العشاق يتآمرون
وصل الركب إلى أسبرطة بعد أن غوَّر في وهادها وأنجد، وانطلق تليماك وصاحبه من فورهما إلى باب منلوس الملك حيث وجدا — لحسن الطالع — وجوهًا مُسفِرة، وجماهيرَ مستبشرة، وموسيقى تصدح، ومنشدين يردِّدون أناشيدهم ويرسلون أغنياتهم، ووليمة ملكية حافلة اجتمع لها الملك وأبناؤه وخلصاؤه ونداماه، يأكلون ويشربون ويَسمُرون ويتطرَّبون … ماذا؟ لقد اجتمع القوم من كل حدب وأقبلوا من كل صوب، يحتفلون بابنَي الملك؛ بابنه الذي زوَّجه أبوه من أجمل غادات أسبرطة وأكثرِهنَّ وسامةً وقسامةً وفتنةً، ابنة ألكتور العظيم، ثم بابنته المفتان اللَّعوب الطروب التي رُزِقها على كبر من هيلين، والتي نافست بجمالها ودَلِّها هرميون ابنة فينوس.
وما كادا يُجاوزان الوصيد حتى لمحهما أتيون كبير أمناء الملك، فانطلق إلى مولاه وحدَّثه عنهما: «إن لهما لمهابةً وإن عليهما لَرُواء، فهل يأذن لهما مولاي أو يأمر فنردهما من حيث أقبلا؟»
وأومأ الملك برأسه الكبير الذي يَزيد في وقاره وحسن سمته شعرُه الذهبي، وأمر أتيون أن يذهب إليهما، فيسير بين أيديهما إليه؛ «إذ كيف يُرَد عن طعامي الغرباء وقد طَعِمنا طويلًا زاد الغرباء؟»
ودعا إليه أتيون طائفة من الخدم وذهب إلى الوافِدَين الكريمَين فحيَّا وسلَّم، وحلَّ اللحم وأناخ البَهْم، ومضى بهما إلى داخل القصر من طريق يُشرِف على مكان الحقل وتُرى منه الجدران التي ازدانت بأحسن زينة، وقبة العرش التي تلألأت في الأنوار الوضَّاءة والسُّرُج الوهَّاجة، ثم لقيتهما فتيات من عذارى القصر فقُدْنَهما إلى الحمامات المرمرية الباذخة، فاغتسلا وتضمَّخا ولبسا ثيابًا ملكية، ثم ذهبا للقاء رب هذه الدار.
وهشَّ الملك لهما وبشَّ، وأجلسهما إلى جانبه على مقعدَين وثيرَين، وهما في دهش من ذاك المنظر العجب. وأقبلت فتاة فصبَّت على أيديهما الماء، وذهبت فأحضرت مائدة رائعة منسقة عليها قدر غير قليل من أفخر الأشربات وأشهى الآكال، ووقف خادم آخرُ يُقدِّم طبقًا بعد طبق، وكأسًا من ذهب بعد كأس من ذهب، والملك فيما بين ذلك يُبالغ في إيناسه لهما والحفاوة بهما، وينظرهما حتى يفرغا من طعامهما فيُخبراه عن أمرهما، وكان يتلطَّف فيُقدم لهما قطعًا من شوائه بيده.
«بيزستراتوس يا صديقي، ما أجمل وما أفخم وما أروع هذا الحفل الباهر، يتألق في الذهب والفِضة والعاج والكهرمان ودروع النحاس! أبدًا ما ترى العين مثل ذلك، ولا تسمع الأذن إلا عن قصر سيد الأولمب في شعاف جبل أيدا، أية ثروة وأي كنز؟»
وسمعه منلوس الملك فقال: «بني، لا تقرن قصر أحد منا — نحن بَني الموتى — إلى قصر سيد الأولمب، وأنت على حق حين ترى أن لا أحد يملك ما أملك أنا من أذخار وكنوز؛ فقد سحت في أقصى الأرض سنين عددًا، وجمعت الدُّرر الغواليَ من كل فج؛ من كريت وقبرص، وفينيقية ومصر، ومن أثيوبيا وأيرمبي، ومن صيدا ولوبيه، ورءوس الشاء والوعل هذه؛ الوعل الوحشي السائم، والشاء التي تُمِدنا بخيرها بغير حساب … لقد طوَّفت في الآفاق وتركت في كلٍّ منها ذكرى. ولا غروَ؛ فقد نبَّأكم آباؤكم أنباءَ منلوس الملك الذي دكَّ المعاقل وهدم القصور. ما أنسى لا أنسى هذا القصر العتيد الذي جعلت عاليَه سافله بما فيه من أذخار وقنًى، وددت لو كان في قصري شيءٌ منها، وودَّ الإغريق لو حصلوا في بلادهم جميعًا على بعضها، هناك! هناك تحت أسوار طروادة يا صاح، يا ويح نفسي! يا رحمتا للأصدقاء الأحباء الأعزاء الذين ناموا ثمة! لشد ما أُسلِّي النفس عنهم بالتأسي! لشد ما يندلع الأسى في قلبي عليهم جميعًا، ولا سيما صَفيِّي وخليلي وأعز أودَّائي عليَّ؛ أوديسيوس، أوديسيوس الكريم! ليت شعري يا صديقي فيم شطَّت بك النَّوى وطال عليك الأمد؟ أحي تُرْزَق؟ أم ثوَيت في بطحاء بَلْقع؟ يا ويح لك ولأبيك الشيخ وزوجك الملتاعة وابنك المحزون اليتيم تليماك، الذي غادرته في المهد ما بلغ الفطام إلى حومة الوغى وحلبة الحِمام.»
ولم يملك الفتى دموعه حين سمع هذا الهتاف باسم والده، فنشج نشيجًا مؤلمًا، ثم استخرط في البكاء، وطفق يذري شئونه في طرف ثوبه، بين دهشة منلوس وحيرته وذهول الحاضرين. وانعقد لسان الملك فلم يسأل الشابَّ عن حاله حتى أقبلت هيلين فجأةً، فتلفَّت القوم ينظرون إلى هذا الرشأ الذي يتثنَّى ميَّاسًا في ظلالٍ من الفتنة كأنه ديانا ربة القوس الذهبية.
واستوت على عرشها المنضَّد الذي أصلحَته يدا أدرستا وعناية أكليب، ثم أحضرت الطُّرَف والهدايا واللُّهى؛ فهذه سلة من الفضة المزخرفة بالتصاوير هديةً من ألكندرا زوج بوليت أمير طيبة عروس المدائن المصرية، وتلك عشر بدر من النضار الخالص، وطستان من الذهب ودنَّان من الإبريز؛ يُقدِّمها كلها ملك أسبرطة إلى زوجه البارعة الرائعة الهيفاء، ونظرت هيلين إلى الضيفَين الغريبَين، وسألت زوجها: «ملكي، نشَدتُك الآلهة أن تُخبِرني مَنْ هذان؟ إن أحدهما شديد الشبه بطفل أوديسيوس، الصغير تليماك، الذي تركه أبوه صبيًّا في المهد من جراء حرب إليوم المشئومة.»
وانتهز ابن نسطور الفرصة فقال: «حقًّا أيها الملك إنه هو، ولكنه خجول حيي، ولقد أوشك حياؤه أن يمنعه من لقائك، وقد هاج تباريحَه ما ذكرتَ عن أبيه. أما أنا فإني ابن نسطور صديقك الآخر، وقد أمرني أبي أن أصحب تليماك إلى هنا عسى أن يسمع خبرًا عن أبيه الذي ذهب يذرع الأرض ولا يعلم أحد أيان قد ذهب. وهاك ابنه المكلوم يجترُّ أشجانه، وتطحن فؤادَه أحزانه.»
وشده البطل — ذو الشعر الكهرماني — فقال: «يا للآلهة! أهكذا أُفاجَأ بلقاء ولدي! أنت؟ أنت ابن أوديسيوس الذي شقي طويلًا بسببي، وبذل نفسه من أجلي، ولا يزال يُناضل الويلات من جرائي؟ كرامةً وحبًّا يا ابن خير الأصدقاء، لو عرَفتُ أنك تسعى للقائي لَشِدتُ لك مدينة في آرجوس تتيه على المدائن وتزهى على القرى، ورفعت لك عماد قصر منيف طالما كنت إخاله يُؤوينا جميعًا فنسعد سعادةً لم يحلم بها قوم من قبل ولا من بعد، ونلتذ، أنا وأبوك وأنت وجميع أهلي وأهله، ذكريات الماضي المترع … آه يا أوديسيوس لقد طاشت الأحلام وذابت الأماني وقسَت عليك السماء، فحرمتك كل شيء، حتى الأوبة إلى أرض الوطن!»
وأثارت كلمات الملك شجون القوم فبكى تليماك وأذرفت الملكة وانبجس الدمع من عينَي بيزستراتوس حين ذكرت طروادة، فأذكرته قتل أخيه تحت أسوارها، ثم قال: «حسبك أيها الملك! لقد تذاكرنا — أنا وصاحبي — جلائلَ أعمالك فعرَفنا فيك المليكَ الأجلَّ، والمقدام البطل، ولكن ماذا تُجْدي دموعنا؟ لقد غالت يد الردى أخي وابن أمي وأبي في سبيلك كذلك! ألا تذكر؟ أنتيلوخوس البطل المغوار والفارس الكرَّار الذي لم تكتحل عيناي برؤيته! أوه يا ابن أورورا الغادر، شُلَّت يداك بما فتكت بأخي.»
وتعطف الملك فطيَّب ابن نسطور بكلمات عاليات، وأمر الندمان فصبَّ الماء على أيديهم جميعًا، ثم أخذوا في آكالهم، وصبَت هيلين قطراتٍ من طيب مُذهب للأحزان في كأس تليماك وكأس صاحبه، لا يعرف مَنْ يذوقها إلى الأسى من سبيل، وهي قطرات عجيبة أهدتها للملكة زوجة «ذون» الأميرة المصرية بوليدامنا، وكم في مصر من سحر مبين!
ونهض الملك والملكة كذلك فدخلا القصر، واستسلما لأطيب الرقاد.
•••
وأجاب تليماك: «مولاي الملك منلوس العظيم، لقد جئت أتحسس خبرًا عن أبي، وأقبلت أُحدِّث عن أعدائه الذين آوَوا إلى بيته فما يريمون، يستنزفون غلَّته، ويُهلكون حرثه، ثم هم مع ذاك يُنافس بعضهم بعضها في كبر وزهو وخيلاء؛ من أجل زوجه يا للعار! إنهم استباحوا كل شيء؛ كل نعمه وكل شأنه، ولم يعفوا آخرَ الأمر عن عِرضه. إني أستجيرك يا مولاي وأضرع إليك أن تُخبرني عما تعلم من أمر أبي؛ هل قضى تحت أسوار إليوم؟ أم غالته يدُ المنون في ركن آخر من أركان الأرض؟ لقد كان خليلك وصفيك وآثرَ أصدقائك وأعزَّ أودَّائك عليك، فبكل آلاء ذلك عندك أستحلفك أن تَصدُقني؛ ماذا تعرف من أخباره؟ وماذا عسيت سمعت من أنبائه؟»
ولم أُبالِ أنِّي شُدِهت، فسألتها قائلًا: «حسبكِ يا ربة، إني ما لصقت بأرض هذه الجزيرة بأمري، ولا أقمت فيها بمرضاتي، بل كان ذلك قدرًا عليَّ مقدورًا، ولكن خبري بحقك؛ إذ الآلهة تعلم كل شيء، مَنْ مِنْ أرباب السماء يحبسني هنا؟ هل مقدورٌ لي أن أرتدَّ إلى وطني فوق غوارب هذا اليمِّ المضطرب.»
وقالت عروس الماء: «أيها النازح الغريب، سأُنبئك فأصدقك، إنك الآن مقيمٌ بشُطآن مصر التي تقع تحت إشراف أبي بروتيوس، سيد الأعماق ورب المياه المصرية، والمتصل برعايا نبتيون في أغوار هذا البحر، فإذا استطعت أن تتغفَّله فتقبض عليه وتشد وَثاقه؛ فإنه يَقِفك على أبعاد هذا اليم، والطريق السوي الذي ينتهي بك سالمًا غانمًا إلى بلادك، بل ربما — إذا طلبت إليه ذلك — وقَفَك على كل ما حصل في بيتك من خير أو شر خلال سفرتك الطويلة؛ لأني أعرف أنك صفيُّ السماء وحبيب الآلهة.»
غير أني لم أدرِ كيف تستطيع أيدي بني الموتى أن تَقبض على هذا الإله البحري الكريم، ولم أُخفِ عليها ذلك بل حدَّثتها به، وذكرت لها أنه ربما ولَّى دبره إذا شعر مني بهذه المحاولة فلا أستطيع لقاءه بعدها أبدًا، بَيْد أنها طمأنتني وذكرت أن أباها يخرج من الأعماق في الظهيرة إلى جون قريب حيث يستلقي برهة وسط قُطْعان كثيفة من عجول البحر، من ذراري هاليسودنا الجميلة، تأتي هي الأخرى في أثره لتنام ثمة … «فإذا كانت هذه الساعة فإني سأقودك بنفسي إلى هناك، وليكن معك من رجالك ثلاثةٌ هم أشجعهم وأكثرُهم قوة، وسأدلكم على مُنعرَج آمن تنتظرون به حتى يكون قد غلبه الكرى، ثم تنقضُّون عليه فتُكبِّلونه وتشدُّون وثاقه، وإياكم أن يرهبكم بشيء أبدًا، إنه سيكون تارةً سيلًا رابيًا، وتارةً سيكون نارًا ترمي بشَرر كالقَصْر، كأنه جِمالات صُفْر، وأخرى يكون أفعوانًا هائلًا ينفث السم، ولكن خذوه أخذًا شديدًا، ولا تقتلوه فتهلكوه؛ فإنه إن آنس فيكم قوةً عاد فانتفض إلى صورته الأولى التي رأيتموه عليها، ثم ترونه بعد ذلك وقد أسلس قيادَه، وهدأ وتطامن. فإذا فعل ذلك سألكم عن حاجتكم، ففكُّوا وثاقه وأطلقوا سراحه وسلوه ما شئتم، فإنه مُجيبكم عما تسألون.»
•••
وتلبَّثنا نرقُب اليمَّ حتى برزت عجول البحر فنامت في الجون، ثم كانت الظهيرة فبرز بروتيوس وطفق يعدُّ قطعانه مبتدئًا لغفلته بنا، وكأن إثارة من الشك لم تُخامِرْه في حالنا فانطرح ونام، وانتهزنا الفرصة فانطلقنا نعدو إليه، وقبضنا عليه وشددنا وثاقه بحيث لا يستطيع إفلاتًا. يا عجبًا! لقد انتفض انتفاضة هائلة، فإذا هو أسدٌ غَضَنفر ذو لبدة، ثم انتفض فإذا هو أفعوان أرقمُ يتحوَّى ويتحوى، ثم انتفض فصار نمرًا رائعًا ذا أنياب، ثم صار خنزيرًا بريًّا، فسيلًا رابيًا ذا عُباب، فأيكةً باسقة ذاتَ غصون وأفنان! ولما لم يجد بدًّا من أن يبدو لنا على حقيقته انتفض فكان على صورته الأولى، ثم قال: «عمرك الله يا ابن أتريوس، أي إله جبَّار حبَسك في مياهنا وسلَّطك عليَّ، تمسك بي وتشد وثاقي؟ ماذا تريد؟» فقلت له: «حسبُك يا رب هذا البحر، أنك كنت بي عليمًا، لقد طال مقامنا بهذه الجزيرة، ولست أدري أي إله عادل حبسنا فيها ولأي شيء؟» وقال بروتيوس: «وَيْك يا منلوس، لِمَ لَمْ تصل في تيه هذا البحر حتى تكون تلقاء مصر فتُقيم ثمة حتى يثوب إليك رُشدك وتُصلِّي للآلهة خاشعًا إلى أوطانك؟» وعراني مما ذكر ما عراني، فقلت له: «الحمد لك أيها الإله القدوس! سأفعل، سأفعل كل ما تأمرني به، ولكن قل لي بحق ربوبيتك؛ هل وصل كل رجالنا إلى أوطانهم سالمين كما تركتهم أنا وصاحبي نسطور عند طروادة؟ أم أن منهم مَنْ غرق وقُتِلَ أو مات حتف أنفه؟»
ولم يكَد يصعقني هذا الخبر حتى خذلتني رِجْلاي، وانطرحتُ أتقلَّب في الرمال من الغم، وذرفت الدمع مع الحرقة على أخي ولكنه خاطبني قائلًا: «انهض يا ابن أتريوس، إنك تبكي ولات حينَ بكاء! هلمَّ نَعُد إلى وطنك لترى بعينَيك قبره ولتشهد ابنه العظيم أورست ينتقم له، ويستأصل شأفة قاتليه.»
وكأنما سرَّى عني بما قال بعد، فنهضت وساءلته بعد أن شكرته على ما أنبأني: «إذن مَنْ هذا البطل الثالث الذي ما يفتأ يذرع البحر ضالًّا في رحابه؟»
فقال: «ذاك ابن ليرتيس وسيد إيثاكا «أوديسيوس»، لقد شهدته بعينَيَّ حبيسًا في جزيرة عروس الماء كاليبسو؛ لقد حلَّ عليها ضيفًا برغمه، فلقد تحطمت سفائنه وهَوِيَته عروس الماء، وهو لا يزال عندها لا يجد مركبًا يحمله إلى وطنه. أما أنت، أيها الملك منلوس، فطوبى لك، إنك ستحيا سعيدًا، ثم تنتقل إلى دار الخلد ونعيم لا يفنى؛ جنات الإليزيوم، حيث لا برد ولا زمهرير، ولا يوم عبوس قمطرير، بل تُسْقى ومَنْ معك من الأناسي من ماء مَعين لا لغوٌ فيه ولا تأثيم؛ مقام كريم وجنة نعيم، وغادتك الحسان هيلين، يا ذرية زيوس العظيم.»
ثم غاص في اليم، وعدت ورجالي إلى الفُلك، وفي القلب لوعة وبالنفس أسًى، وتبلَّغَ كلٌّ بلقمات، ثم أسلمنا عيوننا للكرى، وكأنما نام أسطولنا في ظلام الشاطئ.
وانبلجَت أورورا، فنضَّرَت بالورد جبين المشرق، وهبَّت أنفاس الصباح المنداة فأُهرِعنا جميعًا وجزَرْنا الأضاحي باسم الآلهة، وصلينا لها مُخبِتين، وأقمت لأخي رمسًا فوق ثرى مصر الخالدة، ثم هبت الريح رُخاءً، فنشرنا الشراع وأصلحنا القلوع، وأقلعنا من فورنا إلى أرض الوطن، فبلغنا هيلاس سالمين.
وبعد، فلتُقِم معنا ها هنا أيامًا تمرح وتفرح، ونسعد نحن بك يا ابن أعز الأصدقاء، ثم لنعد لك الهدايا واللُّهى التي تليق بك، ولتعد إلى وطنك على عربة فاخرة تجرُّها ثلاثة من الصافنات الجياد، ولنزودك بكأس ذهبية تصب منها قرابين الخمر للآلهة فتذكرنا أبدًا.
وشكر تليماك واعتذر، وأبدى من الحنين إلى وطنه وما عليه من واجبات وما ينبغي من عودة ابن ملك بيلوس؛ ما برر عنده أن يستأذن في الأوبة. فأعذره ملك أسبرطة وأهدى إليه كأس فيديموس الفضية ذات الشفة الذهبية، الكأس الخالدة التي صنعها الإله فلكان بيدَيه لينفخ بها ملك سيدونيا.
وهيا الندل مقصفًا فاخرًا به جزور وخمر، وأقبلت أزواجهنَّ يحملن الخبز، فأكل الملك ومَنْ معه ورَوُوا.
هذا ما كان من أمر تليماك ومنلوس.
ورُوِّع الرجلان لهذا الخبر، فلم يكن أحد يعلم أن تليماك قد غادر إيثاكا، بل كانوا يظنون يجترُّ آلامه وأحزانه في أحد الأدغال النامية في مزارعه. قال أنتينوس: «أحقًّا أنه أبحر يا تومون؟ وهل صحبه أحدٌ من ذويه؟ وعلى سفينتك سفينتك أنت؟ وهل أبحر عليها بدون إذن منك؟ أم أنت الذي أذنت له بها أول ما طلبها منك؟»
وأجابه نومون: «بل أبحر عليها بإذني، وماذا عساك كنت صانعًا لو سألك أمير في مثل بأسائه أن يُبحِر على سفينتك؟ أكنت ترفض وتتأبى؟ لقد أبحرت معه ثُلَّة من أشجع البحَّارين كلهم فَيْنان العود غريض الشباب، وقد رأيت معه أمير البحر منطور. ألا كم كان يبدو منطور بهيًّا وقورًا رائعًا! تالله لقد خِلْته — بل أكبر ظني أنه — أحد الآلهة، وكيف لا يكون إلهًا وقد رأيته بعينَيَّ هاتَين صباح أمس وهو قد أبحر إلى بيلوس قبيل ذلك، فأنَّى عاد؟»
وفرغ نومون، وعاد أدراجه إلى دار أبيه، واستولى الذهول على الرَّجلَين وكان العشاق قد فرَغوا مما أخذوا فيه من لهو ولعب، وجلسوا يستريحون من التعب، فيمَّم شَطْرهم أنتينوس وهو يتميَّز من الغيظ، وينقدح الشرر من مُقلتَيه، فقال: «يا أرباب السماء، أفيقوا أيها الرفاق! عمل باهر، باهر جدًّا، لقد أبحر الفتى تليماك في عُصبة من شباب الملاحين ليُؤلِّب عليكم العالمين، ويُرسِل علينا حُسبانًا، الويل له! أعِدُّوا لي مركبًا وعشرين فارسًا من أبسل صناديدكم لأفجأ — بين أواذي ساموس ونتوء إيثاكا — التاعس الذي ذهب يستروح أخبار أبيه ليسعى إلى حتفه بظلفه.»
وتحمَّس الملأ وعلا هُتافهم، وهرولوا إلى الرحبة الداخلية في بيت أوديسيوس يتآمرون، وكان على مقربة منهم الأمين ميدون الذي انطلق بدوره ينقل ما عقدوا خناصرهم عليه من إفك إلى الملكة الباكية المفئودة؛ بنلوب. وما كاد يقص عليها ما اعتزموه من قتل تليماك حتى تضعضعت وتخاذلت ومادت من تحتها الأرض، وتحبَّسَت أنفاسها هنيهة، ثم سألت ميدون فيم أبحر ولدها؟ «ألكي ينقرض اسمه من صفحة الوجود؟» وأجابها الرجل: إنه ذهب يتسمَّع الأنباء عن أبيه. ثم ذهب لطيته، وجلست الملكة المرزَّأة لدى الوصيد تبكي وتنتحب ومن حولها الغيد الرعابيب والعجوز الشمطاء من خادمات القصر يُعوِّلن ويُكَفكِفن …
قالت الملكة: «ويحٌ لي أيها العذارى! أبدًا ما أحسب واحدةً من النساء قد لقيَت بعضَ الذي لقيتُ مما كتبته عليَّ السماء؛ لقد فقدت زجي أسد هيلاس الكريم أوديسيوس الأمير الحلاحل، رجل الفضائل والمروءات، ثم لم يبقَ إلا أن يرحل عني ولدي، دون أن أعلم أمر رحيله من إحداكن، فكنت أَحُول بينه وبين ما اعتزم ولو أديت ثمنًا لذلك روحي، ولكن، هيا، لتمضِ دليون — خادمتي الوفية ذات التجاريب — إلى ليرتيس، فلتحدثه عما تآمر الذئاب، وي! لم يبق إلا أن يقتلوا ولدي وسليل أوديسيوس!»
ونهضت يوريكليا مرضع تليماك تنثر دموعها وتقول: «وا أسفاه عليَّ أيتها الملكة، سأعترف بما كان ولكِ أن تقتليني، أو تُبْقي عليَّ، لقد زودت الأمير بكل ما أمر من زاد وخمر، وأخذ عليَّ مَوثِقًا ألا أبوح بسره حتى يمضي اثنا عشر يومًا بتمامها. حتى أنتِ يا مولاتي، لقد أمرني ألا أُعْلِمكِ بشيء، فاهدئي يا مولاتي ولا تُضاعفي أحزان القصر بحزن جديد، وامضي إلى مخدعكِ فاستريحي ثمة، ولنُصلِّ جميعًا لربة العدالة مينرفا باللاس الطيبة؛ أن تصون مولاي الأمير وترعاه، وتكلأه من كل خطر، وليعد إلى عرش آبائه ليحكم ويعدل ويُدير شئون البلاد.»
ورقأ الدمع في عيون الحاشية، ونهضت بنلوب فصعدت إلى الطابق العلوي، وأمرت بسلة من الكعك فنفحت بها العذارى قربانًا لمينرفا وتقدمة، ثم أرسلت هذه الصلاة: «اسمعي يا ابنة سيد الأولمب، يا مينرفا العادلة، باسم ما ذبح لكِ أوديسيوس في هذا القصر وما ضحى نضرع إليكِ ونتوسل بكِ ونُصلِّي لكِ أن تصوني ابنه الأمير، وأن تُرسلي عبوسة من شُواظ غضبك على أعدائه؛ أولئك الأضياف الظالمين، آمين.»
وانهمرت الدموع من عينَي الملكة، فاستجابت مينرفا صلاتها لمَّا علا ضجيج القوم وارتفع صَخبهم، وكان فيهم شاب نزق التأثَت في أذنَيه صلاة بنلوب فحسبها أشرفت تُناغي وتُغازل، فراح يُعرِّض بها في كلمات قوارص، قطعها عليه أنتينوس بتحذيره القومَ ونصيحته لهم أن يستعينوا على حزم أمرهم بالكتمان.
وتخيَّر أنتينوس عشرين من خيرة رجاله، ويمَّم بهم شطر البحر، ثم ركبوا في سفينة أُعِدَّت لما اعتزموه من تلصُّص وقرصنة وفتك إعدادًا كافيًا، فنُقِلت إليها الأسلحة، وحُمِلت إليها أحمال الزاد والذخيرة، وأقلعَت، لا باسم الآلهة مجراها، ولا سلكت سبيل الرشاد.
•••
واضطجعت بنلوب في فراش حشوُه فكرٌ وهم، وجاشت في قلبها الوساوس، وطفقت الأوهام تفتك برأسها القلق الحيران بسبب ولدها وما دبَّر له الكلاب وما كادوا؛ مسكين أيها الأسد، لولا قوتك وجبروتك ما أكثر صائدوك حولك الأحابيل.
وأخذتها سِنَة من النوم، فأقبلت مينرفا الكريمة في رؤيا عجيبة تُواسيها وتُذهِب عنها طائف الحزن، فتزيَّت بزي الأميرة المفتان أفتيما، ابنة البطل الكبير إيكاريوس، ثم وقفت عند رأسها وشرعت تُرْسِل هذه الأحلام:
أهكذا تنامين ملء عينَيك الجميلتَين يا بنلوب العزيزة؟ ليفرخ روعك، وليصفُ بالك؛ فالسماء ترعى ولدك، وهو عائد إليكِ عما قريب، إنه لم يقترف شيئًا مما يُغضِب الآلهة؛ ولذا فهي تكلؤه وترعاه وتحفظه، فقرِّي عينًا واسلمي وانعمي.
وتقول بنلوب إذ هي تحلم: «مَنْ؟ أفتيما؟ عجبًا فيم قَدِمتِ يا أختاه وقد ندر ما كنت تُلِمين بهذا القصر؟ ألِتُواسيني وتُسلِّيني؟ لقد تكاثرت الأحزان على قلبي، وتكسرت النصال على النصال؛ لقد فقدت زوجي، أسد هيلاس وفخر آرجوس وعزي الأبدي، ثم ها أنا ذا أنتفض فرَقًا على ولدي؛ ولدي الطري الفَيْنان الذي لا قدرة له ولا احتمال، في هذا البحر اللجي، لقد أقلعَت به سفينة كأنها تسبح في بحر من دمي وأحزاني، وها قد تعقَّبه الأشرار في سفينة أخرى يريدون غيلته قبل أن يرتدَّ إلى وطنه.»
وتُجيبها مينرفا: «لا عليكِ يا ملكة ولا عليه هو الآخر، إن معه راعيًا يحفظه ويُوقِّيه، راعيًا يتمنى الجميع أن يكونوا في رعايته أبدًا؛ مينرفا، إنها أيضًا تُبشرك وتُرفِّه عنكِ، وأنا هنا رسولها إليكِ أقبلت بأمرها أواسيكِ.»
وهلعت بنلوب ثم قالت: «وي! أما إنكِ إذن لربة وقد كلمتك الأرباب! ألا قُصِّي عليَّ إذن ما كان من أمر رجلي؛ ألا يزال حيًّا يُرْزَق؟ أم تخطَّفته يد المنون؟»
وتضاحك الشبح العابس فقال: «لا، ليس الآن لن أذكر لكِ إذا كان رجلك لا يزال حيًّا أو أنه قد قضى. ما لنا ولذلك؟»
ثم رفت في ظلام الغرفة وصعدت في سماء الأحلام.
ونهضت الأم وقد سُرِّي عنها بهذا الحلم، وانجاب كابوس الهم الذي كان يجثم على قلبها.
وأقلع العشاق بفُلكهم في اليم المضطرب، كلٌّ تُحدِّثه نفسه بمقتل تليماك حتى كانوا عند برزخ إستريس بين ساموس وإيثاكا، فأرسوا ثَمة يتربَّصون.