الفصل الحادي عشر
قالت نبوية لأبيها: أنا لا أعرف يابا لماذا لم تسعَ في طلاقي من زردق حتى الآن؟
– يا بنتي هل جُننت؟
– أجنونٌ أن أُطلَّق من مجرم في قضية قتل ضبط فيها مُتلبسًا؟! اسمع يابا والله إن لم تطلب طلاقي من هذا الزواج الذي لم يستمر إلا أيامًا معدودة، سأذهب إلى تامر ابن وجدي بك، وأجعله يرفع لي قضيةً وهو لا يأخُذ من أبناء البلد قرشًا.
– يا عبيطة، وهل أنا متأخر؟
– شهور الآن وأنت تُسَوِّف.
– لأنَّ القضية لم يُحكَم فيها.
– إنها ثابتة يابا.
– المحكمة لم تقُل شيئًا حتى الآن، وما دام لم يُحكَم على زردق فنحن لا نستطيع أن نُطالب بالطلاق.
– يابا المحاكم حبالها طويلة.
– حكمة ربنا يا بنتي، وأنا ماذا بيدي أن أصنع؟
– أيُرضيك أن أظلَّ هكذا كالبيت الوقف لا أنا حُرة، ولا أنا زوجة؟
– لا يُرضيني، ولا يُرضي أحدًا، ولكن ماذا نفعل؟
– كان عليك أن ترفُضه أوَّل الأمر.
– وأجعله يَقتُلنا جميعًا أنا وأنت وأمك وإخوتك.
– الأعمار بيد الله.
– إنما قال الله: لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
– هذا الرُّعب هو الذي جعلهم يفيعون كالذئاب في خلق الله.
– يا بنتي البني آدم إذا قَتَل مرةً واحدة يقتُل مائةَ مرة، فما بالك برجُل وظيفته في الدنيا أن يقتُل؟!
– نهايته سلام عليكم.
– وعليكم السلام، إلى أين؟
– في ستِّين داهية.
وخرجَتْ نبوية وصفَقَتِ الباب خلفَها، وكان الليل في مَوهنه الأول، وبدأت الظلمات تُلقي دُكنتَها على الأرض، وكان هذا هو الوقت الذي أرادتْهُ نبوية لتُنفِّذ ما عزمت عليه في نفسها.
كان الشيخ عبد الحميد في منزله يستمِع إلى الراديو، وإن كان مُنصرفًا عنه بفِكره إلى ذلك الأمر الذي صمَّم أن يُنفِّذه مهما كانت الصعاب، ومهما كانت العواقب.
وطُرق الباب، وكان الشيخ عبد الحميد يجلس دائمًا بجانب الباب، حتى يُسارع بفتحه إن جاءه رسول يطلُبه إلى عمل.
فتح عبد الحميد الباب أولًا، ثم قال: من؟
وجاءه صوتٌ نسائي: ندخُل أولًا، ثم أُخبرك.
ولم تُمهِله نبوية، وإنما دفعته فاندفع، وأغلقَتْ هي الباب، وأحكمَتْ إغلاقه، ثُم التفتت إليه.
– ألم تعرِفني؟
– العتَب على النظر.
– أليس عندك مصباح؟
– الكهرباء في البيت ومفتاح النور على يسار الداخل من الباب، ولكن ماذا أفعل أنا بالنور؟
وأضاءت نبوية المصباح وهي تقول: معك حق، اجلس؟
– قولي لي أولًا من أنت؟
– أنا نبوية.
– بسم الله الرحمن الرحيم، بنت الشيخ عبد الفتاح أبو إسماعيل.
– أعفريت أنا يا شيخ قرد!
– يا ليتني يا ستِّي كنتُ قردًا على أقل كنت أراك.
– النهاية.
– خيرًا؟
– أنت تعرف أن زردق كان عنده سلاح كثير.
– كان، وأين ذهب السلاح؟
– ألم يُفتِّشوا البيت بعد القبض عليه وأخذوا السلاح؟
– كله؟
– كله إلا …
– إلا ماذا؟
– إلا مسدس صغير تاه منهم.
– وأين هذا المُسدَّس؟
– انتظر، المسدَّس معي. خفتُ أن تأتوا للتفتيش مرةً أخرى، ويتَّهموا أبي بأنه عنده سلاح فلن يُصدِّقوا أنهم لم يرَوا المُسدَّس في التفتيش الأول.
– كلام معقول.
– وأنت تعرِف أن أبي لا يُحبُّ وجَع الدماغ.
– أعرف هذا جيدًا، إنه يخاف من خياله.
– جاءك خابط.
– وماله.
– المهم.
– نعم، المهم ما شأني أنا بهذا الموضوع كله؟
– أنا أُفكِّر أن أبيع المسدَّس بعد أن يتمَّ طلاقي من المُجرِم زردق.
– لك حق، أهو مسدَّس من نوع جيد؟
– سلاح رجل لا عمَل له إلَّا القتل.
– على رأيك، إنه يُساوي على الأقل ثلاثمائة جنيه.
– إن لم يكن أكثر.
– فعلًا إن لم يكن أكثر.
– ولكن أنا ما شأني بهذا، أتريدينني أن أتمرَّن عليه؟
وقهقهَتْ نبوية وهي تقول: من أجل هذا جئتُ لك.
– لأنَّني أعمى تعنين؟
– من يُفكِّر أن مثلك يملك مُسدَّسًا.
– غير معقول.
– وإذا ملكته ما فائدته لك؟
وصمتَ عبد الحميد هنيهة حتى صاحَتْ به نبوية: ما فائدته لك؟
– لا فائدة طبعًا.
– خفتُ أن أُعطيه لغيرك فيأخذه ولا يردَّه، فقلت: ليس لها إلا عبد الحميد.
– الأعمى؟!
– لا داعي لقولها.
– أو قوليها فقد تعوَّدتُ عليها.
– ما رأيك في هذه الفكرة؟
– فكرة عظيمة فعلًا، إنَّني لن أنتفع به في شيء، حتى ولو فكرت أبيعه سأجعل من نفسي مسخرة؛ من أين للأعمى بالمُسدَّس، وتُصبح أحدوثة بين الناس.
– هاك المسدس.
– هل به رصاص؟
– وماذا تنتظر، ولكن لماذا تسأل؟
– حتى لا ألعب به.
– على كل حال أنت لا شأن لك به حتى أجيء إليك وآخُذه منك.
– وأنا ما الذي يجعلني أقترِب من آلةٍ لا أعرف عنها شيئًا؟
– أقوم أنا إذن. تركتُك بعافية.
– مع السلامة يا أُختي.
وخلا عبد الحميد بنفسه، أمعقول هذا الذي يحدُث؟ سبحانه له في ذلك حِكَم.
في الندوة التي يشارك فيها عبد الحميد جرى الحديث عن أبي سريع، وقال سلامة: ابن الكلب يضحك على بلدٍ بأكمله.
وقال صديقهم ورداني: اشترى بيتًا فخمًا في مصر في عمارة بالغة العظمة.
وإذا بعبد الحميد يقول: حُجرة منه ملكي أنا، لا سامحه الله.
وضحك الجالسون وعاد عبد الحميد يقول: أتعرف هذا البيت؟
– وشرفك لم أرجع من مصر إلا بعد أن رأيتُه بعيني.
– وما الذي دعاك لهذا؟
– فضول وفراغ، أنت تعرف أنَّني كنتُ صديقًا للُطفي، ذهبتُ إليه في البنك، وكان على وشك الانصراف فحمَلني معه في سيارته ليُريني العزَّ الذي أصبح يتمتَّع به، وحين بدأ السير بسيارته قال لي: إلى أين أنت ذاهب؟
– ألم يدْعُك على الغداء؟
– أنتم تعرفونه؛ طول عمره نتن.
– ولكنه الآن أصبح في حالٍ غير الحال.
– يا بني النتن يظلُّ على حاله في الفقر والغنى على السواء.
– المُهم هل أوصلك إلى حيث كنتَ ذاهبًا؟
– قال لي تحبُّ أن ترى بيت أبي الذي انتقل إليه الأسبوع الماضي؟
– أحبُّ جدًّا.
وذهب بي إلى حيِّ المهندسين، وحين بلغْنا شارعًا مُتسعًا ترك بعض عمارات على اليسار، ثم أشار لي إلى عمارةٍ ضخمة وقال: شقة أبي هنا.
وسأل عبد الحميد: أعرفت اسم الشارع؟
– عرفته لكي أؤكد لكم حقيقة ما أقول.
– ما اسمه؟
– شارع الأشجار رقم ٩.
– لا، سهل.
– ماذا، أتنوي أن تذهب إليه؟
– قد تُدرِكه الشفقَة عليَّ.
وقال سلامة: احكِ له حكاية قمر.
– احكِها له أنت.
– وأنا ما شأني؟
– ألم تسمع عن واجبات الصُّحبة؟
– صُحبة هباب.
– إنما هي صُحبة مفروضة عليك والسلام.
كان الجمع قد انفضَّ، ولم يبقَ إلَّا سلامة وعبد الحميد.
وقال: الجميع مشوا، ألا تنوي أن تُروِّح؟
– قم بنا.
وفي الطريق قال سلامة: أتنوي حقًّا أن تذهب لأبي سريع؟
– أعجيبة أن أُحاول؟
– لا عجيبة ولا حاجة.
– سأذهب إليه.
– متى؟
– حدِّد أنت الموعد.
– أنا ليس ورائي شيء في هذه الأيام.
– في أيِّ يومٍ نحن من أيام ربنا؟ ألسنا اليوم يوم الخميس؟
– نعم.
– ماذا وراءك غدًا؟
– لا شيء.
– نُصلِّي الفجر، ونركب القطار.
– التذاكر على حسابك.
– والتاكسي أيضًا الذي سنأخُذه من المحطة إلى بيته.
كان اليوم جمعة، وكان أبو سريع في بيته مُرتديًا جلبابه حين دقَّ جرس الباب، وذهبت الخادمة وقال سلامة: الحاج أبو سريع هنا؟
– نعم. أقول له من؟
– قولي له أصدقاء.
– تفضَّلا.
وذهبت بهما إلى حجرة الجلوس، وأخبرت أبا سريع بمجيئهما وسألها: ألم تسألي عن أسمائهم؟
– يقولون أصدقاء.
لاحظ سلامة أن عبد الحميد منذ دخلا بيت أبي سريع لم يُخرج يدَه اليُمنى من جيب كاكولته، ولكنه لم يُعلِّق على الأمر، فإنها ملاحظة عابرة لا تستحقُّ السؤال.
لم يتعجَّل أبو سريع وذهب في استرخاءٍ إلى حجرة الجلوس، وما إن رآهما حتى صاح: أنتما؟! ماذا جاء بكما؟!
وقال عبد الحميد: بلدياتك، ونريد أن نُهنئك على البيت الجديد.
وصافَحَهما أبو سريع، فإذا بعبد الحميد يُصافحه بيده اليُسرى، فقال أبو سريع: أين يدك اليمنى؟ عسى الله تكون قُطِعت.
وقال عبد الحميد في استخفاف: لا، إنه مجرَّد جرح.
وازدادت دهشة سلامة، فهو يعلم أن يد عبد الحميد سليمة، ولكنه لم ينطق بحرف، وقال أبو سريع في جرأة: من أعمالك السوداء، كيف تجرؤ على زيارتي بعد أن كذبتَ على الناس، وادَّعَيْت أنَّني أخذتُ منك مبالغ من المال؟
– ألم تأخُذ؟
– ومن أين لمِثلك بالمال حتى آخُذه؟
– وماذا تقول لربِّك؟
– بل ماذا تقول أنت لربِّك وأنت تُسيء إلى سُمعة الشرفاء من أمثالي؟
وقال سلامة: على مهلك يا عم الحاج.
– أنت لا تتكلَّم مُطلقًا.
– أمرك.
قال عبد الحميد: يعني أنا ليس لي عندك ألف وستمائة جنيه؟
– أما إنك لوقِح، هل جُننتَ يا ولد؟
– فعلًا جُننت هيا بنا يا سلامة.
وقاما واقِفَين وقال عبد الحميد: سامحك الله يا حاج أعطني يدك حتى أُسلِّم عليك وأعتذِر لك أنَّني كذبتُ عليك.
– إن كان على يدي هاك يدي.
ومدَّ عبد الحميد يدَه اليُسرى.
وفي لمح البصر أمسك عبد الحميد بيده يدَ أبي سريع، وتمكَّن منها، وأخرج المسدس من جيب الكاكولة، وأطلق النار على أبي سريع، ولم يكتفِ بطلقةٍ ولا اثنتَين، وإنما أفرغ الرصاصات الستَّ في جِسم أبي سريع وسلامة ذاهِل في دوارٍ أخَّاذ لا يزيد عن قوله: الله … الله … الله.
– وارتمى أبو سريع مُضرَّجًا بدمائه، والتفتَ عبد الحميد إلى حيث يسمع صياح سلامة، وقال له: هل مات؟
– أنت جُنِنتَ.
– أجِبني؛ هل مات؟
– وماذا تنتظِر؟
– هل دخل الرصاص جسمه؟
– وهو الآن صريع، ولا بدَّ أنه مَيِّت لا محالة إن لم يكن مات فعلًا.
– الآن استرحتُ، أجلِسْني.
– وقعتنا سوداء.
– أنت مالك؟
– ألستُ معك؟
– لا تخَفْ أنا عندي لكلِّ سؤالٍ جواب.
– أي جواب، الله يخرب بيتك.
طبعًا جاءت سلمى والخادمة على صوت الرصاص، وراحتا تُطلقان الصُّراخ المجنون المذعور، وقال عبد الحميد لسلامة بصوتٍ آمر: أبلِغ الشرطة يا سلامة.
– أي شرطة؟
جاء البوَّاب وسكَّان العمارة، ولم يمُرَّ كثيرُ وقتٍ حتى كان عبد الحميد وسلامة بين يدي الشرطة، وبدأ التحقيق.
وما هي إلا ساعة حتى حضر تامر، وما لبِث وكيل النائب العام أن بدأ تحقيقه مع عبد الحميد بحضور تامر، وفي التحقيق روى عبد الحميد كل ما كان من شأن أبي سريع وشأنه، وروى قصَّته مع قمر، بل وروى أيضًا قصته مع نبوية، وكيف حصل منها على المُسدَّس، ثم قال لوكيل النيابة: يا سعادة الوكيل، أنا حين قتلتُ كنتُ أعرف مصيري، وأنا رجل أحفظ كلام الله، وأعرف أن القتل هو أعظم جريمة عند الله والناس، وأحفظ قوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا؛ فجزائي في الدُّنيا أعرفه، وأنا مُستعِدٌّ له، أما جزائي في الآخرة فإني أعتمد على قول الغفور الرحيم: أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وقد كان أبو سريع مُفسدًا في الأرض، فإن لم يكن هناك أدلَّة لأهل الأرض على فساده، فالله الرقيب الحسيب يعرِف خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وأنا لم يُصبح لي في الأرض أمَلٌ أعيش عليه، فقد كنتُ أرجو أن أتزوَّج، ويكون لي أولاد أرى بأعيُنهم الدُّنيا التي حُرِمْتُها، وقضى أبو سريع على كلِّ أملٍ لي في ذلك.
وقال وكيل النيابة: هل اطَّلعتَ على الغيب؟
– إذا كنتُ لا أرى الحاضر، فكيف لي بالاطلاع على الغيب يا سعادة الوكيل؟ لقد وُلِدتُ فاقد البصر بفعل الله وله في ذلك حكمته التي لا يعرفها إلا هو، إلا أنَّني قد أصبحتُ فاقد البصيرة بفعلي أنا، وبهذا الفعل أقبل حُكم البشر، أما شأني مع الله فلا يعرفه إلا هو. وانتهى التحقيق وحُوِّلت القضية إلى المحكمة وتكلَّمت النيابة تطلُب أقصى العقوبة، ثم تكلَّم تامر فقال: يا حضرات المُستشارين إنَّني لن أُقدِّم للمحكمة دفاعًا خيرًا مما قاله المُتَّهم أمام النيابة، ولو كنتُ أتقاضى أتعابًا على هذه القضية لرددتُ الأتعاب، وأنا لا أتقدَّم إلى ساحتكم المُقدَّسة طالبًا البراءة، وإنما أطلُب الرأفة ما وجدَتْ ضمائركم المُشرقة بنور الله سبيلًا إليها، والسلام عليكم ورحمة الله، ورُفِعت الجلسة للمداولة.
وصدر حكم المحكمة بالسجن خمسة عشر عامًا، وقال عبد الحميد: سُبحانك يا عليُّ يا قدير لقد ضمنتُ لنفسي القوت، ومن كان في سجني الرَّباني لا يعنيه سجن البشر. تقدَّسَت أسماؤك وجلَّ جلالك.