المراقب والمستشار
مكتب المراقب العام للثقافة العامة، يناير ١٩٤٠، المكتب مزدحم، الأستاذ «محمد بدران» مدير إدارة الترجمة يعرض على طه حسين قائمة الكتب الأجنبية التي اختارتها إدارته لترجمتها، وطه حسين يقول: «بالتوفيق إن شاء الله! وفيما يخص المترجمين لا يكفي أن يكون المترجم متضلعًا في اللغة المنقول عنها وفي اللغة العربية، لا بد أن يكون عليمًا بقدر الإمكان بموضوع الكتاب، تعرف يا بدران ماذا يقول الإيطاليون؟ إنهم يقولون إن المترجم خائن، يعنون أن النقل غير الدقيق يعتبر خيانة.» ويؤكد الأستاذ «محمد بدران» للمراقب العام أن الإدارة ستراعي بقدر الإمكان عند اختيار المترجمين مقدرتهم في اللغتين ومعرفتهم بالموضوع، ثم يستأذن في الانصراف سعيدًا بموافقة المراقب العام للثقافة على رأي إدارة الترجمة.
ويدخل مسيو «إتيين دريوتون» مدير مصلحة الآثار المصرية، ويتقدم لعرض الموضوعات التي لديه، وبعد عرضها وأخذ رأي المراقب فيها يقول طه حسين لمدير إدارة الآثار المصرية: «أحب أن تدرس المصلحة إنشاء قسمين جديدين بها؛ الأول: قسم للنشر يشرف على إصدار مجلة المصلحة ومنشوراتها، ويكون أداة اتصال بين المصلحة والهيئات العلمية داخل مصر وخارجها. والقسم الثاني: يختص بالحفائر التي يجب أن يزداد اهتمام المصريين بالقيام بها.» ويعد مسيو دريوتون بأن يقدم مذكرة برأي المصلحة في الموضوعين في المقابلة القادمة، ويستأذن في الانصراف ولكن طه حسين يستبقيه ليتحدث معه في موضوع آخر مهم وهو تدريب من يتولون مسئولية المصلحة في المستقبل.
يقول طه حسين للمدير: «إن مصر التي تشكر أصدق الشكر من عاونها في الماضي ومن يعاونها حاليًّا من الأجانب، لا بد أن تتحمل مسئولياتها بنفسها في الوقت المناسب وبغير تأخير، ولعل ذلك أن يكون بمجرد انتهاء هذه الحرب، وأنا واثق أنك ستكون فخورًا بمن يحل محلك من المصريين.» ويقول مسيو دريوتون في هدوء: «هذا موضوع أعرف أهميته، وسأعود للتحدث فيه معكم، ولا شك لديَّ في أنني سأكون فخورًا بمن يخلفني في هذا العمل من المصريين.» ثم يضيف: «أظن أن مسيو فييت منتظر، أستأذن إذن.»
ويدخل مسيو «جاستون فييت»، مدير إدارة الآثار العربية، يتقدم ويقول: «أود أولًا أن أهنئكم بظهور ترجمة نرويجية لكتابكم «الأيام»، لقد أرسل المترجم نسخة من ترجمته إليَّ لأنه استعان بترجمتي الفرنسية، وأنا أقدم هذه النسخة إلى سيادتكم، وإن كنت واثقًا أن النرويج سترسل لكم نسختكم الخاصة، إن لم تكن قد أُرسلت فعلًا.»
ويرد طه حسين قائلًا: «هذا جميل، وشكرًا جزيلًا، لم أعد أحصي الترجمات المختلفة لهذا الكتاب، ولكن نترك هذا الآن. وقبل أن أعرف ما لديك اليوم أحب أن أقول إني سمعت أن دار الآثار العربية مزدحمة وأن بعض آثارها لم يُعرض أبدًا على الجمهور حتى قبل الحرب، بل لقد قيل لي إن بعضها لم يتم تسجيله، ونحن طبعًا في ظروف الحرب، وعندكم إجراءات استثنائية لحفظ الآثار من الأخطار، ولكني أريد تقريرًا عن حالة المصلحة كما هي، وحالتها كما تقترحون أن تكون بعد خمس سنوات، وعن الممكن عمله الآن هذه السنة، في هذه الميزانية. إن الناس، يا مسيو فييت، تظن أن دار الآثار الوحيدة الموجودة في مصر هي «الانتكخانة» أي دار الآثار المصرية، والواقع أن لدينا في القاهرة أكبر دار للآثار الإسلامية في العالم.»
ويقول المدير: «الدار طبعًا ومحتوياتها معروفة لعلماء الآثار العربية في جميع أنحاء العالم.»
ويرد طه حسين قائلًا: «هذا لا يكفيني، أريد أن تكون دار الآثار العربية معروفة أولًا لكل المصريين وثانيًا لكل زوار مصر، بل إني أريد أن يزور الناس مصر لكي يروا دار الآثار العربية. أرجو أن أتلقى قريبًا التقرير المطلوب بتصورك لكيفية تقدم وتطوير الدار في المستقبل، الحرب ستنتهي يومًا، الحرب تخريب ينتهي والآثار شهود حضارة خالدون … موضوع آخر: أحب أن أعرف اقتراحاتك بشأن إعداد المسئولين المصريين عن الآثار العربية في المستقبل.»
ويردد المدير — الذي لم يكن يتوقع هذا الحديث — كلمة «المسئولين»
ويقول طه حسين: «لم أتم حديثي يا مسيو فييت … إنني أعرف كفاءتك وأقدر مجهودك أجمل تقدير، وقد سبق أن درست أنا على يديك في جامعة مصر الأهلية كما تعلم، ولكني كنت أقول لمسيو دريوتون منذ قليل إنني واثق أنه سيكون فخورًا بمن يخلفه من المصريين عندما يجيء الوقت المناسب، وأنا أقول لك نفس الكلام، نحن نريد أن نعطي مصلحة الآثار العربية نفس نصيب مصلحة الآثار المصرية من الاهتمام.»
ويعود المدير بعد صمت قصير فيقول: سأعد التقارير التي طلبتموها، وبمجرد الانتهاء منها أعود لمقابلة سيادتكم.
ويقول له طه حسين: «إلى اللقاء إذن، وشكرًا.»
ويخرج مسيو «فييت»، ويستدعي طه حسين أحد معاونيه من شباب تلاميذه، وكان قد اختاره ليعمل معه في الجامعة وفي الوزارة.
يقول طه حسين: «كنت تحدثت مع الوزير عن إنشاء أكاديمية مصرية، وأريد أن تجمع بعض البيانات لإعداد مذكرة تقدم للوزير، عليك أولًا أن تطلب إلى الإدارة المختصة بيانًا بجميع الجمعيات العلمية والأدبية التي تعِينها الوزارة حاليًّا وبرامج عملها ونشاطها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وثانيًا أن تعد لي بنفسك بحثًا عن الأكاديميات في فرنسا وروسيا وإنجلترا وألمانيا، وعندما تجمع هذه المعلومات تتعرض لبحث إمكان إنشاء الأكاديمية المصرية، وتوضح تصورك لها حسبما تحدثنا فيما مضى، إن في التاريخ العربي مؤسسات مماثلة سبق العرب بها العالم الحديث؛ بيت الحكمة في عصر المأمون مثلًا.» ثم يقول مخاطبًا سكرتيره: «أظن الساعة جاوزت الاثنين، ننصرف؟»
ويقول السكرتير: «في الخارج طالب من كلية الآداب اسمه إسحاق، تكلم معكم وأخذ ميعادًا بالتليفون، ويقول إنه لن يأخذ من وقتكم إلا دقيقة.»
ويرد طه حسين: «خمس دقائق، نعم، أعطيته موعدًا بالتليفون، قال إن بعض طلبة كلية الآداب سوف يُصدرون صحيفة اسمها «الفكر الحر»، ويطلب حديثًا …»
ويدخل الطالب، وهو محمد عبد العزيز إسحاق، فيقول: «إن الوقت متأخر يا سيادة العميد … سؤال واحد إذن: هل يصلح الأديب للوزارة؟»
ويبتسم طه حسين ويقول: «ولمَ لا؟ لقد كان وزراء الدولة العربية في أرقى عصورها من الأدباء، وفي الدولة المتحضرة في العصر الحديث نجد وزراء مثل دزرائيلي في إنجلترا وهو أديب بارع في القصص، ونجد بوانكاريه في فرنسا وهو لم يصل إلى منصب الوزير فقط بل إلى رئاسة الجمهورية، وكليمنسو الطبيب الأديب الوزير، وإدوارد هربو الذي رأس الوزارة عدة مرات، ووزير الأشغال الحاليَّ في فرنسا الذي يشرف على دائرة المعارف الفرنسية الجديدة.
ليس السؤال الذي سألتموه موضوعًا كما ينبغي، السؤال الذي يجب أن يُلقى هو هل يصلح غير الأديب أن يكون وزيرًا؟
إن نظام الحكم الديمقراطي يريد من الوزير أن يكون عالمًا بنفس الجماهير قادرًا على التحدث إليها وتوجيهها، بارعًا في الخطابة أمام الشعب وأمام البرلمان … الأدباء أحق الناس بأمور السياسة وأبرعهم في تصريفها، يشهد لهم بذلك التاريخ منذ بركليس إلى محمد بن عبد الملك الزيات إلى جوته إلى كليمنسو.»
ويشكر عبد العزيز إسحاق أستاذه العميد، ويستأذنه في نشر السؤال ورده في العدد المقبل من مجلته «الفكر الحر».
ويقول طه حسين: «خير، وعلى فكرة كم عددًا توزع مجلتكم؟»
ويرد إسحاق: «وصلنا إلى أعداد كبيرة، نحن الآن نوزع أكثر من مئتي نسخة!» ويبتسم الأستاذ العميد في حب وحنان وإشفاق!
•••
وفي آخر فبراير ١٩٤١ يتولى هيكل باشا وزارة المعارف من جديد.
ويتحدث طه حسين مع هيكل، إنه راضٍ عن طبيعة عمله في وزارة المعارف، لكنه غير راضٍ عن نظرة الوزارة نفسها إلى شئون الثقافة، يقول إنه لذلك كان قد رفع استقالته إلى النقراشي باشا فرفضها، وفوجئ طه حسين بتعيين الوزير الجديد، فلم يجد من الذوق أن يترك العمل بمجرد تولي الدكتور هيكل منصب الوزارة، وهيكل يذكر طه حسين أنه هو نفسه كان أول من اقترح أن يتولى طه حسين أمور الثقافة بالوزارة، وهو الآن يطلب إليه أن يستمر في تحمل هذا العبء، وأن يضيف إليه عبئًا آخر وهو أن يكون مستشارًا فنيًّا للوزارة.
ويترك هيكل الوزارة قبل إتمام الإجراءات اللازمة، ويحل محله أحمد نجيب الهلالي باشا، فتتم في عهده إجراءات تعيين طه حسين مستشارًا فنيًّا لوزارة المعارف.
ويدخل طه حسين مستشار وزارة المعارف مع سكرتيره فريد شحاتة الغرفة الجديدة التي خصصتها الوزارة للمستشار.
ويقول السكرتير: «هذه الغرفة أوسع وأحسن للعمل، وتليق بمقام سيادة المستشار.»
ويرد طه حسين: «كلام فارغ، المهم العمل … ماذا عندنا اليوم من المواعيد؟»
ويقول السكرتير: «عندكم موعد مع الوزير بخصوص جامعة الإسكندرية بعد ساعة، ولكنكم كنتم قد طلبتم مدير إدارة البعثات وهو في الانتظار»، فيدعوه المستشار للدخول.
ويسأله: «موضوع محمد حسن ظاظا المطلوب إيفاده لدراسة اللغة العبرية في فلسطين ماذا يعطله؟ كليته موافقة والجامعة موافقة والميزانية موجودة، لماذا لا تتخذ إدارة البعثات إجراءات التنفيذ؟»
ويقول طه حسين للسكرتير بعد انصراف مدير البعثات: «الآن أريد دوسيه جامعة الإسكندرية بالكامل، وإلى أن تحضر الدوسيه أريد أن أكلم وزير المالية في موضوع الدكتور أحمد زكي.»
يقول السكرتير: «إن الدكتور أحمد زكي لم يتكلم معكم في شيء.»
ويقول طه حسين: «أعرف ذلك، وهل يُضطر الرجل الكريم إلى أن يتحدث بحاجته إلى الناس؟»
ويتحدث طه حسين إلى وزير المالية، مكرم عبيد باشا، فيقول: «صباح الخير يا باشا، أنا أزعجكم بأمر بسيط ولكن يظهر أنه لا بد من التحدث مع معاليكم فيه، الدكتور أحمد زكي، عميد كلية العلوم، له ترقية طلبتها الجامعة ووزارة المالية.»
ويسمع كلام الوزير ثم يقول: «يا باشا، إذا كان الوزراء لا يعرفون أسماء العلماء فإن هذا أمر لا يعيب العلماء، بل لعله يعيب الوزراء، شاكر جدًّا يا باشا، الموضوع بين يدي معاليك.»
ويضع سماعة التليفون، ويقول: «معالي وزير المالية يسأل من هو أحمد زكي هذا! أحمد زكي عميد كلية العلوم، العالم، الأديب، الرجل الكريم.»
•••
ويقول السكرتير: «إن مدير المستخدمين يلح في الدخول قبل ذهابكم لمقابلة الوزير، إنه محتاج إلى دقيقتين فقط»، ولكن طه حسين يطلب أن يقرأ عليه أولًا خطابًا واردًا من الأمير عمر طوسون، وفي هذا الخطاب يقدم الأمير شكره لأن طه حسين يعمل على إنشاء كرسي للدراسات السودانية بالجامعة، وطه حسين يقول: «سأمليك ردًّا بعد موعدنا مع الوزير.» ثم يأذن لمدير المستخدمين بالدخول.
يدخل مدير المستخدمين مبتهجًا، ويقول إنه قد وجد ثلاث وظائف درجة سادسة للعائدين من البعثات الذين كان المستشار قد تحدث معه في شأنهم.
يقول طه حسين مهتمًّا: «نعم، كنت تحدثت معك في ذلك أول أمس، وقد أخبرتني أنه لا توجد وظائف خالية بتاتًا.»
ويضحك مدير المستخدمين وهو يقول: «دبرت هذه الدرجات بصعوبة بالغة، معالي الوزير قال لي: تطلَّع هذه الوظائف من تحت الأرض، يظهر أنه أراد تنفيذ رغبات سعادتك، طلَّعناها من تحت الأرض، سنعد قرارات التعيين للشبان الثلاثة، وأنا أستأذن للذهاب للتنفيذ، وإنما أردت أن أُدخل السرور على قلب سعادتكم.»
ويقول الدكتور طه: «لا، انتظر، لماذا لم تطلع هذه الوظائف من تحت الأرض عندما تحدثت معك في هذا الموضوع أول أمس؟ هؤلاء الشباب بذلوا أقصى جهدهم في مصر، والدولة صرفت عليهم مصروفات طائلة في أوروبا، وكان من الحق أن توظفهم الدولة قبل سفرهم للبعثة ولكن القوانين كانت تقضي بألا يُوظَّفوا إلا بعد أن يعودوا … وقد حاولت أن أوضح لك أنهم قد تحملوا من عبء الدراسة في الخارج ما تحملوا، ومن أهوال الحرب ما فرضته البعثة عليهم، وأن عدم تعيينهم خسارة على البلد، وأكدت أنت لي أنه لا توجد أي درجات، ولا أي طريقة لتدبير الدرجات لا فوق الأرض ولا تحتها، أليس كذلك؟»
ويرد المدير بأنه لما رأى رغبة الوزير القوية، ولما قال له الوزير الدرجات تطلع من تحت الأرض …
ويقاطعه طه حسين بقوله: «يا سيادة المدير، هل معك ورقة وقلم؟ اكتب إذن قرارًا بخصم يومين من راتب السيد مدير المستخدمين، نظرًا لأنه كذب على مستشار الوزارة.»
ومدير المستخدمين يكتب ما أملاه المستشار مبتسمًا، معتقدًا أن الموضوع مداعبة، ولكن المستشار يطلب إليه أن يعطي الورقة للسكرتير لتأخذ مجراها، ويخبره أنه في انتظار قرار تعيين الشبان الثلاثة قبل ظهر الغد.
•••
يدخل طه حسين مكتب الوزير أحمد نجيب الهلالي باشا فيجده مشغولًا بالحديث بالتليفون، ينهي الوزير الحديث بقوله لمحدثه: «أرجو سرعة إبلاغي بالتطورات»، ثم يقول للدكتور طه ووجهه مكفهر: «أخبار سيئة، باريس سقطت في يد الألمان.»
ويقول الدكتور طه: «باريس؟!»
ويرد الوزير: «نعم، وانتهى الأمر.»
ويقول الدكتور طه بعد صمت قصير: «لا لم ينته، لقد شهدت أنا كيف قاوم الشعب الفرنسي وصمد أثناء الحرب العظمى الأولى، حرب ١٩١٤. هذا الشعب يتمتع بحرياته منذ ثورة الباستيل، ولديه إذن ما يدافع عنه، تقول معاليكم إن الأمر انتهى! هل يحكم هتلر العالم إذن؟ هل تحكم العنصرية العالم؟ هل نعيش خدمًا للسادة الذين يسمون أنفسهم الآن بالآريين؟ ومن هم؟ أهل الهند وأهل إيران القدامى هم أصل الآريين … ولماذا — تعالى الله — هم السادة ونحن الخدم؟
لا، إن الأمر يا معالي الوزير لم ينته، باريس والديمقراطيات ستقاوم، والعالم سيقاوم.»
ويسأل الوزير: «هل نؤجل موضوع جامعة الإسكندرية اليوم؟»
طه حسين: «لا، ولماذا نؤجله؟ إنني أحمل المشروع المفصل للجامعة الجديدة كما تصورناها معًا لتدرسه معاليك على مهل، وقد أرفقت به مشروعات القرارات اللازمة لتنظر فيها وتمضيها إن وافقت. وأنا أستأذن في الانصراف الآن على أن أعود للحديث عندما تجد الفرصة لقراءة المشروع والقرارات في هدوء.»
•••
وفي منزل طه حسين بالزمالك …
يسرع طه حسين إلى زوجته يقول لها: «تبكين؟ سمعتِ الأخبار إذن؟» وترد سوزان: «باريس تحت قدم الألمان …»
ويقول طه حسين: «شوارع باريس تحت أقدام الألمان، نعم، ولكن باريس والباريسيين لا، لقد شهدنا معًا كيف قاومت فرنسا نفس هؤلاء الغزاة في حرب ١٩١٤، تذكرين؟»
وتقول سوزان: «أمي وأختي كانتا قد خرجتا من باريس مع الخارجين الهائمين على وجوههم ينامون في المدارس والكنائس أو في الطرقات …
آخر ما سمعته عنهما أنهما توقفتا في الطريق وامتنعتا عن السير مع الفارين، وقررتا العودة إلى بيتهما في باريس، وإذن فهما الآن هناك تحت سيطرة الألمان، أمي في آخر خطاب قالت لي إن الموت بكرامتنا في باريس خير من الذل الذي يتعرض له الهاربون.»
ويقول الدكتور طه حسين: «لا موت ولا ذل، فرنسا ستقاوم، الأحرار سوف يقاومون دائمًا، ألا تذكرين؟
ألا تذكرين أن الألمان سبق أن دخلوا فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وأن كثيرًا من هؤلاء الألمان التعساء لم يخرجوا من فرنسا أحياء؟»
•••
تفضلتم معاليكم فطلبتم إليَّ أن أبدي رأيي في المؤتمر الثقافي الذي فكرت الوزارة في عقده، ليس من شك في أن التقريب الثقافي بين البلاد الشرقية، والبلاد العربية خاصة، غرض أساسي يجب أن تسعى إليه الوزارة، وليس من شك في أن المصلحة في التقريب بين برامج التعليم العام في كل البلاد العربية، ولكني أرى أن تحقيق هذه الفكرة الآن لا يحتاج إلى مؤتمر بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، ولكنه يحتاج إلى لجنة محدودة العدد تُمثَّل فيها البلاد العربية لتدرس مناهج التعليم العام في هذه البلاد درسًا دقيقًا، تهدف به إلى توحيد هذه المناهج في الموضوعات الثقافية التي لا يمكن الاستغناء عنها في أي نوع من أنواع التعليم، وإلى التقريب والملاءمة في مناهج الدراسات التي تتصل بالأوطان …
التليفون يقطع الإملاء والسكرتير يقول إن المحادثة عاجلة.
كان سلاح الطيران المصري الناشئ يعمل في الصحراء الغربية يعاون الجيش الإنجليزي في عمليات الاستطلاع، ومن بين ضباط هذا السلاح شاب هو ابن السيدة زينب أخت الدكتور طه حسين، كان قد خرج في «طلعة» من طلعات الطيران ولم يعد، وزارة الحربية أعلنت والدته اليوم رسميًّا أنه قد قُتل.
يترك طه حسين الإملاء ويغادر الوزارة ليذهب إلى شقيقته ليواسيها ما استطاع، وهو ثائر لأن مصر تقدم مثل هذه التضحيات لحساب غيرها؛ لأننا ما زلنا خاضعين لاستعمار يسيطر على أرضنا ومائنا وسمائنا، وتُسفك من أجله دماء مثل دماء هذا الفتى الفقيد.
وتزداد الحالة خطورة في الصحراء الغربية، ويصبح وصول جيوش رومل إلى دلتا النيل احتمالًا قائمًا يدبر الجيش البريطاني الخطط لمواجهته، ومن ذلك اقتراح إغراق مديرية البحيرة لوقف الزحف إذا اقترب الألمان من الدلتا.
والوزراء المصريون يتحدثون في اهتمام شديد عن الحالة وواجب مصر إزاءها، وطه حسين قوي الإيمان بأن العدوان سيرتد عن البلاد.
في ١٨ نوفمبر ١٩٤١ يسمع طه حسين صوت فرنسا الحرة من لندن، صوت الجنرال «شارل ديجول»، وهو معجب بصموده أشد الإعجاب.
وتتوالى بعد ذلك أخبار المقاومة من الشعب داخل فرنسا ومن جيش فرنسا الحرة في أفريقيا، ويعرف أن عناصر من جيش فرنسا الحرة قد انضمت إلى قوات الحلفاء في الشرق الأوسط.
ويصل الجنرال ديجول إلى مصر، ويلقي خطابًا في الجامعة الأمريكية ويتحدث في راديو القاهرة، ويرحب به طه حسين هناك.
•••
تصل برقية من مدينة المنيا بأن والد طه حسين في خطر، فيعلم طه حسين أنها إنما تنعي إليه أباه. كان أبوه يعيش في مدينة المنيا منذ حين حياة هادئة لا تعكر صفوها العلل ولا المشاكل، راضيًا مستريح الضمير، فقد عمل لرضاء ربه غاية وسعة، وبذل في رعاية أسرته الكبيرة غاية جهده، وقد بلغ الخامسة بعد المئة من العمر، فهو سعيد بحياته الطويلة، عزيز بأولاده، فخور بما أصابوا في حياتهم من توفيق ونجاح.
طه حسين مشغول الفكر بوالدته، يسرع بالشوق والحنان إليها، يعرف عمق ما تحس من الألم والأسى لفقدانها رفيق حياتها وشريك الكفاح.
يسرع إلى مدينة المنيا في أول قطار، فإذا أصبحت أمه بين ذراعيه سالت دموعها لا تحاول الآن أن تجففها، وهي التي يعرفها قوية عنيدة قصية الدموع، بكاؤها الآن يوقف كلماتها وهي تقول لابنها: «كان أكرم الرجال، كان خير الأزواج، كان أشد الآباء برًّا وحنانًا، كان يقول عنك يا طه إنك تمشي بنور الله، في سبيل الله، وإنه — تعالى — منك قريب مجيب.»
•••
كثير من المصريين والأجانب يترك مصر، البريطانيون يحرقون أوراقهم، الراديو الألماني يذيع أن الهدف التالي للجيوش الألمانية في الصحراء الغربية هو قناة السويس، ويذكر أسماء الأشخاص الذين تقرر عقابهم عند دخول مصر، منهم عباس محمود العقاد، وطه حسين.
•••
الوزير أحمد نجيب الهلالي في مكتب المستشار يعزيه، يتحدثان بعد ذلك عن الحالة في مصر، يسأل الوزير طه حسين: «هل هناك أي رغبات يمكن أن تعاون الوزارة على تحقيقها؟»
ويطيل الوزير السكوت ثم يقول: «نكتب للمالية.»
فيرد طه حسين: «هذا مشروع خطاب من معاليك لوزير المالية بالمطلوب. الميزانية المطلوبة كبيرة؛ لأنها مطلوبة لمهمة كبيرة، يتعلق بها مستقبل التعليم في مصر، ومعاليك تشرح ذلك هنا في هذا الخطاب، بشكل مقنع ورائع، وتبيِّن لوزير المالية أيضًا أن الجامعة ضرورية لتنمية مصر اقتصاديًّا، وذلك لأن المصريين المتعلمين المتخرجين في الجامعة سوف يحسنون استغلال موارد البلاد في المستقبل، ومع أن الخطاب مقنع ورائع فإنه قطعًا غير كافٍ ولا منتج بنفسه، ولكي يكون منتجًا نذهب معًا لمقابلة رفعة رئيس الوزراء.»
ويطلب الوزير رئيس الوزراء بالتليفون، ثم يقول للمستشار إن رفعته سيقابلهم غدًا الساعة العاشرة صباحًا في مجلس الوزراء، ويضيف أن «رفعة الرئيس يقول لك إن الإسكندرية نفسها قد أصبحت مهددة، وإن الألمان أصبحوا على بعد سبعين ميلًا منها، وإن هناك هجمات جوية عليها.»
ويقول طه حسين: «إن رفعة الرئيس ومعاليك تعلمان أن هذا سبب قوي لإصرارنا على تعمير الإسكندرية، على زيادتها عمرانًا بإنشاء الجامعة — منارة الإسكندرية كانت إحدى عجائب الدنيا السبع — ألا يجب أن يشع ضوء حضارتنا من جديد عبر البحر الأبيض المتوسط على دنيا الحضارة؟
أستأذن الآن، غدًا إذن نذهب لرفعة الرئيس، وعندي عمل في جامعة الإسكندرية بعد ذلك.»
ويقول الوزير: «بالتأكيد لا تسافر للإسكندرية الآن، انتدب أحدًا يحل محلك.»
ويرد طه حسين: «لا، وزير المواصلات يغضب، محلي محجوز بقطار بعد الظهر غدًا بعد انتهاء مقابلة النحاس باشا.»
ويقول الوزير: «كان يجب أن أعرف أن لا فائدة من الإلحاح، إلى الغد إذن.»