما يمكن إنقاذه» تقبل كل طلبات الإنجليز، وتقرر تأجيل انعقاد البرلمان إلى أجل غير مسمى، ثم تقرر حل البرلمان.
•••
وتجري الانتخابات الجديدة في الربيع، ونتيجة لها يجتمع البرلمان الجديد في مارس ١٩٢٥، وكانت الحكومة تعتقد أنها قد أنجحت عددًا كافيًا من المستقلين سوف يتمكنون من انتخاب مرشح الحكومة لرياسة المجلس، ولكن النواب ينتخبون سعد زغلول رئيسًا لهم بأغلبية كبيرة ويُهزم مرشح الحكومة فلا يتردد الملك في حل مجلس النواب من جديد. وتُؤلَّف لجنة برئاسة إسماعيل صدقي باشا لتعديل قانون الانتخابات.
وفي مايو ١٩٢٤ تنتهي محاكمة المتهمين بمقتل السردار ويُحكم بالإعدام على سبعة منهم وبالأشغال الشاقة المؤبدة على واحد، ويُنفذ حكم الإعدام بشنق الشبان السبعة فعلًا.
طه حسين — مثل بقية الوطنيين — غاضب أشد الغضب لتصرفات الإنجليز ولما يفرضونه على مصر من سيطرة، وما يظهرونه في معاملتها من غطرسة، يستنكر غطرسة اللورد «فيلد مارشال اللنبي» الذي لا يطيق أن تُخالف أوامره في مصر ونواهيه، وطه حسين يدعو حزب الأحرار الدستوريين إلى مشاركة الوفديين في غضبهم وفي معارضتهم للوزارة القائمة، وبريطانيا تدرك خطورة الحالة في مصر، فلا يمر شهران حتى يُضطر اللورد اللنبي للاستقالة ولمبارحة البلاد.
ويصل المندوب السامي الجديد لورد لويد، إنه سوف يبدأ سياسة جديدة، فهو يطلب إلى الملك أن يقصي حسن نشأت باشا، الذي كان أداة السراي في حكم البلاد، عن الديوان وعن مصر كلها، فيُعيَّن نشأت باشا سفيرًا لمصر في مدريد.
وعندما يبدأ العام الجامعي «١٩٢٥-١٩٢٦» ويكون حديث الطلبة عن هذه الانتخابات التي تقرر أن تجري والتي يقال إنها ستكون انتخابات حرة، وعن موقف مصر والوفد من بريطانيا ومن السراي، يقولون إن البلاد متعطشة إلى الاستقلال الكامل مصممة عليه وإنها متعطشة إلى الحكم الديمقراطي ومصممة على الوصول إليه. على أنهم يتفقون على أنه لا بد، لكي تحقق مصر ما تهدف إليه من استقلال ومن حرية ولتحافظ عليهما، من الجهاد أولًا وقبل كل شيء لتحقيق النهضة في كل ميادين الحياة المصرية، ومن أهم هذه الميادين ميدان التعليم.
ويتحدث الطلاب في حماس عن جامعتهم التي يعلقون بها آمالًا كبيرة لتحقيق النهضة المأمولة، ويذكرون أن المرسوم بإنشائها يُنتظر أن يصدر بعد أسابيع وعندئذ ستصبح شهاداتهم معترفًا بها، وكل هذا خير، ولكنهم يرجون ألا يمس هذا التغيير شخصية الجامعة وألا ينال من حرية أساتذتها.
ويتحدثون عن هؤلاء الأساتذة؛ أن أكثرهم سيواصل دروسه ومحاضراته التي كان يلقيها في الجامعة الأهلية في الأعوام السابقة، لكن الأستاذ طه حسين سيترك تدريس التاريخ القديم، لقد أصبح منذ أول هذا العام أستاذًا للأدب العربي.