تمام قصة أوديسيوس
-
(١)
السيرينات المغنيات.
-
(٢)
سكيللا الهولة.
«والآن» وقد احتملنا العباب ذو الثبج، وذرعنا اليم المترامي، وعتمنا نضرب
في موج كالجبال، فقد وصلنا بعد لأْيٍ إلى جزيرة أيايا المرجانية حيث ترتع أورورا ابنة
الفجر
الودية وتلعب، وحيث مطلعُ الشمس وراء البحر المضطرب، وألقينا مراسيَنا، وتلبَّثنا فوق
رمال
الشاطئ نرقب انبلاج الفجر، حتى إذا لاحت تباشيره أرسلتُ طائفة من رجالي إلى قصر سيرس
فأحضروا جثمان ألينور «الذي خرج من السطح فدقَّ عنقه»، ثم إننا بكيناه أحرَّ البكاء،
وجمعنا
له من الحطب والخشب ما وسعنا، وطرحناه وسط الكومة التي صنعناها من هذا الوقود، وطرحنا
معه
سلاحه، وأقمنا إلى جانبه مجدافه العظيم، ثم أدينا له الشعائر الجنائزية التي أرويناها
بأذًى
دموعنا، وأشعلنا النيران بعد أن أقمنا نصبًا جليلًا تحية وذكرى ولم تعلم بعودتنا سيرس،
بيد
أنها مع ذاك أقبلت في ربرب من وصيفاتها الحسان الأتراب يتهادَين نحونا، حاملات دِنانًا
من
أكرم الخمر، ووقفت بيننا العروس الهيفاء ثم قالت: «ويحكم أيها الأشقياء، كيف حلا لكم
أن
تموتوا مرتَين بينما يموت جميع الناس مرة واحدة؟ ولكن تعالوا هلموا إلى طعامكم، وتحسَّوْا
من هذه الخمر لتقضوا يومكم فوق رمال الشاطئ في شراب وآكال؛ فإنكم ضاربون في ظلمات ذاك
البحر
فجرَ غد، وإني منبئتكم عما يروعكم في طريقكم عسى ألا تضلَّ بكم، ويا ما أكثر ما تتجشَّمون
من أهوال في البر والبحر!» ولبَّينا دعوة الربة المضياف، فأقبلنا على طعام شَهي وشراب
رَويٍّ طيلة يومنا، حتى إذا توارت ذكاء بالحجاب، وشملنا ظلام الليل، تطرح رجالي فوق الرمال
النائمة، ثم انتحيت أنا وسيرس ناحية، وجلست قبالتها وراحت هي تُحدِّثني وتقول: «أما وقد
أوشكَت متاعبك أن تنتهي فأصغ إليَّ، افقَهْ إلى ما أقوله لك وتدبَّره؛ فهو يُوحى إليك
من
السماء ينفعك إذا جدَّ بك الجِد، وأزفت حولك الآزفة؛ ستصل أول ما تصل في رحلتك عبر هذا
البحر إلى جزيرة السيرينات الشاديات اللائي يسحرن بغنائهنَّ القلوب، ويخلبن بجرسهنَّ
الألباب، ويَطَّبِين
١ كلَّ من أوصله سوء حظه إلى جزيرتهنَّ بحلو تطريبهن وجميل شدوهن حتى ليُلصَق
بأرضهنَّ وينسى آله وأوطانه، ولا يخطر في باله أن يعود إلى بلاده ليهنأ بلقاء زوجه الحبيبة
وأولاده الأعزاء، بل يجمد مكانه من الشاطئ حيث يكون بمسمع من السيرينات، وتكون عن يمينه
وعن
شماله رفات الضحايا الكثيرين الذين عرَّجوا من قبل ليُشنِّفوا آذانهم بغناء أولئك العذارى
فجمدوا مثله، وذُهِلوا عن أنفسهم حتى ذوَوْا وذبلوا وضووا وحاق بهم الفناء، بينما تخطر
السيرينات بين شجر البرواق متهاديات فوق السندس الحلو الجميل، فأوصيك أن تُفرغ في آذان
رجالك من سائل الشمع قبيل أن تبلغ أرضهنَّ، فإنهم بذلك لا يسمعون شدوهنَّ ولا يُسْحَرون
بغنائهن، أما أنت فلك أن تُنصت إلى ذاك الغناء إن شئت، بيد أنه ينبغي أن يشد رجالك وثاقك
في
قلع سفينتك شدًّا قويًّا محكمًا، فيربطوا ذراعَيك وساقَيك بأمراسٍ وأحبال، حتى لا يَسْبيك
ما يُشنِّف أذنَيك من غناء وشدو فلا ترضى إلا أن تَثْوي بأرض السيرينات، فإذا اشتدَّ
بك
الوجد من سحر ما تسمع، وطلبتَ إلى رجالك أن يُخلُّوا عنك لزم أن يزيدوا في رباطك ويُحكِموا
وثاقك أضعافَ ما فعلوا بك من قبل، فإذا جزتم تلك الجزيرةَ وغابت مناظرها عن أبصاركم،
فلرجالك أن يُطلِقوا سراحك؛ على أنني لا أدري أي السبل ينبغي أن تسلكوا بعد هذا؛ فهناك
طريقان أحلاهما مر، وأيسرهما عناء وضر، وإني واصفةٌ لك كلَيهما، وأدَعُ لذكائك أن يختار
لك؛
إنكم بالغون في سبيلكم إلى صخور هائلة ناتئة في البحر، تتكسَّر فوقها أواذيه، وترتطم
بجلاميدها أمواجه، وتُدافعه على أحيادها أمفتريت «زوجة نبتيون» الجبار، وقد أطلق الآلهة
على
هذه الصخور اسم «أبراتيك» وهي قلال موحشة لا يستطيع مخلوق أن يقترب منها، ولا يجسر الطير
أن
يهبط فيها، بل طير أبينا جوف نفسه الذي يحمل إليه غذاءه الإلهي المقدس لم يُجازِف مرة
فحطَّ
فيها يستجم من سفر؛ لما يعلم من أنها مهلكة زلقة، ولم ترسُ عندها سفينة قط إلا ارتطمت
فوق
نتوئها وهوت إلى القاع بما حملت، أو ابتلعتها العواصف الهوج فغابت حيث لا يدري أحد ولا
يعرف
أحد سفينة جازت مهالك هذه الصخور إلا السفينة «آرجو» التي حاطتها جونو
٢ برعايتها؛ رحمةً بجاسون وحنانًا من لدن سيدة الأولمب، حين أقلعت من جزيرة
إيايا، وقوام تلك الصخور هضبتان شامختان شاهقتان، تُمثِّل إحداهما صنمًا هولة ضخمًا يضرب
في
السماء بروقية وتتراكم فوقه منذ الأزل ثقال السحاب التي لا يُذيبها خريف ولا صيف؛ لأن
الشمس
لم تنشر عليها أشعتها قط، ولو أن أحدًا من العالمين له عشرون يدًا وعشرون رِجلًا ما استطاع
أن يرقى عليها أبدًا؛ لأنها ملساء ناعمة كأنما صقلَتها يدا مثَّالٍ صَنَاع، وإن في سنده
الغربي لكهفًا سحيقًا نُقِر ثمة باسم «أربوس»،
٣ وإني لأُحذرك أن تقترب منه حين تجوز به يا أوديسيوس، بل كن بنَجْوة منه بعيدًا
بقدر ما تستطيع، أو على الأقل على مرمى سهم مراش من سفينتك إلى وصيده؛ ذاك لأنه مأوى
سكيللا
المخيفة التي تُدوِّي بصوتها وعوائها، ويفرق الناس والآلهة من وجهها المكلثم القبيح،
وحسبك
أن تعلم أن لها اثنتَي عشْرةَ قدمًا كلها أمامية، وأن لها ستةَ أعناق طوال ينتهي كلٌّ
منها
برأس كبير فظيع، سُلِّح بثلاثة صفوف من أنياب حداد أصلها ثابت وحشوها سم زعاف، وهي تربض
في
غور كهفها السحيق، بينما رءوسها بارزة من فوَّهة الكهف تبحث في الماء عن الدلافن وكلاب
البحر ودواب الماء وجميع حيوان مملكة أمفتريت، وليس يجسر بحَّار أن يفخر بأنه نجا مرة
من
شرها؛ فهي تنقضُّ كالصاعقة على السفينة العابرة، وتلتقم بأفواهها الستة الجائعة ستة من
بحَّارتها مرة واحدة تقضمهم قضمًا، وتلقاء هذه الهضبة هضبة أخرى على مرمى سهم أوديسيوس،
وقد
نَمَتْ فوقها تينة برية كبيرة ذات أفنان وعساليج حانيات فوق الماء، وتحتها عين خاربديس
الحمئة التي يغتص فيها ماء البحر كله، ثم تعود فتمجه ثلاث مرات في اليوم، ويك أوديسيوس
خذوا
حذركم، فوالله إنكم إن دنوتم منها فإنها تبتلعكم، ولا يستطيع نبتيون نفسه بعد ذلك أن
يُنجيكم، وإني أرى أن تدنو من الصخرة الأولى فتلتقم سكيللا ستة منكم؛ فهو خير لكم من
أن
تغرقوا جميعًا.» وسكتت سيرس، وقلت أُسائلها: «بحق الآلهة عليك يا ربَّة أن تخبري، أما
أستطيع أن أُنقذ رجالي المساكين من سكيللا إذا نجونا من خاربديس؟» فقالت تُجيبني: «أيها
التعس، أما تفتأ تحنُّ إلى مجازفات الحرب وخوض غمار الوغي؟ إنه لا سلطان للآلهة نفسها
على
سكيللا، وهي ليست مخلوقًا مما يجوز عليه الفناء، بل هي غول سرمدي شديد المراس، شكس شديد
الشراسة، لا يُغالِب أحدًا إلا غلَبه، فأطْلِق سفينتك للريح، ولُذْ منها بالفرار، وإياك
أن
تفكر في التسلح لها، فهي لا بد ملتقِمة ستةً من رجالكم، وإذا حاولت مدافعتها فإنك منهم،
فإذا بعدت فاضرع إلى كرافيس، أم هذه الهولة التي هي إلى الأبد طاعونٌ للبشر، أن تردَّ
كيد
ابنتها عنكم فلا تتبعكم في سبيلكم ولا تلتقم منكم أكثر مما فعلت، وإنكم بالغون «تريناشيا»
بعد هذا حيث ترعى الربتان الحسناوان، لمبتيا وفيتوزا ابنتا هيريون من عروس الماء نيرا،
قطعان أبيها السبعة التي يشمل كلٌّ منها خمسين شاةً ذوات صوف ناصع كالثلج، وكل هذه الشاء
ترعى ثمة باسم رب الشمس العظيم، فإذا كنتم حقًّا تتشوَّفون لبلادكم، وتتحرَّقون شوقًا
إليها
فاحذروا أن تُصيبوا تلك القطعان بسوء، فإنكم إن فعلتم غرقت بكم سفينتكم وذهب رجالك أباديد،
أما أنت فتنجو بعد لأْيٍ وبعد نضال وأهوال، فتصل إلى بلادك مَلومًا محسورًا.»
وتنفَّس الصبح الندى الرخيَّ فذهبت تتبختر وتجرر أذيالها إلى قصرها المنيف، وذهبتُ
أنا
إلى الشاطئ فأيقظت رجالي، وأمرتهم فجرُّوا السفينة حتى استوت في الماء ورفعت مراسيها،
ثم
جلس كلٌّ إلى مقعده، وأعملوا أيديَهم في مجاديفهم فتدافعت الفلك في البحر، وما هي إلا
لحظة
حتى أرسلت سيرس — الربة المقدسة — نسيمًا رُخاءً كان خير رفيق لنا، إذ كفانا عناء التجديف،
فتطرحنا في المركب، واشتدت الريح في غير عصف فأسرعت بنا دراكًا، ثم كلمت رجالي وفي قلبي
وجيب فقلت: «أيها الأصدقاء، تعالوا أُحدِّثكم عما تنبَّأَت به سيرس لنا في رحلتنا هذه،
فإنه
سيَّان إن أفلتنا من العذاب أو تردَّينا فيه، بل أردت أن أُطلِعكم على ما خبَّأته المقادير
لنا؛ لتأخذوا حِذْركم وتُبرِموا أمركم، ويكون كلٌّ على نفسه وكيلًا، لقد حذرتني أن يستمع
أحدكم إلى غناء السيرينات الشاديات وحلو تطريبهنَّ، وأجازت لي وحدي أن أُصغي إليهنَّ،
بيد
أنها أوصتني أن أُخبركم أن تشدُّوا وثاقي بأمتن الأمراس في سارية السفينة فلا تُطلقوا
سراحي
حتى نبعد عن جزيرتهنَّ، وكلما رجوتكم أن تُخلُّوا عني شددتم وثاقي أكثر فأكثر، هذا إن
أردتم
أن نكون بنجوة من الهلك في تلك الأرض الملعونة.» وهكذا نبَّهت غافلهم بتحذيري، ثم إننا
انطلقنا في اليم، وأخذنا نقترب من جزيرة السيرينات، وعرَفتُ ذلك لما هدأت الريح فجأة
ونام
الموج وخفتت أنفاس الطبيعة، وشمل الركود كل شيء حولنا، كأنما مسحت يد مقدسة علوية كل
هذا
الوجود الرحب، ونشط الملاحون إلى مجاديفهم، فالتمع تحتها بساط الماء، ثم نشطت أنا إلى
قدر
من الشمع فعالجته بسكين، ثم قوَّمته براحتي، وتركته كي يلين قليلًا في أشعة الشمس، ثم
جعلت
منه في آذان رجالي واحدًا فواحدًا، واستسلمت لهم بعد هذا فشدُّوا وثاقي في شراع السفينة
شدًّا محكمًا، وجلس كلٌّ إلى مجدافه، وانسربت الفلك في الماء تشقُّه وتُجرجر فيه … وصرنا
على مدى ما بلغ الصوت من الجزيرة إلى آذاننا فأصغيت وأصغيت، وإذا السيرينات الشاديات
يتغنَّين هكذا:
أوديسيوس أيها الزعيم، يا مَنْ لهج بذكره كل لسان،
ألق في جزيرتنا مَراسيَك يا فخر اليونان،
تلبث عندنا أيها العزيز وشنِّف أذنَيك بأغانينا؛
فما من أحد جاز بجزيرتنا حتى عرَّج يتزوَّد من هذا الغناء،
ثم يُقلِع أسعدَ ما يكون وأفطن ما يكون،
ذلك ونحن نعلم من أنباء ما أصابك كل شيء،
ما خضت من معمعان طروادة، وما أصابتك الآلهة من مصيبة، وما لقي قومك في كل
مكان،
تعال تعال، هلمَّ نُحدِّثك؛ فعندنا علم كل شيء.
وهكذا شرع العذارى يسكبن إرنانهنَّ الجميل في قلبي، وكأنما كنَّ ينفثن فيه
السحر فيُصغي ويُصغي وتُلح عليه الرغبة في الإصغاء، ورحت أن أضرع إلى قومي أن يفكُّوا
قيودي
ويُطلِقوا سراحي ويُخلُّوا بيني وبين السيرينات المطربات، فلم يسمعوا لإشاراتي ولم يستجيبوا
لتوسلاتي، بل هبَّ يوريلاخوس وبرميديس فضاعفا أغلالي وشدَّا عليَّ حبالي، ثم بعدنا، وظللنا
نبعد ونبعد حتى إذا كنا حيث لا يصل إلينا من شدو السيرينات شيء؛ نهض رجالي فأزالوا ما
كنت
قد جعلته في آذانهم من الشمع، ثم عمدوا إليَّ فأطلقوا سراحي، وما كادوا يفعلون حتى أبصرت
في
ظلام البعد موجًا كالجبال كأنه ظلمات بعضها فوق بعض، ودخانًا كثيفًا ينعقد في الجو، ثم
إذا
بي أسمع رعدًا قاصفًا يُصِمُّ الآذان وقد ذُهِل رجالي عن أنفسهم، وطارت المجاديف من أيديهم
فلم تُجْدِهم نفعًا، ووقفت السفينة كأنها الأرجوحة على رءوس الموج، وذهبت أنا أُشجِّعهم
رجلًا فرجلًا: «أيها الرفاق، ها نحن نلقى أولى عقباتنا، وهي ليست على كل حال أشد هولًا
من
مصيبتنا يوم حبسَنا السكلوب في كهفه السحيق، وكيف احتَلْت لفرارنا من وجهه، وسيأتي يوم
نذكر
تلك الشدة المفاجئة بمثل الغِبطة التي نذكر بها الشدائد والسوالف. هلموا إذن فاثبتوا
في
أماكنكم، واصمدوا لهذا اللجِّ المصطخب، واضربوا فيه في جَلَد وصبر؛ عسى أن يكلأكم جوف
ربكم
فينجيكم منه، وأنت أيها الرُّبان أصغِ إليَّ، إنك تقبض على ناصية الحال فتحاشَ أن تقترب
من
هذا الدخان وتلك الأمواج الثائرة، ابتعد ما استطعت عنها، وخذ سبيل هذه الصخرة؛ ذلك أدنى
ألا
تقذف بنا في حَمْأة الخطر، وظللت أنفخ فيهم روح الصبر حتى فاءوا إلى أمرهم فاستقتلوا
في
مجاهدة الأمواج استقتالًا. وتسلَّحت أنا بكل ما استطعت من عدَّة، وجعلت في يدَيَّ رُمحَين
طويلَين، ووقفت أرقب سكيللا الهولة من بُعْد، ولم أجسر أن أذكر كلمة عنها لرفاقي حتى
لا
تفرغ أفئدتهم فَرَقًا فيهربوا من عملهم ويكتظُّوا في بطن السفينة مخافة أن يمسَّهم منها
أذًى. وشرَعنا نعبر البوغاز، ولشدَّ ما أفزعني أن أرى سكيللا ترمقنا وتتلمَّظ، وقد انتصبت
كالموت على الشاطئ القريب، ثم أرى في الوقت نفسه خاربديس على الشاطئ الآخر تُحشرِج في
حلقها
الرحْب الفظيع عُبابَ الماء ثم تمجُّه، فكأنما تقذف من جوفها ماءً فائرًا يعلو في الجو
كالحميم، ثم ينهمر وبلُه في كل فج، وتعود فيفيض في البحر من بلعومها ثم تقذفه، وهكذا
دواليك
… يا للروع ويا للفزع الأكبر! تالله لقد كنا ننظر ما تُبدئ خاربديس وما تُعيد في جزع
وفي
هلع، بينما كانت سكيللا تتوثب وتتوثَّب ثم تُرسل رءوسها الستة فتلتقم ستة من رجالنا كانوا
وا أسفاه أشجعَهم جميعًا، وكان قلبي يتمزَّق حين راحوا يهتفون بي ويُنادونني باسمي وأنا
كالذي أُسْقِط في يدَيه ما أستطيع شيئًا فأصنعه، بل أنظر إلى أذرعهم وأرجلهم تتقلَّب
في
الهواء وهم يصيحون ويعولون، وأنا ساكن ذاهل أُقلِّب كفي ولا أفعل شيئًا آخر، وا حزناه!
ما
كان أشبه سكيللا المتوحِّشة بصائد السمك الذي أطعم سناره، وأرسلها من فوق صخرة تُداعب
السمكة المسكينة، حتى إذا حان الحين جذبها إلى علٍ تترنَّح هنا وهناك، هكذا كانت هذه
اللعينة التي جذبت إلى كهفها أشجع رجالنا وراحت تقتات بهم بين الصراخ والبكاء وبين التوجع
والأنين، وكلهم يمد إليَّ ذراعَيه مستنجدًا مستغيثًا في قنوط ويأس، أبدًا ما وقعت عيناي
في
جميع مخاطراتي على منظرٍ أبعثَ للأسى وأمضَّ للنفس وأجرحَ للفؤاد من ذلك المنظر
الرهيب.
وما كدنا نُفلت من سكيللا وخاربديس بعد تلك الفاجعة حتى اقتربنا من أرض الشمس، حيث
ترعى
قطعان هيبريون
٤ الجميلة الكثيرة ذات الفراء الناصعة، ولقد كنت أسمع ثُغاءها ورُغاءها؛ إذ أنا
على ظهر سفينتي في عُرض البحر، وسرعان ما ذكرتُ ما قاله لي الكاهن الطيبي الأعمى، تيرزياس
في هيدز، عن هذه القطعان، ثم ما أنذرَتني به سيرس سيدة أيايا من وجوب الابتعاد عن هذه
الجزيرة التي كانت منذ الأبد غوايةَ البشر، حتى قمت في رجالي فجعلت أحذرهم وأقول: «أيها
الرفاق، اسمعوا؛ هذه هي جزيرة الشمس الهائلة التي حذرنا تيرزياس الكاهن الطيبي من الرسوِّ
بها أو الاقتراب منها، وكذلك حذَّرَتني منها سيرس ربة أيايا، فإن كان ما لقينا من أهوال
ليس
شيئًا من الهول الذي يحيق بنا إذا حلَلْنا بها، فاسمعوا نُصحي، وسيروا بنا نذرع هذا البحر؛
نَسْلَم من شرٍّ مستطير، وبلاءٍ لا يُجيرنا منه مُجير.» وكانوا يُصغون إليَّ في حيرة
وذهول،
وما كدت أفرغ حتى انتصب يوريلاخوس يرد عليَّ في جفوة وضيق: «أوديسيوس، أيها القاسي الطاغية،
أما أوهنَت كلُّ تلك الشدائد جلَدَك؟ أمخلوق أنت من حديد فما ترقُّ وما تلين؟ أتأبى على
رجالك الموهوبين المكدودين أن يُرسلوا بهذه الجزيرة الفيحاء المعشبة ليربعوا مما بها
من
آلاء، وليطعموا من خيرها الكثير؟ أتصرِفُنا عنها بنزقك وقلة بصرك لنخبط طول الليل في
هذا
البحر الأُجاج خبطَ عشواء، مع ما تكون الريح عليه حينئذٍ من شدة وعنف؟ خبِّرنا أيها الأحمق،
ماذا نصنع إذا عصفت بنا نكباء من الجنوب تحطم فُلكنا ولا يُنجينا من بطشها أحد حتى الآلهة؟
أليس الأفضل لنا أن نرسوَ في هذه الجزيرة فنقضي بها ليلنا، حتى إذا انفلق الإصباح أقلعنا
منها على هدًى؟»
وحبَّذ الملاحون ما قال، فدار في خَلدي أن لا بدَّ مما ليس منه بد، وأن لا بد من وقوع
القارعة الكبرى، فقلت في كلمات يائسات: «لا ضير يا يوريلاخوس! وليس بي من بأس أن أخضع
لما
ترى الجماعة، ولكن تعالوا جميعًا فأعطوني موثقكم ألا تذبحوا شاةً ولا تجزروا نَعمة مما
هنا
من هذه القطعان مهما ألحَّ عليكم السغَب، وأضواكم الجوع، بل يكون حسبُكم ما حملتم من
آكالٍ
من عند سيرس.»
وأقسموا أغلظَ الأقسام أن يفعلوا، ثم يمَّموا بالفلك في جون هادئ ترتفع في وسطه نافورة
رائعة، فأرسَوا ثَمَّ وتدفقوا الشاطئ وراحوا يُعِدون وجبة المساء، بيد أنهم سرعان ما
نسُوا
مسغَبَتهم حين تذكروا إخوانهم الذين غالتهم سكيللا، وراحت تتغذَّى بهم أمام كهفها السحيق
فأخذوا يبكونهم ويذرفون عليهم دموعهم حتى غلبهم النعاس فناموا، وفي الهزيع الثالث من
الليل
— حين عبَرَت النجوم فكانت في كبد السماء — ساق جوف رب السحاب الثقال ريحًا جابَت البر
والبحر، وغمرتها بماء منهمر، ثم عقد في الكون ظلماتٍ فوق ظلمات يتدجَّى بعضها في بعض،
ثم
أشرقت أورورا الوردية، فنهضنا من مراقدنا، وسحبنا الفلك إلى غار كان لبعض عرائس البحر
يرقصن
به أو يسترحن فيه، وما كاد شملنا يجتمع ثَمة حتى نهضت في رجالي أقول: «أيها الرفاق إننا
ما
ينقصنا غِذاء، وما بنا من حاجة إلى أكل؛ فمعنا من ذلك الشيء الكثير، فإياكم أن تمسُّوا
هذه
القطعان بأذًى، وحسبكم أن تعلموا أنها ملك خالص لربة الشمس التي تراكم أينما كنتم.» وهكذا
أيقظت في نفوسهم النخوة، ثم إنَّا لبثنا في هذه الجزيرة شهرًا ما نريم عنها، وما كان
لنا
إلى غيرها متحوَّل؛ ذلك لأن الدَّبور
٥ ظلَّت تهبُّ من الجنوب في صرامة وشدة، فإن هدأت لم تهدأ إلا لتهبَّ ريح شرقية
أشد منها عنفًا، لم يمسوا قطعان الجزيرة السائمة بأذًى ما دام لم ينفذ ما كان معهم من
طعام،
فلما تناقصت ميرتهم راحوا يتلمَّسون صيد البر والبحر، أما أنا فكنت أجوس خلال الجزيرة
عسى
أن ألقى إلهًا أضرع إليه فيجعل لنا من أمرنا مخرجًا، وبينما أنا أجوب الجزيرة إذا بي
أبعد
كثيرًا عن رفاقي، فبدا لي أن أسكن إلى منعطف دافئ هادئ على سِيف البحر، فأغسل
٦ يدَيَّ مما علق بهما من قذر، ثم جلست أُصلِّي للآلهة، وأدعو واحدًا بعد واحدًا
أن تُهيِّئ لنا من شدتنا مرفقًا، ولكنها جميعًا — وا أسفاه — أصمَّت آذانها عن دعائي،
ثم
أرسلت عليَّ طائفًا من الكرى، فنمتُ نومًا عميقًا، بينما كان يوريلاخوس التعس يُوسوِس
إلى
رفاقه فيقول: «أيها الأخلَّاء، أنا أخوكم في البلاء فاسمعوا وعوا، ليس أشنع من الموت
إلى
النفس، ولكن الموت جوعًا هو أشنع أنواع المنايا التي يرتجف منها الإنسان، هلموا لنذبح
من
هذه الشاء والنعَم، ولنُضحِّ للآلهة أضخم ثيران الشمس، ولننذر أن نبنيَ للرب المبارك
هيبريون هيكلًا عظيمًا حالما نصل سالمين إلى إيثاكا، ولننذر أيضًا أن نجعل في الهيكل
من
الطُّرَف والتُّحَف ما يُرضي الإله ويُكفِّر عن سيئاتنا. أما إذا آثر أن يُغرِق فُلكنا،
وتضافرت معه جميع الآلهة على ذلك؛ لأننا ألحقنا أذًى بعدد من قطعانه، فإني أول مَنْ يُجاهر
بقَبول الموت مرة واحدة في أعماق هذا اليمِّ على أن أموت هذا الموت البطيء جوعًا.» وزيَّن
لهم ما قال، فاستاقوا أسمنَ ما في القطعان التي كانت ترعى العُشب قريبًا منهم، ثم أطعموها
أنضر أوراق الشجيرات الباسقة إذ فرغ كل ما لديهم من الشعير، ثم صلَّوا للآلهة، وجزَروا
الحيوانات البائسة ثم سلخوها، وفصلوا الأفخاذ والشحم، وقذفوا بها إلى النار تقدمةً للآلهة
وقُربانًا، ولم يكن معهم خمر ليُتموا بها الشعائر القدسية، فقذفوا في النار بدلًا منها
ماءً
قُراحًا، وجلسوا بعد هذا يُعِدُّون شواءهم من الحوايا
٧ والكبد وما إلى ذلك مما في جوف البهيم، حتى إذا طَعِموا مِلء بطونهم انطرَحوا
في مراقدهم، بينما استيقظتُ فجأة من سُباتي، ونهضتُ لأنطلق في طريقي صوبهم، وما كدتُّ
أُشرِف عليهم حتى ملأ خياشيمي قتارُ
٨ ما فعلوا؛ فوُجِمتُ وجومًا شديدًا، ثم أجهشت، ثم استخرطت في بكاء طويل، وضرعت
إلى الآلهة وظللت أقول: «أهكذا يا أرباب السماء، تُلْقون عليَّ ذلك الطائف من الكرى،
فيفعل
أصحابي ما فعلوا إذ أنا أغطُّ في نوم عميق؟» وطارت لمبتيا بالخبر المشئوم إلى إله الشمس
ثار
ثائره، وطفق يصخب ويهتف بالآلهة ويقول: «يا جوف العلي» وأنتِ يا آلهة السموات اثأري لما
فعل
السفهاء من رجال أوديسيوس، لقد اجترءوا فجزروا من نَعَمي وشائي التي هي بهجتي وأُنْسِي،
والتي أرمقها أبدًا من علياء السماء، فإن لم تنتقم لي فوعزَّتي لا أهبطن بشمسي إلى هيدز
فأُنير آفاقها وأُضْفِي أضوائي على الأشباح ثمة، «وأدَع هذا العالم المشرق الجميل يضرب
في
دياجيرَ ما مثلُها دياجير.» وأجابه رب السحاب الثقال فقال: «يا إله الشمس، على هينتك،
بل ظل
مشرقًا على بني الموتى الدائبين في تلك الأرض، وإني مُسخِّر صواعقي على سفينتهم في لمح
البصر فتذهب بها وبهم أباديد.» أمَّا مَنْ أخبرني هذا فقد حدث به هرمز رسول الآلهة، ثم
وقفت
فيهم أنتهرهم وأنعي عليهم، ولكن، وا أسفاه أي انتهار وأي نعي وقد سبق السيفُ العذَل؟
ثم
حدثت المعجزة وبدأت السماء تشهد آياتها فقد تحركت الجلود الملقاة على الأرض وزحفت نحونا،
ثم
سمعنا مضغ اللحم الغريض سواء ما ظل منها دون أن يُمَس وما علق منها بالسفافيد، وقد أرسلت
ثناءً وخُوارًا كأنها لا تزال على قيد الحياة، وهكذا ظل رفاقي يجزرون كل ثور حنيذ من
ماشية
إله الشمس ويغتدون بحواياها طوال ستة أيام، حتى إذا كان السابع أمر جوف العاصفة فهدأت
والبحر فتطامن، فأُهرِعنا إلى الفُلك فأنزلناها في اليم ونشرنا الشراع، وأقلعنا حيث لا
ندري
ماذا يُراد بنا؟ ثم غابت الأرض عن الأنظار، ولم يكن إلا البحر من ورائنا وأمامنا وعن
شمائلنا وأيماننا، ثم السماء من فوقنا، ثم شرع زفيروس
٩ يهبُّ ويهب، ويُقلِّب اللُّج من حولنا، ثم اشتدَّ واشتد، وصار ريحًا عاصفًا
هوجاء كسرت قلاعنا وحطَّمت سكاننا، وذهبت بقلب الرُّبان المسكين فلم يَعُد له صبر ولا
جَلَد، ثم سلط علينا جوف صواعقه فقصمَنا، وحطَّم سفينتنا فترنَّحَت أول الأمر، ثم غاصت
إلى
الأعماق، وطفَونا على سطح البحر الغاضب بلا أدنى أمل في أي شيء، بلْهَ العودة إلى بلادنا،
ولقد كنت أرقب حطام الفُلك يطفو معنا ويغوص، حتى عنَّ لي أن أعلق بالهراب القريب مني،
فطويت
عليه قطعة من الشراع الممزَّق، وجعلته لي ثمامًا لصقت به، بينما نامت الشمال لسوء حظي،
وأخذت الجنوب تهبُّ في عنفوان وبأس.
وتدفعني بقسوة وقوة حتى خُيِّل إليَّ أنها ستنتهي
بي إلى عين خاربديس الحمئة، يا للهول! لقد مضى عليَّ ليلٌ أيَّما ليل، حتى إذا أشرقت
ذكاء،
رأيتني ويا للأسف عند صخرة سكيللا، وعلى مسافة من عين خاربديس، ولحسن حظي كانت اللعينة
قد
ابتلعت كل مياه الشاطئ، ثم دفعتني موجة من الأعماق، فاستطعت أن أعلق بأحد أغصان التينة
الهائلة النامية فوق صخرتها، فبقيتُ لاصقًا به كالخفاش لا يُمكِنني أن أهبط أو أن أتسلَّق؛
لعِظَم ما كانت الأغصان تبتعد من الأرض وتمتد من حولي؛ ولأنها كانت تُعرِّش من فوق خاربديس،
حتى كنت أرتعد من فزع وهلع عندما كنت أُبصِر تحتي فأرى العين الحمئة الملعونة تبتلع الموجة
إثر الموجة، ثم رأيت الهراب وقطعة الشراع التي كنت عالقًا بهما ينقذفان نحوها ويكونان
تحتي،
فطربت، ولو أن هذا جاء متأخرًا حتى رِيعَ قلبي ووهنت قواي، وغمرني شعور الذي انفرجت أزمته،
وكُشِفت عنه غُمَّته، فهويت إلى الماء، وتعلَّقت بهما بقبضتَين مُستميتَين، ويلاه! أواه
لو
لمحَتني سكيللا الهائلة طافيًا هنالك إذن ما استطاع إنقاذي ربُّ الأرباب نفسه من مخالبها
وأنيابها، ثم بقيت هكذا تسعة أيام بلياليها يصرعني البحر وأصرعه ويُناضلني الموج وأُناضِله،
حتى رثت الآلهة لحالي فساقتني في العاشر إلى أوجيجيا، جزيرة عروس الماء كليبسو، فرسوت
ثمة
في ليلة ليلاء، مظلمة طخياء، وقد نالني من كرم العروس وجميل معروفها ما رد إليَّ قواي،
وأثابني عما لقيت من شِقْوة وأرزاء.
ولكن لِمَ هذا؟ لقد سمعتم قصتي مع كليبسو من قبل؛ إذ رويتها للملك ولزوجه أمس، وإني
لأكره
الحديث المُعَاد.»