أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
وفرَغ أوديسيوس من حديثه، وجلس القوم في الردهة ذات الظلل مسبوهين مشدوهين من روعة
ما
حدَّث ومن غريب ما روى، حتى تكلم الملك فقال: «أوديسيوس، يا أيها العزيز، صَفَا بالك
وطاب
حالك واستذريت من ذرى هذه القبَّة الشمَّاء بركن ركين، فلن ينالَك أذًى بعد اليوم، ولن
تقدر
عليك الرياح الهوج في رحلتك الآمنة إلى بلادك، وإن يكن مثلك لا يُبالي الحدثان، ولا يأبه
لصروف الزمان بعد إذ رضع لُبانها، وتقلَّب طويلًا في أحضانها، وإنه والله ليس أحبَّ إلينا
من أن تُقيم آخرَ الدهر عندنا فتتحسَّى معنا من أكرم هذه الخمر، وتُشنِّف أذنَيك بما
يتغنَّى مطربنا الحبيب الإلهي، وإلا فذاك صندوقك العزيز وفيه أذخار الهدايا وأعز اللُّهى؛
من مطارف الديباج، ومكنون الذهب الوهاج، ولكن على رِسْلك، هلمُّوا يا معاشر الفياشيين
فليُحضر كلٌّ منكم للنازح الكريم طرفة من أبرِّ الطُّرَف، وتحفة من أجلِّ التُّحَف، ولتكن
ركيزة من الذهب وأصيصًا صغيرًا للزهر، وليُسهِم الشعب في هذا؛ ذلك أدنى ألا تُطيقوا ثمنها.»
١
وصادفت مقالةُ الملك هوًى في قلوب السادة زعماء الفياشيين، ثم نهضوا فتفرَّقوا إلى
منازلهم يلتمسون الراحة وينعمون بطيب المنام، ونضَّرَت أورورا ابنة الفجر جبين المشرق
بأفواف الورد، فهبَّ الزعماء العظام من مراقدهم، وبادروا إلى السفينة بهداياهم التي وصف
الملك، وقد كان ألكينوس نفسه ينتظرهم ثمة، وكان يتناول كل هدية بيدَيه فيضعها موضعَها
الأمين تحت مقاعد المجدفين حتى تكون بنجوة من ضرر يُصيبها أو أذًى يلحق بها، حين يكون
الملاحون مشغولين فيما هم بسبيله من عمل البحر ومُصارعة الموج، حتى إذا أسلموا تذكاراتهم
عادوا مع الملك إلى قصره المنيف لوليمة الوداع الفاخرة، وقد قرَّب إلى جوف الكبير المتعال،
رب الأرباب ورب السحاب الثقال، بثور جسد عظيم، وأعدَّ من فخذَيه شواءً شهيًّا أقبل عليه
القوم يأكلون ويروغون،
٢ بينما يسكب في آذانهم غناء ديمودوكوس مطربهم الحذق الحبيب، وكان أوديسيوس يرنو
بطَرْفه المشتاق إلى الشمس يود من أعماقه لو عَجِلت إلى خِدْرها، وكان يُضجِره منها
جريانُها الوئيد، فهو دائمًا يرقب مغيبها بعينَي الزارع الشقي الجوعان الذي أجهده طول
النَّصَب في حرث حقله، فعلق بصرُه بالشمس يتمنَّى لو هبطت فجأة في المغرب ليلوي أعنَّة
بهائمه إلى كوخه؛ وليتبلَّغ هناك بلُقَيمات. وما كادت تتوارى بالحجاب حتى وجَّه الخطاب
لزعماء الفياشيين في شخص الملك، فقال: «مولاي الملك الجليل ألكينوس، يا فخر شيرا وعماد
الفياشيين، تمنيت لو أديت الصلاة الخمرية يا مولاي، وتفضلت فأذنت لي في وداعكم؛ ما دمتم
قد
أعددتم لي الهدايا واللُّهى، والأبطال الصناديد من رجالكم الملاحين، وإني لأضرع إلى الآلهة
أن ترعاني في رحلتي في اليمِّ، وأن أصل إلى بلادي فأَلْقى فيها آلي وعشيرتي سالمين، كما
أسأل أرباب الأولمب أن ترعاكم وأن تقرَّ أعينكم جميعًا بذويكم، وأن تُفيء عليكم من نعمائها،
وتحفظ بلادكم من عاديات الزمان ومُلمَّات الحدثان.» وسُرَّ الجميع من مقالته فهتفوا له،
ورجَوُا الملك أن يأذن له في السفر، فالتفتَ ألكينوس إلى مشيره وقال: «هلم يا بنتون فأدهق
الزقَّ واحمل الخمر إلى جميع أضيافنا؛ ليُريقوها خالصةً لوجه سيد الأولمب؛ كي نتأذن
لأوديسيوس بالرحيل إلى دياره.» ولبَّى المشير وأخذ كلٌّ كأسه، ولم ينتظر أوديسيوس حتى
يصل
الندمان إلى الملكة المبجَّلة الوقور، بل هبَّ مسرعًا وقدَّم إليها كأسه الهائلة، وقال:
«وداعًا يا مولاتي الملكة آخر الوداع، وداعًا إلى آخر العمر، وليكن عمرًا موفورًا مخفرجًا
تقرِّين فيه بمولاي الملك والسادة النجب أبنائك المحبوبين وشعبك.» وحيَّا وبيَّا، ثم
أُهرِع
إلى المرفأ ومشيرُ الملك يسعى بين يدَيه، وثلاث من وصيفات الملكة يتهادين في أثره؛ أما
أولاهن فكانت تحمل الثوب الديباجي الموشَّى، وأما الثانية فكانت تحمل الصندوق الثمين
ذا
الأذخار، وحملت الثالثة مَئونة حافلة من أشهى الآكال وأطيب الشراب، حتى إذا كنَّ عند
السفينة سلَّمنا ما حملنا للملَّاحين الشجعان، وانثنينا من حيث أقبلنا، واشتغل بعضُ
البحَّارة بإعداد فراش وثير في قمرة خلفية من أجل أوديسيوس، الذي آوى إلى منامته واستغرق
ثمة في سُبات لذيذ، بينما كان الملاحون دائبين في فك الحبال ورفع المرساة من صخور الشاطئ،
حتى إذا انتهوا توزَّعوا إلى مجاديفهم وأعملوا فيها أيديَهم، فهمَّت الفلك واحتواها الماء،
وأقلعت تشقُّ الأمواج، وتأخذ سبيلها في البحر سربًا … هذا بينما كان النائم البريء قد
استسلم لطائف من الكرى يُشبِه طائف المَنون، وعمرك الله هل رأيت أربعًا من صافنات الجياد
تتبارى في حلبة وقد أذَّن المؤذن فاندفعت تنهب الرحب، وأرسلت في الهواء أعرافها؟ لقد
كانت
السفينة تتواثب على أعراف الموج مثلها، والعباب الزاخر يصطخب من ورائها، واللجة من بعد
اللجَّة تجيش وتضطرب تحتها، كأنما تتحدى اليم في طُمَأنينة وثبات، أو تسابق في الجو البواشق
البُزاة، وكيف لا وقد حملت رجلًا لا كالرجال وبطلًا بَزَّ الأبطال، وحكيمًا تِرْبًا
٣ للآلهة في المكرُمات وعظيم الفعال، وقِرْنًا ليس كمثله قِرْن في يوم كريهة أو
نِزال، لم يغفُ من قبل هذه الغفوة الناعمة التي باعدت بينه وبين ما تجشَّم من آلام وأحزان
وأشجان …
وتلألأت في الأفق الشرقي نجمة الفجر الصادق حينما كانت الفلك قُبَالة الأرض الموعودة؛
إيثاكا، بعد إذ أتمَّت رحلتها الخاطفة في جنح الليل، وهناك في شاطئ المدينة أُنشِئ مرفأ
أمين باسم فورسيز رب الأعماق يدخل إليه بين حاجزَي أمواج ممتدَّين على مدى الجون الجميل
بين
ذراعَيِ الميناء، فما تستطيع ريح أن تعبث بما فيه من سفين وقد بسقت أشجار الزيتون على
الشاطئ وامتدَّت امتدادًا هائلًا إلى كهف حريز تأوي إليه طائفةٌ من عرائس البحار يُقال
لها
النياد. وثمة — أي في هذا الكهف المقدس — صُفَّت أباريقُ من حجر وجرار كثيرة، يأتي النحل
فيُودِع فيها شهده، وقامت فيه أيضًا عمد من حجر يُقال إن عرائس الماء تنسج عليها أثوابها
العجيبة، وفيها أيضًا عيون من ماء زُلال تسقي ساكنيه، ويُؤدِّي إلى الكهف طريقان عظيمان،
أُحِلَّ أحدهما للناس يضربون فيه ما يشاءون، أما الآخر فلا تطؤه إلا قدم إله كريم، ويُعرَف
بطريق الجنوب المقدس.
ويمَّم البحَّارة بفُلكهم شطْرَ الميناء ثم أرسَوْا فيه، وجنحت السفينة بنصف حيزومها
على
رماله، وحملوا أوديسيوس الزعيم دون أن يوقظوه ووسَّدوه على فراش
٤ وطَّئوه على الشاطئ، ثم حملوا كل متاعه وأذخاره فجعلوها إلى جانبه خلف زيتونة
ضخمة تحجبها عن أنظار المارَّة؛ حتى لا يعبث بها عيَّار إذ هو مستغرق في نومه العميق،
وركبوا الفلك بعد هذا وعادوا أدراجَهم إلى شيرا، وأحس نبتيون الجبار رب البحار وعدوُّ
أوديسيوس الأكبر بما فعل الفياشيون فثار ثائره، وقال يعتب على زيوس: «أيها الإله الأعظم
الأبدي، أبدًا ما أحسبني أنال نصيبي من التقديس والتبجيل بين الآلهة منذ اليوم، ما دام
شعب
فياشيا لم يأبهوا أن يحقروني أن يُبالوا بي، فقد كنت عوَّلت على ابتلاء أوديسيوس بأروع
صنوف
البلايا قبل أن تطأ قدمه أرض بلاده، ولم يكن في تصميمي أن أحول بينه وبين العودة إليها؛
لأنك كنت قد وعدت بتمهيد السبيل لهذه العودة، ولكنهم حملوه على فُلكهم غارقًا في أحلى
المنام، حملوه إلى الشاطئ الإيثاكي بما معه من العطايا والأذخار وطُرَف النحاس وتحف النضار
ومطارف الديباج، وما حمل من كنوز لم يكن يحمل شيئًا منها حتى لو عاد بنصيبه من أسلاب
طروادة! وا أسفاه وا أسفاه!» وقال يُجيبه رب السحاب الثقال: «ماذا تقول يا مزلزل الشطآن
والخلجان، يا ذا الملكوت والجبروت، يا أيها العظيم نبتيون؟! لا عليك يا أخي لا عليك،
فإنه
لن تحقرك الآلهة ولن تستخفَّ بك، فإذا استخفَّ بك ملأٌ ضعيف من بني الموتى — عبادنا البشر
—
فما يضيرك؟ أليس في يدَيك ألفُ ألفِ فرصة للبطش بهم والانتقام منهم؟ ارْبَعْ عليك يا
نبتيون
وصل ملاذك؛ فإنك لست عبدًا لأحد.» قال نبتيون: «جوف يا رب السحاب إنه ليس أحبَّ إليَّ
من أن
أبطش بهم كما أشرت، ولكني لا أخشى إلا تحديَك لي دائمًا بغير حق، وإني أرجو أن أعصف
بسفينتهم في دأمائي اللجيِّ حتى لا يحملوا ضاربًا في البر والبحر مثل أوديسيوس مرة أخرى،
وإني مقتفٍ آثارَهم الآن فضاربٌ فُلكَهم اللعين، فساحرُه في الحال إلى طود عظيم ينهض
بروقية
أمام مدينتهم ليحجبها عن كل سارب في البحر فلا يراها أحدٌ أبدًا.» فقال جوف يُجيبه: «هلمَّ
يا أخي فاصنع ما بدا لك، وافعل فعلتك التي رسمت، وليكن ذلك حينما يقتربون من مدينتهم
حتى
يرى أهل شيرا ما يحل بسفينتهم؛ لتكون لهم آية.» وانطلق مزلزل الأعماق في أثر الفياشيين
حتى
إذا كانوا قاب قوسَين من الشاطئ أرسل يده تحت فلكهم فضربها ضربة هائلة أرسلتها في الهواء
وهَوَتْ بها إلى اللُّج، ثم تركت مكانها جبلًا عاليًا أشم، ولوى عِنانه إلى أرجاء مُلكه
الرحب.
ووقف الفياشيون — ملوك البحار — على شاطئ البحر مسبوهين دهشين يسأل بعضُهم بعضًا:
مَنْ ذا
الذي أرسى هذا الجبل الهائل مكان سفينتهم تلقاء المدينة حتى لحَجبها عن أنظار السفن العابرة
في اليم؟ والتفت الملك وكان واقفًا بينهم فقال: «يا للآلهة! لقد ذكرت نبوءة قصَّها عليَّ
والدي فيما غبر من الزمان؛ فلقد ذكر لي أن شعبنا المجيد مأذون له من نبتيون أن يحمل الناس
من كل فج، مَنْ ضلَّ سبيله منهم إلى بلادهم مهما تناءت، وقد ذكر أيضًا أن سفينة من سفننا
بعد إذ ترتد من رحلة لها إلى بلد رجل غريب نازح ستغرق في اليم، ويبسق مكانها جبل عظيم
شاهق
يحجب شيرا عن البحر، وها قد تحققت النبوءة، فهلمُّوا نُقرِّب لإله البحار نبتيون باثنَيْ
عشرَ عجلًا جسدًا تكون أعظم عجولنا وأعلاها قيمة؛ عسى أن يرثيَ لنا فيكشف عنا هذه الغمة،
ولا يحول بين البحر وبين مدينتنا بهذا الطَّود الكبير الراسي.» وتفزَّع زعماء الفياشيون
وبادروا إلى عجولهم فجزروها باسم نبتيون وتكبكبوا حول مذبحة فصلَّوا له وسبَّحوا بذكره،
أما
أوديسيوس فقد هبَّ من نومه وهو لا يدري أين هو، ومع أنه كان ينام ألذَّ النوم فوق شاطئ
بلاده فإنه لم يعرفها لطول ما شطَّت به النوى؛ لأن مينرفا الكريمة — سليلة جوف العظيم
—
كانت قد ألقت حوله ظلالًا تحجبه عن أعين المارَّة؛ مخافة أن يعرفه أحد منهم قبل أن تُلقِّنه
من حكمها ما هو ضروري له في حالته هذه؛ كأنما أرادت ألا يستبينه أحد من مواطنيه ولا من
أصدقائه وذويه، حتى يبطش البطشة الكبرى بالعشاق الفساق الذين استباحوا عرضه، واستحلوا
بغير
الحق زاده وخيره، وعمروا كالشياطين دارَه؛ لذلك موَّهت مينرفا كل شيء في عينَي أوديسيوس،
فالطرق مستقيمة مستطيلة والموانئ رحبة مترامية، والجبال ذاهبة في السماء، والدوح باسق
يُطاوِل الجوزاء، وكل شيء ليس مما عهده البطل في بلاده، ووقف يُقلِّب عينَيه في المشاهد
المحدقة به، ثم تنهَّد من أعماقه، وبسط كفَّيه إلى السماء، وضرب بهما في برم على فخذَيه،
وأنشأ يقول: «وبلاده عليَّ وألف ويل! أي شعب من الشعوب يُقيم بهذه الأرض يا تُرَى؟ أأجلافٌ
ظلَمة هم؟ أم أطهار أخيار يُخبِتون للآلهة؟ ليت شعري أين أُخبِّئ هذه الكنوز والأحراز؟
وي!
بل أيان أذهب أنا؟ لعمري لقد كنت أُوثِر ألا أنال شيئًا منها من هؤلاء الفياشيين على
أن
أكون قد حلَلْت بأرض ذي نخوة وذي نجيزة من ملوك الأرض غير ألكينوس هذا، فكان يُرسلني
آمنًا
سالِمًا إلى بلادي، ماذا أصنع يا ربي؟ أأترك هذه الثروة الطائلة هنا؟ أأدعها فريسة حلالًا
لغيري من الناس، وأهيم في هذه البطحاء على وجهي؟ وا أسفاه! أهكذا يُغرَّر بي فيُلقوني
في
شاطئ غير شاطئ بلادي، وقد وعدوا أن يهبطوا بي مرفأ إيثاكا الأمين؟ اللهم يا جوف العظيم،
يا
مَنْ إليه بحار أبناء السبيل والمهاجرون والمساكين، انتقم لي يا رب الأرباب من هؤلاء
الخونة
المبطلين! ولكن يجدر بي قبل كل شيء أن أُحصِي أذخاري لأرى هل سلبني منها هؤلاء اللصوص
شيئًا؟» ثم راح يحصر كنوزه، فما وجد شيئًا منها ناقصًا أو غير موجود، وزاد ذلك في أشجانه،
فأخذ يندب حظه، ويبكي على ما لقي من زمانه، وينشج نشيجًا مؤلمًا لهذه الهجرة الظالمة
عن
أوطانه، وجعل يروح ويغدو على سِيف البحر المضطرب وحيدًا مُعَنًّى، ويُرسل دموعه وزفراته
حتى
بَدَتْ له آخرَ الأمر مينرفا في صورة راعٍ صغير غضِّ الإهاب عجيب الثياب جميل المحيَّا
كأبناء الملوك، ملتفعًا حول عنقه ومن فوق صدره بشفيف
٥ صفيق طُوِيَ حولهما طيتَين، وفي قدَمَيه نعلان متواضعتان، وفي قبضته حَرْبة
ناعمة لامعة، وكانت مفاجأةً سارَّة فُوجِئ بها أوديسيوس، فخطا خطواتٍ عاجلةً إلى الشاب
وراح
يُسائله: «مرحبًا أيها الغرانق الجميل، لقد كنت أولَ إنسي ألقاه هنا، فبحقِّ هذا عليك
أن
تحميني وتحميَ أذخاري هذه، وألا تُلحِقَ بأيِّنا أذًى، إني أتوسل إليك كما لو كنتُ أتوسَّل
إلى أحد الآلهة أن تَصدُقني فيما أسألك عنه: أية بلاد هذه؟ وأي قوم يعيشون فيها؟ أهي
جزيرة
آهلة؟ أم حدور من بلاد مترامية؟ أخبرني بأربابك أيها الفتى.»
وقالت مينرفا — ذات العينَين الزبرجديتَين — تُجيبه: «أيها الغريب اللاجئ، كم أنت
ساذَج!
كيف تُسائل عن هذه البلاد كأنك لست من أهلها؟ إنها بلاد ذاتُ ذِكر في المشارق والمغارب،
ومنها وإليها تصدر الركبان إلى كل فجٍّ، ثم هي ليست بهماء مجهولة، بل هي جنة مأهولة،
زاخرة
الخيرات موفورة البركات، ففيها أنضرُ سهول القمح، وأبهج عرائس الكروم، وأخصب المراعي
الخُضر
الحافلة بقُطعان النعَم والشاء، تُسْقَى من ماء مَعِين وأنهار وعيون، هذه يا رجل إيثاكا؛
إيثاكا المباركة التي استطالت شهرتها، واستطار ذِكرها حتى ملأ الخافِقَين وجاوز طروادة
ذات
المجد التي لا تبعد شطآنها من أخايا.»
وشاع البِشْر في نفس أوديسيوس لما سمع الراعي الجميل يُؤكد في لهجة قاطعة أن هذه البلاد
هي إيثاكا الموعودة، وهزَّ السرور أعطافه لما رأى من زهو الشاب وافتخاره بها، بيد أنه
مع
ذلك راح يتجاهل ويُبدي عدم معرفته لهذه البلاد، ويُحاول أن يخدع الفتى عن نفسه، وما يخدع
إلا نفسه هو؛ قال: «أجل، لقد سمعت عن إيثاكا في أقاصي البحار، والناس يعرفونها حتى في
كريت
التي وصلت منها اليوم بعتادي هذا، تاركًا فيها أبنائي وذوي رحمي، فارًّا بنفسي من الفعلة
الهائلة التي فعلت. يا ويح لي! لقد قتلت العدَّاء المعروف أرسيللو بن أيدومين العظيم
الذي
لم يكن يُباريه في سرعة عَدْوه أحد. لقد حدَّثته نفسه أن يسلبني ما غنمت من كنوز طروادة
وأسلابها، وما حصلت عليها إلا بعد قتال شديد، ولظى حرب، وركوب أهوال في ذلك اليم؛ وذاك
لأني
أبيتُ أن أُقاتل تحت لوائه أو لواء سيده ومولاه، بل قدتُّ فيلقًا من الجند، فظفرت وانتصرت
فكبرت عليه هذه، وحفظها لي، وأضمر في نفسه الغدر، فلما عدنا أدراجنا إلى أرض الوطن، حاول
أن
يسرقني كنوزي فأقصدته برمحي فأرديتُه، وكان معه زميل له شرير، فذبحته واستعنت عليهما
بدُجى
الليل ودُجْنتِه، ثم هربت تحت أستار الظلام بأحرازي إلى الشاطئ، حيث حملَتني سفينة فياشية
رجوتُ ملَّاحيها أن يُبحروا بي إلى شاطئ بيليا، أو إلى مرفأ إيليس، لكنهم وا أسفاه
اضطُرُّوا إلى الإرساء هنا؛ لأن ريحًا عاصفًا قسرتهم على ذلك، فوصلنا هنا برغمنا في جنح
الليل البهيم، ولقينا عناءً عظيمًا في النزول بالمرفأ الأمين، ومع شدة حاجتهم إلى الطعام
فإنهم لم يستأنوا بل تركوني وحدي، وأبحروا على عجل بعد إذ نمت على الشاطئ من الإعياء،
وبعد
إذ حملوا إليَّ هنا متاعي، وهم الآن في طريقهم إلى سيدونيا، وها أنا ذا وحدي هنا لا أعرف
أيان أذهب ولا أين أمضي؟»
وسكت أوديسيوس، ولكن الراعي الشاب الجميل أخذ يتحوَّل في فنون وسحر إلى صورة خلَّابة
أخرى، لقد أصبح امرأة حسناء هيفاء، وها هي ذي، تلك المرأة الحسناء الهيفاء، تبدو في صورة
مينرفا — ربَّة الحكمة — التي اقتربت من البطل في تبسُّم وظرف، وأخذت تعبث بلحيته الكثَّة
الشعثاء في دلال وسخرية، وراحت بدَورها تُجيبه: «مرحى أوديسيوس، مرحى مرحى! ما أحسب أن
أحدًا — أحدًا من الآلهة — يفوقك في مكرك وبراعة حيلتك
يا ابن ليرتيس، أما أن تُقلع عن مراوغاتك التي حذقتها مذ كنت يافعًا وعن توشية الأحاديث
الملفَّقة التي حذَقْتها واشتهرت بها في العالمين؟ ولكن تعال، ليدَع كلانا ما يُحاول
أن
يُزوِّق به كلامه؛ فكلانا بارع في ذلك صنَاع؛ أنت بفصاحتك، ودقة فهمك وطريق حيلتك بين
الناس، وأنا بحكمتي وقوة تدبيري بين الآلهة، وما أحسبك تجهل مينرفا ابنة جوف الأكبر،
التي
كانت رائدَك ورفيقك في كل ما حاق بك من مكروه، فقد كنت أقذف الشجاعة في قلبك في مواقف
شدتك،
كما كنت أُثير الحميَّة في أفئدة الفياشيين الذين وصلوا بك إلى هنا، وها أنا ذي طويت
إليك
فدافد الرحب لأخلوَ ساعة لك؛ ولأن لي حديثَ نُصح معك، بودِّي أن أمحضك إياه، وقبل هذا
ينبغي
أن تُخبئ كنوزك التي أسبغت عليك بمشورتي، ثم إني محدثتك عما يتحيَّفك من أرزاء، وما يُدبَّر
لك من كوارث تحت سقف بيتك، ونصيحتي أن تحتمل ما يُصيبك أول الأمر بقلب جليد وصبر ثابت
وطيد،
واحذر أن يعلم أحد — رجلًا كان أو امرأة — بوصولك إلى إيثاكا وحيدًا شريدًا لا حول لك
كما
وصلت، بل اصمت كلما حاول أحد أن يتعرَّفك، واحتمل الأذى كلما امتدَّت به يدٌ إليك.» وقال
أوديسيوس وقد أُسقِط في يده: «لله دَرُّك يا ربة! ما أبرعك في تغشية العيون وتضليل الأبصار
والتشكُّل في أي صورة شئت! بَيْدَ أنكِ برغم ذلك حليمة رحيمة كعهدي بك دائمًا، ألا كم
نصرت
أبطال أخايا المذاويد، وأظفرتهم بأعدائهم في ميدان طروادة، ولكني لن أنسى مذ أقلع أسطولنا
من مياه تلك المدينة بعد سقوطها في أيدينا أنكِ لم تظهري لنا قط، ولم تُبادري مرة إلى
إنقاذي من إحدى الرزايا التي كانت تحيق بي، والتي كنت أحتملها بقلب حديد وصبر شديد، حتى
رثت
الآلهة لحالي فجعلت لي منها مخرجًا وأنقذتني إلى برِّ فياشيا، حيث أثَرْت في صدري النخوة
وأوليتني الشجاعة، وكنت دائمًا دليلي ورائدي، ولكن اصدُقيني بأبيكِ يا ابنة جوف، هل وصلتِ
حقًّا إلى إيثاكا؟ أم أنا في صُقع سحيق عنها، وإنما أنتِ تسخرين مني وتعبثين بي؟ اصدقيني
بأبيك يا ربة، هل هذه بلادي العزيزة إيثاكا؟ هل هي حقًّا؟» وقالت ذات العينَين الزبرجديتَين
تُجيبه: «دائمًا حذر يا أوديسيوس، وإلى الأبد يملأ الوسواس صدرك برغم ما أُوتيت من حكمة
وتبيان ورجاحة فكر وسلامة جَنان، بيد أنك معذور يا صاح، إذ أي رجل يتشوَّف لرؤية زوجه
وأبنائه ولا يتحرَّق شوقًا للقياهم بعد هذا النوى الطويل والبعد الممضِّ والأهوال الجسام
الجمة؟ غير أنه أفضل لك ألا تعلم شيئًا ولا تسأل عن شيء حتى تلمس بنفسك مقدار ما تُكِنه
لك
من الحب، تلك الزوجة الوفيَّة المخلصة التي ذهب شبابها عليك حسَرات، والتي زرفت دموعها
من
أجلك آناء الليل وأطراف النهار طوال تلك السنين الباكية الحزينة الموحشة.
إني لم أتركك يا أوديسيوس كما تظن، بل كنت أعلم أنك راجع دون ما ريب إلى بلادك، وإن
فقدتَّ كل رجالك ورفاق سفرك الطويل الشاق، غير أنني أشفقت أن أُثير حنَق نبتيون — عمي
وشقيق
أبي — الذي يحزُّ الأسى في قلبه من فعلتك التي فعلت بعين ابنه السيكلوب، ولكن هلم، إني
سأقطع الشك باليقين، وسأدلك على علائمَ تُؤكِّد لك أنك في إيثاكا؛ فهذه هي ميناء فورسيز
حكيم البحار، وها هي الزيتونة الكبرى عند رأس المرفأ وعلى مقربة منها ذلك الكهف المقدس
الإلهي الذي تأوي إليه عرائس البحر المعروفة باسم النياد، وقد طالما كنت تجزر القرابين
والأضاحي باسمهنَّ عند وصيده، وهاك جبل نيربتوس وهذه غاباته الشجراء.» ثم رفعت ربَّة
الحكمة
الغِشاوة عن عينَيه، فعرَف دياره ولم يُنكِر شيئًا منها، وهكذا شاءت العناية أن يشهد
البطل
المكدود بلاده الحبيبة مرة أخرى، وهكذا خرَّ أوديسيوس جاثيًا يُقبِّل ثرى الأرض المقدَّسة،
ثم رفع يدَيه يُصلِّي لعرائس الماء كسابق دأبه: «يا عرائس البحر، يا بنات جوف الأعظم،
لقد
قنطت قبل هذا من أن أراكن، فها أنا ذا أعود إليكنَّ بألف نذر وألف تحية وسلام، من القرابين
الغوالي إذا مدَّت أختكن — مينرفا الحكيمة — في أيامي، وباركت رجولة ولدي ومعقد
أحلامي.»
وقالت ابنة جوف تُؤيِّده: «تشجَّع يا أوديسيوس، لا طائل لهذه الوساوس التي تُعذبك.
هلم!
البدارَ البدار، لنُخبئ هذه الكنوز في أغوار ذلك الكهف السحيق؛ لتكون في مأمن من عبث
عابث،
ثم هلم أُدبِّر الأمر معك.» وانطلقت الربة في ظلمات الكهف تتكشَّفه بينما حمل أوديسيوس
أذخاره فوضعها حيث أشارت مينرفا، ثم حملت بيدَيها الجبارتَين صخرًا عظيمًا فأحكمت به
غلق
المدخل الرهيب، وجلسا عند أصل زيتونة باسقة، وشرَعَا يرسمان الخطط ويُحْكِمان التدبير
لهلاك
العشاق الفساق المعاميد، فقالت مينرفا: «أوديسيوس، يا ابن ليرتيس المجيد، هلم فأعمِل
فكرك
الآن في الوسيلة التي تُبيد بها أعداءك الذين لا يستحون، أولئك العُشَّاق الذين استبدُّوا
بأسرتك طوال أعوامٍ ثلاثة واستباحوا حِماك، وتكالبوا حول زوجتك كلَّ هذه السنين يُغرونها
بالوعود، ويُزخرفون لها الأماني، ويُعسلون لها كلمة الفسق، وهي ما تزداد إليك إلا تحرُّقًا،
وما ترقأ دموعها من أجلك فتحتال لهم، وتعد هذا وتُوشي المنى لذاك مُعلِّلةً نفسها بعودتك
لتَسحقهم جميعًا.» واستعبر أوديسيوس قليلًا وقال: «أوه! كأنَّ القضاء الذي أسكت نأمة
أجاممنون يكاد يحيق بي أنا الآخر في صميم داري! ولكن وي! أضرع إليك أيتها الربة أن تُشيري
عليَّ وتنصحي لي وتُلقنيني كيف أثأر من هؤلاء الطغاة؟ وأتوسل إليك أن تقذفي في قلبي الشجاعة
كما قذفتها فيه تحت أسوار طروادة، فإني بعونك أُدوِّخ المئين من أعدائي، وما دامت يدك
فوق
يدي فإني مستأصلٌ شأفتهم جميعًا.» قالت مينرفا: «اطمئن يا أوديسيوس فسأكون معك وإن لم
يمتد
إليَّ طرفك حتى تغتالهم أجمعين، وحتى تطيح رءوس أكثرهم على أرض قصرك، ولكن تعالَ ألقِ
بالك
إليَّ، إني سأُغيِّر من صورتك، وأُحوِّر من شكلك حتى لا يعرفك منهم أحد؛ فهاتان الوفرتان
٦ تستطيلان حتى تُغطِّيا كتفَيك وحتى تتصلا باللِّمَّة،
٧ وسأُدثِّرك بدثار مرقَّع رث، يُثير التقزُّز في نفوسهم فلا يمدُّون أبصارهم
إليك، وسأُحدِث أورامًا حول عينَيك تزيد في تنكرك، حتى ليحسب مَنْ ينظر إليك من أعدائك
أنك
وأهلك بعض المساكين الذين لا يفتَئون يضربون في الأرض؛ على أنه ينبغي أن تلقى راعيَك
الأمين
«أيبومايوس» الرجل الوفي الذي لا يزال يُخلص لك ويفي لابنك، ويُؤثر بأصفى ودِّه زوجَك،
فاذهب إذن إلى جبيل كوراكس المطل على نبع أريثوزا تجد قطعانك ترعى العشب الحلو ثمة،
وتُسْقَى من السلسبيل المجاور، وتجد راعيَك الشيخ يتشوَّف إلى رؤيتك فحيِّه واجلس إليه،
واسأله عن كل ما تُريد أن تعرف من أنباء بيتك وأهلك وعقارك، وتلبث معه حتى أعود إليك
بابنك
من أسبرطة؛ ابنك تليماك الذي ذهب يذرع الرحب سائلًا عنك، مُتحسِّسًا أخبارك حيث حلَّ
ضيفًا
كريمًا على الملك منلوس الذي أرسله إلى ليسديمون ليرى هل لا يزال أبوه حيًّا يُرْزَق.»
قال
أوديسيوس «وا أسفاه عليك يا ولدي! ولِمَ أيتها الربة المحيطة بكل شيء لم تُخبريه أنني
حي
أُرْزَق وأنني لا بد عائد إليه؟ فكنتِ كفيتِه بلاء الرحلة في تيه البحر، بينما هؤلاء
الكلاب
يستنزفون ثروته وماله.» فقالت تُجيبه: «لا تأسَ على ولدك هكذا يا أوديسيوس، لقد أرسلته
أنا
ثمة ينشد الشرف وينشر ذكره بين الناس؛ إنه لا يلقى عنتًا هناك، بل هو ينعم بالرعاية في
قصر
إنريدس، وأعلم أن فريقًا من عشاق بنلوب يتربَّصون به ويترصَّدونه في طرقه ابتغاء أن يقتلوه
قبل أن يبلغ أرض الوطن، ولكن لا، خاب فأْلهم، إنهم لن يمسوه بأذًى حتى تكون الأرض قد
رُوِيَت من دمائهم، وغُيِّبوا جميعًا في بطونها، أولئك السفلة الذين يستحلُّون زادك وعتادك
الآن، ثم مسَّته بعصاها السحرية فبدت عليه بدوات الكبر؛ فهذا جلده قد تغضَّن، وهاتان
وَفْرتاه ولِمَّته قد استطالت حتى بلغ شعرها قدمَيه، وها هي ذي تُضفي عليه الدثار المرقَّع
الرث، وها هي ذي تُحدِث الأورام حول عينه وتُزوِّده بمزق قذرة علق بها التراب والسخام،
٨ وها هي تُضفي عليه بعد ذلك جلد ظبي قديم غليظ وتدفع إليه بعكازة طويلة يتوكَّأ
عليها، وتُمِده بمِزْود
٩ تدلَّت منه أوشية قبيحة، وأُحيط بسيور من جلد عتيق.»
وافترقنا؛ فهو إلى حيث يلقى راعيَه، وهي إلى حيث تلقى تليماك في مملكة ليسديمون.