بين مينرفا وتليماك
أنشد يا هوميروس!
وظل في فم الأبد قيثارته المرنة، ونايه المطرب، وعوده الآن، ونغمته الحلوة الحنون.
أنشِدْ يا شاعر العصر الخالي.
وحل في الأسماع موسيقى مدوية، وفي العيون دموعًا جارية، وفي القلوب رحمة ومحبة، وانفَحْ عرائس الشعر من لدنك سلطانًا، وحكمةً وبيانًا، وسريرًا وصولجانًا.
تغنَّ يا شاعر أولمب!
ولتُرسِل من جنتك نغمة تنتظم الأفلاك، ورنة تُجلجِل في الأفق، وآهةً تُزلزل قلوب الجبارين!
•••
والأقدار وحدها تعلم لماذا ضلَّ أوديسيوس بجنوده في ذلك العُباب؟ وقد عاد كل أقرانه إلى هيلاس بعد طول النَّأْي وشَحْط المزار، إلا هو وإلا هم، مُمزَّقين في دار الغربة كلَّ ممزَّق، يتجشَّمون المصائب والأهوال، ويتخبَّطون بين موج كالجبال، ويخلصون من بحر إلى بحر، ومن رَوْع إلى روع، فإذا أرسَوْا على أرض وظنوا أنهم نجَوا، أفزعهم فيها غيرُ الذي رجَوا.
ولقد رقَّت قلوب الآلهة، وودوا لو أدركوا برحمتهم أوديسيوس، إلا نبتيون الجبار — رب البحار — الذي يُضمِر للبطل في أعماقه كل كراهية وكل بغضاء، والذي آلى أن يصبَّ على رأسه كل تلك الأرزاء.
وحدث أن كان نبتيون في حرب مع الإثيوبيين، فانتهزها الآلهة فرصة سانحة، وعقَدوا مجلس الأولمب في ذروة جبل أيدا، وتفضل الإله الأكبر «زيوس» فافتتح الجلسة بكلمة مخلصة توجَّع فيها لما يلقاه بنو الإنسان من صروف الحدَثان، واستطرد فذكر مأساة أجاممنون المسكين، وما لقيه على يدَي زوجه وعشيقها الأثيم إيجستون من غدر وغيلة، ثم أنحى باللائمة على هؤلاء البشر البائسين الذين يقولون إن كل ما يصيبهم من خير وضَير هو من عند الآلهة، وما هو إلا من عند أنفسهم، ولكن لا يفهمون!
وشاعت الغِبْطة في أعطاف مينرفا، وتضرَّعَت إلى مولاها أن يُنفذ ولده هرمز إلى جزيرة أوجيجيا، فيأمر عروس الماء كالبسو أن تُعِدَّ مركبًا عظيمًا لأوديسيوس ورفاقه؛ ليعودوا عليه إلى أوطانهم، ثم ذكرت أنها ستمضي من فورها إلى إيثاكا حيث العشاقُ المآفينُ يُحاصِرون قصر بنلوب، وحيث ابنُ أوديسيوس المنكود، تليماك، يَشهد خراب مملكة أبيه ولا يستطيع أن يُحرِّك ساكنًا لصغر سنه؛ «إني سأُلهِب إحساسه، وأفتح عينَيه على ما ينبغي، سأجعله يخرج من هذه العزلة المعيبة ليبحث عن والده؛ فإنه لم يَعُد طفلًا بعد.»
وانتهز تليماك فرصة انصراف القوم إلى لهوهم وشرابهم فساءل الضيف قائلًا: «يا أعزَّ الأصدقاء، أرأيت إلى أولئك الفساق؟ لو أن رب البيت هنا أكانوا يَلْهون لهوهم هذا أو يفسقون فسوقهم هذا؟ كلا، لقد كانوا إذن أسرعَ إلى الهرب منهم إلى ذلك الطرب، ولكن، أواه! أين هو؟ أين أوديسيوس العظيم الذي انقطعت عنا أخبارُه، ويئست من أوبته ديارُه؟ ولكن حدِّثني بربِّك مَنْ أنت؟ ومِن أي الأقاليم قَدِمْت؟ ومَن رجال البحر الذين ألقَوا مَراسيَهم عند إيثاكا؟ أغريبٌ أنت أيها السيد؟ أم كنت فيما خلا من الزمان من أصدقاء أبي وأحبائه؟»
وقالت مينرفا ذاتُ العينَين الزبرجديتَين: «ليهدأ بالك يا بني؛ فإني مُجيبك على كل ما سألت؛ إنك ترى الآن منتش أمير «جزيرة الطافيان» البحارين، وسليل إنخيالوس الكبير، ولقد أبحرنا من جزيرتنا مُيمِّمين شَطْر جزيرة النُّحاس من أجل ذلك المعدن الثمين، وسفائنُنا ملقية مراسيها بالقرب من غابات «نيوس»، ولقد كنا ولا نزال من أحب ضيفان أبيك وأودِّهم إلى فؤاده، فلما سمعنا بما حلَّ به من شدة، وببيته من لَأْواء، استوحينا آلهتنا فخبَّرتنا أنه لا بد عائدٌ إلى وطنه سالمًا غانمًا، وأنه لا بد منتقمٌ من هؤلاء الفجار الأشرار، ولكن خبِّرني بأربابك أفي الحق أنك ابن أوديسيوس العظيم؟ إن ملامحك تُشبِه ملامحه، وإنك لقريب الشبه منه جدًّا، وإن هذا البريق الذي يشعُّ من عينَيك هو نفسه الذي كان يشع من عينَيْ أوديسيوس … يا للآلهة! كم سمرت إلى أبيك قبل أن يشد رحاله إلى طروادة، فهل يُقدَّر لي أن أسمر إليه مرة أخرى؟ إنني من وقتها إلى اليوم لم أرَه، وهو كذلك لم يرني. ألا ما أشوَقَني إليه! ما أشوقني إليك.»
وشاع بارق من الأمل في نفس تليماك فقال: «ويحك أيها الصديق، إنني أنا ابن أوديسيوس، ما في ذلك ريب، والعالم كله شهيد على ذلك.»
ثم اختلطَت الزُّرقة بالخُضرة في عينَي ربة الحكمة وقالت: «على رِسْلك يا تليماك! إذن فما هذه الولائم وتلك السمط؟ وهذا الزحام من أين أقبل؟ إني لأُقلِّب ناظري في القوم فلا أرى شريفًا ذا حسَب يستأهل أن يُحْتَفى به أو يُقامَ له وزن.»
ويبتئس تليماك ويُجيب: «أيها العزيز، لقد هاجرت الفضيلة من هنا في أثر المهاجر العظيم، وكانت آلت ألا تعود إلا معه، وكان هو — تداركَته السماء — يُلقِّنها هؤلاء بنظرة واحدة تكفي لتزول منها الجبال؛ وا أبتاه! لقد أطمع العاديات فينا بطول نأيه. فيا للنَّوى! إننا لا ندري اليوم أين مقرُّه ولا أيَّان مستودعه. ولو قد خرَّ تحت أسوار إليوم لاجتمع الإغريق من كل حدب هنا، هنا؛ في حاضرة إيثاكا ليذرفوا دموعهم من أجله، وليُقيموا له صحائف صدورهم بمداد أبديٍّ من التبجيل، ولكن وا أسفاه! لقد انتصر انتصارَ الأبطال، ثم مضى على وجهه وراء البحار في فجاج الثبج، وغدونا لا تحلم العين بنظرة مفردة منه، ولا الأذن بلفظة عذبة من لسانه المبين، تباركتِ يا آلهة الأولمب! ماذا عندك من الأقضية المخبوءة لي؟ الذئاب! أي يا آلهة هذه الذئاب! وحوش البرِّية التي اجتمعت من كل فج؛ من الجزائر المتناثرة في البحر، ومن المدائن المترامية في البر، من ساموس ودلشيوم وزاكنثوس، ومن كل إقليم وكل مَصْر … كلهم يُرابطون حول هذا القصر، ولا يستحيون. الفساق الأوشاب العرابيد يطلبون يد الزوجة الوفية، الأم المكلومة؛ بنلوب! بنلوب الباكية المحزونة المصدعة، كنز أوديسيوس الذي لا يفنى، يطلبون يدها ولا يرحمون وفاءها وبكاءها ولَأْواءها؛ لا تستطيع أن تردَّهم لعجزها، ولا تستطيع أن تُجيبهم وهي لا تدري من أمر زوجها. وهم طوال هذه السنين يريغون نعماء أبي، فَكِهين في أشربات وآكال حتى أقفر الزرع وجفَّ الضرع، وما أحسبهم مبقين على شيء، حتى علَيَّ!»
•••
وحين انتهت مينرفا من هذا الحديث حدجها تليماك وقال: «أيها الصديق حبًّا، ويا أبر الأوفياء سمعًا، لقد أيقظت فيَّ ضميرًا أنت أحييته، فألف شكران لك. أبدًا لن أنسى كلمتك: أنا ابن أوديسيوس! فلأبحث عن أوديسيوس.» وحاول الفتى أن يُقدِّم لمحدثه هدية سَنية تكون تَذكارَ هذا اللقاء، ولكن مينرفا شكرته وأبَت أن تأخذ شيئًا: «فإذا نجحتَ في مسعاك يا بني فسوف أعود، وسوف أقبل أية هدية منك.»
ثم انطلقت ربة الحكمة ذات العينَين الزبرجديَّتَين، ولَشَد ما ذُهِل الفتى ووقف مسبوهًا مشدوهًا حين رأى هذا الأمير «منتس» ينتفض انتفاضةً هائلة فيكون نَسرًا قَشْعمًا يضرب الهواء بجَناحَيه ثم يعلو ويعلو، فيكون في السماء ويغيب عن ناظِرَيه.
ولم يُحِس الفتى يومًا بما أحسَّ به الساعةَ من هذه الذكريات المُلِحَّة على فؤاده تُهيِّج فيه الشوق إلى لقاء أبيه، وجدد الثقة عنده وأكدها فيه يقينُه أن إلهًا يُساعِده هو هذا الضيف الذي أرسل جناحَيه وغاب في السماء.
وانطلق تليماك حيث جلس الفُسَّاق يستمعون إلى أغاني فيميوس، وحيث وجد أمَّه في الشُّرفة العليا تستمع هي الأخرى إلى تلك الأغاريد بين قِيانها من وراء ستار صفيق وتبكي، وتسأل فيميوس أن يتغنَّى غير هذا الغناء غناء لا يُثير شَجْوها وشَحَنها، وتثور النخوة في قلب الفتى فيصيح بأمه: «علام العويل يا أماه؟ وما وقوفك هذا الموقفَ تسترقين الغناء؟ وما اعتراضكِ على المغنِّي؟ دعيه فليتغنَّ ما يشاء، فلقد غدونا سخرية القضاء وهزو المقادير. ولقد ذهب أوديسيوس وذهبت معه كرامة هذا البيت، وإني لصاحبها بعده. فادخلي وليدخل معكِ قِيانُك، ولتقمن جميعًا بشئون المنزل، ولْتَخلِنَّ إلى مغزلك ومنسجك، ودعي كل ما عدا ذلك للرجال؛ لي، لي أنا وحدي؛ سيد هذا القصر!»
وأثَّرَت مقالة الابن في نفس أمه؛ فانثنت مع قيانها إلى مخدعها بالطابق العلوي حتى إذا خلت إلى نفسها ذرفت من الدمع على أوديسيوس ما شاء لها حزنها أن تذرف. أما تليماك فقد انطلق وسط القوم ونادى بأعلى صوته: «أيها الفساق! يا عشاق أمي، خذوا في لهوكم وتمتعوا قليلًا أو كثيرًا، فإذا كان الغد فاجتمِعوا في الساحة الكبرى، فإن لي كلامًا معكم؛ سأطلب إليكم أن تشدُّوا رِحالكم من هنا، أتسمعون؟ لقد طالما أتلَفْتم لنا زادًا وعتادًا، ألا فلتلتمسوا الزاد والعتاد من عند أنفسكم، ولتُقيموا أفراحكم وولائمكم في غير هذا المكان، فإن أبيتم فإني مُستعينٌ بالآلهة عليكم، ولتقتصَّ منكم السماء بما جرحتم.»
وما كاد يفرغ من قالته حتى عَضُّوا على أصابعهم لمفاجأتهم بهذا الكلام الخشن الذي لم يعتادوه، ونهض أنتينوس من مجلسه وقال: «تليماك، لقد حُقَّ لك أن تُخاطِبنا بهذه الشجاعة، ولكن يا لشؤم اليوم الذي تُتوِّجك السماء ملكًا فيه على إيثاكا؛ عرش آبائك وأجدادك.»
ويجيب تليماك: «ليس أحبَّ إليَّ من الملك حين تخلعه عليَّ السماء، غير أن أمره إليكم اليوم إن كان قد قضى أوديسيوس، أما أنا فلا أريد إلا أن أكون سيدَ هذا القصر، ولا غَرْو؛ فإن هذا من حقي.»
وأجابه يوريماخوس: «إن مِن حقك أن تقول ما تشاء يا أخانا تليماخوس، أما مُلْك إيثاكا فالسماء وحدها تؤتيه مَنْ تشاء. ولكن قُل لنا بربك: مَنْ هذا الضيف الذي كان معك الساعة؟ هل من قِبَل أبيك أقبَل، أو أن له عليكم دَينًا؟ إن أحدًا منا لم يَلْقَه ولم يرَه، ولكنا لمحناه من بُعْد، عليه سيماء النجابة والجلال، من أين أقبل يا تليماك؟ وفيم قَدِم؟»
وأصلح تليماك من شأنه وقال: «أيها السيد يوريماخوس، إن يقيني أن أبي قد انتهى، ولن تُغرِيَني هذه الكلماتُ المعسولة التي يتشدَّق بها المنجِّمون. أما هذا الضيف … هو من أصدقاء أبي طبعًا، وقد أقبل لمجرد الضيافة، وهو الأمير منتش أمير البحَّارين، وسيد تافوس، وابن سيد هذا الزمان، الملك الشجاع إنخيالوس.»
قالها تليماك وهو أعرف الناس بضيفه، ثم انثنى كلٌّ إلى مخيَّمه، وانثنى تليماك إلى مخدعه بالطابق العلوي، حيث كانت مُربيته يوريكليا تنتظره وتوقد له الشموع والسُّرُج، يا لها من أنثى طيبةٍ تُخْلِص لمولاها وتحنو عليه! لَسرعان ما خلع ملابسه فعطَّرَتها وحفظتها، ولسرعان ما هيأَت له فِراشه الوثير!
وقضى تليماك ليلة نابغية ممتلئة بالهواجس والأفكار.