الفصل الثاني
على مقربةٍ يسيرة من قرية أبي سريع ووجدي الدلجمونة قريةٌ أخرى تُسمَّى الولجة، أشهَرُ من فيها عيدروس النمر، وهو رجل غليظ الجسم بصورةٍ مُتضخِّمة، ولكن غلظة جِسمه تُعتبر نحافةً وضمورًا إذا قورنت بغِلطة فؤاده. مات أبوه وهدان النمر، وترك ولدَين وبنتَين وكان أربعتُهم قد بلغ سنَّ الرشد، ولكنَّ عيدروس كان قد كوَّن عصابة قبل أن يموت أبوه عمَلُها السرقة، واغتصاب الأرض والقتل بسببٍ يتعلَّق بعيدروس أو لغير ذلك من أسبابٍ كأنْ يطلُب منه صاحب مصلحةٍ في زوال شخصٍ ما أن يقتُلَه. وطبعًا لم تكن الصداقة وحدَها تكفي عيدروس ليُنفِّذ قتل خصم القاصد إليه، بل كان يتقاضى مبالِغَ ضخمةً يُقدِّرها هو حسب مقدار الثروة التي يملكها طالِب القتْل.
وحين ألَّف عيدروس عصابته كان أبوه ما زال على قيد الحياة، هذا إذا اعتبرْنا أنَّ تَردُّد الأنفاس حياة، فقد كان في المَوهَنِ الأخير من عمره لا يكاد يعقِل ما يسمع، وقد رفق به المولى سبحانه، فلم يُطِلِ الأمد الذي كان يتنفَّس فيه بلا حياة.
فحين مات لم يكن يعلم عن ولدِه عيدروس إجرامَه وجبروته، ولو كان قد علِم لَما صنع شيئًا؛ فقد كان رجلًا سلمًا من هؤلاء الذين يمرُّون بالحياة، أو تمرُّ بهم، وكأنهم من هوان الشأن ما وُجِدوا.
وكان فخره الأعظم أنه حافظ على الخمسين فدَّانًا التي تركَها له أبوه لم يبِعْ منها قيراطًا واحدًا، ولم يحاول أن يُفكِّر — رغم أنه لم يكن جوادًا ولا صاحب نخوة، وعيشته لم تكن ذات سَعة، ولا بحبوحة— أن يزيد في أرضه فدَّانًا واحدًا.
وهكذا تملَّك من عيدروس احتقاره لأبيه احتقارًا لا يُبديه، وإنما يُضمِره ضخمًا عريضًا في دخيلةِ نفسه، فحين انتقل أبوه إلى ربِّهِ مرَّ أمر موته بعيدروس كأنَّ شيئًا لم يحدُث، فقد كان هو وأخوه مراد وأختاه عزيزة ووهيبة يعتبرون منذ زمانٍ بعيدٍ أن أباهم قد مات، وإن كان على قيد الحياة.
واستولى عيدروس على أرض أبيه جميعًا بلا مناقشةٍ في الأمر، فمراد كان شابًّا جاهلًا، لا همَّ له في الحياة إلا أن يحصُل من أبيه على ثمن الخمور التي يُدمنها إدمانًا يأخُذ عليه حياته، وأما زوجا عزيزة ووهيبة؛ فهمي وحسين فقد كانا يجمعان إلى الخوف الراعِد والجُبن المُبيد هوانَ الشأن وامِّحاء الشخصية.
فكان من الطبيعي أن يستولي عيدروس على التَّرِكة جميعها دون أن تواجهه أدنى مُعارضة، فقد أصدر أوامره لخازن ماله شعبان السُّحت بأن يُعطي لأخيه كلَّ يومٍ ما يكفي مأكله وخمرَه، واعتبر مراد أنه نال أقصى المُنى، فهو غير مُتزوِّج، ولا راغب في الزواج، فما دامت أم الكبائر هي مذهبه وهواه فلا بأس أن يكون الزِّنا ديدَنَه ومُبتغاه.
وأما عزيزة ووهيبة فقد وعد عيدروس كلتيهما بمُرتبٍ شهري أقلَّ من حقِّهما، ولكنه أوهمهما أن هذا الفارق مقابل الإدارة وارتضَيَتا ما قرَّره، ولم يكن بِيَدِ إحداهما إلا أن ترتضيه.
تزوَّج عيدروس في حياة أبيه فهيمة الحوت ابنة عمدة القرية سليم الحوت، وقد كان هذا العمدة شخصًا بلا شخصية، وكان شِبه صديق لوهدان، حتى إذا بدأ عيدروس حياته المُجرمة كان له عبدًا وأهونَ من عبد، رغم أنه حَمُوه. وأنجب عيدروس من فهيمة ابنتهما سعدية، وكلمة أنجَبَ هنا ليست في مَوضعها، فهي قريبة في حروفها من النجابة، وهي أمرٌ بعيد كلَّ البُعد عن سعدية، ولم يُولَد لعيدروس وفهيمة غير سعدية رغم سنوات الزواج المُتطاولة.
وكانت سعدية تذهب إلى مدرسة القرية، وكان المُدرِّسون يُحاذرون أن يُوجِّهوا لها أي تنبيهٍ أو لَوم، فحين بلغت العاشرة لاحظ أبوها الذي كان لا يكاد يقرأ أو يكتُب أنها لم تتعلَّم شيئًا، وخاصةً في مادة الحساب.
والحساب أمر خطير في حياة عيدروس، فانتهز مرَّة زيارة أبي سريع له، وقال له: يا أخي ألم تكن صرَّافًا؟
– عمري كله قبل أن أُسوِّي معاشي.
– سعدية بنتي، أريدك أن تُعلِّمها الحساب، فالمُدرسون في المدرسة يخافون منها، ولا يُعلِّمونها.
– سأقول لك خيرًا من هذا.
– قل.
– أنا سأُعلِّمها الحساب طول السنة، وفي إجازة المدارس أجعل ابني لُطفي الطالب بكلية التجارة يُعلمها.
– وهو كذلك.
– على شرط.
– اشرط.
– أن يكون هذا هدية منِّي بلا مُقابل.
– تستطيع أن تتكلَّم عن نفسك أما ابنك فاترُكه يتكلَّم عن نفسه.
– لا وحياة رأسك لا ينال إلا رِضاك.
وهكذا تعرَّف لطفي وهو في السنة الأولى من كلية التجارة على سعدية، وقد كانت طفولتها تُنِبئ أنها ستكون في مِثل سمن أبيها وقُبحه أيضًا.
وطبعًا انقطع لطفي عن تدريسها حين تخرَّج، فقد كان نادر الزيارة للبلدة، حتى إذا عُيِّن أوشكت هذه الزيارة أن تنقطع تمامًا إلا أنه كان يُبيِّت في نفسه أمرًا.