أوديسيوس يُبحِر من جزيرة كاليبسو
هبَّت أورورا من فراش زوجها الدافئ الحبيب «تيتون» فنشرت في المشرقَين غلالة سَنية من فيض ضوئها، بينما كان مجلس الآلهة منعقدًا في ذروة أولمب، وقد استوى زيوس على عرشه، ومينرفا، ربة الحكمة والموعظة الحسنة، قائمةٌ بين يديه، تُحصي آلام أوديسيوس وتبث أشجانه وتُصوِّر للآلهة صنوف العذاب التي يتجرَّع غصصها وحده في هذه الجزيرة النائية السحيقة، فتقول: «أبتاه! يا سيد أرباب أولمب جوف، أصغِ إليَّ، وأنتم يا آلهة الخلود، أعيروني انتباهة واحدة منكم؛ فإنها حَسْبي! إلى أين تصير الأمور إذن؟ هاكم قد أصبح أمر الناس فوضى، والطغاة يعيشون في الأرض مفسدين، وكأنما أغمضتم أعينكم عن خيارهم، ولم يضركم ألا تكفوا أشرارهم، فنسيتم الرجل الصالح أوديسيوس الذي طالما منحكم محبته والذي بذل لشعبه مهجته، يثوي اليوم في تلك الجزيرة الموحشة يجترُّ همومه ويُبعثِر في صفحة السراب آماله. كلا على كاليبسو عروس الماء، لا يملك سفينة فيقلع إلى الوطن، ولا يجد قلبًا إلى جانبه فيبثه حزنه ويشتكي إليه لأواءه! وكأنما لم يكن بحسبه بعض ذلك، بل تُسلِّط عليه الأقدار القاسية عصبة من الأعداء الألدَّاء يتربصون بابنه الشر وينتوون غيلته، إذ هو عائد من أقصى الأرض؛ من أسبرطة وبيلوس، بعد رحلة منهكة باكية قام بها يتنسَّم خبرًا عن أبيه يشفي في قلبه غُلَّة، ويُبْرئ في نفسه كُلومًا.»
ويُجيبها رب السحاب الثقال: «أية كلمة هائلة انفرجت عنها شفتاك يا ابنتي؟ ألست تتشوَّقين إلى عودة أوديسيوس سالمًا آمنًا فيبطش بكل أعدائه؟ اطمئني إذن ولتحرسي ولده تليماك حتى يصل سالمًا آمنًا هو الآخر إلى أرض الوطن، وليبؤ أعداؤه بالفشل.»
ووقف هرمز يُمتِّع ناظِرَيه بسحر هذه الجنة ثم دلف إلى الكهف، ولم يكن يسيرًا على عروس الماء أن تعرف مَنْ هو، وأي إله خالد طرق بابها، ولو أنها هي أيضًا فرد من أسرة الخالدين؛ ذلك لأن سكان السماء يكونون مثلنا أحيانًا، لا يعرف أحدهم جميع الآخرين لبعد الشُّقَّة ونأْي الدار وانقطاع المزار، وأرسل عينَيه في كل شق من شقوق الكهف، بيد أنه لم يقف لأوديسيوس على أثر، فانثنى، ويمَّم نحو الشاطئ واستوى على صخر عظيم ناتئ، وشرع ينثر من عينَيه الدموع الغوالي، يطفئ بها في القلب سعيرًا سرمديًّا يُلازمه أبد الدهر، وكأنما عرفت كاليبسو من هذه الآية أنه هرمز فراحت تُسائله، إذ هي مستوية على عرشها الممرَّد العظيم:
«هرمز، يا صاحب العصا السحرية، يا مَنْ طالما أحببته وبجَّلته، حدِّثني فيم أقبلت وقد ندر ما قدمت إلى هنا، هلمَّ فقل، سَل حاجتك فسأقضيها إن تكن في وُسعي. ولكن هلمَّ أولًا ولتُؤدَّ لك مراسم القِرى وواجبات الضيافة، هلم.»
ومدَّت عروس الماء سِماطًا حافلًا بأشهى ألوان الطعام وصنوف الشراب، وأقبل هرمز فاغتذى وروى من هذه المائدة القدسية، ثم توجه بالكلام فقال: «تسألين أيتها الربة فيما أقدمت، ألا فاعلمي أنني ما أقدمت عن أمري لكنه أبى، سيد الأولمب وكبير الآلهة هو الذي أرسلني؛ إذ أية حاجة لإله في هذه القطعة المنعزلة من الأرض، يُحيط بها الملح من كل مكان، حيث لا عباد ولا خلق يُؤتون الزكاة ويُقيمون الصلاة، ولا أثر لعبادة زيوس العظيم، إنه جل جلاله يقول: إنك تحتجزين هنا أتعس مخلوقاته، البطل الكبير الذي نزح عن بلاده إلى إليوم، فقضى ثمة تسع سنين ثم أبحر عنها بعد سقوطها في العاشرة مع مُحاربي هيلاس الذين تفرَّقوا في البحر شذَرَ مَذَر، فمنهم مَنْ غرق ومنهم مَنْ قُتِل، ومنهم مَنْ وصل إلى بلاده … إلا إياه؛ فقد هلك كل رجاله، وقذفه البحر فوق جزيرتك النائية. جوف يأمرك أن تردِّيه، ففي كتاب المقادير أنه لا يهلك هنا، بل يعود إلى بلاده ويلقى فيها آله.»
وكلَّمها هرمز فأنذرها من غضبة سيد الأولمب، وحضَّها أن تعمل على إبحار البطل.
•••
ورف هرمز الرسول في لازَورْد السماء، وانطلقت عروس الماء تبحث في الجزيرة عن أوديسيوس، حتى لقيته فوق صخرة ساهمًا واجمًا تفري قلبه الهواجس، ويعبث به محال الأماني، وقد انهمرت فوق خدَّيه عبراتٌ حِرار، واللحظات تذبل فتسقط من حياته في ظلام اليأس كأوراق الخريف، وقد ملَّ هذا المقام الطويل البائس في جوار عروس الماء التي كانت تخلع عليه حبها البارد، وتقسره على أن يَقضي لياليَه بجانبها على فراش واحد في ذلك الكهف السحيق. ولكما فكَّر في وطنه، ونظر إلى الموج المتواثب في أفق اليم، وعرَف أن لا قدرة له عليه. بكى وأنَّ وتوجَّع وتصدَّع، وأرسل في لا نهاية الماء والسماء، آهات وآهات.
واقتربت منه عروس الماء في رفق وحدب، وقالت له: «أيها التعس، لا تنتحب هكذا، ولا تصهر حياتك الغالية في تنُّور من الآلام، هلمَّ، هيا إلى عمل مجيد. أمامك الدوح العظيم والأيك الذاهب فاقطع منه ما شئت، واصنع لنفسك رمثًا يحملك فوق هذا العُباب المتلاطم، وسأُزوِّدك بكل ما يكفيك من طعام وشراب، وسأُمِدك بأثواب جديدة تقيك الحرَّ والبرد، وسأُسخِّر لك الريح تُهدهِدك إلى بلدك البعيد. هذا قضاء من آلهة السماء التي تُقدِّر فتعدل، وتقضي فلا يُرَد لها قضاء.»
وتفزَّع أوديسيوس لهذه المفاجأة ثم قال: «أوه يا عروس، بل في الأمر سر تُحاولين إخفاءه عني. أي رمث يحملني في ذلك البحر اللجي؟ وأي ريح تُسخرين من أجلي؟ وإن السفينة العظيمة لتَمخُر عُبابه وهي لا تدري أتسلم أم يكون أهلها من المغرقين؟ لن أفعل حتى تُعطيني موثقك وحتى تُقسمي القسَم العظيم أنكِ لا تُبطنين لي شرًّا ولا أذًى.»
وتبسمت الربة الهيفاء، وراحت تربِتُ على خدَّيه وهي تقول: «ويحك! كيف تُسيء بي الظن يا أوديسيوس؟ أية حجة تملأ بها يدَيك على ما قلت؟ ولكن أصغِ إليَّ، أقسم لك بقسم الآلهة في الأرض والسماء والدار الآخرة … بالقسم العظيم الذي يقشعرُّ لذكره كلُّ شيء، إني لم أُضمِر لك فيما عرضتُ عليك شرًّا ولا أذًى. إن الذي تبكي من أجله أبكي أنا أضعافَ ما تبكي منه مثله، فلقد كنت ضرورة من ضرورات حياتي هنا، ولقد علق بك قلبي، وهامت بحبك نفسي، وليس قلبي من صخر فيحتمل البعد عنك بلْهَ الإضرارَ بك.»
وانطلقا سويًّا إلى الكهف، وجلس أوديسيوس فوق المتكأ الذي كان يجلس عليه هرمز منذ هنية، ثم أقبلت جواري الماء يحملن شيئًا كثيرًا من اللحم والشراب فأكلا ورويا، ثم شرعت كاليبوس تُحدِّث وتقول: «أهكذا يا ابن ليرتيس العليم أيها الحكيم الصناع، لا تفتأ تحنُّ إلى وطنك وتعتزم الرحيل إليه، أنا عذيرك يا أوديسيوس، فوداعًا، ولكن هل فكرت أيها الرجل في الأهوال الجسام التي تخرط قتادها قبل أن تصل إلى بلادك؟ أليس خيرًا لك أن تظل إلى جانبي وتُقاسمني كهفي فتُصبح من الخالدين، وتنسى هذا الجمال الفانيَ الذي لا ينفك يصبيك ويسبيك، والذي أحسب جمالي وفتنتي لا يقلَّان عنه سحرًا إن لم يزيدا عليه فتونًا؟»
فيُجيبها أوديسيوس الحكيم: «أيتها الربة المخوفة، هوِّني من حفيظتك فأنا أعلم أن بنلوبي العزيزية لا تزن من جمالك وفتونك مثقالًا؛ لأنها هالكة ولأنك من الخالدين، بيد أن الذي يصيبني هو وطني، وطني الحبيب الذي أحنُّ إليه وأهيم به، وفي سبيل العودة إليه لن يُخيفني هذا اللجُّ المتلاطم، فلقد بلوتُ الأعاصير في البر والبحر في خبار المعمعة وفي الفلك تحت كلكل الزوبعة. إليَّ إليَّ يا خطوب، وأقدمي بكل حولك يا رزايا.»
•••
وودع عروس الماء المحزونة وجلس عند السكان ثم دفع الرمث في البحر وابتعد رويدًا رويدًا.
«وي! أوَقَد تبدَّلت مقادير الآلهة إذن وتحركت فيهم عواطف الحنان من أجل هذا الرجل أوديسيوس، فقضوا فيه ما قضوا لأنهم يسكنون السماء، ولم يُبالوا بي لأني أسكن الأرض في أثيوبيا؟ إنه يرى شاطئ فيشيا قِيدَ وَثْبات منه، وهو إذا قفر إليه أصبح بنجوة من هموم تترصَّده في كل موجة من موجات هذا اليم. ولكن، لا، لأُلهِبنَّه سوطَ عذاب قبل أن يصل إلى البر.»
وسلمت إليه الزُّنَّار الموعود ثم غاصت في الماء، وبقي أوديسيوس مكانه في حيرة شديدة وحزن عميق، ثم أفاق من غشيته، وجعل يهرف هكذا: «أوه! ترى أذاك شَرَكٌ آخر تُدبِّره الآلهة لي؟ ولكن لا، لن أبرح مقيمًا فوق الرمث؛ فالبَرُّ بعيد، ولأظل مكاني ما دامت الجذوع مُكبَّلة هكذا فإذا حطمتها يدُ الحدثان فلأفعلنَّ كما أشار الإله الذي كان يُكلمني منذ لحظة.» وما كاد يفرغ حتى أرسل عليه نبتيون موجة جارفة حطَّمَت رمثه، وتركته عالقًا بأحد الألواح، وأسرع أوديسيوس فخلع الرداء الجميل الديباجي الذي خلعته عليه كاليبسو، ولفَّ الزُّنَّار الموعود حول صدره، وقذف بنفسه في الماء، وراح يسبح.
وكان نبتيون الجبار يرى بعينَيه ويشفي حرده، ويقول في نفسه: «ذق يا أوديسيوس وبال أمرك في هذا الطوفان قبل أن تصل حبالك بحبال الشعب الذي هو حبيب الآلهة، وسترى ثمة هل تنتهي آلامك؟»
وحث مطيه حتى وصل «إيجه» حيث يُشرِف قصره المنيف.
•••
ما أحلى الأمل الذي يحيا بعد يأس، لقد كان أوديسيوس ينظر إلى التلال والجبال القريبة، والغابة النائمة في أحيادها، كما ينظر الأطفال الأبرار إلى أبٍ لهم أنهكته العلَّة، ثم تماثل للشفاء بعد تسليم وقنوط.
وتحسس الأرض بقدميه، ولكن، وا أسفاه! الأعماق الهائلة والصخور والأواذي، والموج الذي يرتطم بأقدام الجبال فيُرغي ويُزْبِد.
لم يكن بهذه الجهة مرفأ، ولم تكن تجوس خلالها سفن، ولقد ظل أوديسيوس يُكافح ويُكافح، حتى غُمَّ على قلبه، وكاد يتغشَّاه طائفٌ من الخوَر بعد أمل وطيد.
وجاشت الوساوس في قلبه، وطفق يُحدِّث نفسه حديث الهلك في هذه اللُّجة الرجراج، وكان أخوف ما يخشاه أن يدفعه الموج على نتوء الصخر فيحطمه، أو أن تلمحه أمفتريت زوج نبتيون عدوه اللدود إله البحر، فتُسلِّط عليه من وحش الماء ما يلقفه، أو يقذف به إلى أعمق الأعماق، كَرَّة أخرى.
وبينا هو في بحرَين من ماء ومن هواجس، إذا موجة هائلة يضطرب بها اليمُّ تدفعه في قوة وعنف إلى الشاطئ ذي النتوء والنؤى، فتكاد تدق عنقه وتَذْرو عظامه، لولا أن قبض بذراعَيه الجبارتَين على حافة صخرة بارزة، فظل معلَّقًا ثمة حتى أقبل جبل آخر من موجة البحر، فاحتمله إلى الأعماق كأنه أحد سراطين الماء، وجاهد المسكين ثانيةً وثالثةً حتى تَدافع الموجُ من خلفه، فقذفه في مسيل من مسايل الماء المنتشرة الذي كاد يسلمه بدوره للمحيط؛ مما جعله يَضْرع لرب النهر ويبتهل، ويدعو من أعماق قلبه ويُصلِّي حتى استجاب الرب الرحيم لصلاته فكسر حدة التيار، وفلَّ من غرب الماء، واستطاع البائس المنهوك أن يصل إلى إحدى العُدوتَين واهيًا متهالكًا محطَّمًا، فانطرح على الثرى يُقبِّله، ويلهث ويقول: «ويح نفسي! ماذا تبتغين يا آلام؟ لقد أقبل الليل وأنا عييٌّ مصدَّع، ولا قِبَل لهذه البقية من حُشاشتي بطل العشاة وصقيع الفجر، فلو أنني استطعت أن أتسلق هذا الحدور فألوذ بأجمة من هذه الغابة، ولكن وي أي وحش ضار يغتذي بلحمي ثمة؟»
بيد أنه توغَّل في الجبل حتى أوشك أن يضرب في الغابة، ثم كان بين زيتونتَين؛ إحداهما مثمرة والأخرى عقيم، كل منهما لفاء شجراء حتى لا تَنفذ الريح بينهما، ولا تنسرق أشعة الشمس خلالهما، ولا الماء بواصل إلى من استذرى بهما.
هنا، وجد أوديسيوس مأمنه، فراح يُمهِّد الأرض ويُلملم ما استطاع من قش ويحتطب، حتى صنع لنفسه منامة تكفي اثنَين غيره من الضاربين المشرَّدين في الأرض، ودعم حفافيها بفروع الشجر، ثم أسلم عينَيه لنوم هادئ عميق، سكبته مينرفا في مُقلتَيه.
•••
نام أوديسيوس منهوك القوى.
وذهبت مينرفا تُدبِّر له أمرًا في شيريا، بلد السلالة ذوي المجد من أبناء فياشيا — ملوك البحر الذين فرُّوا من وجه جيرانهم الجبابرة السيلكوبس — في العصر الخالي ونزلوا بهذا البلد فشادوا حصونه، وأقاموا أسواره، وتوزعوا أرضه المخصبة، وسكنوا الدور والقصور، وأنشَئوا المعابد للآلهة عِرفانًا وشكرانًا.
وقضى ملكهم وزعيمهم نوزيتوس، ثم استوى على العرش من بعد ألكينوس، حبيب الآلهة، وصفي السماء.
•••
كانت الأميرة الحسناء — نوزيكا — ابنة ألكينوس الملك تغطُّ كالملاك في نوم عميق بين وصيفتَين رائعتَين من وصيفاتها فوق سرير وثير في مخدعها الملكي الفاخر.
وكان رتاج الباب مُحكَمًا كأنه باب الجنة، ولكن ذلك لم يقف بسبيل ربة الحكمة مينرفا التي خطرت إلى الداخل كنسمة نادية من نسمات الصباح، ووقفت لدى رأس ابنة الملك تُزخرف لها هذا الحلم الفضي الجميل، وكأنما تبدو لها في المنام في صورة صديقتها وأعز أترابها ابنة إيماس الكريم.
وانفلتت مينرفا ذات العينَين الزبرجديتَين، ورقَت أسباب السماء حتى كانت فوق ذروة الأولمب؛ حيث السكون والهدوء والصمت، وحيث مستقرُّ الآلهة، وحيث لا تعصف ريح ولا يتلبَّد سحاب ولا تدمع عين مطر، وحيث السماء لازوَرْدية صافية إلى الأبد.
•••
وصرخ العذارى صرخة مدوية، فانتفض أوديسيوس وهبَّ مذعورًا مشدوهًا ليرى هذا المنظر العجب.
«ويحي! أيُّ بني الموتى قِطانٌ هنا؟ ليت شعري أشُوسٌ عرابيدُ أم كرامٌ أجاويد؟ أوه، إنهنَّ عرائسُ ماء تفزَّعن فرجعت الغيران أصداءَ صراخهنَّ، وتراقص الحباب فوق العباب من جرسهن، وتثنى الكلأ نشوة في الوادي؛ لأدلف نحوهنَّ فأراهنَّ.»
وأجابته نوزيكا: «حبًّا أيها الغريب النازح وكرامة، إن سيماك تدل على نبل، وسَمْتك يُنبئ عن رِفْعة، اصطبر على ما ابتلاك به كبير الآلهة الذي بيده العزة يُشقي مَنْ يشاء ويَهب لمن يشاء، وإني سأدلك إلى المدينة مدينة الفياشيين ملوك البحر التي أنا ابنة ملكها العظيم ألكينوس، رب نعمائها ومصدر رخائها.» وأومأت إلى وصيفاتها تقول: «مكانكنَّ يا عذارى، فيم فراركنَّ هكذا من إنسي كريم؟ لقد أبت الآلهة أن تطأ قدمُ عدو أرضَ أحبائها، بلادنا المقدسة، التي انعزلت في لجج هذا الخضم عن كل العالم، إنه غريب يا عذارى، جوَّابُ آفاق، قذفه البحر إلى شاطئنا، فمرحبًا به ضيفًا من لدن زيوس، وأهلًا بوفادته وسهلًا. هلم إذن يا صويحبات فقدِّمن له طعامًا وشرابًا، ثم هيِّئن له حمَّامًا في منعرج ظليل عند حفافَي النهر.»
وأُهرِع البنات فقُدن أوديسيوس إلى منعرج ذي ظلال وأفياء، وأعددن له ثوبًا وكساءً، وهيَّأن طيوبًا بها إذا فرَغ من حمامه، وسألهنَّ أن يذهبن بعيدًا حتى لا يتعرَّى أمامهنَّ؛ إذ «لشد ما يُخجلني أن أبدو عاريًا أمام الخرد الخفرات»، وتهادين إلى مولاتهنَّ يُحدِّثنها بما قال، بينا هو قد انقذف في الماء يغسل كاهله وحقوَيه مما جمد عليهما من ملح اللجَّة، وصعد فتضمَّخ بالطيب الثمين، ثم أسبغ على بدنه العتيد ذلك الكساءَ الذي منحَته إياه نوزيكا، ومن أعجب العجب أن مينرفا نفسها كانت تُعاونه في تجميل خلقه، وتُزيل من شعره الكث الأشعث تلبُّداتِه التي كانت تبدو كأنها أزهار الخزامى، ثم هي بعد كل ذلك تُضفي عليها أمواهًا من البهاء تُظلل بها صداره كأنما هي فلكان الصَّنَاع يعمل حلية من فضة وذهب، وجلس على الشاطئ في رونق وروعة، حتى إذا لمحته الأميرة العذراء أذهلها جماله وقالت لوصيفاتها: «تالله يا صويحبات لقد شككت في حال هذا الرجل أول الأمر، ولقد حسبته أفاقيًّا من رَعاع الناس، لولا أنني أثق أن الآلهة لا تسوق إلى بلادها الحبيبة هذا الصنف من البشر. أما هو الآن فلشد ما يُشبه أرباب السماء! أواه لوددت أن يكون لي زوج في بهائه وحسن سمته على أن نبقى آخر الدهر هنا. هلم يا وصيفات، قدِّمن له طعامًا وخمرًا.»
ومددن أمامه سماطًا كبيرًا وزوَّدنه بأحسن الأشربات والآكال، وأخذ أوديسيوس في أكلته حييًّا متآديًا يرد عنه تلك المسغبة الطويلة التي أنهكَته وأوهت قوته.
ووُضِعت أحمال المطارف والثياب فوق العربة، وشُدَّت البغال واستوت الأميرة في مكانها، ثم هتفت بأوديسيوس فقالت له: «هلم أيها النازح الغريب إلى المدينة إذن، إني سأرشدك إلى قصر أبي حيث تلقاه في جمع من أشراف الفياشيين، وسننطلق وسط هذه الحقول، وإني لي معك من أجل هذا لكلمة؛ لقد بُنِيت مدينتنا فوق صخرة راسية وأحاط بها سور عظيم، ثم وصل بينها وبين فرضتها جسرٌ ضيق تقر على جانبه سفائننا رابضة متراصَّة، ثم ينهض عندها معبد نبتيون العظيم، وبجواره سوق المدينة ا لمبني منه الحجر الصلد، حيث تُباع حبال السفن وشرعها، وحيث تُصْنَع مجاديفها وأكثر عتادها؛ لأن الفياشيين لا يُعنَون بشيء عنايتَهم بهذه المنشآت في البحر كالأعلام، والذي أخشاه أن يرانا الناس ثمة فيستهزئوا بنا، وقد يسلقونني بألسنةٍ حداد، قائلين في سفاهة وتندُّر: وي! مَنْ يكون هذا الغريب النجيب الهرقلي الذي يقصُّ أثر الأميرة ابنة الملك؟ أي صدفة جمعت شملهما يا تُرَى؟ سرعان ما نراها تزفُّ إليه عروسًا كاعبًا، قد يكون ضيفًا غير محدود من أرض نائية، أو ربما صادت بصلاتها وتسبيحها واحدًا من الآلهة أبق من السماء ليقرَّ في حصنها إلى الأبد، الحمد لله الذي مَنَّ عليها بزوج سعيد من بلاد غريبة يُشبِع أمانيَّها الجامحة بعد أن رفضت الأيدي الكثيرة التي تقدمَت إليها من أبناء الفياشيين؛ هكذا سيقول الناس إن رأونا أيها الرجل — ولهم الحق — فأنا نفسي لا أُعْفي من اللائمة فتاة عذراء تستبيح أن تمشي مكشوفة مع رجل غريب قبيل عرسها، ولكن أصغِ إليَّ: إنك واصل حتمًا إلى أبي إذا اتبعت نصيحتي، بعد قليل سيصل ركبنا إلى حرج أشجار الحور المقدس النامي في تُخوم الطريق باسم ربة العدالة والحكمة مينرفا، وإن عنده لنبعًا يترقرق وسط كلأٍ وأعشاب، وإنَّ عنده لحديقةَ أبي، الجنة الضحوك المئناف، قف ثمة حتى إذا دخلنا نحو المدينة وحصلنا في بيت أبي، فتقدَّم أنت وادخل المدينة واسأل أيًّا من الناس — ولو طفلًا يافعًا — قصر ألكينوس الملك أبي الحبيب، فإنه معروف مشهور لا يُضارعه منزل آخر في سعته وأُبَّهته، فإذا دخلته فلا تتوانَ لحظة، بل سِرْ قُدُمًا حتى تلقى أمي جالسة لدى الموقد المتأجج بجانب عمود مرمري، مُنكبَّة على غزلها الصوفي الموشى بأصباغ البحر، ومن حولها وصيفاتها يُعاونَّها في إنجازه، وقريبًا منها ترى أبي مستويًا على عرشه يطعم ويشرب كأحد آلهة الأولمب، لا تكلمه، بل جاوِزْه إلى أمي الرءوم ثم رسل حاجتك تقضها لك، وتُعِدك إلى وطنك مهما كان سحيقًا نائيًا. أثِرْ في صميمها عامل الخير والمحبة تردَّك إلى آلك وذويك وبلادك، وسلام عليك.»
ثم إنها ألهبت ظهور البغال فانطلقت تعدو مولِّية عن النهر الذي صار يبتعد قليلًا قليلًا، وكانت نوزيكا آخذة بزمامها لتكبح من جماحها حتى لا تفوت أوديسيوس من ورائها.
وكانت الشمس تصبغ بالوَرْس جبين المغرب حينما وصل الركب إلى حرج كأنما يُناجي ابنة جوف المدرعة بايجيس.
وهنا، وقف أوديسيوس يُصلِّي لمينرفا: «يا ابنة جوف القوي المتعال، اسمعي لي، أصيخي الآن يا ربة، لقد تصاممتِ عني إذ كانت اللجج تلقفني فراعيني الآن، اجعلي لي مرفقًا من أمري وهبي لي محبة ورحمة في قلوب أبناء الفياشيين أنسى بها آلامي؛ آمين آمين.»
ولبَّت ربَّة الحكمة واستجابت لدعائه، بيد أنها احترامًا لعمها «نبتيون» الذي لا يفتأ أثر أوديسيوس عدوه الأكبر لم تشأ أن تبدو له.
وفرغ أوديسيوس من صلاته، ووصلت عربة الأميرة إلى القصر، فلقيها إخوتها الأمراء الخمسة النجب، فحلُّوا الدواب وحملوا المطارف والثياب، وصعدت هي إلى مخدعها حيث كانت خادمتها العجوز الشمطاء «يوريمديوسا» تُعْنَى بنار المدفأة.
ولم تكد يور ترى سيدتها حتى حيَّت وبيَّت، وانطلقت تُعِد لها وجبة العشاء.
أما أوديسيوس فقد هبَّ من مجلسه ويمَّم شطر المدينة، وقد نشرت حوله مينرفا — صفيَّته الوفية — ظلالًا وغمامًا يحجبه عن أعين الناس حتى لا يُضايقه أحدهم بسؤاله مَنْ هو؟ وفيم أقبل؟ ومن أي الأقطار جاء؟ … بيد أنها لاحت له قبل أن يلج باب المدينة في هيئة فتاة قروية كاعب تحمل فوق رأسها جرَّتها، وتعمدت أن تعترض طريقه فانتهزها فرصة وراح يسألها هكذا: «يا بنية! أتسمحين فتدليني على بيت رب هذه البلدة ألكينوس الكريم؟ لقد ينال مني الونى وطول السفر، وحللت عليكم يا أهل فيشيا الأجاويد ضيفًا غير معروف من بلد سحيق فهل تفعلين؟»
وقالت مينرفا — ذات العينَين الزبرجديتَين — وهي تجيبه: «حبًّا أيها الغريب الوقور وكرامة، سأدلك على بيت ألكينوس بنفسي؛ فهو غير بعيد من بيت أبي، ولكن لي إليك وصية؛ اصمت ما دمت سائرًا، ولا تُحدج أحدًا بنظرة، ولا تُكلم من أهل هذه البلدة إنسيًّا، فقد جُبِلوا على ازدراء الغرباء وقلة إيلافهم وتلقِّيهم في فتور وبرود طبع، وقد أحبهم نبتيون رب البحار، فأذل لهم أعناق الموج وأساس لسفنهم أعراف الماء، فهي تخطر فيه كالطير حين تزف، أو كالفكرة حين تخطر في الخلَد.»
ثم غابت مينرفا عن الأنظار، غادرت أرض شيريا الحبيبة إلى مرثون، ومن ثمة رفت رفة فكانت في أثينا حيث أوت إلى قدسها الكريم أركتيوس.
ودخل أوديسيوس قصر الملك هيابًا متخاذلًا، غارقًا في بحر لجي من الوهم والفكر؛ لأنه ما كاد يطأ بقدمه وصيد الباب الكبير حتى بهره لألاء شديد خاطف ينبعث من الداخل، يَزيد في شدته ولمعانه تلك الجدرانُ المصفحة بالنحاس، يَزينها إطارٌ من اللازَوَرْد الأزرق، وتلك الأبواب الهائلة من الذهب الخالص، والعماد السامقة من الفضة المجلوَّة، تُكلِّلها تيجان من النضار الثمين، وعلى اليمين وعلى الشمال ربضت كلاب من ذهب، صنعة فلكان، صنَاع السماء الخالد، وخالد أبد الدهر كل ما صنعت يدا فلكان. ثم تلي بعد ذلك ردهة فسيحة مترامية صُفَّت إلى جدرانها كراسيُّ كأنها عروش، وبُثَّت فوقها نمارق ذوات أفواف وشفوف، صنعة وصيفات القصر، وهنا يُولم الملك لأمراء شيريا، فيقف الولدان في جلابيب من ذهب، وفي يد كلٍّ شعلةٌ تسكب الأضواء من فوق المذبح على جموع الطاعمين في كل ليلة. يا للقصر كأنه جنة الخلد! إن خمسين من غيد شيريا الرعابيب يخدمون الملك ثمة، يطحنَّ القمح وينتخَّلن الدقيق، ويندفن الصوف ويعملن على النول، مائسات كأفنان الدَّوح يُداعبهنَّ النسيم الحلو، حاذقات في الغزل والنسيج كأحذقِ ما يكون بحارة شيريا في عنفوان العاصفة، قد ثقَّفن صناعتهنَّ عن مينرفا فأفتنَّ وأبدعن إبداعًا، ثم تكون البوابة الكبرى حيث فردوس القصر اليانع وجنته دانية القطوف ذات الأسوار المنيعة المحيطة بهذه الأربعة الأفدنة، للآلهة هذا الدوح بسق في جنباتها، وللآلهة أشجار الرمان المثقلة بأثمارها مفترَّة عن شِفاه الأقاح، وحمرة الخجل قد خضبت خدود التفاح والكُمَّثرى، وسالت قطرات من الشهد في ثمرات التين، وتأججت أنوارٌ زاهية في أفنان الزيتون، فاكهة شهية جنية لا مقطوعة ولا ممنوعة شتاءً وصيفًا يانعة أبدًا، تُداعبها أنفاس زفير رب الصبا، فتشيع فيها النضج والنماء، كلما قطفت يدٌ مِن جناها ثمرة نَمَت مكانها في الحال ثمرات، فما تقل آخرَ الدهر قطوفُها وما تنقص.
وخلال هذه الجنة المثمرة تمتدُّ الكروم ذوات أعناب والرطب والعناقيد من نور، بعضها يُعْصَر فتقطر الخمر منه، وبعضها يجف على سوقه فيكون زبيبًا جنيًّا، ثم تُوشَّى أطراف الحديقة أحواض من الزهر المشذَّب المنسق، وتتفجَّر في وسطها عينان نضَّاختان، يترقرق الماء من إحداهما كاللُّجَين في مسايل هذا الروض، وتتدفق مياه الأخرى في نهر صغير ينساب إلى المدينة من تحت عتبة القصر، فيرتوي الأهلون منه.
ملك كبير ولألاء وافرة أسبغَتها الآلهة على ألكينوس الملك.
وقف أوديسيوس مسبوهَ اللُّب مشدوهَ الفكر، يُردد طرفه في هذا المنظر العجب، ثم أفاق فخطر إلى الداخل، حيث اجتمع زعماء المدينة وشيوخها يصبُّون الخمر باسم هرمز رسول السماء تقدمة وقربانًا، وصلاةً لخاتم أرباب الأولمب قبل أن يأووا إلى مضاجعهم. ولم يتلبَّث عندهم بل تقدَّم في خُطًى حثيثة برغم إعيائه، وكانت مينرفا تحجبه في ظلال كثيفة عن أعين الملأ حتى وصل إلى حيث الملكُ والملكة، فكشف عنه غطاءه، وجثا عند قدَمَي الملكة يبث شكاته بين دهش الملكَين الكريمَين وشدة تحيُّرهما: «أريتا يا ابنة ركسنور صفي الآلهة، أتوسل إليك وإلى المليك العظيم وأضيافكم النبلاء، مَنَّ الله عليهم وضاعف لهم آلاءه، وأنعم على ذراريهم وألَّف بين قلوبهم وقلوب رعاياهم، أتوسل إليك يا سليلة المجد ضارعًا أن تعطفي عليَّ وأن تُكْرمي مثواي، وأن تُعينيني على الرحلة من فوري إلى بلادي التي أتحرَّق إليها شوقًا، والتي فصلَتني عنها أهوالٌ وأهوال.»
وما كاد الأمير يفرغ من قوله حتى أنهض الملك أوديسيوس وأجلسه على كرسيٍّ فخم جانب ولده الحبيب الحكيم لأوداماس، ثم أقبلت إحدى وصيفات القصر فصبَّت الماء على يدَيه من إبريق فِضي، ثم أحضرت مائدة حافلة بأشهى الأكل وأطيب اللذائذ والأشربات، فأكل أوديسيوس وارتوى، وأمر الملكُ كبيرَ السقاة بونتونوس، فمزح الراح وقدَّمها إلى الجميع حيث صبُّوها تقدمة لجوف رب الصواعق وكبير الآلهة وحبيب الغرباء وحامي ذوي الحاجات، ثم شربوا بعد ذلك حتى رووا.
وقال الملك: «أيها الرؤساء والشيوخ الفياشيون كلمة: عفو الخاطر فاسمعوا وعوا؛ لقد طعمتم جميعًا وستتفرَّقون إلى مضاجعكم ثم نجتمع عند مطلع الفجر، نحن ومَنْ لم يحضر من نواب الأمة الأجلَّاء، فننظر في شأن هذا اللاجئ الغريب بعد أن نُضحِّي للآلهة. إنه يطلب أن يعود في حمايتنا إلى وطنه كيما يصل سالمًا غانمًا من غير أن يمسَّه أذًى، إلا أن تكون ربات الأقدار قد قضت عليه أمرًا، وإلا أن يكون من أرباب السماء الخالدين. لقد وصلت بيننا وبين الآلهة وشائجُ القربى، وطالما غشيت مجالسَنا وشاركت في ولائمنا، وهي تبقى على محبتنا فلا تمس بأذًى رجلًا منا يضرب في الأرض، وليس ما بيننا وبينها أقل مما بينها وبين سيكلوبس أو المرَدة الجبابرة، وفي ذلك فخارنا وهو آية مجدنا.»
ونهض أوديسيوس الحكيم فقال: «غفرًا غفرًا أيها الملك، ما أنا في الآلهة؟! أين لي خلقها السوي وكيانها السماوي؟! بل أنا شقي من أبناء هذه الغبراء، وأثقلت كاهله حمولة هائلة من الكوارث والآلام حتى لا يعرف الناس مَن شقي شقاءه، ولا مَن تحمَّل مصائبه وأرزاءه؛ بلايا صبَّتها على رأسه الآلهة فصبر وأناب … أوه! أبدًا لا أنتهي إذا سردت لكم طرفًا يسيرًا منها، ولكن لا داعي الآن، أرجوكم، أتوسل إليكم، دعوني أتبلَّغ بهذه اللقيمات في هذه الملحمة الحالمة من الراحة التي لم أنعم بمثلها منذ بعيد. لشد ما يصرخ الجوع في أذن الجوعان، ولشد ما يُعذِّبه الطوى، إنه يُلِح عليه بكل صنوف الألم حين يُنسيه آلامه وأشجانه، إن له لشهيةً عالية الصخب تطلب العون في جؤار وجنون، حتى ليضيع في ضجيجها هتافُ جميع الآلام إلى أن تكتفي، عفوًا أيها السادة إني أتضرع إليكم أن تُيسِّروا لي عودًا أحمد وأوبة سالمة، بعد طول العناء والشقاء الذي ليس بعده شقاء، إنه لا أحب إليَّ من أن أُودِّع الحياة بعد نظرة واحدة أتزوَّدها من أهلي ووطني.»
وتأثر القوم من أجله، فأثنوا عليه، واتفقت آراؤهم على معاونته حتى يعود إلى بلاده ويلقى ذويه، ثم نهضوا فصبُّوا خمر الصلاة باسم الآلهة، وشربوا نخب ربِّ الدار، ثم تفرقوا إلى منازلهم إلا أوديسيوس، فقد ظل جالسًا ساهمًا واجمًا، كما ظل الملَكان إلى جانبه ساهِمَين واجِمَين، والنُّدُل فيما بين ذلك يحملون أطباق المائدة وأكوابها، حتى إذا فرغوا أخذت الملكة تتحدَّث إلى أوديسيوس، وقد لفت نظرها هذا الثوب الفضفاض الذي كان يلتفع به.
والآن جاءت نوبتي في التحدث إليك أيها الغريب الكريم، مَنْ أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وأنى لك هذا الصدار وذاك الدثار؟ ألست قد قلت: إنك غريب نازح أفلتتك المنايا في لحجج البحار؟
وقال أوديسيوس يُجيب أريتا: «أيتها الملكة، قد لا أفرغ من الحديث إذا حاولت أن أسرد قصتي بحذافيرها، بل ليس أشقَّ عليَّ ذلك؛ فقد كرَثَتني الآلهة بكل أنواع الهموم وصنوف الآلام، بيد أنني أُلِم بمأساتي المحزنة في كلمات فأقول: في أوجيجيا — إحدى الجزر القاصية التي لم تطأها قبلي قدمُ بشر ولم يخطر بها إله — تقيم عروس الماء المفتان «كليبسو» البارعة الرائعة الصنَاع، ابنة أطلس الجبار التي قُدِّر عليَّ أن أكون أول لاجئ إلى جزيرتها بعد أن سقط جوف صواعقه على سفينتي فشطرها وأغرق كل رجالي، وظللت أنا متشبِّثًا بالسارية لياليَ وأيامًا حتى دفعَتني المقادير في الليلة العاشرة إلى ساحل الجزيرة حيث أوتني كليبسو الجميلة الريَّانة، وأنقذتني من موتة أكيدة، وأطعمتني وأكرمت مثواي، ثم عرضت أن تهبني الحياة الخالدة والشباب الأبدي لولا أني تأبَّيت، ثم أقمت عندها سبع سنوات لم يرقأ طوالها دمعي الذي نضحت به أثوابي وما خلعت عليَّ من دثار، وفي الثامنة أرسل إليها جوف كبير الآلهة مَنْ يأمرها بإطلاق سراحي، فأبحرت على رمث زودته بالأطايب والأذخار، والأشربات والآكال، ثم أرسلت بين يدَيَّ ريحًا رُخاءً ما انفكَّت تجري بي في عباب من بعده عباب طيلة سبعة عشر يومًا. وفي الثامنَ عشر لاحت قمم جبالكم الشم فخفق قلبي فرحًا، بيد أنه كان أملًا خُلَّبًا لم يَطُل أمده؛ فقد أبى نبتيون الجبار إلا أن يقف بسبيلي، وإلا أن يرسل ريحًا معاكسة تُثير الموج وتُهيج اللج، وتُمزِّق ما التأم مني ومن فُلكي الصغير الذي كان أملي، ولم يعد بُدٌّ من أن أكافح الماء وأذرع اليمَّ بالسباحة، حتى تضافرت الريح والموج، فقذفاني إلى ساحلكم ذي النؤى، ولم أحتمل صدمة الصخور فنضحني السيل الرابي إلى الأعماق كَرَّةً ثانيةً، وشرعت أُكافح مرة أخرى حتى نثرتني موجة مزبدة في نهر وديع متطامن، فسبحت إلى إحدى عدوتَيه، واستلقيت على الشاطئ خفق الأحشاء منهوك القوى، وأقبل الليل فتهالكت على نفسي إلى دغيلة مهدتها بعساليج وشيء من القش وفروع الشجر، ونمت ليلًا طويلًا وضحوة متعبة وظهيرة كلها نصَب وإعياء، ثم أيقظتني صيحات قريبة مرنة، فإذا ابنتكم الأميرة الحبيبة الحسان في ربرب من أترابها يتلاعبن كربَّات الأولمب على رمال الشاطئ، وجثوت تحت قدمَيها، وما زلت بها أتملق شبابها الغضَّ بدعوات معسولات، وأثير نخوة صباها الفينان حتى أمرَت لي بطعام شهي وخمر معتَّقة، وأشارت إلى منعطف فتوجَّهت إليه فغسلت ما على جسمي من خبث، ثم منحتني هذا الصدار وذاك الدِّثار، تلك قصتي أسردها عن قلب محزون، وما فيها من أثارة من مَيْن.»
قال الملك: «لشد ما أخطأت بنيتي إذ لم تصحبك إلى هنا في جملةِ حشمها ما دمت قد رجوتها في ذلك أول الأمر.»
وقال أوديسيوس يُجيبه: «إنها لم تُخطئ أيها الملك الكريم وما عليها من ملام، لقد كلمَتني في مثل ذلك فأبيت؛ لأني خفت أن يسوءك ذلك منها ومني؛ ولأني أعلم أن الناس في كل مكان طنَّانون قوَّالون.»
وشاع البِشْر في أسارير أوديسيوس ذي التجاريب فقال: «أيها الأب الخالد، لله محامدك الغر، أنجِزْ يا مولاي يسر ذكرك في البلاد، وألقِ أهلي وأنشق نسمة من وطني.»
•••
وهكذا تشقق الحديث بينهما.
ونهض الملك والملكة لينعما بطيب المنام.