بنلوب، وأخيرًا … بنلوب!
وهرولت المرضع العجوز فصعدت إلى الطابق العلوي، حيث كانت سيدتها المحزونة تتقلَّب على فراش الهموم والأحزان، فهتفت بها وهي تضحك، وتكاد تُجَن من الفرح: «يا بنيتي، فاشهدي بعينَيك كيف حققت الآلهة أحلامَك واستجابت لصلواتك! هلمي، لقد عاد أوديسيوس وبطش البطشة الكبرى بأعدائه، فقتلهم عن بكرة أبيهم بعد ما كان من خباثاتهم، وبعد ما استباحوا من حرماته، وما أراغوا من خيره وهَزئوا بولده، انهضي.»
ولم تُصدِّقها بنلوب، وقالت مستهزئة بها: «لشد ما عدَوتِ طورَكِ وغِبْت عن صوابك أيتها المرضع العزيزة حين تُوقظيني بمثل هذا العبث وذاك الحديث الملفَّق! لقد حرَمتِني من غفوة يا لها من غفوة! لم تَكتحِلْ عيناي بأهدأَ منها ولا أروح منذ أن فارقَنا أوديسيوس إلى الأرض المشئومة! تالله لو حصل مثل هذا ممن هنَّ دونك سنًّا ومنزلةً من الخدم لكان لي معهنَّ شأنٌ آخر، ولكن لا عليك يا يوريكليا!» فتبسمَت المرضع ثم قالت: «وي! تالله إنه للحق! ولا مِرْية فيما أقول؛ إنه هو الشحَّاذ الفقير الذي كلَّمَك، والذي عبث به القوم، وقد كان يعرف تليماك كلَّ ذلك، ولكنه جعل سرًّا بينه وبين أبيه حتى يثأر من الأمراء ويستأصل شأفتهم.» فوثبت بنلوب من سريرها مسبوهة ذاهلة، وطوَّقت بذراعَيها عنق يوريكليا، وأنشأت تقول: «خبِّريني بالله عليك أيتها العزيزة، خبِّريني بالله عليك … إذا كان ما تقولين حقًا فأنَّى لأوديسيوس أن يلقى وحده كل هؤلاء؟ وأنَّى لواحد أن يهزم فيلقًا من مئة أو يزيدون؟» فقالت المرضع: «لعمرك ما رأيتُ كيف حدث هذا الأمر، ولكني سمعتُ بأذنَيَّ هاتَين أنين القتلى؛ لقد كنا جميعًا جالساتٍ داخل القصر، وفرائصنا ترتعد من الفرَق، وكانت النوافذ كلُّها مغلقة بأمر سيدي، حتى أقبل تليماك فدعانا إلى البهو، حيث رأينا أوديسيوس واقفًا بين الرمم، وهو الآن يُطهِّر البهو من أدرانهم بالنار والكبريت، والمدفأ يتأجَّج بلظًى كالجحيم، ولقد أرسلني لأدعوَك إليه حتى يفرح بك ويطمئن قلبك بعد طول العذاب.» وكانت العجوز تتكلَّم وهي ما تنقطع عن الضحك والمرح، فقالت لها بنلوب: «أيتها المرضع العزيزة، لا يقتلك الفرح والضحك! تالله إنه لن يفرح بأوديسيوس اليوم أحدٌ كما أفرح به أنا وولدي تليماك! هذا إن كان ما قلتِ حقًّا! على أنني لا أصدِّق … لا جرمَ إنه إله كريم أقبل لينتقم لنا من هؤلاء العرابيد جزاء ما أنزلوا بنا من هوان، فأبادهم جميعًا. أما أوديسيوس فلا، لقد قضى أوديسيوس، وقضى أوديسيوس إلى الأبد.» فقالت يوريكليا: «ألا تزالين غير مصدِّقة يا طفلتي العزيزة؟ ألا فاسمعي، هاكِ دليلًا آخر، بينما كنت أغسل قدمَي الرجل الفقير اللاجئ تحسَّسَت يداي نُدْبَة في ساقه ذكَّرَتني بالندوب التي أحدثها الخنزير البري في ساق سيدي أوديسيوس، فلما كشفتُ عنها تبيَّنتها وتأكدتُ أنه هو، وأردتُّ أن أصيح بك لأُخبِرك، وأزفَّ إليكِ البشرى، لكنه أطبق يدَه على فمي فلم أستطع أن أنبس … تعالَي هلُمِّي معي الآن وانظري بعينَيك لترَي إن كنتُ كاذبة، تعالي جُعِلْتُ فداك!» وانطلقتا معًا وأطافت الذكريات برأس بنلوب، ولم تدرِ ماذا عساها فاعلة إذا كان ما أنبأَت به المرضع حقًّا، فلما دخلتا البهو جلسَت بنلوب على مقعد كبير قريب من المدفأة، ثم طفقت تُحدق بصرها في أوديسيوس، وكان جالسًا وظهره إلى عمود من عماد البهو، وعيناه تبحثان في الأرض، وكأنه كان ينتظر أن تتكلم بنلوب قبل أن يفوه هو بكلمة … بيد أنها لم تنبس، بل كانت ذاهلةً شاردة، تنظر إليه مرة فتُوشِك أن تعرف فيه بعلها الحبيب، ولكنها كانت إذا نظرت إلى مِزَقه وخِرَقه والأسمالِ التي لا تستر بعض جسمه الهائل عجبَت، وتولَّاها الدهش، وانعقد لسانها فما يكاد يُبين.
وقال تليماك آخر الأمر: «أماه، لشدَّ ما تحجر قلبكِ وغلظت كبدك! لِمَ لا تنهضين فتُعانقي أبي؟ أية زوجة ينحبس لسانها كما انحبس لسانك؟ فما تُكلِّم زوجها الذي آب من سفر سنين كلها أشجان وكلها أحزان، وكلُّها آلام متصلة ومتاعبُ تنوء بحملها الجبال.» فقالت أمه تُجيبه: «تالله يا بني لقد ذُهِلت عن نفسي وإني لفي تيهٍ فما أكاد أُبين، ولكن إذا كان حقًّا أوديسيوس، إن لنا علامات هي سرُّ ذاتِ بيننا، ولا يعرفها أحد سوانا.» فتبسَّم أوديسيوس وقال: «لا عليك يا بني! دعها فستستبين حقيقتي حين أخلع هذه الأسمال.» ثم انتحى وولدُه ناحية، وأسرَّ إليه أنهما ينبغي أن يتهيَّآ لما عسى أن يكون من تألُّب الإيثاكيين عليهما وشغبهم؛ لما كان من قتل ساداتهم، وما يُتوقَّع من قيامهم بثورة عامة لا تُبقي ولا تذر للانتقام من القاتل. وذكر أوديسيوس أنهما يجب أن يُقيما في البهو فيأخذا مثل ما كان العشاق يأخذون فيه من قصف وعبث ومجانة.
وحسب المارَّة أن بنلوب قد اختارت بعلها من بين الأمراء؛ «فهي لم تَعُد تُطيق الوحدة، ولا تحتمل الترمُّل، ولا تقوى على حياة الآمال الكواذب التي تجرَّعَت غُصصَها مدى عشرين عامًا.» أما أوديسيوس فقد مضى فاستحمَّ وتضمَّخ بأحسن الطيوب، وأضفى عليه من كل سابريٍّ وفوف موشًّى، ثم تنزَّلَت مينرفا فنفخت بيدَيها الكريمتَين على وجهه المجعَّد ذي الأسارير فأشرق وتألَّق، وهدلت شعره على كتفَيه غدائرَ فاحمة كقِطَع من الليل البهيم. ثم إنه انطلق إلى البهو فجلس تِلْقاء بنلوب، وأنشأ يقول: أيتها الزوجة المعجبة، والله لقد ركَّبَت الآلهة بين جنَبيك قلبًا ليس كقلوب النساء، وأي امرأة تنبذ من زوجها مكانًا قصيًّا كما تنتبذين يا بنلوب، بعد إذ عاد إليك من تَجْوال عشرين سنة كلها قلاقلُ وأهوال؟ يوريكليا، هلمي فمَهِّدي لي فِراشًا بيدَيك الضعيفتَين، ما دام الحديد البارد الذي خُلِقَ منه قلبها لا يلين.» ومع كل هذا فقد كان الريب يرين على فؤاد بنلوب، فقالت تختبره: «مولاي، إني وأيم الحق لا معجبة ولا بي خُيَلاء، ولكني أذكر أحسن الذِّكر كيف كنت يوم همَّت بك سفينتك الجبارة إلى طروادة … يوريكليا، اذهبي أيتها المرضع، فأحضري سرير زواجنا من المخدع، واجعلي عليه الوسائد والحسبانات ليستريح عليه مولاك كما أمرك.» وعجب أوديسيوس لما تكلمَت به زوجته. فقال: «إنكِ يا زوجتي تُمزِّقين نياط قلبي بما تقولين، أنَّى لأحد ما من العالمين أن يُحرِّك سريري، بلْهَ أن يحمله؟ إن لم تكوني قد أطلعتِه على سره؟ لقد صنعتُ مخدعي واتخذت سريري في جذع الزيتونة الهائلة، فهل لا يزال سرير في موضعه ثَمت؟ أو أنَّ أحدًا قطع الجذع العتيد واحتُمِل السرير إلى مكان بعيد؟» وهنا مادت الدنيا برأس بنلوب، وتأكدت أن الرجل زوجُها من غير شك، فخفق قلبها خفقانًا شديدًا، وانطلقَت تَعْدو نحوه، ثم طوَّقَت عنقه بذراعَيها، وراحت تبكي وتنتحب، وتقول له: «لا تنقم عليَّ إذن يا أوديسيوس، ولا يحزنك أنني لم أعرفك منذ أول نظرة! أواه أيها العزيز! لقد قضت الآلهة أن نفترق وأن تتعذَّب كل هذه السنين، وما كان من شكِّي فهو أثرٌ من احتراسي خشية أن يخدعني أحد فيدَّعي أنه أنت، ويُزخرِف عليَّ ويُبهرِج حتى يَنالني بالخداع والحب، ولكن ما دمت قد ذكرت لي سرَّ المخدع والسرير والزيتونة، وهو ما لا يعلمه أحد غيري وغيرك وغير يوريكليا، فالآن فاهنأ، ولأهنأ أنا، وليطمئن قلبي؛ قلبي الوفي الذي أردُّه إليك كآخرِ عهدك به، لا ينطوي إلا على حبك، ولا يُضمِر غيرَ الوفاء لك.» وعانقها أوديسيوس، وضم إلى صدره صدرَها، والتفَّ حول عنقه ذراعاها البضَّتان البيضاوان، وجمد عاجهما الناعم الأملس حول كاهله، ووقف أوديسيوس على شاطئ الذكرى كما يقف السبَّاح المتعَب المنهوك على شاطئ اليمِّ وقد بلغه بعد جهد؛ فأعضاؤه متراخية، وأعصابه موهونة، وقلبه خفق، وروحه نشوى، وذراعاه مع ذاك معلَّقتان بالشاطئ وقد سُمِّرتا فيه … وقال بعد لأْي: «والله يا زوجتي العزيزة إنَّا ما بلغنا بعدُ نهاية أشجاننا وأحزاننا، وإن أمامنا لأمدًا بعيدًا وهمومًا أُخَر تنبَّأ لي عنها الكاهن تيريزياس حينما رحلت إليه في هيدز، وإني لا أدري ماذا يكون من أمري، ولكن لا … لننطلق الآن إلى مخدعنا العزيز الطاهر؛ فإن بي حاجةً إلى الراحة والاستجمام، وإن بي لشوقًا مبرحًا ونزوعًا شديدًا إليك.» فقالت بنلوب: «المخدع الطاهر النقي مُعَد في أيما لحظة أردت يا أوديسيوس العزيز، بيد أنك أثرتَ شجني وفزعتَ شَجْوي بما ذكرتَ عما يتربَّص بنا من همٍّ جديد، فهلا ذكرت إليَّ ماذا زعم لك تيريزياس في العالم الآخر؟ إني مَشوقة إلى ما قال، اذكره بحق الآلهة عليك.» فأجاب أوديسيوس: «عمرك الله، لِمَ تسألين عن أمر إن يَبدُ لك يَسؤْكِ؟ ولكن لا ضير سأذكر لكِ ما نبَّأني به تيريزياس.» ثم وجم قليلًا وقال: «لقد أشار أن أحمل مجدافًا عظيمًا على كاهلي، ثم أنطلق مهاجرًا إلى ممالكَ نائية وأصقاعٍ سحيقة، حتى أكون في قوم لم يسمعوا عن البحر قط، ولم يروا في حياتهم مجدافًا ولا سارية، فإذا لقيت أول من يسألني عما أحمل، وهل هو مذراة مما ينسف به القمح، غرستُ المجداف في الأرض، ثم تقرَّبت إلى إله البحار نبتيون الجبار بقرابينَ تمحو ما بيني وبينه، وتعقد بيننا أواصر السلام والوئام، كما تُقرِّبني إلى أعوانه الآخرين من آلهة الماء، فإذا فعلت استرحت من لأواء الحياة، ونَأَت عني أرزاؤها، وعدتُّ إلى شعبي وإليك، وإلى ولدي وقصري، فعِشت بينكم بسلام حتى يأتيني الموت، هادم اللذات، من أعماق البحر، ولكنه سيكون موتًا طيبًا لا مخوفًا ولا مرهوبًا، بل سَكْرة بين أمَنة ونُعاس، بعد إذ الجسم موهون، والقلب فارغ، والرأس مشتعل، والروح سالية قالية.»
وهكذا ظلَّ الحبيبان المشوقان يتحدثان قطعًا من الليل، بينما كانت المرضع وخادمةٌ أخرى تُمهِّدان الفراش على ضوء المشاعل، ثم أقبلَت الوصيفة فذهبَت تمشي بين أيديهما إلى المخدع، وفي أيديهما المشعل المقدس يفيض نورًا ولألاءً كما أفاض منذ عشرين سنة.
ولفَّهما ظلام الليل وسِتر الهوى. وسكن البهو بعدما ضجَّ بالعزف والقصف، وهدأ القصر في سدول السعادة.