أستاذ الأدب العربي
في خريف عام ١٩٢٥ يعود طه حسين إلى الجامعة التي ارتبطت حياته بها طالبًا ومبعوثًا وأستاذًا، يعود إليها وقد أصبحت جامعة رسمية ليدرس فيها مادة جديدة حبيبة إليه هي الأدب العربي.
عندما كان طالبًا دون الخامسة والعشرين من العمر كان عليه أن يقدم للجامعة الأهلية رسالة للحصول على درجة الدكتوراه، أو الدكتورية — كما كان عبد الخالق ثروت باشا يسميها في تلك الأيام — وقد فكر عند ذاك في موضوعات مختلفة لرسالته؛ فكر في أدب الجاحظ وفي أدب الخوارج وفي أثر الفرس في الأدب العربي، ثم انتهى إلى الشاعر أبي العلاء المعري فعكف على دراسته وكتب عنه رسالته، وسافر طه حسين بعد ذلك إلى فرنسا فدرس علم التاريخ ودرس علم الاجتماع، وكتب رسالته عن ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية، وعاد إلى مصر وإلى الجامعة أستاذًا للتاريخ القديم، ولكن الأدب العربي كان دائمًا هواه، خصص لدراسته وللحديث عنه الفصول التي كان ينشرها في جريدة السياسة بعنوان «حديث الأربعاء» كل أسبوع.
ولكن أحاديث الأربعاء كانت أحاديث متفرقة، وقد اتجه بها إلى عامة القراء، أما الآن فإن عليه أن يدرس الأدب العربي دراسة منظمة متصلة مع طلابه الجامعيين، وهو يرجو في المستقبل أن يدرس الحضارة العربية والإسلامية من نواحيها السياسية والعقلية والأدبية دراسة متعمقة مع زملائه الأساتذة في الجامعة.
إن عليه الآن أن يدرس هذا الأدب العربي كيف بدأ، وأين بدأ، وكيف تطور وارتقى، وهو يريد أن يدرس هذه الحضارة كيف تجاوزت حدود الجزيرة العربية لتصبح حضارة كل البلاد التي فتحها الله على المسلمين، ثم لتصبح الحضارة العالمية المسيطرة فترة عظيمة من فترات التاريخ.
عندما يتحدث إليه زملاؤه الأساتذة في انتخابه وكيلًا لكلية الآداب يعتذر إليهم بأنه مشغول بهذه الدراسات التي أخذ نفسه بالعكوف عليها.
وعندما يتحدث إليه أصدقاؤه في جريدة السياسة عن ترشيح نفسه في الانتخابات العامة التي ستجري قريبًا لانتخاب نواب الشعب يعتذر إليهم بالعذر نفسه.
يبدأ دراسته للأدب العربي بدراسة الشعر؛ لأنه يفترض أن الشعر أسبق في حياة الأمم الأدبية من النثر الفني، وهو يرى أن أول واجباته هو أن يبدأ بتحقيق نصوصه وتمحيص مصادره، يريد أن يبني دراسته الجديدة للأدب العربي شعره ونثره على أرض صلبة، ليرتفع عليها البناء المنشود قويًّا متين الدعائم، وهو في هذه الدراسة يرى نفسه مضطرًا لأن يذعن لمناهج البحث العلمي، ويرى أن ما يسوقه في هذه الدراسة من أدلة ينبغي أن يكون مما يقبله مؤرخو الأدب والحضارة أينما كانوا في أي بلد ومن أي مذهب أو دين؛ لأنه واثق من أن الأدب العربي هو أدب عالمي يجب أن يُعنى بدراسته العلماء في كل مكان.
لقد تعلم أن الجزيرة العربية عرفت لغة عربية عدنانية للشمال ولغة عربية حميرية للجنوب، ومع ذلك فإن جميع المروي من شعر الشعراء العرب قبل الإسلام قد رُوي في لغة واحدة هي اللغة التي أُنزل بها القرآن الكريم.
الأستاذ يتساءل عما يدعو أهل الجنوب إلى استعمال لغة أهل الشمال.
إن مجادليه يمكن أن يسلموا بأنه قد كان للجنوبيين لغة أو لغات، ويتساءلون مع ذلك: «ما الذي يمنع أن يكونوا قد اتخذوا لغة العدنانية الشمالية لغة أدبية لهم ينشئون فيها شعرهم ونثرهم الفني؟» وهو يقول: «نحن نقبل هذا الفرض على أنه حق لا يحتمل شكًّا ولا جدالًا بعد ظهور الإسلام، فقد كانت اللغة العربية الفصحى لغة هذا الدين الجديد، ولغة كتابه المقدس، ولغة حكومته الناشئة القوية، فأصبحت لغة رسمية ثم لغة أدبية للدول الإسلامية كلها»، ولكنه يقرر أن الحال لم يكن كذلك في الجاهلية، فينتهي إلى الشك — كما شك من قبله بعض قدماء النقاد العرب — في كثير من الشعر المنسوب إلى شعراء جنوب الجزيرة الجاهليين، وينتهي إلى أن الأدب العربي الذي يمكن أن يُدرس في ثقة واطمئنان إنما يبتدئ بعصر القرآن الكريم.
•••
وتستقبل مصر شاعر الهند الكبير رابندرانات طاغور في شتاء عام ١٩٢٦ بحفاوة كبيرة، ويقيم له أمير الشعراء أحمد شوقي بك حفلًا كبيرًا في منزله على ضفة النيل بالجيزة، ويحضر الحفل سعد زغلول باشا وعدلي يكن باشا، وعدد كبير من المسئولين وأعلام المفكرين، من بينهم الأستاذ مصطفى عبد الرازق وطه حسين.
ويتحدث طاغور مع طه حسين ومصطفى عبد الرازق ويتفق معهما على أن يزوراه في الصباح التالي بالفندق الذي ينزل فيه … ويدور الحديث أثناء الزيارة حول ما كان طاغور يذهب إليه من ضرورة اهتمام الحركة الوطنية الهندية بالإصلاح الاجتماعي وتقديم ذلك على الاهتمام بالصراع للتحرر والاستقلال، فيقول طه حسين: «إن الحرية السياسية هي التي ستهيئ الفرصة للتعليم الوطني، والتعليم الوطني هو الذي سيدفع المواطنين إلى الإصلاح الاجتماعي.»
وقبل أن يفترق الصديقان يسأل مصطفى عبد الرازق صديقه عن صحة السيدة زوجته فيجيبه بأنها فيما يظهر تنتظر مولودًا ثالثًا وأنه سعيد بحملها، لكنه شديد القلق عليها فقد سبق أن لاقت متاعب كثيرة وعانت آلامًا مزعجة عند حملها بمؤنس منذ أعوام.
•••
وتحس السيدة بهذه المتاعب من جديد وتتضاعف آلامها وشهور الحمل لم تتقدم إلا قليلًا، والطبيب الذي يُدعى على عجل يقف بجوارها مكفهرًّا شديد الاهتمام، والزوج الذي يدور حول نفسه في المسكن الضيق يمزق قلبه القلق ويوجعه الإحساس بالعجز عن تخفيف ما تعانيه الزوجة من الألم، بل عن دفع ما يتهددها من الخطر، فإن مسلك الطبيب يوحي بوجود هذا الخطر، والصغيران قد أخلدا إلى السكون، يحسان وطأة الأزمة التي تمر بها العائلة الشديدة الترابط، وتمر اللحظات كلها ساعات طوال لا طاقة للزوج باحتمالها. وأخيرًا يخرج الطبيب يبشر بأن الزوجة بخير، وأنها تدعو زوجها لتراه، ولكنه يستوقف الزوج لحظة ليهنئه من جديد بنجاة زوجته، وليخبره بأنها قد فقدت حملها، وليطلب إليه أن يحمد الله على ذلك فإن لله الحمد في كل حال.
إنها وزوجها يبذلان بغير شك كل ما يملكان، راضيَين، كي يكون لهما طفل واحد، ونحن بحمد الله لدينا أمينة، ونحن بحمد الله لدينا مؤنس.»
ويقول طه، ويداها في يديه: «الحمد لله، فإنك أنت الآن في خير حال.»
•••
ويخرج كتاب «في الشعر الجاهلي» من المطبعة، فتثور زوبعة لم يكن المؤلف يقدِّر أن تثور.
كل الجهات التي خاصمها طه حسين تهاجمه الآن لتنال منه مَقْتَلًا لم يُتَح لها من قبل، لا يتردد المهاجمون في استعمال أشد الأسلحة إيذاء لمؤلف الكتاب.
هذا الكتاب يصدر عن مؤلف هاجم الإنجليز وهاجم القصر، ولم يتحرج عن انتقاد زعيم البلاد سعد زغلول.
هذا الكتاب يظهر بعد أن نشر الشيخ علي عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي أسخط الملك لأنه جاء عقبة في طريق مطامعه في الخلافة، وأسخط معه رجال الدين وأثار ثائرة المحافظين ضد كل «المجددين» المتأثرين بالفكر الغربي وبطريقة الدراسة في الغرب.
وهذا الكتاب يصدر عن محرر الصفحة الأدبية في جريدة السياسة الذي سبق أن انتقد بعنف كاتبًا كبيرًا مثل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، والذي هاجم كذلك كاتبًا كبيرًا آخر وهو الشيخ رشيد رضا صاحب جريدة المنار.
والآن يهاجمه الرافعي بكتاب يختار له عنوانًا مثيرًا وهو «تحت راية القرآن»، ويهاجمه الشيخ محمد عرفة بعنوان مثير أيضًا وهو «نقض مطاعن في القرآن الكريم»، وتنشر مجلة المنار لصاحبها الشيخ رشيد رضا أن «مؤلفات طه حسين كلها حرب على الدين والأمة، سواء في ذلك ما كتبه عن أبي العلاء أو ما نشره بعنوان حديث الأربعاء أو ما كتبه عن الشعر الجاهلي.»
أبي: أنت أوصيتني ألَّا أصدق كل ما أسمع، وأنا أوصيك ألَّا تصدق كل ما تقرأ. ولك من زوجتي ومني أطيب التمنيات.
- أولًا: بمصادرة وإعدام كتاب طه حسين المسمى «في الشعر الجاهلي».
- ثانيًا: بتكليف النيابة العمومية برفع الدعوى على طه حسين مؤلف الكتاب لطعنه في الدين الإسلامي، دين الدولة.
- ثالثًا: بإلغاء وظيفته من الجامعة.
ويتم الاتفاق بين رئيس المجلس سعد باشا ورئيس الوزراء عدلي باشا على الاكتفاء بأن يقوم النائب صاحب الاقتراح بإبلاغ النيابة إن شاء.
إن طه حسين مدعوٌّ الآن إلى الصمت، إن هجوم المهاجمين لم يكن مقصورًا عليه بل كان يمتد إلى الجامعة نفسها، وهي ناشئة لم تقف على قدميها بعد، سكوت طه حسين في ذلك الوقت كان يتطلب من القوة أكثر مما يتطلبه النضال بالقلم واللسان.
ونفس طه حسين لم تمس في ذلك العام فحسب، بل أُثخنت بالطعان؛ لقد تصاعدت الصرخات بأنه جاهل، زنديق، كافر، ملحد، مفسد للشباب، من الضالِّين، من المضللين، تهم يلقيها في ذلك الوقت من لم يدرس، بل لم يقرأ كتبه في أغلب الأحيان، وهي تهم سوف يعود ليلقيها بعد وفاته من يدفعه الجهل والتطاول إلى مهاجمة الرجل وهو في قبره، ممن يغريهم البحر الزاخر بإلقاء الحجارة فيه.
ولكن رجالًا مثل عبد العزيز فهمي، مصطفى عبد الرازق، علي عبد الرازق، عبد الخالق ثروت، أحمد لطفي السيد، محمد حسين هيكل، عباس محمود العقاد، حافظ إبراهيم، دسوقي أباظة، إسماعيل صدقي، وآخرين مثل علي الشمسي باشا، الذي كان من أقرب المقربين إلى سعد زغلول، قد وقفوا إلى جانب أستاذ الأدب العربي الشاب، كما وقف إلى جانبه طلابه وقراؤه المعجبون به في كل مكان.
•••
وفي قرية صغيرة من قرى إقليم سافوا العليا في فرنسا نزل طه حسين ثقيل القلب دفين الألم، يقيم «مَغِيظًا مُحْنَقًا على هؤلاء الناس الذين يتخذون الدين والسياسة وسيلة للكيد.» … ويريدهم أن يعلموا «أن الدين أثبت وأمكن من أن يعرضه للخطر رجل كائنًا من كان.»
لعله كان يسأل نفسه: لماذا العناء؟
ماذا لو أعطى دروسه في الجامعة على المنوال القديم فأرضى الجميع؟
ألم يكن راضين عن الأساتذة المشايخ المدرسين؟
ماذا لو كتب على المنوال القديم، في الموضوعات المألوفة القديمة؟
ماذا لو التمس السلامة فأرضى السراي، وقد جاءه أن الملك قال لبعض جُلَّاسه: «ما أعظم الرجل — طه حسين — لولا أن رأسه لا يلين!»
ماذا لو لان؟
ماذا لو تملق السلطان فقربه وأغناه؟
ماذا لو تملق الشيوخ فكرموه؟
وتملق الصحافة فعظمته؟
ماذا لو سكت، ماذا لو اكتفى بالسكوت؟
ولكن كل هذا إلغاء للصدق من حياته ومن عمله، فهو إلغاء للعمل وإلغاء للحياة.
إنه لا يستطيع إلا أن يكون صادقًا مع نفسه، صادقًا في عمله، صادقًا في خدمة بلده وشبابه وثقافته بقدر ما يستطيع، فقد وهبه بلده الحياة، ووهبه العلم والنور، وفُرضت عليه بذلك زكاة لن يتطهر إلا بأدائها، فإن على من تعلم أن يعلم غيره، وعلى من تنوَّر أن ينشر النور من حوله، وعلى من أوتي فضيلة الصدق أن يحارب جهده رذيلة النفاق.
لا يذكر لهذا اليوم اسمًا، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتًا بعينه، وإنما يقرب ذلك تقريبًا، وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه، ويرجح ذلك لأنه يذكر أن وجهة تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس، ويرجح ذلك لأنه على جهله حقيقة النور والظلمة يكاد يذكر أنه تلقى حين خرج من البيت نورًا هادئًا خفيفًا لطيفًا، كأن الظلمة تغشى بعض حواشيه …
ويستمر طه حسين في إملائه لا يتوقف، تتدفق الصفحات فينتهي بعد تسعة أيام من إملاء الجزء الأول من كتاب الأيام.
ويقبل خريف ١٩٢٦ ويعود طه حسين إلى القاهرة لتواجهه النيابة يوم ١٩ أكتوبر ١٩٢٦ بما اتُّهم به في بلاغ الأستاذ عبد الحميد البنان، فينتهي هذا التحقيق بأن «تُحفظ أوراقه إداريًّا لأن القصد الجنائي غير متوفر … والعبارات الماسة التي أوردها في بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.»
ويعود الأستاذ إلى كتابه يرفع منه فصلًا ويضيف إليه فصولًا ويصدره بعنوان جديد.
وتُفتتح الدورة النيابية الجديدة في نوفمبر عام ١٩٢٦، والنواب يثيرون فيها موضوعات جدية مفيدة خطيرة، إن الحكومة مستمرة في دفع حصة من نفقات الجيش في السودان بعد طرد الجيش المصري من هناك، فكيف تقبل الحكومة المصرية هذا الاستمرار؟! ومصر المستقلة ما زال للأجانب فيها امتيازات تعصمهم من المثول أمام القضاء المصري، وكيف تحتمل الحكومة المصرية هذا الوضع؟
وطه حسين سعيد لأن البرلمان والحكومة يأخذان عملهما مأخذ الجد، مستبشر بمستقبل الحياة البرلمانية في مصر رغم كل شيء.
•••
وفي صيف ١٩٢٧ يُعقد مؤتمر الآثار في لبنان والشام وفلسطين، وتُدعى إليه الجامعة المصرية التي ترشح طه حسين لتمثيلها فيه، ويقبل هو هذا الترشيح راضيًا خاصة لأن أعضاء المؤتمر سوف يزورون القدس الشريف، وهو شديد الشوق لزيارتها.
وينتهي المؤتمر، ويقضي طه حسين جانبًا من الصيف في لبنان في أحد الفنادق، يقابل فيه الممثل الكبير الأستاذ جورج أبيض وزوجته السيدة دولت، وكانت قد قرأت وحفظت رواية إليكترا التي عرَّبها طه حسين، فألقت أمامه فقرات من ترجمته، وطه حسين يعجب بإلقائها، وفهمها، ويتمنى أن تتهيأ الفرصة لتمثل الرواية في مصر أمام الجمهور، ويتمنى أن تُعنى مصر حكومة وشعبًا بالمسرح وفنونه وأن تنشئ يومًا معهدًا خاصًّا لدراسة التمثيل وفنون المسرح، فإنه شديد الإيمان بما للمسرح من أهمية في تطور الأدب ورقيه.
وفي لبنان أيضًا وفي «علايا» يلتقي بأمير الشعراء أحمد شوقي بك وبالموسيقي الشاب الأستاذ محمد عبد الوهاب.
كان طه حسين يقيم في «ملحق أوتيل طانيوس» بعلايا، وكان أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب يقيمان على مقربة في «أوتيل شاهين»، وكان أحمد شوقي قد دعا عددًا من صفوة أهل لبنان لحضور حفل يغني فيه محمد عبد الوهاب، ولكن جريدة المقطم تصل في صباح اليوم السابق ليوم الاحتفال وفيها نعي والد الموسيقي الشاب الذي يطَّلع على الصحيفة والنعي فيشتد به الحزن، ويحزن الشاعر شوقي لحزنه، يعزيه ويؤكد له أنه سيقوم منه مقام الوالد، وهو يلازمه طوال اليوم لا يتركه لأحزانه ويعرض عليه أن يزورا في المساء الدكتور طه حسين في فندقه ومعهما الأستاذ فكري أباظة المحامي والكاتب المعروف، وفي أثناء الزيارة يقول طه حسين لعبد الوهاب إنه يترقب سماعه غدًا فيعلم أن الاحتفال قد أُلغي ويعلم سبب الإلغاء، فيقدم عزاءه صادقًا للفتى المحزون الذي كان يعجب بفنه وبأدائه كل الإعجاب.
ويسود الصمت فترة ثم يقطعه طه حسين بسؤاله لعبد الوهاب: «ولماذا لا تغني؟»
ويرد فكري أباظة يقول: «وكيف يغني وهو حزين؟!»
ويسود الصمت مرة ثانية ثم يقطعه طه حسين من جديد يسأل: «وهل الغناء لهو وفرح فقط؟ هل الموسيقى تسلية وتطريب؟
أليست الموسيقى الحقيقية تعبيرًا عن مشاعر الإنسان فرحًا وحزنًا؟ أليس المهم في الموسيقى هو أن تعبر بصدق عن النفس، وأن تنقل هذا التعبير الصادق إلى السامعين؟»
ويلتفت طه حسين إلى شوقي بك يسأله: «ألست أنت القائل: وأنبغ ما في الحياة الألم؟»
وينشط المجلس الذي كان الحزن قد ألقى عليه الصمت، ليتحدث الحاضرون عن الموسيقى وحقيقتها وعن صدق الشعور وصدق الأداء.
ويخرج عبد الوهاب وقد قرر أن يغني، فيكون غناؤه في تلك الليلة في تلك القرية القائمة في منعطف من منعطفات الجبل في لبنان، من أجمل غنائه وأبقاه أثرًا في النفوس.
أحس جمهوره صدق شعوره وهو يتغنى بما كتبه له شوقي من الشعر، فيه من الشجى والشجن ما يردد ما كان يملأ صدره هو من الأشجان، أحس الجمهور بصدق ذلك الشعور وبروعة الأداء فتأثر به أبلغ تأثير. ويقول الأستاذ عبد الوهاب إنه منذ تلك الليلة قد آمن بالصدق أساسًا لفنه وأدرك أن الجمهور سيستجيب دائمًا لصدق الإحساس بالمشاركة والقبول، بالاستحسان والإعجاب.
•••
وتستأنف الجامعة حياتها في خريف عام ١٩٢٧، ويصمم أساتذة الكلية على انتخاب طه حسين عميدًا لها في ذلك العام، ولكن تعيين مصري عميدًا كان أمرًا خطيرًا، وتعيين طه حسين عميدًا كان أمرًا أشد خطرًا.
إن السفارات الأجنبية ترغب في الاحتفاظ بمناصب عمداء الكليات للأجانب، والإنجليز يعتبرون أنفسهم مسئولين عن حماية «مصالح» هؤلاء الأجانب!
ويضيف طه حسين، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة: «على أنني سأجد لمعاليك المخرج من هذه المشكلة، إذا صدر قرار بتعييني فسوف أتسلم عمل العميد، وأمضي بعض الأوراق، ثم أقدم لمعاليكم استقالتي في نفس اليوم فتقبلونها، وتعينون عميدًا للكلية من يليني في نتيجة الانتخابات، وهو من الأساتذة الأجانب.»
وفي يوم ٤ يناير ١٩٢٨ يصدر قرار الوزير بتعيين الأستاذ الدكتور طه حسين عميدًا لكلية الآداب، ويذهب طه حسين إلى الكلية ويدخل مكتب العميد، ويطلب أوراقًا خاصة برفع مرتبات بعض الإداريين ومعاوني الخدمة، تطبيقًا لمنشور من إدارة الجامعة، فيمضيها، ثم يملي خطاب الاستقالة، ويقبلها الوزير، ويعين الأستاذ الفرنسي «ميشو» عميدًا لكلية الآداب.
حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية …
الآن، وقد تم تعيين العميد لكلية الآداب، وانتهت هذه القصة التي لم أردها والتي لقيت منها من الألم المُمِضِّ ما لم أستوجبه ولا أراه يلائم كرامتي؛ أتشرف بأن أرفع إلى معاليكم أصدق الشكر وأخلصه لما تفضلتم به عليَّ من عطف وثقة. وإني أرجو من معاليكم أن تتفضلوا بنقلي إلى أي عمل علمي آخر في غير كلية الآداب التي أصبحت أجد مشقة كبيرة في البقاء فيها.
ويزور علي الشمسي باشا الدكتور طه حسين في بيته يعاتبه، ويقنعه بالعدول عن طلبه؛ إن العميد الفرنسي مسيو ميشو غائب عن مصر في الوقت الحاضر والوكيل غائب أيضًا، وسيستمر طه حسين في القيام بعمل الوكيل بالنيابة عن العميد حتى يعود واحد منهما إلى الكلية.
•••
في أول مارس ١٩٢٨ يعرف طه حسين أن رئيس الوزراء ثروت باشا قد زار في اليوم السابق رئيس مجلس النواب مصطفى النحاس باشا «الذي كان قد خلف سعد زغلول في رياسة الوفد»، وأطلعه على مشروع للمعاهدة بين مصر وإنجلترا يعرضه الإنجليز، وأن رئيس الوفد قد رفض المشروع، وأن مجلس الوزراء قد رفض بعد ذلك أن يناقشه، وأن ثروت باشا سيبلغ الإنجليز هذا الرفض، وإذن فلن تتأخر استقالة الوزارة طويلًا.
وبعد ثلاثة أيام تستقيل الوزارة فعلًا، وبعد ذلك بأسبوعين يؤلف النحاس باشا في ١٧ مارس وزارة يحتفظ فيها بوزيرين من وزراء الأحرار الدستوريين.
•••
في الساعة العاشرة من صباح كل يوم، يحضر الأستاذ توفيق شحاتة سكرتير طه حسين ليقرأ عليه صحف الصباح وما يحمله البريد مع الرسائل، ثم يقرأ ما يطلب «الدكتور» قراءته أو القراءة فيه من الكتب، والدكتور يستمع منصتًا ويستعيد أحيانًا وقد يصحح القراءة في بعض الأحايين، وقد يطلب إلى سكرتيره أن يقيد ملاحظة من الملاحظات أو أن يقرأ عليه مرجعًا من المراجع في الموضع الذي يعينه له، وسوف يدق جرس التليفون فيرد، ويستقبل أحد الزوار فينسحب توفيق إلى ركن من أركان المكتب ينشغل فيه بما يكون لديه من أعمال.
ولكن طه حسين يطلب إلى سكرتيره أن يتوقف عن القراءة ذات صباح، فإنه يحس بآلام قاسية تصرفه عن الاستماع، ولا بد أن يستدعي الدكتور سامي كمال صديق الأسرة وطبيبها، ويحضر الدكتور فما إن يدرك طبيعة هذه الآلام حتى يستدعي الدكتور علي باشا إبراهيم فيحضر على عجل فهو زميل وصديق لطه حسين، يسمع إلى شكواه ويقرر بعد الفحص ضرورة نقله إلى المستشفى الإسرائيلي حالًا، ليبقى هناك تحت الرقابة مدة تجري له بعدها عملية الزائدة الدودية.
وبينما تعد السيدة سوزان العدة للذهاب إلى المستشفى، يقول علي باشا إبراهيم لطه حسين: «أخيرًا جاءتني فرصتي، ستخضع في المستشفى لأوامري، ولن تستطيع الآن أن تعصي لي أمرًا!»
وطه حسين يبتسم، ولكنه يستأذن في أن يخلو بسكرتيره ليمليه وهو يغالب آلامه سطورًا قليلة يوصي فيها أخاه الشيخ أحمد بزوجته وبابنته وبابنه، ويوصي بهم أيضًا صديقه الشيخ مصطفى عبد الرازق.
وتُجرى العملية ويتم الشفاء والحمد لله، ويعود الأستاذ إلى الجامعة يتحدث مع زملائه في شئون الكلية. لقد تقرر أن يمثل الجامعة في المؤتمر الذي سيُعقد في مدينة أكسفورد أثناء الصيف، وهو يعد بحثين لتقديمهما إليه: الأول عن استعمال ضمير الغائب في القرآن الكريم، سيبين فيه الروعة البلاغية في هذا الاستعمال، والثاني عن العلاقة بين مذهب المعتزلة في وجوب الأصلح وبين مذهب الفيلسوف الألماني «ليبنتز».
ويسأل أحد الزملاء عن اللغة التي سيلقي بها طه البحثين في هذا المؤتمر الذي سيُعقد في مدينة الجامعة الإنجليزية الكبيرة، ويرد طه حسين: «بالفرنسية؛ لأن إنجليزيتي لا تنفع.» ويحكي لزملائه وهو يبتسم كيف حاول أن يتعلم الإنجليزية، يقول: «كان أخي الشيخ أحمد وثلاثة من إخوانه الأزهريين قد رأوا أن الأستاذ الإمام محمد عبده يعرف اللغة الفرنسية، ويرد بها على «هانوتو» وعلى «رينان»، ولذلك قرروا أن يدرسوا لغة أجنبية، ووجدوا في مدرسة الجمالية مدرسًا قبِل أن يعطيهم دروسًا في الإنجليزية مقابل مئة قرش يجمعونها من بعضهم البعض شهريًّا، وكان المدرس يحضر للتدريس في الغرفة التي يسكنها أخي وأسكنها معه، كان المدرس يعلم تلاميذه الأربعة كيف يلوون الألسنة ويمدون الشفاه، ويوسعون الحلوق، ويباعدون بين الألسنة وسقف الفم، لينطقوا بهذه الرطانة الإنجليزية، وكنت أجلس بعيدًا منطويًا لا يحس أحد بوجودي، وكلِّي مع ذلك آذان ألتقط كل ما يعلمه المدرس لتلاميذه، ولكن المدرس تعب، وتعب التلاميذ، ولم يصلوا إلى طائل، فانقطع تعليم الإنجليزية لهم، وانقطع تعلمي لها.»
وينتهي مؤتمر أكسفورد وتبدأ عطلة الصيف عام ١٩٢٨، ويقضي طه حسين وأسرته جانبًا منها على ضفة بحيرة صغيرة في منطقة جبال الألب، يريد هو أن ينقطع فيها كل الانقطاع إلى القراءة والدرس، وتأبى أسرته إلا أن تخرجه قليلًا للرياضة، يسيرون جميعًا في الغابة يتتبعون مجرى غدير فيها، فيقول لزوجته إنه يجد في مصاحبة ذلك الغدير أنسًا ولذة عظيمين، فتقول له: «كم تستطيع أن تجد من الأنس لو أرحت نفسك من بحوثك ومن فلسفة ليبنتز!» فيقول لها: «ولكنك تعلمين يا صاحبتي أن ليس إلى هذا من سبيل!»
وتقترب عطلة الصيف من نهايتها، وطه حسين يتطلع إلى العودة، فإنها سوف تتيح له أن يرى تلاميذه وزملاءه وأصدقاءه، ومنهم لطفي السيد وعبد الخالق ثروت، ولكن الصحف الفرنسية تُقرأ عليه ذات صباح، فيعلم منها أن عبد الخالق ثروت باشا قد مات الليلة البارحة، في باريس.
في خلال السنوات التسع التي مضت منذ قدمه عبد الخالق ثروت باشا إلى طلابه في الجامعة، قامت بين الرجلين صلة قوية قوامها الإعجاب والمودة الصادقة، ولم يكن طه حسين يرى في ثروت زعيمًا من أصدق الزعماء حبًّا لوطنه ومقدرة على خدمته فحسب، بل كان يعده صديقًا من أشرف الأصدقاء وأقربهم إلى قلبه، رجلًا من أوفى الرجال وأجدرهم بالمحبة. وطه حسين يحس الآن أن الموت اختطف ثروت من مصر ومنه هو اختطافًا، اختطفه الموت الذي اختطف من قبل أخته نفيسة وأخاه محمودًا، يقول: «الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة لا غناء فيها ولا ثقة بها ولا معتمد، تبينت ذلك ولمَّا أتجاوز الصبا، وتبينته مرة ومرة ومرة»، ويذكر كيف سمع نعي ثروت فلم يُطِقِ البقاء في المنزل، بل خرج هائمًا «لا أدري إلى أين أذهب، ولا أعرف ماذا أريد، وأنا أمشي على ساحل البحيرة لا أكاد أسمع اصطخاب أمواجها ولا أكاد أحس هذه الريح التي تعصف من حولي؛ لأني مغرق فيما أنا فيه من التفكير في ثروت، وفي الموت.»
ويجيء موعد السفر، ويصعد مع أسرته سلم الباخرة التي ستعود بهم إلى الإسكندرية، فيعلم أن السفينة تقل رفات ثروت، إنه إذن يعبر البحر معه ويرافق شخصه لآخر مرة. «مات ثروت … والناس يقولون إن موته كارثة آلمت مصر كثيرًا، وأفقدتها كثيرًا، وأنا أعلم ذلك وأقدره، ولكني إنما أفكر في ثروت الصديق … تعيش الأمم قبل الزعماء وتعيش الأمم بعد الزعماء، ولكن الصديق لا يعيش حقًّا إذا فقد الصديق، إنه يفقد جزءًا من نفسه وقطعة من قلبه.»
يفكر طه حسين في زوجة ثروت التي كانت ترافق جثمانه: «لله زوج ثروت! سجينة في غرفتها على السفينة، منحدرة الدمع حتى لا تجد في عينيها دمعًا، مؤرقة الليل لا تأوي إلى مضجع، منغصة النهار لا تطمئن إلى شيء ولا إلى أحد …» وتصل الباخرة إلى الإسكندرية ويهبط منها جثمان ثروت، «ولله مصر كلها! إذ تستقبل عظيمها لتشيعه إلى حيث أراد الله أن يستقر إلى آخر الدهر.»
•••
عندما تصل الأسرة إلى منزلها في مصر الجديدة، يعدو «مؤنس» وهو الآن في السابعة من عمره إلى الحديقة، يريد أن يرى كيف أصبحت بعد الغيبة عنها شهور الصيف، كيف صارت أشجار البوانسيانس الأربع التي يجلس في ظلها أبوه، هل نمت منذ فارقوا الدار؟ وهل أورقت؟ هل ازدهر الزهر عليها وتألق؟ يتلكأ في تلبية الدعوة المتكررة لدخول البيت، لأنه يريد أن يصف حال الحديقة بعد انقضاء الصيف لأبيه، على أنه لا بد الآن أن يأوي إلى الفراش، لا بد أن يستعد هو وأخته للعودة إلى مدرستيهما في الصباح، ولا بد للوالد كذلك أن يستأنف في الغد نشاطه في الجامعة.
•••
وطه حسين ساخط لهذه النكسة في حياة البلاد الدستورية، يؤكد للشيخ مصطفى عبد الرازق — الذي كان يسأله ألا يرى لوزارة محمد محمود أي مزايا — أنه لا توجد أبدًا أي مزية تسوِّغ قيام الحكم الديكتاتوري، وأنه هو صديق شخصي لمحمد باشا محمود، ولكنه لا يقبل الديكتاتورية أبدًا، ويستنكر أشد الاستنكار تعطيل الدستور الذي جاهدت الأمة لإصداره، مقررًا أنها هي مصدر كل سلطة.
•••
وفي آخر عام ١٩٢٨ وأوائل عام ١٩٢٩ يلقي طه حسين في الإسكندرية سلسلة من أربع محاضرات عن الشعر العربي السياسي، والهجائي، والغزلي، وعن التأثير الفارسي في الأدب العربي، وقاعة المحاضرات تغص دائمًا بالمستمعين والمستمعات أيضًا، ومن بينهم من يكتشف روعة التراث العربي لأول مرة، وتحدث هذه المحاضرات في الثغر السكندري حركة أدبية نشطة يتمنى أهل الإسكندرية ألا تهدأ. وفي الإسكندرية أدباء نابهون يتحدثون إلى طه حسين عن انشغال مدينتهم بالتجارة والمال وانحصار كل نشاط ثقافي له قيمة في أوساط الجاليات الأجنبية، وطه حسين يقول لا بد للإسكندرية من إحياء جامعتها ومكتبتها واستعادة مكانتها لتعود منارة من منارات الثقافة العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط.
•••
وفي حديقة منزل طه حسين في مصر الجديدة، في ظل الأشجار التي نمت نموًّا ظاهرًا، يجلس لطفي السيد مع طه حسين، لطفي يقول كعادته: «سأسأل أنا»، ويضحك طه حسين ويقول له: «آخر مرة سمعت فيها هذا التعبير كانت عندما أقبلت ابنتي أمينة تناقشني على طريقتك التي سمعتها منك، قالت لي: إذا كانت الحلاوة الطحينية حلوة، وإذا كنا يجب أن نحب الحلاوة، فلماذا تحرمني أمي منها؟»
فيقول لطفي السيد: «عظيم! إذن سيكون لنا ذات يوم آنسة من الفلاسفة والعلماء، بل إنها ستتخرج في جامعة منزلية، عندك هنا؛ لأننا لا نقبل البنات في الجامعة.»
ويقول طه: «هذا موضوع هام، لماذا لا تُقبل الفتيات في الجامعة؟ لماذا نحكم على نصف الأمة بالجهل؟ إن كلمة «مصري» الواردة في القانون ليس معناها الذكور من المصريين فقط، «المصري» تعني المصري والمصرية، تعني جميع أبناء مصر، فليس هناك إذن مانع قانونًا من قبول الفتيات في الجامعة إذا كان لديهن ما تتطلبه الجامعة من زملائهن من المؤهلات»، ويرد لطفي السيد، بعد تأمل، بأن هذا الكلام مقنع، يبقى التنفيذ، ويرد طه بأن التنفيذ في يد السيد المدير، أي في يد لطفي السيد نفسه.
وتدخل «أمينة» لتسلم على الضيف الكريم، ثم تقول لوالدها: «وجدت عصفورًا في الحديقة لا يستطيع الطيران، رجله مكسورة وأنا لذلك أُعنى به وأعطيه الأكل والماء، وسأظل أعتني به حتى يستطيع أن يحلق عاليًا في السماء.»
ويقول لطفي السيد: «إذن لن تكون عندنا آنسات يحملن آراء الفلسفة والعلم فحسب، بل يحملن كذلك لواء الرحمة والطموح.»
•••
وتجيء إجازة نصف العام، ولا بد لأمينة ولأخيها من الانطلاق بعيدًا عن المدرسة، وعن البيت، وعن القاهرة، وهناك دعوة من آل عبد الرازق لزيارتهم في «أبو جرج» في مديرية المنيا.
والعطلة في «أبو جرج» بالنسبة لأمينة وأخيها هي الحقول الممتدة إلى غير نهاية، والحديقة الواسعة ذات الأشجار والثمار يمرحان فيها كما يشاءان، ويأكلان من ثمارها ما يشاءان، ولكن العطلة تنتهي فيعود الطفلان مع والدتهما ومع جدتهما لأمهما (التي كانت تزور مصر للمرة الثانية) إلى القاهرة، سعداء بهذه الأيام التي قضوها في الريف وبما لقوا فيها من ترحيب وإكرام. وتمر أسابيع ثلاثة بعد عودتهم فتحس أمينة بحرارتها ترتفع، ولا تستطيع مغادرة فراشها، ويحضر الطبيب، فتؤكد له التحليلات التي يجريها أن الصغيرة مريضة بالتيفود، ولا تمر أيام حتى يصاب أخوها بنفس المرض، ويبذل الطبيب أقصى جهده، ويعطي الصغيرين كل عنايته، وهما يتماثلان فعلًا للشفاء، ولكن أمينة تعود فتنتكس، ثم يشتد مرضها وتتعرض للخطر، والدتها تلازمها، ووالدها يسهر الليل إلى جوارها، حيران قلقًا يدعو الطبيب بعد الطبيب، والأطباء يتشاورون، يصفون العلاج ثم العلاج، يتفقون ويختلفون، والوالد ترهقه من جديد ذكرى أخته نفيسة وأخيه محمود، وتذوب نفسه ألمًا وهو يتجه إلى الله — تعالى — يدعوه أن يرحم صغيرته ويشفيها، نعم ويزور طه حسين ضريح السيدة زينب ذات يوم ليبتهل هناك إلى الله.
ويرحم الله الوالد والوالدة والصغيرة، فتترك أمينة فراش المرض بعد ملازمته أسابيع، ضعيفة قد أنهكتها الحمى، مبتهجة لأنها تستطيع الآن أن تمشي في الحديقة وأن تشارك في حياة الأسرة التي حُرمت من المشاركة فيها طوال مدة المرض الثقيل الخطير.
•••
•••
ويبدأ الاستعداد للعام الجامعي الجديد فيزور طه حسين مدير الجامعة يتحدث معه فيما يهم الجامعة والكلية من الأمور، ويذكره أثناء الحديث بموضوع قبول الطالبات في الجامعة، إن هناك طلبات مقدمة فعلًا من عدة آنسات لكلية الآداب ولكلية الطب، يقول لطفي السيد: «لقد سبق أن تحدثنا في هذا الموضوع، ورأينا أنه لا مانع قانونًا من قبول الطالبات إذا كانت لهن نفس المؤهلات المطلوبة من الطلاب، فعلى بركة الله، وإني لسعيد بما سوف يتاح لهؤلاء الفتيات من فرصة التعليم العالي، مشفقٌ عليهن في نفس الوقت، فإنهن سوف يتحملن مسئولية خطيرة، إن نجاحهن سيعني إتاحة فرص التعليم الجامعي لأجيال من الفتيات يأتين من بعدهن لا في مصر فقط بل في البلاد العربية كلها، وإخفاقهن لن يقتصر ضرره عليهن ولا على هذا الجيل ولا على هذا البلد، فما أثقل ما يحملهن طموحهن من تبعات!»
ويعكف طه حسين على دروسه في الجامعة وعلى المقالات التي كان يمد بها الدوريات الأدبية في مصر والشام؛ الهلال والمقتطف والسياسة الأسبوعية والجديد، التي أصدرها صديقه الأستاذ محمد المرصفي، ومجلة الحديث التي كان يصدرها الأستاذ الكيالي في حلب. ويتابع طه حسين في هذه المقالات عرض ونقد مؤلفات زملاء له من الأساتذة داخل الجامعة، مثل أحمد أمين ومحمد عوض وإبراهيم مصطفى، وخارج الجامعة مثل عباس محمود العقاد ومحمود عزمي وأحمد حسن الزيات وفكري أباظة وواصف بطرس غالي، لا يبخل بالمدح ولا يتحرج من النقد، مرحبًا دائمًا بكل كتاب جيد جديد، يعده إضافة إلى ثروتنا الثقافية العربية التي يريد لها أن تنمو وتزداد.
ويسجل خواطره أثناء العطلة في كتاب جديد هو كتاب «في الصيف»، يتوقف فيه عند هذا الجهاز العجيب الذي كان قد سمع من قبل أنه قد اختُرع واستُعمل في أمريكا ولكنه لم يره إلا هذا العام في فرنسا، يصف هذه الأداة الجديدة التي تُسمى «الراديو»: «إنها تقرأ على المستمع أخبار الصحف، وتحمل إلى المشتركين فيها ما يكون في الملاعب ودور الموسيقى واللهو؛ من تمثيل وعزف وفرح وغناء، ذلك كله دون أن يتكلف المشترك من المشقة إلا إدارة زر من أزرار الكهرباء، فإذا سئم أو مل أدار الزر مرة أخرى فينقطع الصوت ويعود الهدوء»، ويقول: «أما أن هذه الأداة الجديدة من أقوى أعوان الديمقراطية على نشر الثقافة والمساواة فشيء لا شك فيه، ولكن من يدري فلعل هذه الأداة الجديدة تكون من أشد الأشياء خطرًا على الديمقراطية نفسها»، ويسجل خاطرة خطرت له: «هل يأتي يوم يمكن فيه لمستمع الراديو أن يرد على المتحدث فيه بحيث يسمعه المتحدث؟» وإنما أخطر على باله هذا السؤال ما كان ابنه وابنته يعلقان به على حديث في الراديو لوزير الحربية الفرنسية، يسفِّهان منطقه ويطالبانه في عنف بأن يلتزم الصدق وألا يغرر بسامعيه، كانا يفعلان ذلك آمنين أنه لن يسمع ولن يرد!
•••
ويتابع طه حسين دروسه في الجامعة، يسير إلى قاعة الدرس منتصب القامة، نشيطًا، واثق الخطوة، فإذا بلغ مع سكرتيره منصة التدريس ارتقاها دون تردد وجلس مرفوع الظهر قد ضم ركبتيه إحداهما إلى الأخرى، واعتمد بيديه على المنضدة الصغيرة أمامه يريح يمناه على اليسرى، عندئذ يتركه السكرتير لينصرف لما لديه من أعمال فتسكت قاعة الدرس، التي تكون قد امتلأت إلى جانب طلابه بطلاب من أقسام الكلية الأخرى ومن كليات غير كلية الآداب، ويبدأ طه حسين حديثه واضح اللفظ، ناصع العبارة، شديد الاقتناع، شديد الإقناع، يستشهد بشعر قد يكون معروفًا لسامعيه، فيخيل إليهم أنهم يسمعونه لأول مرة، ويحسون لأول مرة بعذوبته وسحر موسيقاه.
ويناقش الأستاذ طلابه في موضوعات الأدب العربي الذي ملأ قلوبهم — كما يقول أحد تلاميذه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف — فتنة بالبحث فيه.
يسأله طالب عن هذا الأدب العربي؛ ما مكانته بين آداب العالم؟
يقول طه حسين: «إن التراث الأدبي العربي شهد عصرًا ذهبيًّا يمتد من الجاهلية إلى وفاة أبي العلاء المعري، امتزج فيه التراث العربي الخالص بتراث الأمم المجاورة … توافرت له عناصر الثبات مع عناصر التحول فأنتج أدبًا رائعًا.»
«وإننا إن أردنا المقارنة السليمة فلنقارنه — الأدب العربي القديم — بأمثاله من الآداب القديمة … إن الآداب السامية، الآرامية والعبرية، والآداب الفارسية، التي كانت شائعة في المنطقة التي استولى عليها العرب، قد عجزت عن أن تثبت للأدب العربي واندمجت فيه واستحالت روافد له … والأدب الروماني تقليد لليوناني … لم يبق إذن إلا أدب اليونان، يمكن أن يقال إنه تفوق على الأدب العربي حقًّا … ومع ذلك فإن الأدب اليوناني على قوته لم يثبت للأدب العربي في الشام والعراق ومصر وشمال أفريقيا، وتقلص ظله عن هذه البلاد واضطُر إلى الانحصار في البلاد البيزنطية.»
ويسأله طالب آخر: «أليس الأدب العربي القديم بطبيعته أدب بادية فحسب؟» فيقول: «لقد حمل تراثنا الأدبي في نفسه طبيعة خصبة وغنية إلى أقصى ما يمكن من الخصب والغنى، فلم يكد يتجاوز البادية حتى استحالت الطبيعة الخصبة التي كانت منكمشة إلى جذوة من النار لم تلبث أن اشتعلت فشملت العالم القديم وصهرته وحولته إلى طبيعة جديدة مخالفة لما كانت عليه قبل الإسلام.»
ويقول طالب ثالث: «يبدو لنا الأدب العربي القديم أحيانًا بعيدًا عن الحياة الواقعة.» فيرد طه حسين: «إنما نأى الأدب العربي عن الحياة الواقعة في بعض عصوره حين تسلط المستبدون من غير العرب على حياة الشعوب واستأثروا لأنفسهم وخاصتهم بالسلطة كلها، هناك عكف الأدباء على أنفسهم وفرغوا لها وجعلوا يبدءون ويعيدون فيما ورثوا من معاني القدماء لا يجددون شيئا، حُرموا الحياة فتفرغوا لأدب لا حياة فيه.»
ويثور موضوع القديم والجديد فيقول لطلابه: «إن المحدثين يقرءون تراثنا القديم ولكنهم لا يحسنون فهمه، وإنهم كلما أرادوا البحث عن مواضع الإشراق والازدهار في تاريخ البشرية لجئوا إلى التراث الغربي القديم والحديث وغفلوا عن أن التراث العربي يعرض نماذج إنسانية رائعة للطموح والكفاح وحرية الفكر غير أنها لا تجد من يستوحيها.»
ويقول: «إن القديم لا ينبغي أن يُهجر لأنه قديم، وإنما يُهجر القديم إذا برئ من النفع، فإن كان نافعًا فليس الناس أقل حاجة إليه منهم إلى الجديد.»
ثم يقول: «إن الحضارة الحقة لا تنكر القديم وإنما تحميه، لأنها تقوم على أساس منه متين، ولولا القديم ما كان الحديث، فليس التجديد في إماتة القديم بل في إحيائه.»
ويسأل طالب عن رأي أستاذه فيما فرضه الغازي مصطفى كمال في تركيا من كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية، وتحريمه كتابتها بالحروف العربية، هل يحسن أن تقلد مصر والعالم العربي مصطفى كمال في هذا الشأن؟ فيقول طه حسين إن رأيه هو أن مصطفى كمال مخطئ، وطه حسين يعرف أن في الإملاء العربي صعوبة، وإنه لا بد من البحث عن طريقة لتذليل هذه الصعوبة، ولكنه يرفض رفضًا قاطعًا أن يكون ذلك عن طريق ترك حروفنا العربية وتقليد الأتراك فيما فعلوه من استعمال الحروف اللاتينية، وهو ينبه إلى أن اللغة التركية ليس لها أصلًا حروف خاصة بها، وهي إنما استعارت حروف العربية كما تستعير الآن حروف اللاتينية، أما اللغة العربية فلها حروفها ولها تراثها الضخم المسجل بهذه الحروف، ولا بد لنا من صيانة الكتابة العربية والمحافظة عليها، بل والاعتزاز بها.
وبين طلبة قسم اللغة العربية هذا العام طالبة في السابعة عشرة من عمرها تستمع إلى محاضرات طه حسين، سعيدة بها مقبلة عليها إقبالها على حياتها الجامعية الجديدة، والأستاذ يكلف طلابه ببحوث في موضوعات يحددها لهم فيلقونها أمام زملائهم بين يديه، وقد جاء دور الآنسة سهير محمد القلماوي فكلفها الأستاذ بإعداد بحث عن «طرفة بن العبد».
تحكي سهير القلماوي أنها لما ذهبت رهبة البداية عنها ألقت بحثها، فقالت إنه لا يهمها أن يكون طرفة بن العبد جاهليًّا أو إسلاميًّا أو حتى محدثًا ما دام شعره هو هذا الذي تجد النفس فيه متعة متجددة؛ لأنه يصور النفس الإنسانية ورد فعل فكرة الموت المحتوم في نفس شاب مغامر في الحب والحرب.
ويقاطع المعلم تلميذته، يقول لها: «مرحى مرحى! وفيم دخولك كلية الآداب يا هانم وأنت في بيتك يمكن أن تحصلي على هذه المتعة؟ نحن هنا نبحث عن الشاعر وعن عصره وعن صلته بعصره.»
وتقول سهير القلماوي: «في كل درس لطه حسين كنا نجد شيئين: أفقًا متفتحًا في الموضوع يغري بشكل عجيب بالاستمرار في البحث والدرس، أفقًا يتفتح ويمزج بين أطراف الموضوع وما يمكن أن يتصل به من موضوعات في قدرة عجيبة خالقة تجعل من الحياة كلًّا متكاملًا لا مجال فيها لشيء وحده أو لفكرة منفصلة عن غيرها، فكان هذا يشعرنا بما يشعر به الإنسان أمام الأثر الفني الرائع الكامل المنسجم. وأما الشيء الثاني فهو الفكرة اللمَّاحة المضيئة التي تضيء هذا الأثر الفني المتكامل بضوء ساحر فريد، لا بد من فكرة بل أفكار جديدة لها طلاوتها وحلاوتها، ولا بد من أفق رحب تجول فيه هذه الأفكار يتسع ويتسع حتى يشمل الحياة كلها.»
وطلاب طه حسين لا يقتصرون الآن على الشباب المصريين، إن الشباب من مشرق العالم العربي ومغربه يتوافد على كلية الآداب، يقول الأستاذ شكري فيصل: «كنا طائفة من تلامذته وطلابه الكثيرين من بلاد الشام في سوريا ولبنان، نتابع محاضراته التي يلقيها في الجامعة وغيرها، طلابًا في كلية الآداب نتتلمذ عليه، ودارسين نلاحق محاضراته … ولا ريب أن زمنًا طويلًا سيمضي قبل أن يستنفد الباحثون العرب مناحي البحث التي فتح الدكتور طه أبوابها أو مد آفاقها أو دعا إليها.»
ويهتف الأستاذ زكي المجاسني، من أدباء دمشق، يقول في مقال له: «سمعته! هذه العذوبة في صوته … لقد سمعت طه حسين بعد أن عرفت أدبه، فوجدته خالدًا بصوته كخلوده بأدبه.»
والطالب العراقي «مشكور الأسدي» أعلنه مسجِّل الكلية بأنه سيُمتحن شفويًّا في يوم حدده له وقال له: «تعال بكرة بدري»، ولم يفهم الطالب العراقي كلمة «بدري» هذه وأقبل في الضحى وقد عُقد الامتحان فحيل بينه وبين دخوله، والطالب العراقي يسأل طه حسين هل يُحرم من الدراسة على يديه وقد جاء من العراق لهذا الغرض لأنه لم يفهم كلمة «بدري» هذه، فيأمر طه حسين بأن يدخل الطالب امتحانًا آخر وينصح باستعمال الفصحى! ويقول مشكور الأسدي إنه لم ينسَ كلمة «بدري» هذه أبدًا، وكلما مر به رجل اسمه «بدري» أو اسمه «شمس» تذكر هذه الواقعة وتذكر بالإجلال والإكبار أستاذه طه حسين.
•••
يجري عدلي باشا يكن الانتخابات وينجح الوفد في آخر ديسمبر، فيُدعى مصطفى النحاس باشا لتأليف الوزارة في أول يوم من عام ١٩٣٠.
ولكن وزارة النحاس تدخل في مفاوضات مع الإنجليز لا تنجح، وإذ تفشل المفاوضات تسقط الوزارة في ١٧ يونيه من نفس العام.
وفي منتصف يونيه ١٩٣٠ يُدعى إسماعيل صدقي باشا لتأليف وزارة جديدة، فيحتفظ لنفسه إلى جانب رياسة الوزارة، بمنصب وزير الداخلية وبمنصب وزير المالية، ويسأل طه حسين نفسه عندما يقرأ احتفاظ صدقي باشا بهاتين الوزارتين: «هل يفكر صدقي باشا إذن أن يحكم البلاد بسيف المعز وذهبه؟ إن صدقي باشا لا يريد أن يكرر خطأ محمد باشا محمود، فهو لن يلغي الحياة النيابية، ولن يعلن للعالم الخارجي أن مصر تُحكم ديكتاتوريًّا، إنه سيدعو إلى إجراء انتخابات، وسيعمل مع برلمان منتخب، وستكون للحزب جريدة ناطقة باسمه، ولكن ذلك كله سيُبنى على أساس إلغاء دستور البلاد وإصدار دستور جديد يُفرض عليها فرضًا.»
طه حسين يتحدث مع عبد العزيز فهمي باشا، فيجده شديد الغضب لهذا العدوان على الدستور، وطه يذكره بأنه وصف دستور ١٩٢٣ بأنه ثوب فضفاض، ويقول له: «إن دستور ١٩٢٣ لم يكن ثوبًا فضفاضًا، فلو أن الشعب تعلم فتمكن بذلك من إصلاح طعامه وصحته، إذن لملأ هذا الثوب الفضفاض وسار فيه راسخ الخطوة قويًّا لا يجرؤ أحد أن يسلبه إياه.»
وعبد العزيز فهمي باشا يقول: «ليس إلى شيء من ذلك قصدت عندما كنت ألاحظ ما لاحظت على تطبيق الدستور، إنك لتعلم أنني قد ساهمت في وضعه وكافحت لكيلا ينقص منه شيء، وسيقف الأحرار الدستوريون إلى جانب الوفد المصري مناهضين للحكم المطلق الذي يريد الإنجليز وتريد السراي ويريد صدقي باشا أن يفرضوه على مصر باسم الدستور الجديد.»
وتتم فعلًا مقاطعة الوفد والأحرار الدستوريين للانتخابات، وتمتلئ كراسي مجلس النواب الجديدة بمن اختارهم وزير الداخلية، فدخلوا الانتخابات لا ينافسهم فيها أحد.
والوفد المصري يدعو إلى عدم التعاون مع حكومة صدقي، وعدم أداء الضرائب لها، ويتظاهر المتظاهرون من كل الطوائف والمهن ضد الحكومة، ويضرب بعض الطلاب في بعض المعاهد والمدارس احتجاجًا عليها، وصدقي باشا يأمر بأملاك وأموال الممتنعين عن التعاون مع الحكومة فتُباع جبريًّا، ويأمر بالطلاب «المشاغبين» فيُفصلون، وبمن يتعاطف معهم من الأساتذة أقل التعاطف فيُبعدون عن معاهد التعليم، وبالمتظاهرين ضد الحكومة من كل الطبقات فيُلقوْن في السجون.
عندما تستأنف الجامعة الدراسة يتجمع الطلبة وهم غاضبون للعدوان الذي وقع على الدستور وللعنف الذي تتسلط به الحكومة على البلاد، يتحدثون بأن الدستور الجديد باطل لأنه صادر رغم إرادة الأمة مصدر السلطات.
وأساتذة كلية الآداب يتحدثون عن هذه الحالة العامة، لا يخفون ضيقهم بها وقلقهم لما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، يلاحظون أن الاحتلال الإنجليزي قد نجح في أن يحول الجهاد الوطني من مواجهته هو إلى ما يشبه الحرب الأهلية بين المصريين، ويتحدثون كذلك عن ترشيح أستاذ إنجليزي هو الأستاذ سترلنج عميدًا لكليتهم، فيتفقون على عدم انتخابه، ويصممون على أن ينتخبوا طه حسين هذه المرة؛ لأنه مصري ولأنه طه حسين.
وتجري انتخابات العمادة ويكون طه حسين أول الفائزين، وتُرفع نتيجة الانتخابات إلى وزير المعارف مراد سيد أحمد باشا، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بالموقف الذي سيقفه الوزير من هذه النتيجة هذه المرة.