الفصل السابع
في قرية الولجة يملك سعفان الأشهب ثلاثة أفدنةٍ ليس يدري أي عفريتٍ زيَّنَ لعيدروس أن يستولي عليها، فاستدعى سعفان.
– أريد أرضَك.
– أنا ليس لي إلا هذه الأفدنة الثلاثة أعيش عليها أنا وعيالي.
– اشتَرِ غيرَها.
– إنها أرض أبي وجَدِّي، ثُم سعادتك تعلم أنَّ أحدًا لا يبيع أرضه في الولجة.
– اشترِ في غير الوَلْجة.
وأترُك بلدي أيضًا.
– هذا أصلَح لك.
– إنما قُل لي يا بك، أرضي معي منذ مات أبي ولم تُفكِّر في شرائها. ما الذي أغراك بها الآن؟
– كانت بجانب أرض أخي مراد، وأنا اشتريتُ أرض مراد، فأصبحَتْ بجانب أرضي.
– وشراؤك لأرض أخيك يأتي على دِماغي أنا.
– أنا لا أُناقش.
– أعرف.
– ففيمَ كلامك؟
– أقول آه. أليس من حقِّي أن أقول آه؟
– قُل ما شئت.
– الأرض عزيزة.
– هل أعزُّ من حياتك؟
– هل وصل الأمر إلى الحياة؟
– ألا تعرف ذلك؟
– ما دام الأمر كذلك، فاترُك لي فرصة أشاور إخوتي، ونبحث معًا عن قطعة أرض إن لم يكُن في الولجة ففيما جاوَرَها.
– أنا لا أحبُّ أن أُصدِر أمرًا ويتأخَّر تنفيذُه إنما لا بأس خُذ وقتك.
في اليوم التالي لهذا الحديث كان أبو سريع في زيارة لعيدروس، فحين بلغ منزله أجلسه الخادم مبروك بغرفة الجلوس، وكان لها باب آخر يفضي إلى غرفةٍ من غرفات المنزل. وجلس أبو سريع ينتظر عيدروس، فإذا بصوته يأتي إليه من الحجرة المُجاورة، وكان مسموعًا جليًّا؛ مما يدلُّ على أن مبروك لم يُخبره بمجيء أبي سريع. قال عيدروس: الولد سعفان الأشهب كان عندي أمس وابن الكلب ماطل في بيع أرضه.
وعلا صوتٌ عرَفَه أبو سريع، إنه صوت شمندي رئيس عصابة عيدروس.
– وما له، هل هو أحسن من الذين قتلناهم؟
وقال سرور: هي رصاصة، وياما قتلْنا من هو أعظم منه.
وقال عيدروس: اليوم كم في الشهر.
قال زردق: اليوم خمسة منه.
– في الخامس عشر من الشهر يذهب أربعتُكم لبيتِه، وهو على العشاء اقتلوه واقتلوا أُسرته جميعًا.
ارتعدَتْ فرائص أبي سريع، وحار في أمر نفسه إن بقِيَ في مكانه عرف عيدروس أنه سمع ما دار من أمر المَقتلة، وإن انصرَفَ سيُخبره مبروك أنَّني كنتُ هنا وانصرفت، فيدري أنَّني اطَّلعتُ على سرِّه، والغالِب أن يَقتُلني أنا أيضًا.
وأتتْهُ فكرة؛ خرج من الغرفة، ووجد مبروك غير بعيد منه فقال: يا مبروك، والنبي يا بني أريد أن أتوضأ لألحق بالمغرِب قبل أن يفوتَني، والمغرب دُرَّة فالتقطوها.
– وماله يا عمِّ أبو سريع، تعالَ معي.
وذهب أبو سريع فتوضَّأ مع أنه كان مُتوضئًا، وبدأ يُصلي المغرب الذي كان صلَّاه قبل مجيئه مباشرة، وسمع وهو يُصلِّي صوت مبروك وهو يقول لسيده: الحاج أبو سريع هنا.
وأحسَّ أبو سريع بذُعر عيدروس وهو يقول: ماذا تقول؟ متى جاء؟
– في التوِّ واللحظة، وطلَبَ أن يتوضَّأ، وهو الآن يُصلي.
– أين؟
– هنا بالحجرة التي بجانب الحمَّام.
– ألم يدخُل حُجرة الجلوس؟
وبسليقة الكذِب غير الواعي قال مبروك: طلب أن يتوضَّأ ساعةَ مجيئه.
– وأدرك أبو سريع أنه نجا بكذبة مبروك، وأتمَّ صلاته، وجلس إلى عيدروس.
– يا مرحب يا حاج أبو سريع.
– رحَّب الله بك يا سعادة البك، جئتُك اليوم لأُخبرك أني نَويتُ والنية خير إن شاء الله أن أسافر لأكون بجانب لطفي وسعدية، ولأكون أيضًا بجانب آل البيت. شيئًا لله يا ست.
– ألا تنوي المجيء إلى هنا أبدًا؟
– فيما ندَر.
– على كلِّ حالٍ أنا أُسافر كثيرًا إلى مصر وأراك هناك، ألستَ تنوي الإقامة مع لطفي؟
– مؤقَّتًا حتى أجِد لنفسي بيتًا.
– ولماذا مُؤقَّتًا؟
– المُهم أنَّ سلمى امرأتي ستكون مع الستِّ سعدية حتى تضع لنا الولد بالسلامة.
– وفهيمة امرأتي ستذهب إليها أيضًا.
– قبل أن تذهب أكون وجدتُ بيتًا إن شاء الله.
– وفيمَ العجلة؟ نحن أصبحْنا أهلًا.
– حُفِظتَ يا سعادة البك، أستأذِن أنا.
وخلا الطريق بأبي سريع، لم يكن يُصدِّق ما حدَث؛ لا في الأمر بالقتل في هذه البساطة، ولا في أنه سَمِع ما سمع، ونجا قبل أن يُقتَل هو الآخر.
كان أبو سريع يعرِف مقصدَه؛ فهو مع خوفه فكَّر أن الله سبحانه وتعالى إذا أراح الناس من عيدروس، فإن مُلكَه كلَّهُ سيئول إلى ابنته، وطبعًا سيكون لطفي هو المُتحكِّم في كلِّ الثروة. إن للمَولى حِكمة واسعة أن أسمَع ما سمعت، وأن أنجو به أيضًا.
كان وجدي على وشْك النَّوم حين أعلنَه الخادم بقدوم أبي سريع، الأمر الذي أدهشَهُ فلم يكن الوقت صالحًا لزيارة.
بدأ وجدي الحديث: هل أنهيتَ إجراءات التسجيل يا أبو سريع؟
– على وشك، ولكنِّي جئتُك في مُصيبة كبرى.
– فعلًا لونك مخطوف، مالك؟
وقصَّ أبو سريع كلَّ ما سمِعَه من عيدروس وعصابته على وجدي الذي لم تأخُذه الدهشة قدْر ما أخذه الاهتمام، وقال أبو سريع: أنا تركتُ الأمر بين يدَيك، وأنا كأنِّي ما سمعتُ شيئًا.
– طبعًا كأنك ما سمِعتَ شيئًا.
وانصرَف أبو سريع، وعاجَلَ وجدي التليفون، وصاح: يا تامر إلى هنا غدًا في الفجر.
وقال له تامر: عندي قضية هامَّة غدًا.
– اترُك نوتة بها وتعال، بل إذا استطعتَ أن تجيء الآن يكون أحسن.
– خيرًا؟
– ليس خيرًا، ولكنه مُهم جدًّا جدًّا.
– ماما صِحَّتها حسَنة؟
– والدتُك بخير، وليس الأمر مُتعلقًا بنا، ولكنه غاية في الأهمية.
– أمرك.
وقبل أن يصحوَ وجدي كان تامر عنده، وعرض الوالد الأمر على ولَدِه، وقال تامر: البس ملابسك، وهيا بنا.
– نعم أعرف ما تُريد، وأنا رأيي مثل رأيك، ولكنَّني لم أحب أن أذهب وحدي في مسألة قانونية كهذه. وذهب وجدي وتامر إلى مدير الأمن، وأبلَغاه بكلِّ الذي عرَفاه، واهتمَّ الرجل اهتمامًا كبيرًا.
في اليوم التالي لهذه الواقِعة ذهب أبو سريع إلى الشهر العقاري، ولم يَقُم إلا على موعدٍ في الغد أن ينتقل معه المُوثِّق برسْم انتقال إلى وجدي ليُتمَّ الصفقة.
وفعلًا تمَّت الصفقة، وقبض أبو سريع شيكًا بالمبلغ، ولم يكن قد أخبر سلمى بنِيَّته، وكان قد انتوى السفر في باكر الصباح، فإذا به يَبْدهُ سلمى بقوله: ما رأيكِ نُسافر غدًا إلى مصر؟
– هكذا بلا ترتيب؟
– أي ترتيبٍ؟ ستأخُذين ملابسك، وآخُذ ملابسي، وسنُأجِّر سيارةً تصل بنا إلى بيت لطفي.
– وأذهب بيدي فاضية؟!
– يا ستِّي نشتري من حلويات مصر ما نريد.
– وهل هناك مثل صُنع يدي؟
– اسمعي، لا مُناقشة، إنَّنا سنسافر غدًا إلى مصر، وسنبقى بها مدَّة طويلة، والسيارة آتية قبل صلاة الفجر.
وتمَّ له ما أراد، واستولى على الأمانات التي كانت عنده، والتي كانت تزيد على مائة ألف جنيه، وذهب إلى القاهرة، ولكنَّه لم يذهب مباشرةً إلى بيت لطفي، وإنما قصد البنك مُباشرةً ليصرِف شيك وجدي، ولم يُودِع المبلغ في نفس البنك، فقد كان ابنه لطفي يعمل به، وقد حرص ألا يلقاه في يومِه هذا.
أخذ المبلغ، وذهب إلى بنك الشرق، وأودع المبلغ، وسلمى في السيارة طوال هذه المدة غير مُدركة شيئًا إلا أنَّ زوجها دخل إلى البناء الأول بحقيبةٍ في يدِه، ولم تكن تعلم أن هذا هو البنك الذي يعمل به ولدُها، فما دام أبو سريع لم يُخبرها، فمن أين لها أن تعلم؟ وانتظرَتْ وقتًا أحسَّت أنه طويل، إلا أن الزمن لم يكن ذا أهمية عند سلمى، وخرج زوجها إلى مبنًى آخر لا تعرِف من شأنه شيئًا هو الآخر، وبعد الزيارتَين اللَّتَين قام بهما زوجها ذهبا معًا إلى بيت لطفي الذي كان ما يزال في عمله.
تزوَّج زردق من نبوية، وبدأت قمر تُعدُّ لزواجها هي، ولكن حين ذهب عبد الحميد أبو جريشة إلى بيت أبي سريع علوان وجدَه قاعًا صفصفًا أو هكذا أخبرَه من صحِبَه إلى البيت.
لم يتوقَّع أحد من أصحاب الأمانات أن أبا سريع هرَب بأموالهم، وكان جميعهم مُزمعًا أن يهَبَ له فترة انتظار، فإنَّ أحدًا لم يتصوَّر أنه هاجر إلى القاهرة هجرةَ مُقيم لا زائر.
حلَّ موعد الجريمة، وذهب السفَّاحون الأربعة إلى بيت سعفان، وضرَب زردق باب سعفان برجلِه، فإذا بالذي يُقابلهم الكمين الذي أعدَّتْه الشرطة، وسارع شمندي بإطلاق الرصاص فجاوَبَه رصاص الشرطة، وقُتِل وألقى الثلاثة الآخرون سلاحهم، وقبَض عليهم رجال الأمن.
وبلغ الأمر عيدروس، فلم يحر جوابًا، فقد أُصيب من فوره بجلطةٍ في المخ، منعتْه من الكلام والحركة، بل من الوعي أيضًا.
وبدأ التحقيق مع أفراد العصابة الثلاثة، وقد كان ثلاثتُهم معروفين لدى جهات الأمن، وما منع هذه الجهات من القبض عليهم إلا عدَم وجود أدلَّة دامغة تُدينهم في جرائم القتل التي وقعَتْ فعلًا، ولكن الشهود خافوا أن يذكُروا الحق من أمر المُجرمين، وقد أدرك ثلاثتُهم أنهم سيحاكمون على الشروع في القتل الذي ضُبطوا مُتلبِّسين به وعلى جرائم القتل التي دارت حولهم فيها الشبهات، فلم يجِد ثلاثتهم مناصًا أن يبيحوا أسرار العصابة جميعها قديمها وحديثها، كما ذكروا أسماء الذين قتلوهم بأمرٍ من عيدروس، وانكشف للشرطة خفايا كثيرٍ من الجرائم التي لم يكونوا يعرفون فاعِليها. أما عيدروس فأمسى غير صالحٍ للمُحاكمة، بل غير صالح لأيِّ حديثٍ من أي نوع، ووكل سعفان تامرًا مُحاميًا عنه كمُدَّعٍ بالحق المدني، وأبى تامر أن يتقاضى أتعابًا.