الفصل الخامس
حرص أبو سريع أن يرُدَّ الأمانات إلى أصحابها عند طلبِهم لها، فاشتُهر في القرية بالأمانة شهرةً عامة، فتزاحَم عليه أصحاب الأمانات حتى شعَر أنه قد آنَ له أن يُنفِّذ ما ينتوي عليه فقصد إلى وجدي بك.
– يا وجدي بك لي عندك رجاء.
– خيرًا.
– تامر أطال الله عمره تزوَّج وأنجَب لك وجدي الصغير.
– ألا تُفكِّر أن تقدِّم له هدية؟
– قل ما تُريد دون لفٍّ ولا تحايُل.
– أنا لم يعُدْ لي عيشة هنا، ابني الوحيد مُقيم بمصر ومعه زوجتُه وهي حامل، وأريد أن أكون إلى جانبه.
– وأرضك؟
– هذا ما جئتُ إليك فيه.
– أتُريدني أن أشتريها؟
– أنت تعرف ثمن الفدَّان الآن أصبح مُرتفعًا، ولا يستطيع أحدٌ أن يشتريها إلَّا أنت.
– أنا أعرف أنها أرض خصبة، وتصلُح لزراعة الفواكه.
– ومجاورة لأرضك.
– كم تُقدِّر ثمنًا للفدان؟
– سعادتك تعرف أثمان الأرض عندنا.
– وأنا اشتريت.
– وأنا بِعت.
– أتريد الثمن كلَّه دفعةً واحدة؟
– أنا لا أريد أن تكون لي صِلة بالدلجمونة، فليس لي إلَّا ابني وزَوجتي سلمى التي تتُوق أن تكون بجانب ابنها.
– الكلام معقول. ولو أنَّني أريدك أن تظلَّ رقيبًا على حساباتي.
– ميخائيل وسعيد في غاية الأمانة والدُّربة، وأنت لا تحتاج إليَّ.
– اكتُب العقد.
– اسمح لي أسأل بِكم؟
– الثمن معروف.
– لكي يطمئنَّ قلبي.
– أربعمائة ألف جنيه.
– ونعم الرجال أنت.
– وسأُعطيها لك كاملةً عند التسجيل.
– سأبدأ في الإجراءات من الغد، ولن آخُذ منك عربونًا.
– أنت تعرفني.
– كلمتُك عقدٌ وشيك معًا؛ إني أعرفك حياتي كلها.
الشيخ عبد الحميد أبو جريشة شاب كفيف البصر يقرأ القرآن في المآتم وفوق القبور بقرية الدلجمونة أملُه في الحياة أن يتزوَّج، ولهذا راح يدَّخِر الجنيه فوق الجنيه، حتى إذا تقدَّم للزواج وجدَ عنده ما يستطيع أن يُقيم به حياته وحياة بنيه، وكان الشيخ عبد الحميد حريصًا أن يُجالس أهل القرية، ويتعرَّف على أخبارهم، فالوقت على الكفيف مُتطاول ثقيل، ولهذا كان عبد الحميد يعتبر زواجه موضوع حياةٍ أو موت.
وكان يسمع فيما يسمع من أهل القرية بعضهم يقول للآخر: لقد تزوَّج فلان من زوجةٍ وقاك الله النظر إليها. إنها أقبح من قمر العوراء.
فاستقرَّ عزم عبد الحميد على الزواج من قمر العوراء، وهل يصلُح للعوراء إلا كفيف مِثلي؟ خاصَّة أنها فقيرة مُعدِمة تقوم بالخدمة في بيوت الأعيان، وعين واحدة تكفي كِلينا.
ولم يتمهَّل عبد الحميد.
كان لعبد الحميد صديق قارئ قرآن مثله، ولكنه كان بصيرًا، وكان اسمُه سلامة مرسي، وكان عبد الحميد وصديقه سلامة يتَّسِمان بالظُّرف والفكاهة الذكية، ومن العجَب أن عبد الحميد كان أكثر أهل القرية سُخريةً من أناسها، فكان كثيرٌ من الشباب يستحبُّون أن يتحلَّقوا حولَه في أوقات فراغهم، فتتعالى منهم الضحِكات لتعليقاته اللاذِعة المُتجدِّدة. وكان يُجالسه مع سلامة، الورداني عوض وغيرهما من شباب القرية. وفي جلسةٍ من هذه الجلسات تخافَتَ الصوت حوله حتى أحسَّ أنه لم يبقَ معه إلَّا سلامة.
– سلامة.
– ما لك؟
– هل نحن وحدَنا؟
– نعم.
– فقُم بنا.
– إلى أين؟
– فقط هيا بنا، وسأُخبِرك في الطريق.
– هيا بنا.
وحين بدأ بهما الطريق قال عبد الحميد: هل يسمَعُنا أحد؟
– لا، انطق ماذا تعوز؟
– أعوز أن أذهب إلى قمَر العوراء.
– أعوذ بالله.
– أعوذ بالله منك.
– فيم تريدها؟
– إذا قلتُ لك لا تضحك.
– لعلَّك تريد أن تتزوَّجها.
– وأي عجيبةٍ في ذلك.
– إنَّ قُبحها لا يتصوَّره بشَر.
– فما فائدة العمى إذا لم أظفر بالزَّواج بها؟
– وأنا ما ذَنْبي حتى أراها؟
– إنك صديق لأعمى فلا عليك أن تذهب به إلى عوراء.
– والله إنك على شدَّة قُبحك أكثر صباحةً منها.
– حتى تعرِف ميزات العمى يا مُغفَّل.
– كتَّر خيرك.
– قل لي، الولد زردق الشنواني.
– ماله؟
– كثير المجيء إلينا في هذه الأيام، كان في جلستنا اليوم، وكان هنا أيضًا من يومَين.
– يريد أن يتزوَّج هو الآخر مثلك.
– هكذا، ومن العروس؟
– نبوية بنت الشيخ عبد الفتاح أبو إسماعيل.
– وتمَّت الخطبة؟
– هو طلبَها.
– وطلبُه معناه أن الخطبة قد تمَّت.
– لك حق.
– الشيخ عبد الفتاح كما تعرفه يخاف من خياله ويرتعِد إذا ذكَر أحد أمامه أنه يملك ثمانية أفدنة مخافة أن يخطف منه فدَّانًا.
– يقولون إنهما قريبًا سيتزوَّجان.
– لا بارك الله في هذا الزواج.
– إي والله لا بارك الله فيه.
– زواج سفَّاح من أرض لا من عروس.
– يقولون إنَّ سيده عيدروس مُقتِّر عليه وعلى إخوانه من سفَّاحي عصابته.
– فلماذا لا يترُكه زردق؟
– هل جُننت؟
– وماذا في ذلك، فإن لم يكن عيدروس يُعطيهم ما يكفيهم، فهناك مائة عيدروس غيره.
– يظهر أنَّ زواجك من قمر العورة سيذهب بعقلك.
– لماذا؟
– أولًا زردق وشمندي وسرور وعبادة الذين يكوِّنون عصابة عيدروس لا يجرؤ واحدٌ منهم أن يتركه؛ لأنه سيأمُر الثلاثة الآخرين بقتلِه على الفور.
– وثانيًا؟
– ليس في الجهة أحد يجسُر على أن يستأجر واحدًا كان من عصابة عيدروس، المسألة فيها رِقاب يا سيدنا.
– لك حق.
– نحن لنا مدَّة طويلة نمشي، ألم نصِل؟
– وصلْنا.
– فلماذا لم نذهب إلى البيت؟
– قلت أدور بك بعض الوقت لعلَّك تعدل عن فكرتك.
– والله لا أعدل أبدًا، ولو مشيتَ بي إلى الآخرة.
– الأمر لله، انتظر حتى أطرق الباب.
وجاء الصوت.
– من؟
– افتحي يا قمر أنا عبد الحميد.
– عبد الحميد من؟
– عبد الحميد أبو جريشة.
– أهلًا وسهلًا.
وفتحَتِ الباب وما إن رأتِ الشيخَين حتى صاحت: والشيخ سلامة.
– كيف حالك يا قمر؟
– يسلم حالك، كان عليَّ أن أتوقَّع، فأنتما لا تفترِقان.
– إن كنَّا نفترق أحيانًا، فاليوم لا بدَّ أن أكون معه.
– أهلًا شرَّفتُما، أُحضر لكما كوبَين من الشاي.
وقال عبد الحميد: اقعدي بلا شاي بلا غيره، وهل كنَّا قادمين من أجل شايك؟
– قعدت، إنما الزيارة غريبة يعني.
– بعد قليلٍ تعرفين أنه لا غريب إلا الشيطان.
– أعوذ بالله، خيرًا يا مشايخ.
وقال عبد الحميد لسلامة: هل ستتكلَّم أنت أم أتكلَّم أنا يا شيخ سلامة؟
– يقولون إن الحياء في العين، وأنت والحمد لله لا ترى، ما المانع أن تتكلَّم أنت؟
وقالت قمر: هل الكلام خطير إلى هذه الدرجة، فليتكلَّم أي واحدٍ منكما.
وقال الشيخ عبد الحميد: لا حياء في الدين يا سلامة، وعلى كلِّ حال أعفيتُك فأنا أعرف أنك نذل عند الحاجة إليك، اسمعي يا ست قمر.
وجفَّ حلقه فسكَت وصاح سلامة: الشيخ عبد الحميد يُريدك زوجةً له.
وساد الصمتُ طبعًا، وهل يتزوَّجني إلا أعمى، أنا أعرف هذا في نفسي، ولو أنَّ الآمال كانت تطوف بخاطري أحيانًا مثل أيِّ بنت، إلا أنها عشَم إبليس في الجنة. أنت الآن مُخيَّرة ليس في رفض عبد الحميد أو قبوله، إنما أنت مُخيرة بين الزواج أو عدَم الزواج إلى الأبد، ولكن في الزواج ستْر، ولعلَّه يُريحني من خدمة البيوت، وتخلَّجَت شفتاها بعد إطباقٍ طويل لتقول: وماله، الشيخ عبد الحميد رجل طيب، وأهلًا به على كلِّ حال.
– إذن موافقة؟
– لي بعض أسئلة.
– اسألي ما شئت.
– هل ستجعلني أخدُم في البيوت كما أفعل الآن؟
– أهذا كلام، أتكونين زوجةً لرجلٍ يحمل كلام الله، وتخدمين في البيوت!
– أطال الله عمرك، ويا ترى هل ستدفع مهرًا؟
– يا سبحان الله، طبعًا، والمهر الذي تُحدِّدينه.
وصمتَتْ قمر ثانية، الآن أستطيع أن أكون مثل الأُخريات، وأسمِّي المهر الذي أريده على الأقل لأعرف إن كان مُتمسِّكًا بي، أم هي زيجة والسلام، وله أن يُماكسني، فإذا فعل أقبل ما يعرِضه، وتخلَّجت شفتاها مرةً أخرى لتقول: ثلاثمائة جنيه.
– مهرك ثلاثمائة جنيه مُقدَّمًا، ومثلها في المؤخَّر.
– على بركة الله.
وقال سلامة: نقرأ الفاتحة؟
وقالت قمر: نقرأها.
وقرءوا الفاتحة، ثم قالت قمر: متى تريد أن يتمَّ الزواج؟
– إن كان الأمر مُتوقفًا على إرادتي، فأنا أريد الآن، وسلامة يُحضر الشيخ عمران والشاهد الثاني.
– وأنا أيضًا أتمنَّى ذلك، إلا أنَّني وعدتُ الحاجة ليلى زوجة الشيخ عبد الفتاح ألا أترُكها إلا بعد أن تتزوَّج بنتها نبوية.
– من زردق؟
– اسم النبي حارسك.
– وماله.
– وأخشى أن أخلف وعدي.
– تخشين من زردق طبعًا.
– مُجرم، والقتل عنده مثل شُرب الماء.
– وماله يا ست قمر، أوفي بوعدك.
– وأنا أيضًا أُريد أن أشتري جهازًا مثل العرائس.
– من حقِّك. توكَّلي على الله.
وقال سلامة: مبروك يا شيخ عبد الحميد، مبرك يا قمر، زواج خير إن شاء الله.
وخرج الشيخان، وقال سلامة: كلُّ شيءٍ معقول إلا أنك ستدفع ثلاثمائة جنيه مهرًا، من أين لك بها؟
– اسمع يا سلامة، نحن صديقان كأخوَين، وأنا كفيف، وأنت مُبصر، فأنت ترى خلجات وجهي، وتعرِف كل ما يعتمِل في صدري، وأنا لا أعرف خِلقتَك.
– هذا حق.
– أريد أن أُحسَّ أن لي سرًّا خاصًّا أحتفِظ به لنفسي.
– هذا حقُّك، ولن أسألك بعد اليوم.
وكان الليل قد أمسى فأوصل سلامة صديقَه عبد الحميد إلى بيته، ولم ينسَ أن يحتضِنه مُكرِّرًا التهنئة، وانصرَفَ وخلا عبد الحميد إلى الراديو يستمع إليه، ولكنَّ خواطره تذهب به إلى ذلك اليوم الذي تخلَّص فيه من سلامة بحجَّة أنه على موعدٍ لقراءة القرآن بالولجة في أحد المآتم، وأن أصحاب العزاء سيُرسلون إليه من يأخُذه. وحين خرج من بيته بعد انصراف سلامة صاح في الطريق: السلام عليكم، وأجابه شخصٌ جالس بالقُرب من منزله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
– يا مرحبًا، من الرجل؟
– أنا رزق حلحول.
– أهلًا رزق، هل أستطيع أن أقصدك في مكرمة؟
– أنا تحت أمرك يا شيخ عبد الحميد.
– هل أنت مشغول؟
– وإن كنتُ مشغولًا أنا في خدمتك، يكفي أنك تحفظ كلام الله يا أخي، والمشي معك بركة.
– بارك الله فيك، وجعل رزقك واسعًا إن شاء الله يا رزق.
– يسمع منك ربنا يا شيخ عبد الحميد.
– خُد بيدي وحياتك إلى بيت الحاج أبو سريع.
– وما له، هات يدك.
ومَشَيا وراح عبد الحميد يُبرِّر هذه الزيارة.
– كنتُ مع الإخوان وسمعتُ أنه سأل عنِّي.
– لعلَّه يريد أن يعمل خاتمة بمناسبة نجاح ابنه.
– ربما، كلها أرزاق يا رزق.
وما هي إلَّا بعض جُمَل من الحوار، حتى وقف به رزق.
– هذه هي الدار.
وطرَق الباب.
وجاء صوتُ أبي سريع من الداخل: من الذي يخبط الباب؟
– افتح يا حاج، أنا عبد الحميد أبو جريشة.
وهمس رزق لعبد الحميد: سلام عليكم أنا يا شيخ عبد الحميد.
وانصرَف وفتح أبو سريع الباب، وأخذ بيد الشاب حتى أجلسه وهو يقول: أهلًا.
– لا مؤاخذة يا عم الحاج، هل معَنا أحد؟
– تكلَّم يا شيخ عبد الحميد، فزوجتي في زيارة، ولطفي في مصر كما تعلم.
وفكَّ الشيخ زرائر صديريته ودسَّ يدَه في صديري آخر تحت الأول مُلاصِق لجِلده، وأخرج رزمة من الجنيهات واضحة الضخامة، وأعطاها لأبي سريع وهو يقول له: عُدَّ هذه الجنيهات يا عم أبو سريع.
وفي دهشةٍ بالِغة راح أبو سريع يعدُّ جنيهات الشيخ، ثم قال: ألف وثلاثمائة جنيه.
– هي كذلك، وإن شاء الله سآتي لك ببعض مئات أخرى، وأترك المبلغ كله أمانة عندك.
– أحفظه بين عيني، أكتُب لك إيصالًا؟
– يا عم الحاج أنا كفيف. إذا لم أأتمِنك ما جئتُ إليك، وكيف سأقرأ الإيصال الذي ستكتُبه، أنا ادَّخرت هذا المبلغ من كدْح العمر كله، والله يعلم مقدار ما عانَيتُ في سبيل جمعِه، فأنا أريد أن أتزوَّج ويُصبح لي أبناء مُبصرون أعوِّض بهم شقائي، وأحسُّ أني آدمي مثل الآخرين، وخشيتُ أن ينتهِزَ أحد فرصة بصري المكفوف فيفجعني فيه، وأنا لم أجئ إليك إلَّا بعدَ أن ذاع صيتُك أنك ترُدُّ الأمانات إلى أهلها، وأنَّ الناس جميعها ترفض أن تأخُذ منك ورقةً بما استأمنوك عليه. توكَّل على الله.
– انتظِر، كيف ستسير؟
– لن أعدِم ابن حلال كالذي أوصلَني إليك.
ووجد عبد الحميد من يأخُذ بيدِه إلى صُحبته الذين يجالسهم كلَّ يومٍ منذ العصر حتى صلاة العشاء، أو بعدَها بقليل، وكان سلامة مع الصحبة، وقال له سلامة: لماذا لم تذهب إلى مأتم الولجة؟
وقال عبد الحميد وكان قد أعدَّ الإجابة: لم يُرسِلوا لي أحدًا، الظاهر جاءوا بشيخٍ آخر أرخص مِنِّي.
نعم مثلما قلتُ لسلامة، لا بدَّ أن أستمتِع بسرٍّ لي لا يطَّلِع عليه أحد، أليس هذا من حقي؟ سبحان الله. لقد أصبحَتِ الألف والثلاثمائة اليوم ألفًا وستمائة تضمَن العَيش لقمَر ولي إن شاء الله.