حديث المساء
في صباح يوم من أيام الأسبوع الأخير من شهر فبراير عام ١٩٣٣ يقوم سكرتير الوفد المصري، الأستاذ مكرم عبيد، بزيارة طه حسين في منزله بالزمالك، يسأل عن أحواله وأحوال أسرته، ويتحدث عن أحوال البلاد، التي لا يزال صدقي باشا يجاهد لإخضاعها بالقوة والإرهاب.
وطه حسين يقول: «إن الذي يحاول إخضاع البلاد في الحقيقة هم الإنجليز والسراي، وإن الشعب لا شك سيحقق لنفسه بكفاحه آخر الأمر ما يصمم على الوصول إليه من الاستقلال السياسي والحرية الاجتماعية.»
وسكرتير الوفد يرد بأن هذا الكفاح يحتاج إلى تضافر جهود كل أبناء الشعب، وهذا يعني أن على قادة الرأي والفكر أن يتحملوا نصيبهم فيه، ثم يقترح على طه حسين أن يشترك في تحرير الصحيفة المسائية الناطقة عند ذاك باسم الوفد، وهي صحيفة كوكب الشرق، فيطلب طه حسين مهلة للتفكير.
ويوشك طه حسين أن يعتذر، ولكن رئيس الوفد مصطفى النحاس باشا يقنعه بأن كفاح الشعب محتاج إلى جهاد كل مؤمن بحقه، فيقبل، وإنه ليعلم أنه بذلك يتحمل عبئًا ليس بالخفيف.
ويخصص الأستاذ أحمد حافظ عوض صاحب جريدة كوكب الشرق صفحتها الأولى كلها مساء يوم ٥ مارس ١٩٣٣ لمقال يعلن فيه للشعب «حدثًا خطيرًا بالغ الأثر، وهو مشاركة طه حسين بقلمه الفياض في الصحافة المصرية، وفي السياسة المصرية وفي الأزمة المصرية الحالية»، كما تنشر الجريدة في نفس العدد رسالة واردة لها من رئيس الوفد المصري مصطفى النحاس باشا يقول فيها إنه مغتبط باشتراك النابغة الكبير الدكتور طه حسين في تحرير جريدة «كوكب الشرق».
•••
ويظهر أول مقال لطه حسين في «كوكب الشرق» في التاسع من مارس بعنوان «عهد»، يقول فيه: «إن خير ما يستطيع المصري أن يقدمه لوطنه في هذه الأيام إنما هو الإخلاص في القول والعمل، والصدق في الرأي، والمضاء في العزم، والقوة على المقاومة، والاستعداد لاحتمال المكروه.» ثم يعاهد الذين سيقرءونه على أنه: «سيكون من هذا كله بحيث يحبون.»
يكرس طه حسين أكثر ساعات وقته للصحيفة، تُقرأ عليه الأخبار التي يجمعها مندوبوها، والبرقيات التي ترد من الخارج، ويقابل من يقابل من الزائرين والمحررين، ويُدعى إلى التليفون فيجيب، ثم يملي المقال الرئيسي كل صباح، ويملي مقالات أخرى قصيرة بغير إمضاء، يطلق عليها المحررون اسم «الطقاطيق»! ويكتب في صفحة الجريدة الأدبية كل أسبوع، فإذا انصرف إلى داره لم يسترح إلا قليلًا قبل أن يدخل مكتبه لتقرأ عليه قارئته ما يرد من الخارج من الكتب الأجنبية، ثم ليقرأ عليه سكرتيره ما يطلب قراءته من الكتب العربية، وهو في ذلك العام يطيل الاستماع إلى سيرة الرسول ﷺ، يتأمل كم قاسى وكم صبر، وكيف صمد للشدائد وكيف انتصر، فلا يمضي بعد ذلك زمن طويل حتى يأخذ في إملاء الجزء الأول من كتابه «على هامش السيرة».
وقد أحاط بطه حسين في عمله الصحفي الجديد عدد من تلاميذه الشباب مصممين على بذل أقصى الجهد في معاونته، يتحدث إليهم فيما سبق أن أعلنه من قديم من أن الصحافة تتحمل في وقتنا الحالي نصيبًا ضخمًا من مسئولية قيادة الفكر، ويكرر أنه لا بد لمن يتصدى للمشاركة في حمل مثل هذه المسئولية من إخلاص القصد وصدق العزيمة والقدرة على تحمل المكروه، كما أنه لا بد له من تأهيل نفسه لعمله الصحفي أحسن تأهيل مستطاع، ولا شك أن من ضروريات ذلك إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل من جهة، والحرص الشديد على سلامة التعبير باللغة العربية من جهة أخرى.
وتظهر في جريدة كوكب الشرق توقيعات عدد من الشباب المثقف بعضهم يكتب في الصحف لأول مرة، منهم عبده حسن الزيات المحامي، الذي يرأس تحرير الجريدة بعد قليل، وعزيز أحمد فهمي وكامل الشناوي ومحمد كامل حسين ومحمد عبد العزيز ويحيى الخشاب وجلال الدين الحمامصي، الذي يحرر صفحة الرياضة، وحسن محمود وعبد القادر عرابي وسيد قطب.
وطه حسين يريد أن تُعنى صحيفة «كوكب الشرق» بالعالم وأحداثه، وبالرجال الذين يحركون تلك الأحداث أو يتحركون تحت ضغطها، كما أنه يريد أن تُعنى الصحيفة عناية خاصة بالعالم العربي، الذي تشاركه مصر أمجاد التراث كما تشاركه آلام الاحتلال والاستبداد، وطه حسين يوجه بعد ذلك جُلَّ اهتمامه لمصر، لا لشئونها السياسية فقط، بل لشئونها الاجتماعية والاقتصادية والفنية، وكذلك لشئونها الثقافية بطبيعة الحال.
يكتب طه حسين مقالاته السياسية تحت عنوان «حديث المساء»، مطالبًا بعودة دستور الأمة، دستور عام ١٩٢٣، ليستمتع الشعب بحرياته وبسلطاته التي يقرر ذلك الدستور أنه مصدرها، يقول في أحد أحاديث المساء: «أما بعد، فيجب أن يتنبه الحاكمون جميعًا إلى أن نصوص الدستور لم توضع لتكون زينة أو حلية، وإنما وضعت لتكون أساسًا للحياة المصرية وقوامًا للصلة بين الشعب والسلطان، وأن أظهر هذه النصوص وأحقها بالفهم والاحترام إنما هو النص الذي يسجل أن الأمة مصدر السلطات … ويتبين بهذا أن رجال الحكم ليسوا سادة الشعب وإنما هم خدامه.»
وطه حسين يعرف أن العدو الذي يريد إخضاع مصر سيحاول جهده أن يهدم وحدتها وأن يفرق بين بنيها، ولذلك فإنه وهو يرثي عضو الوفد المصري المرحوم الفقيد الأستاذ سينوت حنا يشير إلى هذه الوحدة مبرزًا أهميتها، يقول: «كان سينوت حنا قبطيًّا مسيحيًّا، وكان المصريون أول أمس يودعون فقيدهم العظيم، لا لأنه قبطي مسيحي، ولا لأنه مسلم، بل لأنه مصري فحسب، وقد كان المصريون يحتشدون أمس في الكنيسة القبطية ومن حولها ويشرفون عليها من أعلى الدُّور، وهم لا يذكرون إلا مصر وأنها محزونة لفقده، وإذن فقد فازت الوحدة الوطنية فوزًا مبينًا، وكان راحل أمس مؤسس هذه الوحدة، والداعي إليها، والملحَّ فيها …»
أما شئون الاقتصاد والاجتماع والمسرح والسينما والموسيقى والمرأة والرياضة، فإن «كوكب الشرق» تنشر ما يمدها به المتخصصون في هذه الموضوعات من فصول. وأما صفحة الثقافة فإن طه حسين يساعده عدد من زملائه وتلاميذه، يواصل العمل فيها مستهدفًا دائمًا هدفين: أولهما أن يصل المعاصرين بتراثهم العربي القديم؛ يجلوه لهم، ويحببه إليهم، ويدفعهم إلى العناية به، يحدثهم عن البحتري وعن ابن الرومي وعن ابن المعتز وغيرهم، والهدف الثاني أن يصل قراءة هؤلاء بأدب أوروبا وحضارتها الحديثة، فهو ينشر في نفس الصفحة فصولًا عن حرية الرأي ونشأتها وتطورها، وعن فولتير، وعن جان جاك روسو، وعن تين، وعن رينان.
وصفحة الثقافة لا تهمل ما ينتجه المعاصرون، يعرض طه حسين فيها وينقد الكتب التي يصدرها أمثال الدكتور محمد عوض محمد والأستاذ توفيق الحكيم والأستاذ فكري أباظة، وإذا تحدث عن ابن الرومي أشاد بما سبق أن كتبه عنه كاتبان ممتازان هما الأستاذ عباس محمود العقاد والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني. ويموت الشاعران الكبيران أحمد شوقي أمير الشعراء، وحافظ إبراهيم شاعر النيل، في هذا العام، فتُعنى الصحيفة عناية كبيرة بآثارهما، مبرزة ما لهما من فضل وأثر في نهضة الشعر في مصر وكل بلاد العرب.
•••
وفي أول الصيف تظهر نتيجة امتحان الليسانس في كلية الآداب بالجامعة وبين الناجحين أربع من الآنسات، وتُوفد جريدة «كوكب الشرق» أحد محرريها ليهنئ المتخرجات الأربع بنجاحهن، ويوجه إلى كل منهن سؤالين؛ الأول: عند أي حد يحسن أن تتوقف ثقافة الفتاة؟ والثاني: ماذا يمكن أن تقدم الفتاة المتعلمة من خدمات للبلاد؟
أما الآنسة فاطمة سالم، تلك الفتاة الرقيقة القادمة من زنجبار، التي درست اليونانية واللاتينية في الجامعة المصرية، فإنها تقول إنها حريصة على أن تواصل تعليمها لتحصل على درجة الماجستير، ولتستطيع بعد ذلك أن تنقل إلى العربية من روائع اللغتين القديمتين ما تستطيع نقله، وإنها حريصة على بذل ما في وسعها لإصلاح حالة مجتمعها وحالة المرأة فيه.
وأما الآنسة زهيرة عبد العزيز — التي تخرجت هي وزميلتها الآنسة فاطمة فهمي في قسم الاجتماع — فإنها تحكي أن موظفًا مصريًّا كبيرًا زار الكلية قبل موعد امتحان الليسانس بشهرين، وأنه قد استولت عليه الدهشة عندما علم — لما رآهما — أن في الجامعة طالبات، ثم استولى عليه ما يشبه الذعر عندما سمع أن الآنسة زهيرة تريد أن تعمل في بنك مصر، وأن الآنسة فاطمة تريد أن تعمل في وزارة الخارجية!
وأما الآنسة سهير القلماوي فهي ترى، ردًّا على السؤالين، أن ثقافة المرأة مثل ثقافة الرجل لا ينبغي أن تقف عند أي حدود، وهي شخصيًّا ستواصل الدراسة للحصول على درجة الماجستير في الآداب ثم درجة الدكتوراه، وأما الميادين التي يمكن للفتاة المصرية المتعلمة أن تنفع فيها بلادها فهي كثيرة وواسعة، وهي شخصيًّا ترغب في أن تعمل في ميدان الإصلاح الاجتماعي وأن تكرس جهدها لإصلاح حالة المرأة.
•••
وطه حسين يتحدث — في منزله — مع والده الذي حضر هو ووالدته إلى القاهرة ليقضيا في زيارته بضعة أيام كما كانا يفعلان بين الحين والحين. يسأله والده عن غضبه من أخيه الأصغر عبد العزيز غضبًا وصل إلى حد القطيعة، ما سببه؟ إن عبد العزيز لم يفعل شيئًا حرمه الله عندما تزوج بزوجة ثانية، وطه يجادل بأن عبد العزيز لن يستطيع أن يعدل بين زوجتيه، ويقرأ الآية القرآنية الكريمة: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ولكن الوالد يجادل غير مقتنع، وولده يسأله: «وإذن فلمَ لمْ تتزوج أنت اثنتين يا أبي؟»
ويجيب الوالد: «إنها أمك، إنها لن ترضى!» ويبتسم طه حسين ويقول: «لقد حددت لنا طريقًا للإصلاح يا أبي، ما كان لأخي عبد العزيز إذن أن يتزوج ثانية حتى يستأذن زوجته الأولى!»
•••
ويدخل فصل الصيف، وينتهي طه حسين من إملاء الجزء الأول من كتاب «على هامش السيرة» ويتسلمه الناشر، وتسافر الأسرة لقضاء أيام في فندق بوريفاج برمل الإسكندرية، أما طه حسين فإنه يبقى في القاهرة، فلم يكن مستطيعًا أن يترك عمله في الجريدة، وسيبقى في القاهرة طوال الصيف وحيدًا، وسيقبل الخريف وهو عاكف على العمل في الجريدة، وفي الخريف تنقل إليه البرقيات من باريس أن عدلي باشا يكن قد مات هناك، ويتأثر طه حسين بهذا الخبر تأثرًا شديدًا حتى يتأخر وصوله إلى الجريدة على غير عادته، ويتحدث إلى صديق له عند وصوله إليها فيقول: «إن الحياة لا قيمة لها والعمر قصير، ولو بلغ الرجل التسعين فإنه يموت طفلًا»، ويملي رثاءه لعدلي يكن فيقول: «إن عدلي يكن رجل أحب مصر واحترم شعب مصر، ونزل دائمًا على أحكام الدستور الذي ارتضاه هذا الشعب.» ويسجل طه حسين ذلك في جريدة الوفد في مقال نابض بالحزن، يختتمه بهذا الابتهال: «اللهم لا راد لما قضيت، ولا مانع لما أمضيت، ولا منكر لحكمتك، ولا معقب لأمرك، وإنما هو الإذعان لقوتك البالغة يعصمنا من الجهل، والطمع في رحمتك الواسعة يعصمنا من اليأس.»
واهتمام طه حسين بالعالم العربي مستمر، مقاله الرئيسي يوم ١٨ أكتوبر سنة ١٩٣٣ يكتبه عن فلسطين، يستنكر ما ينزله الإنجليز بأهلها من مظالم، ويقارن ذلك بما أنزلوه من الظلم بمصر، وينبه إلى أن تضامن مصر مع فلسطين هو صالح مشترك، يلحُّ في الدعوة إليه وينذر بالعواقب الخطيرة التي سيشهدها المستقبل إن نحن قصرنا فيه.
ويكتب عبد العزيز الثعالبي الزعيم الوطني التونسي فصولًا متتابعة عن بلاده تنشرها له «كوكب الشرق»، كما تنشر العديد من الأخبار والمقالات عن البلاد العربية الأخرى.
واهتمام الجريدة بأحداث العالم مستمر كذلك، أدولف هتلر يقرر انسحاب بلاده من «عصبة الأمم» ومن مؤتمر نزع السلاح، ويكتب إلى محكمة العدل الدولية بأن بلاده لن تتابع الدعوى التي كانت قد رفعتها لديها ضد بولنده.
ماذا يعني ذلك كله إلا أن ألمانيا تنسحب من الأسرة العالمية؟
إن هتلر يرى أن معاهدة فرساي، التي اضطُرت بلاده لإمضائها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، معاهدة ظالمة لا تطاق، لا بد من أن يخلص بلاده منها، وهو يائس من بلوغ هدفه بالطريق السلمي، ولا يرى سبيلًا لبلوغ أغراضه إلا سبيل العنف والقوة.
آلات الاستقبال المقامة فوق سطح الجريدة، التي كان كامل الشناوي يسميها «مراسلنا فوق السطح»، تحمل خبرًا عن اكتشاف عالم فرنسي لدواء جديد من الأدوية التي يسمونها أدوية المعجزات اسمه «سلفامين»، وطه حسين يطلب إلى أحد المحررين الجامعيين أن يعد بحثًا لتعريف القراء بالمخترع وبالاختراع.
وتحمل البرقيات خبرًا عن صدور كتاب جديد للكاتب الفرنسي جان أنوى هو كتاب «هرميلين»، وطه حسين يطلب الحصول على نسخة ليقرأه أحد كتاب صفحة الأدب ويعرضه على القراء.
ولكن إدارة الجريدة لا توافق على أن تنفق مالًا في شراء مثل هذه الكتب، إن للمسئول عن التحرير طلبات كثيرة مثل هذا الطلب يراها ضرورية لازمة، وللإدارة رأي في المال كيف يُجمع وكيف يُصان، وكيف لا يُنفق منه شيء إلا بحساب. وتزداد هذه المضايقات الإدارية والمالية، ويزداد إحساس طه حسين أنه غير قادر على الإشراف على الجريدة بالشكل الذي اتفق مع أصحاب الشأن عليه مع استمرار هذه الخلافات والمضايقات.
وعندما يوشك ربيع عام ١٩٣٤ أن ينتهي يكون طه حسين قد قرر ترك العمل في جريدة «كوكب الشرق»، إنه يريد أن ينهض بالعمل الصحفي حرًّا لا تقيده القيود، وهو قد اقتنع بأنه لكي ينهض بالعمل بهذا الشكل، لا بد أن يكون صاحب المسئولية الكاملة في الجريدة.
•••
ينهي طه حسين ما انعقد عزمه عليه إلى رجال الوفد وإلى صاحب الكوكب الأستاذ أحمد حافظ عوض، ويتفاوض مع أسرة الصحفي القديم الأستاذ محمد نجيب أصحاب امتياز جريدة «الوادي» لكي يصدرها هو مستقلًّا بإدارتها وتحريرها، متحملًا كل أعبائها، ويتم الاتفاق على ذلك، فينتقل معه أكثر تلاميذه ومعاونيه من المحررين إلى جريدة الوادي في مبناها بحي عابدين.
ويكرس طه حسين للصحيفة الجديدة كل وقته وجهده، وكل ما لديه من مال قليل ما أسرع ما ينتهي، فهو يكتب إلى طلعت حرب باشا في بنك مصر يقول: «غمرتني بفضلك حين أذنت في الشهر الماضي بأن يقرضني البنك سبعمئة من الجنيهات دون أن تتشدد فيما تتشدد فيه المصارف من ضمانة الملك وأصحاب الثروات الطائلة، وقد عرفت لسعادتك هذا الجميل الذي لن أنساه، وكان الحق عليَّ بعد هذا ألَّا أثقل عليك ولا أطلب إليك شيئًا، ولكن ظروف الحياة التي دفعني إليها ظلم الظالمين هي التي تضطرني إلى أن أقف هذا الموقف الذي يثقل عليَّ جدًّا؛ المبلغ الذي اقترضته في الشهر الماضي قد أنفقته كله في إنشاء جريدة الوادي ولم يبقَ منه شيء، وما زالت الجريدة محتاجة إلى المال، ويظهر أنها لن تربح إلا بعد أن ينقضي الصيف، وتعود الحياة إلى نشاطها الطبيعي، فأنا إذن في حاجة إلى قرض آخر لتمضي الجريدة في طريقها من جهة وأستطيع أنا أن أعيش من جهة أخرى، وأنا أتمنى لو أمكن أن يُرفع المبلغ الذي اقترضته من سبعمئة إلى ألف … وأرجو أن تتفضل فتقبل تحيتي الخالصة وإجلالي العظيم.»
ويحصل طه حسين على القرض، وتصدر «الوادي» بانتظام، ويدبر مصروفاتها تدبيرًا دقيقًا مدير صديق وهو السيد حسين فتوح.
واهتمامات طه حسين في جريدة الوادي هي نفس اهتماماته في جريدة الكوكب.
تنشر «الوادي» فصولًا مطولة يتحدث فيها عن رجال برزوا في ساحة الأحداث الدولية؛ عن هندنبرج، وعن ستالين، وعن موسوليني. وينشر حديثًا لموسوليني يقول فيه إن الحرب العالمية واقعة لا محالة، وإن كان لا يدري أين تقع؛ في النمسا أو الشرق الأقصى، بحرب بين اليابان وروسيا أو بين اليابان والصين، وتنشر الوادي فصلًا تنبه فيه إلى أطماع الحكم النازي في ألمانيا.
ويُعنى الوادي بالعالم العربي، مشرقه ومغربه.
ويواصل طه حسين في مقالاته السياسية اليومية بعنوان «حديث الوادي» نضاله كي يحقق الشعب آماله في الحرية، وفي التقدم، مدركًا أن أكبر عقبة تعوق طريق التقدم في مصر هي استمرار احتلال بريطانيا للبلاد.
وطه حسين يحمل المصريين جانبًا كبيرًا من مسئولية الاحتلال، فإذا شكت الوزارة القائمة من أن بريطانيا تتدخل في موضوع الدَّيْن العام تدخلًا يعرِّض استقلال مصر للخطر، يكتب طه حسين: «كلا، إذا كان الاستقلال في خطر فالوزارة هي التي عرَّضته للخطر؛ لأنها قبلت تدخل الإنجليز منذ ارتقت مناصبها. إذا كان الاستقلال في خطر حقًّا فيجب أن يتنحى هؤلاء السادة عن ميدان الجهاد؛ لأنهم لا يصلحون لميدان الجهاد، إنك لا تجني من الشوك العنب.»
ويحمل طه حسين حملة عنيفة على رفض وزير المعارف تعيين مصري من أساتذة «مدرسة الهندسة الملكية» المساعدين وهو الدكتور مصطفى نظيف، أستاذًا بها مكان أستاذ بريطاني انتهى تعاقده معها، ويندد بشدة بأن الوزير قد قرر «اتخاذ الإجراءات اللازمة لتعيين بريطاني آخر»، ويؤكد طه حسين أن الإنجليز لن يحققوا أطماعهم لو امتنع كل المصريين عن كل تعاون معهم.
ويستأنف الدكتور طه حسين في جريدة «الوادي» مقالاته الأدبية ملتزمًا المنهج الذي سار عليه في جريدة السياسة أيام الأحد وأيام الأربعاء، والذي التزمه كذلك في جريدة «كوكب الشرق»، وهو وصل القراء بالأدب العربي القديم من جهة، وبالفكر الأوروبي الحديث من جهة أخرى، مع الاهتمام بالإنتاج الثقافي المعاصر من جهة ثالثة.
تتسع صفحات الوادي الأدبية لمساجلات رائعة بين طه حسين وكثير من معاصريه، وتفتح جريدة الوادي صفحاتها للشباب، سهير القلماوي لا تكتفي بصفحة السيدات بل تشارك في صفحات الأدب والثقافة، وكامل الشناوي يكتب شعرًا رقيقًا، وعبده حسن الزيات يكتب صفحات قانونية إلى جانب كتاباته السياسية، ويحيى الخشاب يكتب عن إمام شعراء الفرس أبي القاسم الفردوسي، وخليل يحيى نامي يترجم قصة عن الشاعر السورياني يعقوب السروجي من شعراء القرن السادس، وموضوعها قصة «أهل الكهف»، يهديها إلى توفيق الحكيم، وسيد نوفل يكتب صورًا ريفية، وسيد قطب يكتب قصة قلبين، ومحمد حسن الزيات يكتب قصصًا ونقدًا.
وإلى جانب هؤلاء ينشر الوادي ما يرسله إليه كاتب غير معروف من الريف وهو محمد عبد المعطي المسيري، الذي يقدم نفسه إلى طه حسين وإلى القراء بأنه من أصحاب المقاهي أو العاملين فيها في دمنهور، وهو مع ذلك لا يتردد في مناقشة طه حسين ولا يتردد طه حسين في أن ينشر له رسائله.
ولا يتردد طه حسين كذلك في أن ينشر مقالًا للأستاذ محمد عرفة أحد الذين كانوا قد تحمسوا لمواجهته عندما ظهر كتابه عن الشعر الجاهلي.
ولكنه يرفض أن ينشر في صحيفته بعض الأخبار التي يجمعها بعض المحررين ويريدون نشرها بدعوى أن الاهتمام بالأخبار الشخصية يكاد يكون غريزة عند الناس، ولأن نشر مثل هذه الأخبار من شأنه أن يزيد بيع الجريدة فيستفيد القراء بما تنشره من موضوعات جادة وهامة، ولكن طه حسين يقول: «ماذا ينفع الناس من معرفة أن ممثلًا ترك عشيقته أو أن مطربة طلبت الطلاق من زوجها؟ إذا كان الاهتمام بالأخبار الشخصية غريزة فإن وظيفة الصحافة ليست تملق الغرائز بل تهذيبها.»
•••
يبقى طه حسين في القاهرة طيلة الصيف وقد سافرت الأسرة إلى الإسكندرية وهو يتعجل عودتها.
ولكن الأسرة لا تكاد تعود إلى القاهرة حتى يصاب ولده مؤنس بالنيمونيا، ويقضي طه حسين الساعات الطويلة بجانبه فيتعرض للعدوى، فإذا شفي الصغير لزم الوالد الفراش.
يلزم الفراش لا يعمل، والمرض ضعف وألم ونفقات ثقيلة، فيسائل طه حسين نفسه من جديد هل من حقه أن يعرض أسرته لهذا الضيق كله؟
… بلغت حافة الهوة، وقد كنت أرجو أن يصلح أمر «الوادي» لكنه لم يصلح، ولم يزدد فسادًا، والناس يقولون لي إن أمره سيستقيم إذا انقضى الصيف، والله يعلم أيستطيع أن يثبت حتى ينقضي الصيف.
•••
وحكومة صدقي باشا تواصل ضغوطها، لا ترفع قبضتها عن الشعب، ولا تخفف من رقابتها للجامعة، رجال البوليس يداهمون اجتماعًا لبعض طلاب الجامعة، كان أستاذ القانون المدني الدكتور عبد الرزاق السنهوري قد دعا إليه لتأليف جمعية اسمها «جمعية الشبان المصريين»، ويفضون الاجتماع بالقوة، ويقرر مجلس الوزراء فصل الدكتور السنهوري.
تستقبل الجامعة عامها الجديد فإذا أحد أعضائها الممتازين المتفوقين قد أُقصي عنها، هذا العضو هو الأستاذ السنهوري، أُخذ بالريبة، وعُوقب بالشبهة، وحُكم عليه بالظن … وكان قرار فصله إهانة صارخة للجامعة التي لا ينبغي أن يُفصل أعضاؤها بغير أن تُستشار.
ولكن طه حسين واثق «أن الفوز للسنهوري ولأمثاله من المظلومين آخر الأمر، فلينتظر هذا الفوز، فليس مقدمه بعيدًا.»
وفي أول نوفمبر يعود فيكتب لنفس الصديق الذي كتب إليه في آخر شهر يوليو يقول: «… أما الجريدة فما زالت حالها بعيدة عما يرضي، ولكنها قد أخذت تحاول أن تقف على قدميها وأظن أن هذا ليس مستحيلًا، فقد أخذ انتشارها يزيد بعض الشيء. ولست أدري إلى أين ينتهي بنا هذا كله، ولكن الغريب أني برغم هذه المصاعب كلها بعيد عن اليأس بل بعيد إلى حد ما عن سوء الخلق، ولعلي لم أبتسم قط كما ابتسمت في هذه الأيام المظلمة، وإذا كان في حياتي شيء مُمِضٌّ فهو احتياجي كثيرًا إلى أن أستدين وإشفاقي المتصل من العجز عن أداء الدين …»
ولكن مقدم الفوز الذي بشر به طه حسين في مقاله عن السنهوري لا يتأخر.
لا تمر ثلاثة أشهر حتى يقبل في السادس عشر من ديسمبر ١٩٣٤ عدد كبير من أساتذة كلية الآداب وطلابها مع الصباح الباكر على منزل طه حسين في حي الزمالك فرحين يهنئونه ويهنئون أنفسهم بقرار عودته إلى كلية الآداب وعودة الدكتور السنهوري معه إلى كلية الحقوق.
وعندما يصل طه حسين إلى أبواب الجامعة في ذلك الصباح يلقاه شباب شديد الفرح شديد الحماس، يحملونه على الأعناق حملًا إلى مكتبه في الكلية الذي غاب عنه أمدًا طويلًا، وقد أحصى الطلاب أيام الإبعاد فإذا هي مدة قد جاوزت الألف يوم، سنتان وتسعة شهور وعدة أيام.
أصدقائي الأعزاء، الحمد لله الذي أتاح للأسرة الجامعية أن يجتمع شملها بعد الغربة. ولست شاعرًا كهذين الشاعرين اللذين سمعت منهما الآن أجمل الشعر وأروعه — ويسكت قليلًا ليضيف وهو يبتسم ابتسامته — وإن كان هذا الشعر يحتاج إلى النقد.
ويستأنف حديثه بعد أن يسكت ضحك المستمعين المغتبطين بعودة أستاذهم إليهم، ينقد ما يكتبون من الأدب وما ينشدون من الشعر فيقول: «لست شاعرًا ولو كنت شاعرًا لوصفت لكم وصفًا صادقًا العواطف التي كانت تملأ قلبي منذ أكثر من عامين، شوقًا إلى الجامعة وإلى أهل الجامعة وحرم الجامعة، والعمل في الجامعة، ولقلت لكم، بصراحة وسذاجة أيضًا إنني كنت أتجلد حين كنت بعيدًا عن الجامعة، وقديمًا قال أبو ذؤيب:
ويعود الأستاذ إلى دروسه وأبحاثه، وتمضي الشهور، فأما ديونه المادية فإنه يؤديها لأصحابها موفورة مشكورة، وأما دينه لله الذي أعانه بالصبر ووفقه للنصر، ودينه للوطن الذي أعطاه النور والعلم؛ فإنه سيقضي بقية العمر يحاول أن يؤديهما، ويبذل في ذلك أقصى ما يطيق من الجهد.