الفصل العاشر
سارت الأمور مع أبي سريع كما يشاء، وفي فترةٍ قصيرة استولى على أرض البناء الفضاء بعد أن رشا الخبير الذي خُصِّص لمعاينة الأرض بخمسين ألف جنيه، ورشا الشُّهود الأربعة الذين دبَّر أمرهم محروس بأربعين ألفًا.
ولم تكن الأرض مُبتغاه؛ فهو يقول لابنه مُفتتحًا معه الحديث: البقية في حياتك في حميك.
– الله يرحمه، لقد مات منذ اللحظة التي قُبض فيها على رجاله.
ولم يشأ أبو سريع أن يُخبر ابنه أنه هو السبب الأساسي في كلِّ ما حدَث لعيدروس وعصابته، وإنما قال: لقد أصبحتَ أنت الوارث الحقيقي؛ فسعدية لا تعرِف عن الأرض شيئًا.
– كله لأولادها.
– المهم ماذا لو طلبتُ سلفةً على الأرض بضمان أرض البناء؟
– بكم الأرض؟
– يتراوَح ثمنها بين ستة وسبعة ملايين جنيه.
– وإذا حقَّقتُ لك ما تريد، ما نصيبي؟
– نصيبك؟!
– طبعًا أنا الآن والد وصاحب أُسرة قابلة للتضخُّم.
– على فكرة، لماذا أسميتَه سامي؟
– وماذا كنتَ تُريدني أن أُسمِّيه؟
– أبو سريع أو عيدروس.
– يابا هذه أسماء لا تصلُح لعصر الولد.
على أي خيبة أُسميه أبو سريع، وأنا لم أرَ منك وَمضةَ حنان، أنا إن كنتُ أعاونك الآن فلنفسي ولأُسرتي، ومن أجل هذا فقط، وكم أتُوق أن تطَّلِع على ما يدور في رأسي الآن … وأيقظه صوت أبيه من سرحته: هيه، ماذا قلت؟
– فيم؟
– في سلفة على الأرض.
– لم تقُل ما نصيبي!
– أي نصيب؟ أليس كل مالي لك؟
– أطال الله عمرك، ولكن أليس من الطبيعي أن أعيش كما أشتهي وأنت على قَيد الحياة؟
– لا بأس، كم تريد؟
– النصف.
– حقًّا إنك أهبل، ماذا تظنُّني فاعلًا بالسلفة التي سيمنحها لك البنك؟
– أتنوي أن تفعل؟
– طبعًا أتراني مجنونًا لدرجة أن أترُك ملايين لا تعمل.
– ماذا تنوي؟
– أعمل بها في السوق.
– أي سوق؟
– إنني صرَّاف ومِثلي يكون خبيرًا في كل مناحي المال.
– ففي أي مجال ستعمل؟
– أفضل شيءٍ أراه أن أعمل في المقاولات.
– عظيم، ولكن لا بدَّ لك من مهندس.
– بل قل مهندسين.
– ولا بدَّ أن يكونوا طَوع أمرك.
– الفلوس تعمل كلَّ شيء، قل لي أولًا كم أستطيع أن آخُذ من البنك؟
– بل قل لي أنت أولًا ماذا ستُعطيني؟
– أجعلك شريكًا لي في كل أعمالي.
– بكم قدَّر الخبير الأرض؟
– الخبير لم تكن وظيفته تقدير الثمن، وإنما كان عمله أن يُثبت ملكيتي للأرض.
– إذن فالبنك هو الذي سيُقدِّر ثمنها، وعلى أساس هذا التقدير تكون السُّلفة.
– كم تستطيع أن تجعل البنك يُعطيني؟
– عشرة ملايين على شرط.
– اشرُط.
– ليس الشرط لي.
– فلمن إذن؟
– للخبير الذي سينتدِبه البنك.
– ماذا تُقدِّر له؟
– المسألة لم تُصبح تقديرًا، إنها مبالغ محدَّدة معروفة.
– كم؟
– نصف مليون.
– نصف مليون؟!
– ومثلها لزملائي الذين سيُسَهِّلون الائتمان.
– أليس لك خاطر عندهم؟
– في مثل هذه الأمور لا خواطر.
وقبل أن يتكلَّم أبو سريع دقَّ جرس الباب في بيت لطفي، وقام لطفي إلى الباب، وفوجئ بوجدي واقفًا عليه، وتولَّته الدهشة وهو يَصيح: أهلًا سعادة البك تفضَّل.
– أهلًا بك، عرفتُ عنوانك من البنك.
– وماله تفضَّل.
– مبروك البيت، أنا أُريد أن أعرف عنوان أبيك.
– أبي هنا.
– أهو هنا؟
– تفضَّل.
– إذن أدخُل.
قال وجدي لأبي سريع: سنشرَب القهوة في منزلك.
– أمرك.
– هيا بنا.
وقال لطفي: من غير أن أُكرِمك؟
– سأجيء لك خصِّيصًا مرةً أخرى، إلا أنَّني اليوم على عجَل، ولا بدَّ لي أن أرجع إلى البلد اليوم.
– أمرك.
– هيا يا أبو سريع.
– أنا تحت أمرك، هيا.
وما إن استقرَّ بهما المقام في بيت أبي سريع، حتى سارع قائلًا لوجدي: أنا أعرِف فيمَ تُريدني.
– هل الذي فعلتَه معقول؟
– انتظِرْني لحظات.
وما لبِثَ أن عاد وبيدِه مصحف شريف، وما إن جلس حتى فاجأ وجدي بأن قال: ما هذا؟
– إن كنت تنوي أن تحلف عليه فاخشَ الله.
وضع أبو سريع يدَه على المصحف، وقال: أُقسم بهذا المصحف كلام الله المنزل، وأنا حججتُ إلى بيته المُقدَّس أنَّني سدَّدتُ كل أمانات أهل البلد لأصحابها، وليس لأحدٍ منهم مليم في ذمتي، سواء كان هذا المليم أمانة أو كان دَينًا.
وساد الصمتُ هنيهة وقال وجدي: حتى عبد الحميد أبو جريشة؟
في وقاحةٍ مُنقطعة النظير، قال أبو سريع: من عبد الحميد أبو جريشة؟
– ألا تعرفه؟
– ربما الشيخ الأعمى المقطوع.
– أليس له عندك ألف وستمائة جنيه؟
– وهذا الفقي الأعمى من أين له بمبلغٍ كهذا؟
– ألم يقُل لك؟
– أنا لم أرَه وحدَنا عمري كله، أنا لا أراه إلا في المآتم، وحين نقوم بدفْن أحد الأموات. لقد سمع الإشاعة، فقال: فرصة أعمل لنفسي شأنًا ومكانة. ومتى يجِد مثل هذه الفرصة، حتى يجعل الناس يلوكون اسمَه.
وصمتَ وجدي لحظاتٍ قائلًا: إنه الوحيد بين الذين يقولون إنهم استأمنوك وخُنتَ أماناتهم الذي فكَّرتُ أن أردَّ له مبلغه، فقد تألَّمتُ لأمره كل الألم.
– خصيمك النبي إن فعلت.
– ما دُمتَ تنفي كلَّ هذا النفي سأُصدِّقك، والأمر الآن أصبح بينك وبين الله.
– يا رجل لقد عرفتَني منذ نحن أطفال، وعملتُ معك سنوات، وكنتُ أتصوَّر أنه إذا صدَّق الجميع عني هذه الشائعات فأنت بالذات ستنفِيها.
– إنهم كثيرون يا أبو سريع.
– مهما كثروا.
– فكيف تتصوَّر أن يكونوا في مثل هذا العدد؟
– واحد أراد أن يُسيء إلى سُمعتي فتبِعَه الآخرون واجدين فرصةً عندك لعلَّك تجود عليهم بشيءٍ أو يتظاهرون بأنهم كانوا ضحيةً لثري، وخصوصًا بعد أن عرفوا، فإنني بعتُ لك أرضي بهذا المبلغ الكبير، وشرفك يا وجدي بك كلهم شأنهم كشأن عبد الحميد أبو جريشة.
– أنا منذ اليوم لن أُكلِّمك في هذا الموضوع، وسأترك أمرك لله وكلامه ورُسله فهُم خصومك إن كنتَ من الكاذبين.
– فقط ألم يقُل لك أحد أنه استأمنَني على مبلغٍ كبير بلا إيصال منِّي، ولا سنَدٍ في يده ورددتُ له أمانته؟
– الحقيقة أن كثيرين قالوا ذلك، وأكبر المُدافعين عنك الشيخ عبد الفتاح أبو إسماعيل.
– ألم يقُل لك المبلغ الذي استأمنَني عليه؟
– يقول عشرة آلاف.
– ألم يكن هذا أولى من عبد الحميد أبو جريشة؟
– كما قلتُ لك إنك ستقِف بين يدي الله الذي حلفتَ به وبقُرآنه، وهو الواحد الديَّان، أما عنِّي فإني أُعيذ نفسي أن أُصدِّق شيئًا لا أجد عليه دليلًا ماديًّا حتى الآن.
– ولن تجد، والأيام بيننا. أتسمح لي أن أقول لك شيئًا؟
– قل.
– إذا قدَّمَ أيُّ مدَّعٍ من الذين يتهمونني زورًا ورقةً واحدةً تُثبت كذِبي وصِدقَه، سأدفع لكلِّ من يتَّهِمونني المبالغ التي يدَّعون أنهم أودعوها عندي بصفة أمانة.
– أهذا عهد؟
– عهد الله بيني وبينك، فإن رأيتَني أخيس به فلا تعرفني بعدَها أبدًا.
– اللهم فاشهَدْ، أنا عملتُ ما رأيتُ أنه واجبي، وليس لي شأن بهذا الموضوع إلا إذا ظهر فيه جديد.
– إذا ظهر هذا الجديد ستَجِدني بين يديك أُنفِّذ عهد الله الذي وثَّقتُه بيني وبينك.
– وهو كذلك، سلام عليكم.
– وعليكم السلام يا سعادة البك، زيارتك هذه لا تُحسَب، وهذا شرَف أُحبُّ أن أناله بغَير أن يكون السبب له هو شَكُّكَ فيَّ.
– الأيام القادمة كثيرة، ومن يدري ربما أُكثر من زيارتك حين تنكشِف هذه الغمَّة، بيتك جميل. كيف وجدتَه؟
– إنه شقة مفروشة، حين تأتي المرَّة القادمة سيكون ذلك في بيتي إن شاء الله.
– إن شاء الله، سلام عليكم.
وتصافَح الرجُلان، وانصرف وجدي، وقد تمكَّن أبو سريع أن يُزعزِع ثقته التي جاءه بها من أنه خائن الأمانة.
استطاع أبو سريع بمعاونةٍ من لطفي أن يحصُلا من البنك بالوسائل غير المشروعة على عشرة ملايين من الجنيهات، وما يلبَث أبو سريع أن يشتري قِطعًا أخرى من الأرض، وينال عليها بنفس الوسائل عشرات الملايين من الجنيهات سواء كان حصوله على هذه الأراضي بعقود بيعٍ وشراء صحيحة، أو بنفس الوسيلة التي حصل بها على قطعة الأرض الأولى، واشترى أيضًا بوسائله شقَّةً أقام فيها هو وسلمى.
أما لطفي فقد أصبح كما قدَّر أبوه هو المُشرِف على أرض سعدية وأموالها منذ مات أبوها بعد أن ظلَّ فترةً يصدُق عليه قول المُنتقم الجبَّار: لا يموت فيها ولا يحيا.