أوديسيوس في قصره
ونضَّرت أورورا جبين الشرق بالورد، وخضَّبته بالشفق، فهبَّ تليماك من نومه الهادئ الهانئ الموشَّى بالأحلام، فلبس وانتعل، واخترط سيفه، ثم قال لراعيه: «أيها الأب الصديق، إني متوجِّه إلى المدينة لألقى أمي، فأكبر الظن أنها لن يرقأ لها دمع ولن تُخفِت لها آهة حتى تراني. أما هذا اللاجئ، فرأيي أن ينطلق إلى المدينة فليسأل الناس وليطرق الأبواب، ولن يعدم إذا تكفَّفهم أن ينال رزقه ويحصل على لقمات يتبلغ بها، إن لديَّ من المتاعب والمشاقِّ ما يشغلني عن كل جوَّابِ آفاق؛ امض به إلى المدينة إذن فإذا آلمه هذا فهو حر؛ إني رجل لا أعبأ أن أقول الحق.»
فنهض أوديسيوس ليقول: «يا سيدي، إني لم أبلغ أن أتلبَّث هنا؛ فليس لشحاذ فقير مثلي أن يلتمس رزقه في الحقول والغيطان، بل إني منطلق إلى المدينة، ولست مُقعَدًا أو ضعيفًا، فلا أقوى على عمل يُؤجِّرني عليه أحد أمرائها. تفضَّل أنت فاذهب لطيتك، وسأمضي أنا مع خادمك حين تمتع الشمس قليلًا؛ فأنا كما ترى رجل شيخ، وأخشى أن يقتلني بردُ الصباح وصقيعُه، وليس ما يحفظني منها إلا ما ترى من مِزَق مضى أصلها وبقي رقعها.» وانطلق تليماك فبلغ القصر، ولقي أول مَنْ لقي مُرضِعه يوريكليا، حيث كانت وأترابُها ينشرن فِراءً على كراس وحمالات مبعثرة في الردهة، فلما رأته عجلت إليه ورحبت به وسلَّمت عليه، وانطلقت الدموع من عينَيها فانعقد لسانها وانحبس منطقها، ثم اجتمع الجواري يُقبِّلن تليماك ويُحدقن به حتى لفتن نظر الأم المعذَّبة المحزونة المطلَّة من إحدى شرفات القصر، فهُرِعت من علٍ وأخذت في حضنها المحب الرحيم أعزَّ الأبناء، وأمطرت جبينه وخدَّيه بالدموع والقُبَل، ثم جعلت تقول له: «أوَقد عدتَّ إلى الوطن يا نور عيني تليماك، تالله لقد وقر في قلبي أنني لن أراك بعد أن أبحرت إلى بيلوس برغمي وعلى غير علم مني، لتتسقط أنباء أبيك، ولكن خبِّرني يا بُني ماذا عساك سمعت؟!» فقال الفتى: «أمَّاه لِمَ تعودين بذاكرتي إلى عبوس الحياة وقد أفلتُّ من الموت، أولى لك ثم أولى أن تُضفي عليك من أفخر أثوابك، ثم تُصلِّي للآلهة أن تُهيئ لنا يوم انتقال عادل لا يُبقي ولا يذر، بيد أنه ينبغي أن أذهب الآن لألقى ضيفًا كريمًا عزيزًا جدًّا عليَّ — عزيزًا جدًّا يا أماه — حضر معي في سفينتي أمس، وقد أرسلته مع مَنْ يُضيِّفه عني حتى أعود فأُضيِّفه أنا نفسي.» وذهبت بنلوب فصلَّت طويلًا للآلهة، وانطلق تليماك فلقي تيوكلمنوس وعاد معه إلى القصر، وجلسا يتحدثان بينما أحضر أحدُ الخدم مائدة حافلة بألوان الطعام وأطيب صنوف الشراب فوضعها أمامهما، وأقبلت بنلوب فجلسَت لدى الباب تنسج ثوبها الذي لا ينتهي، فلما فرغا من طعامهما أقبلت فقالت تُخاطب تليماك: «يبدو لي أنك لن تقُصَّ عليَّ الآن ما سمعت من أنباء أبيك دائمًا بدموعي منذ فارق أوديسيوس، فإذا انصرف الأوغاد المعاميد وفرغت من شغلك بهم فاحضر إليَّ لتقصَّ عليَّ من أنبائه.»
ولكن تليماك قال: «أماه، لِم لا أقص عليكِ ما سمعت، وما سافرت إلا لأطمئنَكِ وأطمئن نفسي؟ لقد سافرتُ إلى بيلوس وحظيتُ بلقاء نسطور الذي هشَّ لي وبشَّ، وفرح بي كأنما أنا ابنه الذي افتقده طويلًا وعاد فجأة إليه، غير أنه لم يذكر لي عن أبي قليلًا أو كثيرًا لعدم علمه بشيء من أنبائه؛ ولذلك بعثني مع واحد من أبنائه إلى ملك أسبرطة لأسأله عن أبي، وقد لقيني منلوس فأحسن لقائي وأكرم مثواي، ورأيت زوجه هيلين الحسناء المفتان التي شبَّت بسببها حروب طروادة، والتي لقي من أجلها أبطال الإغريق أنكى ألوان العذاب، ولما سألني الملك فيم قدمت، نبَّأته بأنباء العشاق المعاميد، ووصفت له ما يجرُّون على بيت أبي من الخراب، فأرغى وأزبد، ولعنهم أشدَّ اللعن، وتوسَّل إلى الآلهة أن تردَّ إليهم أوديسيوس، فيبطش بهم ويُعيد إليهم صوابهم، ثم قصَّ عليَّ ما سمعه من أحد أرباب الماء — بروتيوس — الذي أخبره أن أبي لا يزال حيًّا يُرزَق في إحدى الجزر النائية، وأن عروسًا من عرائس الماء تحجزه عندها في تلك الجزيرة برغمه؛ لأنها تحبه وتهواه، وأنه لا يجد سفينة يثوب عليها إلى الوطن. هذا يا أماه كل ما علمته عن أبي من الملك منلوس، وقد أذِنَ لي في العودة، فأُبْتُ في رعاية السماء وحفظ الآلهة.» وكانت بنلوب تُصغي وثورةٌ من الحزن تجتاح نفسها، ولظًى من الوجد يفتك بقلبها، فلما فرغ تليماك التفتَ تيوكلمنوس المتنبي إلى السيدة الرءوم فقال: «يا زوج أوديسيوس، أعيريني سمعكِ، أصغي إليَّ فسأتنبأ لكِ أن ابنك هذا لم يسمع عن أبيه أيَّ نبأ يقين، أما أنا فقد بدت لي أمارات، وشهدت في السماء علامات، ومحال أن تكذب علامات السماء! أُقسم لك بجوف العلي رب الأرباب، وأُقسم بهذا البيت، بيت أوديسيوس، أن زوجك هنا وفي إيثاكا، وهو يعلم كل صغيرة وكبيرة من أنباء العشاق وخياناتهم، وإنه ليُدبر لهم عقابًا هائلًا لن يُفلِت أحدٌ منهم.» وسكت المتنبي، وأقبل العشاق من لعبهم فخلعوا عباءاتهم، ثم نشطوا إلى الشاء والخنازير، فجزروا لطعامهم.
وتناول أوديسيوس يد الراعي وقال: «يومايوس، لا ريب أن هذه سراي الملك، انظر ها هي ذي الحجرات يتلو بعضها بعضًا، وهاك الرحبة الكبرى ذات العماد وذات الأبواب، وإني أحدس أن هناك أضيافًا اجتمعوا لوليمة، وهذا قُتار اللحم يملأ خياشيمي، وأرنان القيثار يُجلجل في أذني.» فقال يومايوس يُجيبه: «أنت ذكي شديد الذكاء، إنه هو المكان بعينه، والآن هل تذهب أنت وحدك فتستعرض الأمراء وتعود؟ أو تنتظر حتى أذهب أنا فأخطف نظرة إليهم؟ على أنك يجب ألا تتلبَّث هنا طويلًا؛ فقد يراك بعضهم فيُؤذيك ويطردك من هنا شرَّ طردة.» وقال أوديسيوس: «بل انطلق أنت وإني منتظرك هنا فإذا لكمني أحد أو لكزني أو ركلني، فلشد ما أحتمل هذا وذاك، وهل هو إلا بعض ما احتملت في حروبي الطويلة؟» وبينما هما يتحدَّثان إذا كلب كبير رابض يقف فجأة فيُبصبِص بذَنَبِه وينصب أذنَيه، ويحدق بصره في أوديسيوس، ويظل مسحورًا ذاهلًا، آه إنه الكلب العزيز أرجوس الذي ربَّاه الملك قبل أن يرحل إلى طروادة، لقد أُهمِل أمره فهو رابض هكذا في حمأة من الروث والقذر والقُمَّل أمام بوابة القصر، كالشاعر العجوز الذي يجتر ذكرياته، لقد عرَف صوت مولاه برغم السنين الطوال، فبكى وهرَّ وأرسل الدموع حرارًا تسقي صُدغَيه، وقد تأجَّجت في قلبه الحيواني ثورة من الحزن الطارئ المفاجئ، فلم يُوانِ يزحف ليمسح بلسانه قدَمَي مولاه، وقد لحظ أوديسيوس ما أصاب كلبه العزيز فبكى هو الآخر تأثرًا، وسجَّل هذه الآية من الوفاء للحيوان على الإنسان، وأشاح بوجهه عن الراعي حتى لا يُدرك ما بعينَيه من دموع، فلما مسحها بكمِّه قال يُحدِّث يومايوس: «أليس عجيبًا ومؤلمًا معًا يا صديقي أن يتركوا هذا الكلب الذي تبدو عليه سيماء النُّبْل فوق هذه الكومة من الروث، قد يكون أقعده الضعفُ عن متابعة الصيد، وقد يكون إبقاؤهم عليه من أجل منظره وحسن سمته.» فأجابه الراعي: «أوه، بلى أيها الرفيق، أما والله لو شهدته في أثر مولاه أوديسيوس لعجبت لعظم قوته وشدة جبروته، أبدًا لم يخلق الله وقتئذٍ كلبًا أتبعَ لصيد أو أقوى حاسة شم منه، وأبدًا لم يكن عندنا كلبٌ كأرجوس هذا الرابض يساقط نفسه أنفسًا، إنه يبكي مولاه الذي قضى وتركه من ورائه لإهمال الوصيفات وقلة اكتراثهنَّ، أما عبيد هذا القصر فهم كالوصيفات حذْوَك النعل بالنعل، فهم لا ينشطون لعمل كما ينشطون وسيدهم بينهم، ثم هم قد فقدوا بالعبودية وذلة الرق نصف آدميتهم ورجولتهم.» ثم مضى أوديسيوس نحو صديقه وخِدْن صباه، فبكى وذرف دموعه وكذلك فعل الكلب حتى مات! ولكن بعد أن رأى سيده تارة أخرى.
ولمح تليماك راعيَه فأومأ إليه وأخذه جانبًا، ثم أمدَّه بنصيب جزيل من طعام الوليمة، وبعد لحظات أقبل أوديسيوس في صورة الشحَّاذ الفقير وجلس على الأرض، فأرسل إليه ولده شيئًا من اللحم والخبز مع يومايوس، وأسرَّ إليه أن يُرسله بين الأمراء يتكفَّف، وبالأحرى ليتعرف، فلما فرغ من طعامه نهض فسار بينهم يسأل هذا ويُحدق فيه، وينصرف إلى ذاك ويحدجه، ويمد يده من أجل لقمة كما يصنع الشحَّاذون، وقد رثى له كثيرون فأمدُّوه بلقمات ومضغ من اللحم إلا أنطونيوس، فقد استهزأ به وبمن أحسن من الأمراء إليه وغيرهم بأنهم يتصدَّقون بما ليس لهم، ثم هاج وماج، ورفع كرسيًّا أوشك أن يُحطِّم به رأس أوديسيوس، وأمره أن ينصرف فلا يُعكِّر عليهم صفوهم أكثر مما فعل، ولكن الكرسي صدع كتف الملك وأعفى رأسه، ووقف أوديسيوس كالصخرة لا يتحرَّك ولا ينبس ببنت شفة، ولكن ألف ألف فكرة سوداء كانت تكظ فؤاده وتزحم تفكيره، ثم مضى فجلس حيث كان من قبل، وهتف بالعشاق في صوت جهوري فقال: «سادتي الأمراء، اسمعوا، تالله لو أنها ضربة في حرب بين كُفأَين لما حملت لها مَوْجَدة في نفسي، ولكن أنطونيوس رأى من سلطان الجوع والضعف ما جرَّأه وأثار نحرته، وأنا مع ذاك أترك جزاءه لله، وأضرع إليه — جل ثناؤه — أن يقبضه قبل أن تُزَفَّ إليه عروسُه.» وكأنما خجل العشاق مما فعل أنطونيوس فجعلوا يلومونه ويتلاومون فيما بينهم، قال قائلهم: «مَنْ يدري؟ ألا يحتمل أن يكون أحد آلهة السماء جاء ليبلونا، والويل لك يا أنطونيوس إذا صدق حدسنا! ألا تعلم أنهم طالما يتنزَّلون فيغشون مدننا في صور الشحَّاذين ليروا بأعينهم ما نأفك وما نمين؟» ولم يُبال بهم ولم يأبه لما قالوا، وكان تليماك يتميَّز من الغيظ، ويُسِرُّ في نفسه أوجع الألم؛ لما نال أباه من الضرب، بَيْدَ أنه غلب غضبه وحبسه في أعماقه، كما حبس في عينَيه وابلًا من الدموع، وكانت بنلوب تطلع من شرفتها وترى ما حلَّ بالرجل من إيذاء، فهتفت بيومايوس أن يُرسله إليها كيما تسأله عن أوديسيوس؛ لما يبدو عليه من أثر السفر وجَوْب الآفاق، قال الراعي: «أجل يا مولاتي، إنه رجل من كريت، وقد خاض ألف مكروه قبل أن تحمله الصدفة إلى بلادنا، ثم هو محدث ساحر الحديث على الرواية، حتى ليخلب سمع مَنْ يُصغي إليه بأشدَّ مما يستطيع منشد مطرب أن يفعل، وكلما طال حديثه لذَّت طلاوته، كثرت حلاوته فلا تمله أذنان، ولا يضيق به مصغٍ إليه، وأعجب ما ذكره مرة لي أنه رأى أوديسيوس وعرفه في أبيروس، بل يزيد فيُؤكد أن مولاي عائد أدراجه إلينا حاملًا معه كنوزًا من الذهب، وأذخارًا لم تر العين مثلها ولم تخطر على قلب بشر.» فتنهَّدت بنلوب وقالت: «انطلق إذن فأحضره، ودَعْهُ يُحدِّثني بما روى وجهًا لوجه، وسأهبه صدارًا ودثارًا إذا توسَّمت في قوله الحق، وآنست في روايته الصدق.»
وادَّعى أوديسيوس أنه يخشى أن يجوز وسط الأمراء مرة أخرى، وفضَّل أن يلقى الملكة فيتحدَّث إليها إذا جنَّ الليل بجانب المدفأ، ووافقت الملكة وصوَّبت رأي الرجل، وكان الوقت أصيلًا فقصد الراعي إلى تليماك واستأذنه في الانصراف إلى حظائره، فأذِنَ له ولكن بعد أن أمره بالتزوُّد لعشائه، ففعل يومايوس ثم مضى ليسهر على خنازيره.