المدارس الطبية في مصر القديمة
(١) نشأة المدرسة عين شمس ميت رهينة
إيمحتب: عرف المصري القديم خواص بعض العقاقير بينما كان ينتقي طعامه من بين الحيوان والنبات، واهتدى بملاحظته الدقيقة إلى تأثيرها الطبي، وتعلَّمَ الابن عن أبيه في المنزل تلك الخواص، وأجاد صناعة الدواء وراثةً، وأصبحت سرًّا يتوارثه الآباء عن الأجداد، والأبناء عن الآباء، حتى أصبحت تلك الصناعة في العصور القديمة قاصرة على بعض الأسر التي اشتهرت فيما بعدُ بعلومها الطبية، وكان المنزل هو المدرسة الأولى التي تعلَّمَ فيها الإنسان صناعة الدواء وصناعة الطب.
ولما بدأ الإنسان يدوِّن علومه على أوراق البردي، كتب تلك المعلومات الدوائية، وعدَّدَ أسماء بعض العقاقير وفوائدها، ووضع تلك اللوحات في المعبد حيث كان يحج إليه المرضى يتداوون من أمراضهم، وأصبح المعبد فيما بعدُ هو قبلة المرضى، والمدرسة التي ينهل منها طالبو العلم، واحتكر الكهنة تلك الصناعة، وأسبغوا عليها مسحة من القداسة والرهبة.
وقد كان قدماء المصريين — كما ذكرنا — على قسطٍ وافرٍ فيما بعدُ من الحضارة، وكانوا على سعةٍ من العلم في كل مرافقها.
يتعلمون فيها الكتابة والدين والحساب والهندسة والعلوم الطبية.
وقد كانت أون أو هيليوبوليس منذ الدولة القديمة مركز الثقافة والتعليم، وكانت مدرستها محج الطلبة يقدمون إليها من الشمال ومن الجنوب، يقصدونها لينالوا العلم، ويتلقنوا فنونه، وفي مدرسة أون تلقَّى المصريون أول ما عرف العالم عن الطب والعقاقير وصناعة الدواء.
وقد وضع الملك أتويتس بن الملك مينا من الأسرة الأولى مجموعةً من كتب الطب، ومن بينها كتابٌ خاصٌّ بالعقاقير.
رغم أننا لم نعثر على كتاب واحد من كتبهم النظرية التي كانوا يدرسونها في ذلك الوقت. وكان من أهم المدارس في مصر القديمة مدرسة منف «ميت رهينة» التي كان من أبنائها وأساتذتها إيمحتب الذي عبد فيما بعدُ في نفس المدينة في معبده بها، وقد أصبح هذا المعبد فيما بعدُ مدرسة للطب أخرجت لمصر القديمة الكثير من الأخصائيين.
وكانت طيبة في الدولة الحديثة معقل عبادة آمون، وأصبحت مدارس الحياة من مستلزمات تلك المعابد. وكان طلاب العلوم الطبية يتلقون علومهم على أيدي كهنة برعوا فيها، وعلى أيدي أطباء تخصَّصوا في فنونها، وخصوصًا أطباء القصور الملكية، كلٌّ في فرع تخصُّصه، وكانت الدراسة الطبية — كما نعلمه من برديات بعض رجال الطب — عنيفة قاسية، طويلة المدة، يجب أن يتعلم فيها الإنسان العقاقير، وأسماء الأعشاب وخواصها، وأنسب المواعيد لزراعتها وجنيها، وصناعة المنقوعات والخلاصات منها، ومختلف أصناف الأدوية.
وكان الأطباء يتلقون دروسًا في الطب وفروعه المختلفة المعروفة في ذلك الوقت، وكان بعض الطلاب يضيقون بهذه العلوم فيتخلفون عن الركب.
كما أنشئت في العصور الفرعونية المتأخرة مدرسة طبية شهيرة كان لها سمعتها، وكان لها رجالها في «سايس» أو صا … ظلت هذه المدرسة الطبية أول منزل للحياة حمل مشعل العلم فترة طويلة من الزمن حتى ضاعت معالمها مع اضمحلال مصر، ثم جددت هذه المدرسة في العصر الفارسي.
وهذا تقريبًا أول مستند صريح واضح رسمي يدلنا على تاريخ المدارس الطبية منذ ٥٢٥ق.م، كما يدلنا هذا المستند على أن هذه المدارس كانت قائمة قبل ذلك العصر بكثير، وأنها تهدَّمت تحت ظروف خاصة، وأن هذه المدرسة الطبية في سايس لم تنشأ في عهد الملك داريوس، بل جدَّدها وأقامها على أنقاض المدرسة الفرعونية القديمة، أعادها إلى مكانها وما كانت عليه.
بعد ذلك بما يقرب من قرنين انتقلت الحضارة الطبية العلمية إلى مدينة الإسكندرية في عام ٣٠٠ق.م، ظلت مدينة الإسكندرية الشهيرة ردحًا طويلًا من الزمن تحمل لواء العلم والعرفان، ومركزًا هامًّا للثقافة الطبية وعلوم الدواء ما يقرب من أربعة قرون.
- (١) Cornelius Celsus، ذلك العالم الماهر الذي وضع تذكرته المشهورة لمنع تلف الأسنان، والتي تحتوي على بذور الخشخاش، والفلفل الأسود، وسلفات النحاس معجونة بالجلبانوم، كما استعمل حقنًا شرجيةً من ماء البحر، واللبخات من بذور الكتان والحلبة.
- (٢) وسرابيون الإسكندري، وهو الذي درس العقاقير المصرية القديمة، وخاصة الكريهة unpleasant، وهو الذي قدَّمها إلى العصور المتتابعة حتى ظلت مستعملة إلى القرن الثامن عشر، وظهرت وصفاتها في أوروبا.
- (٣) وكان ديموقريطس Demoeritus عام ٤٠٠ب.م أول مَن ألقى نظرة على تركيب الذرة، وكان من قبله إيكيورس Epicurus وهو الذي أنشأ هذه النظرية، وتفلسف فيها بين عامَيْ ٣٤٢–٢٧٠ب.م.
- (٤)
وانتقلت حضارة الإسكندرية إلى اليونان، وظهرت مؤلفات جالن الشهيرة، وابتداءً من القرن الرابع الميلادي انتقلت تلك الحضارة الطبية من مدرسة الإسكندرية في آخِر أيامها إلى الأديرة القبطية التي انتشرت حول عاصمة البلاد في ذلك الوقت، وأصبح الرهبان والكهنة هم ورثة ذلك التراث العلمي الخالد الذي خلقته الحضارة الفرعونية. وكان بعض الآباء الرهبان يطوفون في الأديرة المختلفة يعالجون المرضى فيها بما تعلَّموه من خواص العقاقير.
وقد عثرنا على بردية قبطية يرجع تاريخها إلى ما بين القرنين التاسع والعاشر للميلاد، ترجمها العلامة شاسيناه، أغلبها تذاكر دوائية لطب العيون، ويظهر على أكثر أجزائها بالدراسة المقارنة أنها موروثة عن حضارة الفراعنة المختلطة بحضارة اليونان؛ إذ فيها الطابع الفرعوني وطابع الحضارة اليونانية، كما حوت بعض الألفاظ العربية من بدء الفتح الإسلامي لمصر.
بعد ذلك دخلت مصر في دور طويل من عدم الاستقرار لم يصلنا من تاريخه شيءٌ يُذكَر.
(٢) المدرسة الحديثة
في ٢٢ ديسمبر سنة ١٨٢٤ ميلادية أصدر محمد علي مرسومًا بتعيين كلوت بك رئيسًا للمساعدة الطبية الجهادية في الجيش المصري، ولما رأى كلوت بك أن الجيش المصري وعدده ٥٠٠٠ جندي في ذلك الحين في حالة صحية غير مرضية، ووجد أنه من الصعب أن يحضر له الصيادلة والأطباء من الخارج لجهلهم بالعربية، فكَّرَ في إنشاء مستشفى في ثكنة قديمة من ثكنات الجيش في أبي زعبل، وأراد إصلاحها، ولكن رأى أنها متداعية للسقوط، فاستصدر أمرًا بهدمها وتأسيس مستشفى مكانها يسع بين ٨٠٠ إلى ١٠٠٠ مريض، واستحضر لهم حوالي ١٥٠ صيدليًّا وطبيبًا وضابطًا ومساعدًا جلبهم من إيطاليا وفرنسا. وغرس وسط هذا المستشفى حديقة غنَّاء كانت ذات فائدة عظيمة للطلبة؛ إذ كان فيها أكبر عدد ممكن مما تنبت الأرض من عقاقير ونباتات طبية.
وقد فكَّرَ كلوت بك بعد إنشاء هذا المستشفى في إعداد مدرسة طبية للأطباء والصيادلة والأطباء البيطريين حتى تكفي حاجة الجيش، وعرض هذه الفكرة على مساعده في ذلك الوقت عثمان فشجَّعَه على تنفيذها، وصدر الأمر الأميري بذلك عام ١٨٢٧ رغم مقاومة المشايخ وضباط الجيش وعامة الشعب. وأُسِّست المدرسة في ذلك العام في أبي زعبل، وعُيِّن كلوت بك ناظرًا لها، فاختار أساتذتها من فطاحل الأوروبيين في ذلك الوقت، واختار لها الكثير من الكتب الفرنسية، وترجم منها إلى العربية ٥٢ كتابًا نقَّحَ جميعها الشيخ محمد الهراوي.
وفي عام ١٨٢٩ نُقِل فرع الصيدلة من مدرسة الطب في أبي زعبل إلى القلعة.
وفي عام ١٨٣٥ وجد كلوت بك أن مدرستي الطب والصيدلة لا يفيان بالحاجة، ولا يتمشيان مع حالة البلاد، ففكَّرَ في إنشاء مدرسة أكبر اتساعًا وأكثر استعدادًا في جزيرة الروضة، وسعى لذلك سعيًا حثيثًا، ولكن لم يتحقق مأربه.
وفي عام ١٨٣٧ نقل المدرسة والمستشفى من أبي زعبل إلى القصر الذي بناه عام ١٧٦٦م أحمدُ ابن العيني الفارسي الأعظم، وحفيد أحد سلاطين مصر، وقد أُزِيلت تكية ابن العيني، وأنشِئَ محلها مدرسة الصيدلة الحديثة.
وفي عام ١٨٣٧ بلغ عدد طلبة المدرسة ١٤٠ طالب طب، وخمسين طالب صيدلة.
وفي عام ١٨٤٩ بلغ عدد طلبة المدرسة ١٢٥ طالب طب، و٢٥ طالب صيدلة، وكان عدد الأطباء والصيادلة خلال المدة التي حكمها محمد علي ١٥٠٠ متخصص. وأُقفِلت المدرسة أيام سعيد، ثم أعاد فتحها في سبتمبر ١٨٥٦ ميلادية.
وفي ٦ أبريل سنة ١٩٥٨م احتفل بامتحان الطلبة بعد إعادة فتح المدرسة احتفالًا رسميًّا، وكان بين الطلبة الذين تقدموا للامتحان ١٢١ طالبًا بمدرسة الصيدلة، وكان المحدد لمدة الدراسة بالصيدلة خمس سنوات.
وقد ظهر في هذه الفترة الكثير من مؤلفات الصيدلة العربية، كما برز كثير من الأسماء اللامعة في الصيدلة في ذلك الوقت أهمهم:
الدكتور أحمد الرشيدي، مصطفى المجدلي، صالح علي، إبراهيم الوديني، إبراهيم المازني، إبراهيم معطفي، علي مراد، أحمد راتب، إبراهيم ماجد.
وفي عام ١٨٧٧ صدر أمر بإنشاء شهادة الدراسة الثانوية، وجعلت هذه شرطًا للالتحاق بالمدرسة الطبية ومدرسة الصيدلة. وتقرر أن تكون مدة الدارسة بها ٤ سنوات، وظلت مدرسة الصيدلة في مكانها في مستشفى قصر العيني حيث أُنشِئت الكلية الجديدة.
وفي عام ١٩٥٥-١٩٥٦ صدر المرسوم بجعلها كلية مستقلة، وتعيين أول عميد للصيدلة في مصر وهو شيخ الصيادلة وأستاذ الجيل الدكتور إبراهيم رجب فهمي.
كما صدر المرسوم بإنشاء مبنى جديد لمدرسة الصيدلة في مدينة الإسكندرية التي يرأسها الدكتور محمد محمد مطاوع، وهو أول رئيس لهذه المدرسة في الإسكندرية التي ستصبح كلية في القريب العاجل.
(٣) إنشاء مدرسة مساعدي الصيادلة
في عام ١٩١٢ في عهد دنكلار رئيس الصيادلة أعلن في الجريدة الرسمية عن حاجة المدرسة الطبية إلى فئة تقوم لمساعدة الصيادلة في أعمالهم، على شرط أن يكونوا من موظفي الأجزخانات، فتقدَّمَ منهم حوالي٢٠٠ طالب لا يحملون أي شهادات، ونجح منهم مائة وعشرون مُنِحوا شهادات تخوِّل لهم الحصول على تصريح تعاطي مهنة مساعد صيدلي بالقُطْر المصري من مصلحة الصحة، وكانت هذه أول دفعة لا تحمل شهادات وبدون دراسة مكتفية فقط بالمدة التمرينية.
وفي عام ١٩١٤ بناءً على رغبة الصيدلي الدكتور جبرائيل بحري الأستاذ بالمدرسة في ذلك الحين، فُتِح فرعٌ خاصٌّ بأمر دكريتوه الخديوي عباس لدراسة مساعدة الصيادلة بدون تحديد شروط للقبول في المدرسة، وجعلت مدة الدراسة أربع سنوات منها ثلاث سنوات تمرين بالأجزخانات وسنة واحدة للدراسة العلمية، وكان يشترط في الطالب معرفة إحدى اللغات الأجنبية.
وفي عام ١٩٢٢ لما ازداد عدد مساعدي الصيادلة، أصدر وزير المعارف قرارًا بجعل شرط الالتحاق بالمدرسة الحصول على شهادة الدراسة الثانوية قسم أول (كفاءة).
وفي عام ١٩٢٥ أصدر علي ماهر وزير المعارف أمرًا وزاريًّا بقفل المدرسة؛ إذ قد رأى أن لا داعي لوجود فئتين مختلفتين من طبقة واحدة علمية، إذ قد يوجب هذا تنافرًا بين أفراد المهنة ويقف حجر عثرة في سبيل تقدمها.
وفي عام ١٩٥٥-١٩٥٦ صدر قرار وزاري بإنشاء أو بإعادة فتح مدرسة مساعدي الصيادلة رغم مقاومة الكثير من كبار رجال الصيادلة في مصر، وجعل شرط القبول فيها الحصول على شهادة التوجيهية القسم العلمي، ومدة الدراسة بها سنة كاملة.