الفصل السادس
كان تامر فتًى قليل المِثال في جِيله، ولا شكَّ أن هذا راجع إلى عناية والده به عنايةً فائقة، ورغم أنه يزرع أرضه بنفسه إلا أنه كان يحرص أنْ يهَبَ لابنه كلَّ الاهتمام، فتراه قد حرص منذ صِغَره أن يجعله يقرأ القرآن، ويحفظ سُوَرًا منه، كما شجَّعه على القراءات الأخرى بادئًا بكتُب الأطفال مُتدرِّجًا معه، وحين بلغ تامر سنَّ المدرسة أدخله مدرسة فرنسية ليُتقِنَ لغةً أخرى بجانب العربية، وانتقل تامر إلى القاهرة مع والدته صالحة هانم عبد البرِّ كريمة المستشار عبد البر الوسيمي، الذي لم يُنجِب إلَّا صالحة وأُختَها ثُريَّا.
ولوجدي بيت أنيق في القاهرة، ولكنه كان يقضي أغلب وقته بالدلجمونة مع أرضه. فحين دخل تامر المدرسة انقلبَتِ الآية، وأصبح حريصًا أن تكون الإقامة الأساسية في القاهرة، مع حِرصه الشديد على أن يُقيم يومَين أو ثلاثة كلَّ أسبوع بالبلدة.
أما صالحة فلم يكن لها شاغل في الحياة إلَّا تامر، وكانت هي أيضًا مُثقَّفة ثقافةً فرنسية، وإن لم تكن حاصلةً على شهادة عالية، وكانت دائمًا تُذاكر مع تامر، حتى إذا فاق ثقافتها كانت تستحِثُّه على المُذاكرة والقراءة في وقتٍ معًا، ومع هذا فقد كانت صالحة كما كان وجدي حريصَين أن يُقبِل تامر على المذاكرة والقراءة إقبالَ مُحبٍّ، لا إقبال مُرغَم، فكانا يُتيحان له أن يخرج مع أصدقائه حين يشاء، أو يجلس إلى التليفزيون، أو يستمع إلى أغاني الراديو، أو يذهب إلى السينما أو الحفلات كلَّما تاقَت نفسه إلى ذلك، بل كان الوالدان يصحَبان ابنَهما إلى أوروبا كلَّما عنَّ لهما أن يُسافرا سواء كان السفَر من أجل الترويح عن النفس أم كان سفرًا من أجل العمل؛ فقد كان وجدي بارعًا في الزراعة، ومكَّنَت له براعتُه أن يُصدِّر نِتاج أرضه إلى الخارج، حين أصبح التصدير مُتاحًا، ويشاء مُؤلِّف القلوب أن تتواصَل الألفة التي صارت إعجابًا، ثم أصبحت حُبًّا مُتبادلًا بين تامر وابنة خالته رِحاب التي حرص والدُها أمجد وأُمُّها ثُريَّا عبد البر الوسيمي على تنشئتها أعظمَ تنشئة، وكان أمجد يعمل وكيلَ نيابةٍ مع والد ثُريَّا، فأُعجب بالوالد، وحدَث أن رأى ابنتَه فتقدَّم لخطبتها، وتمَّ الزواج، وأنجبا رحاب، وأصبح أمجد مستشارًا مثل حَميه، وإن كان حَمُوه قد سبقَه إلى المعاش بطبيعة السن. وقد حرص أمجد أن تنال رحاب من التعليم أحسنَه، واختار لها هو أيضًا المدارس الفرنسية مِثله ومثل أُمِّها التي لم تنَلْ هي أيضًا شهادة عالية، شأنها في ذلك شأن أُختها صالحة.
وكانت رحاب وضيئةَ القسَمات، مُشرِقة الطوايا، وشعَّ إشراقُها المُستخفي على معارف وجهها المُعلنة بزينة جمال أخَّاذٍ قلَّ أن تتمتَّع به فتاة ولا يتملكها الغرور والزَّهو، ولكن الخلَّاق المُصوِّر شاء أن يمنحها جمال القلْب والوجه معًا، ويرُدَّ عنها كِبْر الصباحة واستعلاءها، وقد كانت رحاب تصغُر تامرًا بسنتَين، فكانا رفيقي ملعبٍ وصديقَي فُتوَّة وحبيبَي شباب.
وكان زواجهما أمرًا مُتفقًا عليه بين ذَويهما دون مُصارحة لا يحتاج إلا أن يتَّخذ مَراسِمه الشرعية.
وكان الوالدان والأُمَّان والجدَّان والجدَّتان جميعًا سُعداء غاية السعادة بما يؤلِّف بين تامر ورحاب من حبٍّ مكين يمنعهما الحياء أن يُبدِياه إلا في نظرةٍ أو تحية مُشرقة أو اهتمامٍ من كلٍّ منهما بأنباء الآخر المدرسية، ثم الجامعية، بل إنه اهتمام لا تفُوته حتى الأخبار الثقافية أو أسباب الترويح والمسلاة لكلٍّ منهما.
وكانت رحاب تنتقل إلى السنة الثالثة بكلية الآداب حين تخرَّج تامر في كلية الحقوق بتقديرٍ يُمكِّنه من الانتظام بسِلك النيابة ليُصبح مثل جدِّه وحَميه، ولكنَّ كليهما نصَحَ له أن يعمل بالمُحاماة، واختارا له مكتب صديقهما المُحامي الشهير رُشدي فاضل، ومالت نفسه إلى هذا الرأي.
وفاتح تامر أباه وأُمَّه بمشهد: بابا أترى بأسًا أن أتزوَّج؟
– ولكن العروس أمامها سنتان حتى تتخرَّج مثلك.
– إنَّنا مُتَّفقان أنها لن تعمل بالشهادة.
– أخشى أن يتوجَّس والداها أن يشغلها الزواج عن المُذاكرة.
– إذًا فعلًا يكون الصواب قد جانبهما؛ فهما أدرى الناس بابنتهما ويعلمان مقدار حِرصها على الحصول على هذه الشهادة.
– والله ما أحبَّ إليَّ.
وقالت صالحة: والله تامر مُحق؛ فيمَ التأخير؟ سأُكلِّم ثُريَّا فورًا.
وتمَّ الزواج في فرحٍ وقُورٍ فخم.
وحين تقدَّمَت رحاب إلى امتحان الليسانس كانت حاملًا في وجدي، وتعاقبَت الأفراح على الزَّوجَين وأهليهما بالنجاح والمولود في مواعيد مُتزامنة، وزادهم سعادةً أنَّ تامر افتتح مكتبه بعد أن أتمَّ سنَتَي المِران، وأصبح مُحاميًا مُستقلًّا تُهيئ له مُرافعاته في مكتب رُشدي فاضل مُستقبلًا زاهرًا في المُحاماة.