في أرض المردة (السيكلوبس)
وشرع أوديسيوس يُجيب عما تساءل عنه الملك فقال: «أيها الملك تعالى جَدُّك، لشد ما يُطرِب ما تغنَّى هذا المنشد غناء الآلهة، ولقلَّ ما تعدل الدنيا بأسرها هذا المجلس الشاديَ ذا الأضياف والآكال والأشربات، على أنني مجيبك على ما بدهك من دموعي وهمومي، وما لقيت وما سوف ألقى مما قُسِم لي من أشجان وأحزان، إذن فاعرف اسم ضيفك الشريد الذي لا يجهل اسمَه أحد؛ ضيفك اللائذ بكرمك المستذري بحماك، المتشبث بك ليصل في ظلك إلى بلاده مهما تقاصَت ومهمات نَأَتْ. أنا أيها الملك أوديسيوس، أجل، هو أنا أوديسيوس ذو الذِّكر المعروف في السموات بالدهاء والمكر، ابن ليرتيس رب إيثاكا وملك نريوس ذي الشعاف السامقة والجزائر الآهلة حول ساموس ودلخيوم وزاسنتوس، أم الجزائر التي تصافح تباشير الصباح بكل روضة فيحاء وخميلة لفاء، وجنَّات ذوات شجر وثمر، صِبغًا لأبنائها الأوفياء؛ هناك، حيث احتجزتني عروس الماء كليبسو في كهفها وراودتني لأكون بعلها، وهناك حيث أغرَتْني سيرس هي الأخرى، سيرس صاحبة جزيرة أيايا، التي حاولت أن تتخذ مني خليلًا، فأبيتُ ولم أقبل أن أُضحِّي بأهلي ووطني ولو أصبحت زوجًا لإحدى الربات الخالدات، ولكن لا، هلم قبل كل شيء أقص عليك من أنباء رحلتي منذ بارحت إليوم، ولأدع ما قبل ذلك فهو معلوم مشهور.
وأجنَّنا الليل فجلسنا نتذاكر أسماء القتلى، وما كدنا نفعل حتى سخَّر علينا جوف — رب السحاب الثقال — صرصرًا عاتية أثارت البر والبحر، وعصفت بمراكبنا فأطاحت قلاعها ومزقت شراعها، ففزعنا إلى المجاديف وأعملنا السواعد مستقتلين مستميتين حتى نجونا بعد لأْيٍ إلى البر، حيث تلبَّثنا ليلتَين طويلتَين في أينٍ وإعياء، وشكاة وشقاء، نُصلح القلاع ونرتق الشراع. وفي صباح اليوم الثالث تطامن البحر ونام هائجه فبادرنا إلى الفلك وأقلعنا باسم الآلهة مجراها ومرساها، وما كدنا نلمح شطآن ماليا حتى هبَّت زوبعة عنيفة تلاعبت بنا وحملتنا إلى جزيرة سيتيرا، وطفقنا بعدها نذرع العُباب تسعة أيام أخرى حتى بلغنا بلاد «لوتوفاجي»، هذا الشعب الغريب الذي يقتات بالفاكهة فحسب، من دون ما تُنبت الأرض وما يدب عليها. ورسونا ثمة وأُهرِع الملاحون إلى البر فاستراحوا وسمروا، ثم تخيرت اثنَين من أوثق رجالي، وجعلت عليهما ثالثًا رئيسًا ووجهتهم إلى سكان هذه الأرض ليتعرَّفوا أحوالهم، فاختلطوا بهم وقابلهم اللوتوفاجي بالبِشْر والترحاب، ثم عرضوا عليهم من ثمر اللوتس العجيب الذي ينسى آكله ما سلف من حياته، وينبت ما بينه وبين وطنه من وشيجة فما يُفكر فيه، وإذا فكر فيه فما يُؤثر أن يرتدَّ إليه، بل يُصبح كل مُناه أن يأكل ويأكل من هذا اللوتس العجيب، وأن يعيش أبد الدهر بين أولئك اللوتوفاجي السحراء. وتنظَّرت عودة رجالي، بيد أنهم لم يرجعوا، فاضطُرِرت أن أذهب بنفسي إلى حيث سحروا، فحملتهم قسرًا إلى الشاطئ بين العويل والضجيج، وقذفت كلًّا منهم في قمرة مغلولا مكبَّلًا مشدود الوثاق، ثم أمرت الملاحين فأبحروا على عجَل قبل أن يأكل بعضهم من اللوتس الملعون فيضلوا ضلالهم وينسوا أوطانهم، ويظلوا في هذه الأرض جاثمين.
ونمنا ليلتنا مروَّعين حتى إذا بزغَت أورورا نهضنا واحتشدنا في صعيد واحد، ثم قمت في رجالي خطيبًا فقلت: «أيها الإخوان، لتبقَ غالبيتكم في هذه الجزيرة؛ فإني ذاهبٌ في نفر منكم نرود هذه الأرض، ونعرف من أنباء أهلها، ونعلم من أحوالهم، ونرى هل قوم ظلم وضيم ونضال، أم هم رِبِّيون يهَشُّون للمَكرُمات ويُخبِتون للآلهة؟»
وأجبته في حيطة ورفق، وقد عرفت ما رمى إليه: «لقد نسف نبتيون رب البحار مركبنا في اليم نسفًا، وسلَّط عليها الزوابع فجرَت بألواحها بعيدًا من ها هنا، ونجوت مع هذا النفر من رفاقي فقط إلى شاطئكم.» ولم ينبس السيكلوب الجبار بكلمة، بل أقبل نحونا وانقضَّ على رجالي كالصاعقة، ثم أمسك باثنَين منهم وأرسلهما في الهواء، ثم ضرب بهما أرض الكهف ذات النؤى فتهشَّم رأساهما، وانتثر المخ فوق الحجارة هنا وهنا، وألقاهما بعد ذلك في الجمر المتأجِّج حتى نضجا، واستوى كالسبع الرئبال وطفق ينهشهما، ولم يمض وقت طويل حتى أتى عليهما غير مبقٍ على عظمة واحدة، أما نحن فيالآلهة السماء! لقد كان هذا المنظر الفاجع يعصف بنفوسنا ولم نملك إلا أن نرفع الأكفَّ فنبتهل إلى جوف أن يُنجينا وأن يرحمنا، ولم يكن لنا مع ذاك من أمل في نجاة.
وبعد أن أشبع الجبار نهمته من هذا اللحم الآدمي الغريض، وبعد أن رب من اللبن شرب الهيم انطرح بين قطعانه، وجعل يُرسل في الكهف شخيرًا مزعجًا، وقد حدَّثتني نفسي أن أنقضَّ عليه فأخوض في لَبَّته بجرازي، ولكن فكرة سوداء طافت برأسي حينما نظرت إلى باب الكهف فأبصرتُ الحجر الضخم الذي لا يُطيق أحد أن يُزحزحه، وتذكرت الموتة الجاهلية المفزعة التي سنموتها إن فعلت، فقنطت قنوطًا شديدًا، وأرسلت آهات الحسرة والندامة أنا وأصحابي، وانتظرنا بقلوب فارغة تباشير الفجر، ورأينا أورورا الوردية تُرسل أول أشعتها من الكوى الصغيرة، فهبَّ السكلوب إلى قطعانه، وأخذ في حلْب إناثها، وكلما فرغ من واحدة أرسلها إلى صغارها ترضع وتنخب، ثم إنه قبض على اثنَين من رجالي وفعل بهما كما فعل بصاحبنا أمس، حتى إذا فرغ من إفطاره هبَّ إلى الحجر فزحزحه في سهولة ويسر، كأنما كان يُزحزح غطاء آنية، ثم استاق قطعانه وأعاد الحجر إلى مكانه، ومضى يرعى بُهْمَه، وبقينا نحن ندعو ثبورًا، وفكرت ألف فكرة في وسيلة أنتقم بها من هذا المارد الوحش، وتوسلت بمينرفا أن أستطيع، وانفرجت أساريري فجأةً وأشرق وجهي بنور الأمل؛ ذلك أنني أبصرت بجذع زيتون مشذَّب أعده الجني ليكون عصًا يهش بها على قطعانه، فقلت في نفسي: «ولِمَ لا يكون في هذا الجذع خلاصُنا؟» ثم إني أمرت رجالي ببرْي أحد طرَفَيه، وكان الجذع طويلًا جدًّا، يصلح سارية لسفينة كبيرة يعمل فيها عشرون بحَّارًا، فأقبلوا عليه ينحتون ويبرون، وأكببتُ أنا على نهاية الطرَف أحدده. ثم انتهينا من عملنا وأخفينا الجذع تحت القش الكثير الملقى في الكهف، وجلسنا نتخيَّر من بيننا أشجعنا وأكثرنا أيْدًا وقوة، وأشدَّنا استعدادًا لحمله وغرزه من طرفه المحدد في عين السيكلوب، وانتهينا من ذلك إلى أربعة وكنت أنا خامسهم، ثم عاد الجني في موعده فأدخل قطعانه وأرجع الحجر إلى مكانه، وجلس يحلب الإناث ويقسم اللبن ويُمخِّضه، ويُرسل كل جذَع إلى أمه، ثم نهض إلينا فبطش باثنَين منا وتعشَّى بهما، وقبل أن يستلقي على الأرض ليستريح أفعمت كأسًا كبيرة مما كان معنا من خمر مارون وتقدَّمت إليه وأنا أقول: «ألا أيُّهذا السكلوب، هاك كأسًا من الخمر إذا تحسَّيتها بعد أكلتك الهنيَّة من اللحم البشري عرَفتَ أي خمر فقدنا في سفينتنا المغرقة.
لقد كانت الكباش سمينة حقًّا ذات فراء كثة وقوة كبيرة، فقمتُ من فوري فجدلت من أغصان الصَّفْصاف التي كان السيكلوب الشنيع ينام فوقها، وجعلت من كل ثلاثةٍ حبلًا واحدًا، ثم ربطتُ كل رِجْل تحت بطن كبش كبير قوي جعلته بين كبشَين لا يحملان أحدًا، بل يكونان وقاية للكبش الذي يحمل رجلًا بينهما. أما أنا فتعلقت بصوف الكبش الأخير وبقيت ساكنًا صامتًا، ومكَثنا هكذا ننتظر الفجر المقدس الرهيب بعيون واكفة وقلوب واجفة … حتى بزغَت أورورا فهرولَت الذكران كعادتها للمرعى، وبقيت الإناث لكي تُحلَب، وتهادت الكباش بالأثقال المعلَّقة تحتها وهي تكاد تنوء بها، وكان السيكلوب لا يزال يعول ويشكو بثَّه إلى غير سميع، وكان يلمس بيدَيه ظهورَ الكباش وهو لا يدري ما تحتها، حتى إذا برز كبشي زُلزِلت، وسمعته يقول له وهو يتحسَّسه: «يا كبشي الحبيب، ما لك استأنيت هكذا وكنت دائمًا سبَّاقًا إلى المرعى وعلى رأس القطيع تقضم الكلأ الحلو، سبَّاقًا إلى الغدير ذي الخرير تنهل من مائه السلسبيل، بل كنتَ سبَّاقًا إلى مأواك هنا، في كل مساء؟ ويحك! ويحك يا كبشي الحبيب، لقد أسيتَ لي وحزنت من أجلي، وشعرت بما دهى صاحبك من التعِس الرجيم أوتيس وأتباعه اللؤماء المفلوكين؛ أوتيس الذي سحرني بخمره، ويل له! إنه لن يُفلت من الموت اليوم، آه لو كان قلبك مثل قلبي، وآه لو كان لي بصرك الحديد فيدلَّني أين اختبأ أوتيس التعس؟ إذن كنت أُحطِّم رأسه فوق هذا الصخر، أوتيس الوغد! الذي اسمه لا أحد؛ فهو لا يُساوي شيئًا.»
ثم أفلته المغفل فانطلق الكبش في أثر رفاقه، حتى إذا كنا بعيدين من الكهف ومن صاحبه قفزتُ من مكمني، وعدَوت فأطلقت سراح رفاقي، وسُقْنا نخبة من أحسن النعاج إلى حيث سفينتُنا المختبئة في الجون الهادئ، في ظلال الحور والسنديان، وأبحرنا من فورنا، فوصلنا إلى إخواننا في الجزيرة الأخرى، الذين هنَّئُونا بقدر ما ذرفوا الدموع على ضحايا بوليفيم، واعتزمنا الإبحار فاستعد كلٌّ في سفينته، وأقلعنا لا نلوي على شيء، حتى إذا كنا على مبلغ الصوت من الشاطئ نهضت وجعلت أهتف بالسكلوب بوليفيم هكذا: «بوليفيم، لقد بؤْتَ بما صنعت يداك وكان جزاؤك وفاقًا، أيها النذل الخسيس! لقد حسبتَ أنك تغتال رجال قائد لا سلطان له عليك، ولا قدرة على الانتقام منك، فرحت تغتذي كالوحش بلحم ضيوفك الذين لجَئوا إليك وتفيَّئوا ظلك، فاهنأ الآن أيها الهولة بما حلَّ بك!» وما كدت أصمت حتى ثار ثائره وغَلَت مراجله، وانتزع صخرًا كبيرًا من شعاف الجبل وقذف به في قوة وعنفوان ناحية الصوت، فهوى الصخر على مَقرُبة منا، وكاد يُهشِّم سكان السفينة، وقد انفرج البحر وانشطرت أمواجه، وارتدت السفينة نحو الشاطئ حتى لكادت أن تغوص في رماله وتتحطَّم على أواذيه، لولا أمسكتُ بالسارية الكبرى وجعلت أدفع، حتى عادت السفينة إلى مكانها في البحر … وابتعدنا قليلًا، وجاهد رجالي بمجاديفهم حتى كنا على مسافة هي ضِعْف المسافة الأولى، وهنا حاولت أن أصيح بالسيكلوب مرة أخرى، غير أن إخواني حالوا بيني وبين ذلك، وسمعت بعضهم يقول: «ويك أوديسيوس! لِمَ تهيج الجني بكلماتك، وقد كاد الحجر الذي قذفه إلينا يُودي بنا جميعًا ويُحطِّم سفينتنا على الشاطئ؟! أما نحمد الآلهة التي أنقذتنا من ساعدَيه الجبَّارتَين؟ وهو لو سمع رِكْزًا من أحدنا لهشَّمنا جميعًا قبل أن نُغادر غارة؟» على أنني ما أصخت لهم، بل هتفت بالمارد الجبار أقول: «أيها السيكلوب الطاغي، إذا سألك أحد عمن عماك فقل له: أعماني أوديسيوس بن ليرتيس الإيثاكي!» وتأوَّه المارد حتى كاد يتصدع وقال: «ويلي منك! فقد صدقت النبوءة وتحقق ما قال تلموس يوريميد النبي الذي شبَّ بيننا، وطالما تحدَّث إلينا معشر السيكلوبس عما خبَّأ القضاء في صحف الغيب لنا، لقد قال لي: إني سأفقد بصري على يد رجل من البشر يُدْعَى أوديسيوس، فظللت أنتظره وكنت أحسبه مخلوقًا طويلًا عظيم الجسم بادي القوة، فإذا هو أنت أيها القزَم «اللا شيء» الذي قهَرتَني أولًا بالخمر ثم أذهبتَ بصري وأطفأت النور من عيني! أوه، ولكن عد إليَّ يا أوديسيوس وحلَّ عليَّ ضيفًا من جديد أُكْرِم مثواك، وأُصلِّ من أجلك لأبي نبتيون، الفخورِ بي، أن يُمهِّد لك البحر، ويُطامن من تحتك الموج حتى تصل إلى بلادك سالمًا؛ إنه وحده هو اللطيف بي، وليست قوة في الوجود غيره تستطيع أن تشفيني وترد عليَّ بصري.» فقلت له: «بنفسي لو استطعت فقذفت بك من حالق إلى قرار جهنم فلا يقدر أحدٌ على ردِّ بصرك إليك، حتى ولا أبوك هذا.» وغيظ السيكلوب وحنق، ورفع كفَّيه إلى السماء يُصلِّي لأبيه هكذا: «أبتاه المحيط بالأرض، اسمع دعائي، يا صاحب الشعر اللازوردي، إذا كنت حقًّا أبي، وإذا كنت حقًّا تفخر ببنوتي، فاحرم هذا القزم المدعو أوديسيوس بن ليرتيس الإيثاكي من العود إلى بلاده، إلا أن يكون هذا في الأزل فأقم العقاب في طريقه، وشرِّدْه طويلًا في البحر وأغرِق سفائنه، واقبر في الأعماق أصحابه، وأحوِجْه إلى ذل السؤال وطلب المعونة الناس ليُمِدُّوه بمركب يعود عليه، وإذا عاد فليلقَ الهم والغم مُقيمَين ببابه؛ آمين آمين.» ولبى نبتيون ورفع السيكلوب حجرًا أضخم من الأول، وجعل يهوم به بكلتا يدَيه، ثم قذفه هائلة فذهب يرنق فوقنا، وسقط وراءنا بمقربة من السكان، فانشطر البحر فِرقَين كالطود العظيم، ثم انحسر الماء فجرت السفينة إلى الشاطئ مرة أخرى، ولكنها هذه المرة أرست على الشاطئ الآخر الذي أرست عنده سفائننا الأخرى، حيث أقام إخواننا يشهدون المعركة الهائلة ويجزعون، ثم إننا نزلنا إلى البر، وفرَّقْنا الأنصِبات من نعاج السيكلوب بيننا، وكان من نصيبي ذلك الكبش المفدَّى الذي نجاني، فذبحته على رمال الشاطئ قُربانًا لجوف المتعالي، وا أسفاه! إن أكبر ظني أنه لم يُقبَل قرباني؛ لأن أكثر سفائننا أُغْرِقَت فيما بعد، وأكلنا هنيئًا وشربنا الخمر المعتَّقة، وانتظرنا مدَّ البحر، ولكنه استأنى علينا فنِمْنا حتى نضرت أورورا جبين الشرق بالورد، ونهضنا، ونشرنا الشراع وأصلحنا القلاع، وأبحرنا بقلوب واجفة ونفوس نال منها الهلع لائذين بالفرار.