أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
وهتف هرمز بأرواح القتلى فهمهمت، ثم أشار إليها بعصاه، فسحر الكَرى مُقَلها، ثم أشار كرَّة أخرى فأُهرِعَت في أثره كما تُهرَع الخفافيش في أثر دليلها.
وانطلق حبيب الآلهة فعبر عُباب البحر المحيط، وعبرَت الأرواح الهائمة في أثره، وجاز صخرة لوكيديا وبوابة الشمس الخالدة، ثم انطلق والأرواحُ الهائمة من خلفه في تيه الأحلام، وعبر بها في مروج أسفوديل ذات الأشباح، حيث لقي القتلى أرواح ذويهم وأبطالهم من رجال هيلاس الذين سقطوا تحت أسوار طروادة، وهناك وقفوا طويلًا يتناجَون، وكلم ابنُ بليوس قائد الهيلانيين أجاممنون، ورثا له، فكلمه أجاممنون وتحسَّر عليه، ورأَوا روح بتروكلوس حبيب أخيل زعيم الميرميدون، وروح أخيل نفسه، وروح أجاكس العظيم … وعرَف أجاممنون روح أمفيديون العاشق المحروب الذي قتله أوديسيوس فيمن قتل من عشاق بنلوب، فكلمه، وكلَّمه أمفيديون فقصَّ عليه ما كان من مأساتهم الغرامية وما كان من أوبة أوديسيوس المفاجئة واختلاطه بهم في صورة فقير شحَّاذ … إلى آخر القصة الدامية المشجية التي انتهت بقتلهم جميعًا، وما كاد يفرغ حتى بدا العجب في مُحيَّا القائد أجاممنون، وطفق يُثني على وفاء بنلوب وشجاعة صديقه أوديسيوس، ثم راح ينعى على زوجته الآثمة كليتمنسترا ما كان من غدرها، وتدبير غيلته مع حبيبها الفاسق إيجستوس …
وهكذا انتهت الأشباح الآثمة إلى ظلمات هيدز؛ إلى مملكة بلوتو، حيث تلقى جزاءها العادل من مخالب سيربيروس الحادة وأظفاره القواطع.
هذا ما كان من أمر تلك الفئة الباغية.
أما ما كان من أمر أوديسيوس فقد استيقظ في بكرة اليوم التالي، واستيقظت معه بنلوب السعيدة، وهبَّ من فراشه فارتدى ملابسه، ووضع عليه سلاحه، ثم أمر زوجه ألا تُخاطب من الناس إنسيًّا حتى يعود، وأن تُغلِق عليها أبواب القصر؛ لأنه منطلقٌ إلى أبيه ليزفَّ إليه البشرى بنفسه، ودعا إليه تليماك ليصحبه، وليصحبه الراعيان المخلصان الوفيان، بعد أن يُسبِغ كلٌّ منهما عليه دروعه، ويستعد بسلاحه.
وانطلق الأربعة يطوون شوارع المدينة التي خيَّم عليها الصمت دون أن يشعر بهم أحدٌ من أهلها، حتى بلغوا الخلاء، وما زالوا يذرعونه حتى كانوا عند المزرعة المصون الناضرة، وهناك نظر أوديسيوس — بعينَين مشوقتَين وقلب مُلتاع خفق — إلى البيت الصغير الذي يُؤوي أباه الضعيف الشيخ، حيث يقضي أيامه في أسًى ليس بعده أسًى، ويجترُّ همومه في صمت الموتى، ويذرف دموعه في قنوط وسكون … لا يراه أحد، ولا يشكو بثَّه إلى مخلوق، إلا هذه المرأة العجوز الحيزبون التي تخدمه في رضًا، وتسهر عليه في حب له، وإشفاق من أجله. وكان ليرتيس — الأب المحزون — يتلهَّى بالعمل في بستان قريب، يشذب شجيراته، ويهذِّب زهيراته، فأمر أوديسيوس ولده وراعيَيه أن يَبقوا في المنزل ليُعدُّوا غداءً فاخرًا وشِواءً سمينًا؛ لأنه يُحِب أن يلقى أباه في البستان وحده.
وانطلق أوديسيوس إلى البستان، فوجد الفلاحين قد انصرفوا إلى أعمالهم، ووجد أباه يجوس خلال الأشجار كالشبح، ويهوي بفأسه فيحتفر حولها بين الفينة والفينة يُصلِح من لباسه الخشن الذي اتخذه من جلد عنز، كما اتخذ منه قفازَيه وجوربَيه … ووقف أوديسيوس تحت كُمَّثراة باسقة وطفق ينظر إليه، ويُقلِّب في السنين الطوال التي يرزح تحتها عينَيه، ثم يتعجَّب للقلب الكبير الذي صمد لحدثان الزمان ولإيواء الأيام فلم يتصدَّع ولم يهن، وإن كان بعضُ حزنه لتنوء منه الجبال.
وانبجس الدمع من عينَي أوديسيوس، وانهمر على خدَّيه وأوشك أن يمضي نحو أبيه فيأخذه في حضنه ويُفاجئه بالبشرى القاتلة، لولا خيفتُه على تلك الشيخوخة المتداعية أن تنقضَّ حين لا تحتمل النبأ العظيم؛ نبأ عودة قطعة القلب والكبد، بعد يأس دام عشرين عامًا! لهذا آثر أوديسيوس ألا يفعل، وآثر أن يلقى أباه كرجل غريب جوَّابِ آفاق ويُحدِّثه؛ ليعلم ما في قلبه، فذهب إليه، ووقف عن كثب يُكلمه.
«أيها الشيخ، ويكأنك لا علم لك بأمور هذا الزرع، وإن أثمر بستانك وآتى أُكلَه حقًّا، إني لا أرى عَشبًا في الأرض، ولا شجرة إلا وهي مثمرة، ولا زهرة إلا وهي مسفرة نامية، وما ذاك إلا لسهرك عليها … بيد أنه لن يسوءك أن لاحظتُ أنك تُعنى بهذا البستان أكثرَ مما تُعنى بنفسك، مع ما أنت فيه من تقدُّم السن ولفحة الشمس ووطأة المرض، وما أحسب مولاك إلا قاسيَ القلب عليك، قليلَ الاحتفاء بك والتوجُّعِ من أجلك، مع ما لك من سيماء النُّبْل ومظاهر الملوك، فما كان أحجى بك — وأنت في هذه السن — أن تستحمَّ وتتضمَّخ وتنام ملء عينَيك، لا يزعجك عمل ولا تئودك أكلاف الحياة، ولكن قل لي بالله عليك أيها الشيخ، لمن تَنصب كلَّ هذا النصَب، وبستانُ مَنْ هذا؟ خبِّرني لا تُخفِ عليَّ أيها الأب؛ فلقد لقيت مَنْ سألته فلم يأبه لي ولم يُعنَ بمسألتي، ولقد ذرَعتُ الرحب حتى وصلت هذه الأرض، إيثاكا؛ لأني كنتُ أُقدِم فيما مضى من الزمان فأحلُّ ضيفًا على أمير عزيز فيها، وما أعرف إن كان حيًّا يُرْزَق، أو مضى لا قدَّر الله إلى هيدز، ولقد كان هذا الصديق يزورني في وطني، فأُكرِم مثواه كما يُكرِم مثواي، ولقد كان يُحدِّثني الأحاديث عن أبيه ليرتيس بن آزيرياس، وما أنسى أيام كان يحمل إليَّ الهدايا فأردُّها إليه أضعافًا مضاعفة، فمن ذلك أنني نفحته مرة بسبع بدر من خالص الذهب، وبحمالة من فضة مزدانة بأفواف الزهر واثنَيْ عشرَ صدارًا، واثنَي عشر دثارًا، ومثلهنَّ من أكرم البُسُط، وشيء كثير من ثياب القاقم والسنجاب، ثم أهديت إليه أربع جوارٍ كُنَّس أبكار، اختارهنَّ بنفسه، مثقَّفات مهذبات، يتخايلن في الخَز، ويَرفُلن في الديباج.»
وازدحمت الدموع الحرار بكل الذكريات المشجية في عينَي الرجل الشيخ، وقال يُجيب أوديسيوس: «أيها الأخ، لقد بلَغَت مناك، فهذه هي إيثاكا، بيد أنها، وا أسفاه، نهب مقسَّم بين فئة باغية ظالمة لا تخضع لقانون ولا تعرف شريعة … أما صديقك فوا أسَفى عليه، ويا ألف أسًى على هداياك! مَنْ لك به اليوم ليردها عليك أضعافًا مضاعفة يا صاح؟ ولكن قل لي بربك واصدقني: منذ كم سنة لقيت صديقك التاعس الذي هو ابني؟ إيه! له الله ما أحسب إلا أن السمك قد اغتذى به، أو أنه غدا يومًا جزر السباع وكل نسر قشعم! أواه عليك يا أوديسيوس يا ولدي! هكذا قضيت ولم أذرف على ثَراك عَبْرة، ولم تكتحل عينا أمِّك قبل أن تموت برؤياك، ولا بنلوب! ولا بنلوب أيضًا كانت إلى جانبك لتُغمض بيدها أجفانك، ولكن … ولكن قل لي أيها الأخ مَنْ أنت؟ ومن أي البلاد قدمت؟ وابن مَنْ مِنَ الكرام الأكابر؟ وفي أي الرفاق وصلت إلى إيثاكا؟ وفي أي السفائن؟ أم وصلت بك إحدى الجواري المنشَآت ثم غادرَتك في إيثاكا؟»
وقال أوديسيوس وهو يُلفِّق ما يقول: «أما مَنْ أنا، ﻓ… أنا أبيريتوس بن أفيداس بن بوليبمون من أمراء أليباس، من أعمال صقلِّية، ولقد هبَّت على سفينتي عاصفةٌ هوجاء فدفعتَنا نحو بلادكم، وألقينا المراسيَ في مينائكم. ولقيتُ أوديسيوس لآخر مرة منذ خمس سنوات، وقد افترقنا وكلنا أمل أن نلتقيَ لنتبادل تَذْكارات المحبة وهدايا الصداقة والوفاء والود.»
وانعقدت سحابة مظلمة من مرارة الحزن، فحجبَت الضوء عن عينَي ليرتيس، ثم إنه أهوى إلى الأرض، فقبض قبضات من التراب وراح يحثوها على رأسه، ويئنُّ أنينًا مؤلمًا. ولم يحتمل أوديسيوس أن يرى أباه في هذه الحال، بل كاد صدره ينشق من حسرة عليه، فهرول وأخذه ملء ذراعَيه وجعل يضمه إلى صدره ويُقبِّله ويقول: «أبتاه! أبتاه! هو أنا ذا! أنا أوديسيوس، عُدتُّ إليك بعد عشرين عامًا، فافرح وهدِّئ من رَوْعك، ولتنتهِ آلامك، وإليك أحسن البشريات؛ لقد قتلتُ أعدائي العشاق جميعًا، قتلتهم في بيتي، وانتقمتُ لك ولي ولبنلوب.»
بيد أن ليرتيس وقف ذاهلًا عن نفسه، ثم نظر إلى ولده وقال: «إن كنتَ حقًّا ولدي أوديسيوس، فهات برهانك الذي يقطع شكِّي.»
فقال أوديسيوس: «ألا تُصدِّق! إذن فانظر إلى الندوب الخالدة التي أحدثَها في ساقَيَّ خنزيرُ الفلاة إذ أنا حَدَث، يا أبي، ألا تذكر يوم كنا على جبل برناسوس، وكان جدِّي أوتوليكوس معنا ثمة، وكان يُتحِفني بالهدايا واللهي؟ وهاك دليلًا آخر يوم مشيتُ معك في هذه الحديقة، ورجوتك أن تجعل بعض هذه الأشجار باسمي، فمشيتُ معك، ورحتَ أنت تُسمِّيها لي بأسمائها، فجعلت لي ثلاث عشرة كُمَّثراة، وعشر تفاحات، وثلاثين تينة، وخمسين صفًّا من الكروم الناضرة التي كان يُزْرَع القمح بين عرائشها والتي كانت تتدلَّى منها العناقيد من كل لون.»
وانجاب الشكُّ عن فؤاد ليرتيس، فأخذ ولده بين ذراعَيه المرتجفتَين، وراح يضمُّه ويُقبِّله، ويصعد في صدره الرحب القوي أنفاسه، حتى إذا وهنت قُواه أرسله، وأخذ يُحدِّثه فيقول: «يا للآلهة! يا أرباب السموات الخالدة في شعاف الأولمب! هكذا قضيتِ آخرَ الأمر أن ينصبَّ جامُ غضبك وحممُ نقمتك على هؤلاء الكفرة الفجرة، ولكن لشد ما أخشى أن يتألَّب الجمهور علينا فيُهرَعوا إلى هنا، ويطلبوا ثأر ذويهم!»
فتبسم أوديسيوس وقال له يُطمئِنه: «لا عليك يا أبي! هلم الآن فلنذهب إلى بيتك الجميل، فلقد أرسلتُ تليماك ثمة ومعه الراعي ويومايوس الوفي؛ ليُعِدوا لنا طعامًا سريعًا خفيفًا.»
وأُعِدَّ الطعام، ومُزِجت الخمر، وذهبت الخادم العجوز فأعدَّت حمامًا لسيدها الشيخ، ثم ضمَّخته وأضفت عليه ملابس نظيفة، وتنزَّلت مينرفا الكريمة فمشَت بيدَيها الإلهيتَين على جسم ليرتس، فتدفق الشباب في عروقه، وعاد إليه رُواؤه وحُسن سَمته، فلما خرج من الحمام تعجب أوديسيوس وقال له: «تالله يا أبت إني لا أشك في أن بعض الآلهة قد ردَّ إليك صباك، وخلع عليك بُردة الشباب من جديد.»
ولم يكن عجبُ ليرتيس بأقلَّ من عجب ولده؛ «تعاليتَ يا جوف، وتقدَّستِ يا مينرفا، وسما جَدُّك يا أبوللو! لقد كسوتموني نضرة الشباب التي كانت لي يوم ملكت مدينة نريكوس بمعونة السيفالينيين الشجعان، أواه لو قُدِّر لي أن أقف إلى جنبك أمس يا بُني؛ ليكون لي شرفُ مُجالَدة الأوغاد الذين قتلت، إذن لحظيت بكوكبة منهم أُضرِّج أديم الأرض بدمائها، فأشفي منهم حَردًا في صدري، وغلًّا في حُشاشتي.»
وأكَلوا هنيئًا وشربوا مريئًا، ثم جلسوا على الأرائك متقابلين، وكانت الخادمة العجوز قد انطلقت إلى المزارع، فدعَت كبير الفلاحين دوليوس، فأقبل في رجاله الذين كدَّهم العمل وأنهكَتهم المثابرة، فلما رأوا ما ارتدَّ إلى سيدهم من شبابه، وهذا الرجل الغريب الذي يجلس بين العائلة المقدسة وقفوا مسبوهين مشدوهين لا يعرفون ماذا يقولون، وحدجهم أوديسيوس، ثم بدأ يُكلِّمهم في لطف وخبث ويقول: «اجلس أيها العجوز دوليوس، فكُلْ أنت ورجالك؛ فليس ثَمة متَّسَع لدهش أو عجب. اجلس قبل كل شيء، فاملأ بطنك وبطون رجالك، لقد انتظرناكم طويلًا، لكنكم استأنيتم!» ولكن سرعان ما عرَف دوليوس مولاه حين سمع صوته فأقبل عليه، وتناول يدَيه، وطَفِق يغمرهما بالقُبَل الباكية ويقول: «أوه يا مولاي! هكذا والله تستجيب السماء، لقد طالما جأرنا، ولقد طالما دعونا، فلها الثناء إذ ردَّتك إلينا! واسلَمْ وسُرَّ وابتهج، ولكن، هل علمت الملكة بقدوم مولاي؟ ألا ننطلق من فورنا فنزفُّ إليها البشرى؟»
وطمأنَه أوديسيوس، فجلس الرجل مبتهجًا مسرورًا، وجلس أبناؤه معه وأخذوا في أكلهم وشرابهم، وأخذ أوديسيوس يُلاطفهم ويُداعبهم. وهكذا عاد الحُبور مرة أخرى إلى بيت ليرتيس.
•••
وقرع آذانَ الناس في المدينة ما كان من قدوم أوديسيوس، وما حاق بالأمراء المعاميد من نكبةٍ على يدَيه الجبَّارتَين، فأُهرِعَت جموعهم إلى قصره صاخبةً ناعبة، ثم انطلقوا إلى حيث كُدِّست أجساد القتلى، فحرَّق كلٌّ قتيله، وأُرْسِلت جثثُ الغرباء إلى ذويهم في أوطانهم في سفن الصيادين من كل فجٍّ لتُحْرَق ثمة، واجتمعوا بعدُ ليتشاوروا بينهم فيما ينبغي أن يكون، فنهض يوبيتيس والأسى يُزلزِل حوانجَه، وأنشأ يقول: «أيها الرفاق، لقد كان هذا الرجل الطاغية حربًا دائمة عليكم، فلم يُصِبْكم منه إلا الشر، ولم تُثمِر لكم فعاله إلا الندامة؛ فلقد ساق شبابَكم وخيرة أبطالكم إلى طروادة المشئومة حيث قُتِلوا أجمعين، وها هو ذا ينقلب إليكم اليوم، فيذبح ساداتكم وذَوي الصَّولة فيكم … فهلموا إذن، ورَوْا رأيكم فيه قبل أن ينطلق إلى بيلوس فيطلب العونَ عليكم، وتُصبِحوا على ما قصَّرتم نادمين، إنا إن لم نثأَرْ لضحايانا فأي عارٍ يَسِمُنا؟ وأي خزي يَصمُّنا يا قوم؟ وأية حياة هذه التي تَحيونها بعد ما حلَّ بكم من هوان ومَذلة؟ لَخيرٌ لكم أن تذبحوا أنفسكم فترحلوا إلى هيدز مع أرواح قتلاكم، ولن تكونوا على ذلك من الآسفين.» ثم جلس وهو يتصدَّع من الحزن على صاحبه أتينوس الذي كان أولَ ضحايا أوديسيوس، وقام ميدون المنشد التاعس فقال: «أيها المواطنون، أعيروني آذانكم، تالله إن أوديسيوس لم يَرمِ سهامه إذ رمى، ولكن بعض الآلهة كان يرسم له ويُنافح عنه، ولقد رأيته بعينَيَّ هاتَين في صورة منطور، ووالله ما هو منطور، ووالله لقد كان يمشي بين يدَيه ها هنا وها هنا، فيُراعُ العشاق وتفزع قلوبهم ويسقط بعضهم فوق بعض، فتأخذهم سهامُ أوديسيوس، ويَرْوي من دمائهم سيفه.» وما كاد يفرغ ميدون — وكان فيهم أمينًا صادقًا — حتى طارت ألوانهم وامتقعَت وجوههم، ونظر بعضُهم إلى بعض وادَّارَءوا طويلًا، ثم وقف هاليتير بطلهم القديم ابن مسطور، وكانت له درايةٌ بكشف أستار الماضي والحاضر والمستقبل، فصعَّر خدَّه وقال: «أيها الإخوان، يا أبناء إيثاكا، اسمعوا وعوا، تالله لقد طالما مهَّدتُم للفتنة، وإنها لثمرةٌ أنتم غارِسو شجرتها، وأنتم اليوم جُنَاتها! أتذكرون يوم رجوتكم فألحَفتُ عليكم في الرجاء — أنا وصاحبي ميدون هذا — أن نذهب فنمنع القصر من شبابكم، ونصون عِرض أوديسيوس من أبنائكم، ونَصرفهم عن ولده وزوجه، ومتاعِ هذه الحياة الدنيا، فأبَيتُم أكبرَ الإباء، ورفضتم أقبحَ الرفض، وجعلتموها فتنة كنتُ أستعيذ بالآلهة منها؟! فعلام تغلي مَراجلُ صدوركم يا قوم؟ وفيم ائتماركم بالرجل وقد ثأر لعِرضه؟ ألا فاسمعوها كلمة مخلصة أُسْديها إليكم؛ الرأيُ ألا تذهبوا، وألا تجعلوها فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، بل اقعدوا ها هنا آمنين، ولا تكونوا كالذي سعى إلى حتفه بظلفه، وأبطأت عليه المنايا فسعى قدمًا إليها.» وما فرغ حتى زمجر القوم وتصايَحوا به، وضجُّوا من كل مكان، ثم إنهم سمعوا إلى شيطان يوبيتيس، ففزعوا إلى أسلحتهم، وأسبغوا عليهم من دروعهم، وانطلقوا إلى المدينة، فنظَّموا فيها صفوفهم، وأقاموا يوبيتيس قائدًا منحوسًا عليهم، وما جعلوه كذلك إلا ليلقى حتفه بيد ليرتيس والد أوديسيوس، وتُعجِّل روحه إلى النار.
ومضَت مينرفا إلى سيد الأولمب، جوف العلي، فوقفت ببابه تقول: «أبتاه، أبِنْ عن سريرتك، واكشف عن مكتوم قلبك ومكنون نفسك؛ هل يحلُّ على هذه الفئة الظالمة غضبُك، أو أنك مانحها محبتك، ومُحصِّنها بحمايتك؟» فتبسم من قولها وأنشأ يُجيب: «وفيم هذا التساؤل يا ابنتي؟ ألم تُقدِّري أنت أن يعود أوديسيوس إلى وطنه فيذبح بيدَيه أولئك العتاة الطغاة، ويُريح وجه الأرض من خباثاتهم؟ ليكن ما تشائين اصنعي ما بدا لك، ولكن نصحي أمحضك إياه يا مينرفا؛ ما دام أوديسيوس قد ثأر لنفسه من أعدائه، فليكن السلام على الأرض، وليحلَّ الأمانُ في ربوعها، وليتقاسم الملأ على الود والصفاء، وليحكم أوديسيوس بين الناس بالعدل، وعلينا نحن أن ننزع ما في صدورهم من غلٍّ فينسَوا سَخائمهم ويطرحوا ثاراتهم، ثم لتكن لهم من أنفسهم أمنة، ولتَجرِ البركات عليهم أجمعين، وليُصبحوا بحولنا أصفياء متحابِّين.»
وزفت مينرفا من السموات العلى إلى إيثاكا.
وفرَغ أصحاب أوديسيوس من أكلهم، فأمرهم أن يتحسَّسوا آثار القوم، فانطلق أحدُ أبناء دوليوس إلى المدينة، فرأى من استعداد أهلها ما رأى، وجاء إلى مولاه على عَجَلٍ، فقال له: «مولاي، لقد تسلَّح الإيثاكيون وهم موشكون أن يَقدموا إليك.» فنهض أوديسيوس فادَّرَع، وادَّرع أبوه وابنه وخادماه وأبناء دوليوس الستة، وادَّرع دوليوس كذلك، وادرع الفلاحون الآخرون، وحمَل كلٌّ سلاحه، وبرزوا إلى الطريق وفي مقدمتهم أوديسيوس.
وبدت مينرفا في صورة منطور وفي طيلسانه، فلما رآها أوديسيوس فرح واستبشر، والتفت إلى تليماك فقال: «أي بني، عليك أنت أن تَحميَنا اليوم؛ فقد عرفتَ ما خاض أبوك من معامع، وسنرى مَنْ يُحارب خيرًا من صاحبه اليوم.» فقال تليماك يُجيبه: «اطمئن يا أبي، فسترى كيف يحمي العُسْلوجُ فرعه، وكيف يشبُّ الفرع على أصله. تالله لن أفضحك فيما وكلت إليَّ، ولن يخيب رأيُ أهلي فيَّ.» وفرح الوالد بمقالة ابنه، وشكر الآلهة وأثنى عليها.
واقتربت مينرفا من ليرتيس، وهي لا تزال في صورة منطور، فقالت له: «أوه أيها الجدُّ الوقور! صلِّ لمينرفا وابتهل، وتوسَّل إلى جوف، أن يمنَحاك القوة والجَلَد، ثم اهجم بحَرْبتك على يوبيتيس فرَوِّها من دمه؛ فالسماء كلها معك.» ولمسته بيدها فتدفَّق شبابه في قلبه، وكان جيش الأعداء قد اقترب منهم، فطار ليرتيس إليهم برُمحه، وأقصد يوبيتيس بضربة في صدره، فخرج سنان الرمح يلمع من ظهره، ورأى أوديسيوس ذلك فطار إلى الملأ بسلاحه ورماحه، وانقضَّ تليماك في أثره، وهجم الآخرون في أثر تليماك، ولم يَطُل القِراع؛ فقد فزع الأعداء، واختلط نظامهم، فولَّوا الأدبار، ولكن هيهات! لا نجاة اليوم؛ فلقد سدَّ عليهم أوديسيوس ورفاقُه الطرق، وأخذوا عليهم المسالك، فهم في ضيق، وهم ذاهلون.
وهتفت ابنة جوف العذراء بأوديسيوس ورجاله تقول: «السلام عليكم أيها المحاربون، السلام السلام! قبل أن تجري دماؤكم أنهارًا.»
ثم بدَت مينرفا في صورتها الإلهية المقدَّسة، فارتعدت فرائص القوم، وتخاذلوا فيما بينهم حتى أصحاب أوديسيوس! لقد ارتجفَت أعصابهم وعصف الذعرُ بسواعدهم، وكادت سيوفهم ورماحهم تنتثر على الأرض. ولم يعبأ أوديسيوس، بل هجم كالنمر على القوم المنهزمين يودُّ لو يصعقهم، وطفق يبرق ويرعد، ويزأر بصوته المدوِّي العظيم؛ فغضب سيد الأولمب، وأرسل إحدى صواعقه نذرًا من لدنه إلى مينرفا، فعجلت إليه ذات العينَين الزبرجديتَين، وزجرَته عن الناس وهي تقول: «لا يا أوديسيوس، لا يا ابن ليرتيس النبيل، لا يجدر هذا بماضيك، ضع حدًّا لهذه المجزرة المروِّعة أو تجلب عليك غضب جوف العلي.»
وخبَتَ أوديسيوس وسُرَّت مينرفا، وعقد منطور الصلح بين الفريقَين، ودخل الناسُ في السِّلم كافة!