القسم الأول
(١)
الأعزاء، أعرفكم أوفياء، وعندما أنادي تلبون جميعكم، مثلما أفعل معكم، وبرغم أنك لم تروني منذ ثلاث سنوات؛ فإن صداقتكم ظلت تقاوم هذا الغياب الطويل، وتقاوم أيضًا هذا النص الذي أريد أن أطرحه عليكم؛ لأنني حين استدعيتكم فجأة وسافرتم حتى مسكني البعيد؛ فذلك لأنني أريد رؤيتكم، وكي يمكنكم سماعي.
لا أبغي سوى أن أتكلم إليكم؛ لأنني وصلت إلى نقطة من حياتي لا يمكنني أن أتجاوزها، رغم أن هذا ليس مثيرًا للملل، ولكنني لم أعد أفهم المزيد.
كم أنا في حاجة لأن أتكلم إليكم، وأتحدث معكم، وأعرف أن التحرر ليس شيئًا منشودًا، وأن من القسوة على المرء أن يعرف أنه حر. أنتم تعانون لأنني أتكلم عن نفسي، سوف أقص عليكم قصة حياتي بكل وضوح وبتواضع وبلا مكابرة، وبمنتهى البساطة سوف أتكلم عن نفسي، فاستمعوا إليَّ:
في المرة الأخيرة التي رأى فيها بعضنا البعض، كان ذلك — على ما أتذكر — في ضاحية «انجر» في كنيسة ريفية صغيرة، حيث أقيم حفل زفافي. كان عدد المدعوين قليلًا، وقد جعل تميز الأصدقاء في هذه الليلة الحفل مؤثِّرًا، بدا لي أنهم قد أصابهم التأثُّر، وقد هزني هذا كثيرًا.
ففي منزل الفتاة التي أصبحت زوجتي أقيم حفل عشاء بسيط، خالٍ من الضحكات والصيحات.
لقد جمعكم هذا العشاء بعد الخروج من الكنيسة، ثم أقلَّتنا السيارة التي طلبناها، وحسب الفكرة التي تعتمل في أرواحنا فإن السيارة كانت بمثابة رصيف للرحيل.
كنت أعرف القليل عن زوجتي، وفكرت — بدون معاناة طويلة — أنها لم تعرفني جيدًا، لو تزوجتها من غير حب، وذلك بدافع مجاملة أبي، الذي كم أخاف أن يموت ويتركني وحيدًا. كنت أحب أبي كثيرًا، وكنت مهمومًا بمعاناته. وفكرت — وهو في لحظات أحزانه — أن أجعل نهايته أكثر رقة، وأن أربط حياتي بالفتاة دون أن أعرف ماذا تكون الحياة.
وتمت خطبتنا فوق فراش أبي بلا أي فرصة، وأيضًا بلا أي بهجة ظاهرة؛ لأن السلام الذي كان أبي يبحث عنه بدا حبًّا، وإذا لم أكن قد أحببت خطيبتي — كما قلت — إلا قليلًا فإنني لم أكن أحب امرأة أخرى، وكان هذا يكفي — في ناظري — أن أجد سعادتنا. وألا أعلم شيئًا عن نفسي.
اعتقدت أنني منحتها أشياء كثيرة، فقد كانت يتيمة مثلي وتعيش مع أخويها.
كانت تسمى «مارسلين»، وتكاد تبلغ العشرين من العمر، أما أنا فأزيد عليها أربع سنوات. قلت إني لم أحبها قط، على الأقل لم أمثل لها شيئًا مما يُسمى الحب، ولكنني أحببتها بما يمكن أن تسميه حنانًا وشفقة، وأيضًا من الاحترام المتناهي، كانت كاثوليكية، أما أنا فبروتستانتي وأقل إيمانًا!
وافق القس عليَّ ووافقت على القس، وتم هذا بدون أي أحداث غير عادية. كان أبي — كما يقال — عقلانيًّا، أو كما أعتقد، ليست لديه أفكار عن الفضيلة التي كنت أتصور أنه يمتلكها؛ لذا لم أناقشه قط في مسألة عقلانية.
أما الأشياء التي تعلمتها من أمي، فقد مُحيت — مع وجهها الجميل — ببطء عبر الزمن، أنتم تعرفون أنني فقدتها وأنا صغير السن، ولم أشك قط في هذه الأفكار التي سيطرت على طفولتي، ولم يعلَق بذهني شيءٌ عن فكرها، فهذا النوع من الزهد الذي تركته لي أمي قد أسفر عن ترسيخ المبادئ، وقد حملتها معي كلها أثناء الدراسة.
فقدت أمي وأنا في الخامسة عشرة من عمري، وانشغل بي أبي، وأحاطني، ولفني بمشاعره، واهتم بتعليمي، كنت أعرف — آنذاك — اللاتينية واليونانية، وتعلمت معه العبرية بسرعة، والسنسكريتية، وأخيرًا الفارسية والعربية.
وعندما بلغت العشرين كنت شديد الحماس، لدرجة أنه أشركني في أعماله، وراح يتصرف كأنه نِدٌّ لي، وأراد أن يختبرني بشأن دراسة في عبادات الفريجان التي نشرت حاملة اسمه، لم يكن هناك شيء يمكن أن يوفيه تقريظًا. كان ممتنًّا، أما بالنسبة لي فقد كنت متشوقًا لرؤية نجاح هذا التزييف، ولكن منذ تلك اللحظة لم تعبأ بهذا الأمر، فالعلماء الأكثر علمًا قد عاملوني على أنني زميل لهم، وها أنا ذا أبتسم الآن من كل الشرف الذي نلته.
وهكذا بلغت الخامسة والعشرين، ولم أكن أنظر إلا إلى الأطلال أو الكتب القديمة، لا أعرف شيئًا آخر عن الحياة، وأقوم بعملي بحمية خاصة، وأحببت أصدقائي «وأنتم منهم». وكنت أكن لهم مشاعر الصداقة الحقيقية؛ فقد كان إخلاصي لهم كبيرًا، وبرغم ذلك، فقد كنت أجهل أصدقائي مثلما أجهل نفسي، ولم تخطر على بالي للحظة فكرة أنني أستطيع أن أحيا حياة مختلفة، لا أن أعيش حياة مختلفة، ولا أن أعيش بطريقة أخرى.
كان لدى أبي، ولديَّ أشياء قليلة تكفينا، فقد أسرف كلانا قليلًا، وبلغت الخامسة والعشرين بدون أن أعرف أننا أثرياء، وكم تخيلت — بدون أن أفكر دومًا — أننا نمتلك — فقط — ما يكفينا للمعيشة.
لقد اعتدت وأنا على مقربة من أبي على التدبير. وما لبثت أن فهمت أننا نمتلك الكثير جدًّا.
كنت — إلى هذا الحد أجهل الأشياء — ولم يحدث هذا إلا بعد وفاة أبي الذي كنت وريثه الوحيد، وأصبحت أكثر وعيًا لنزوتي، وخاصةً عندما وقَّعت عقد زواجي، وأدركت أن «مارسلين» لن تنجب لي شيئًا.
هناك شيء آخر مهم للغاية كنت أجهله، هو أنني كنت في حالة صحية حساسة، وكيف لي أن أعرف ذلك، خاصةً أنني لم أختبر في ذلك؟
كان الروماتيزم يصيبني من وقت لآخر، وأهملت في علاج نفسي منه، فالحياة الهادئة التي كنت أحياها أحيانًا أصابتني بالضعف العام، كما بدت لي — أحيانًا — قوية، وهذا ما كان يجب أن أعرفه. قضينا ليلة عرسنا في شقتي الباريسية، حيث أعددنا سريرين، لم يبقَ في «باريس» سوى الوقت الذي كان يلزمنا فيه أن نشتري بعض أشياء، ثم اتجهنا إلى مارسيليا، ومن هناك أبحرنا إلى تونس.
ثم انتهت الأحداث بسرعة، وحلت مشاعر حفل الزفاف بعد فترة العزاء الحقيقية، ولم أحس بما عانيته إلا فوق المركب، حيث استطعت أن أحس بتعبئة خاصة في كل عمل.
وحينما كنت أتسلى كان وقت الفراغ الذي أقضيه فوق سطح المركب يتيح لي فرصة التفكير، بدا لي كأن هذا يحدث لأول مرة.
وللمرة الأولى أيضًا وافقت أن أتخلص من عملي لفترة طويلة، لم أكن مرتبطًا آنذاك إلا بإنجازات قصيرة: رحلة إلى إسبانيا مع أبي — بعد وفاة أبي بقليل — لم تستغرق أكثر من شهر، ورحلة أخرى إلى ألمانيا لسنة أسابيع، ورحلات أخرى كانت كلها رحلات دراسية.
لم يكن أبي يتسلى قط أثناء أبحاثه بالغة التعقيد، أما أنا ففي الوقت الذي لا أتابعه كنت أقرأ … ومع وسط ظلال أكثر وضوحًا: أعياد، وضحكات، وغناء.
ورحت أفكر: ترى هل هذا هو ما سوف ألقاه؟ صعدت فوق مقدمة السفينة ورحت أتطلع إلى مرسيليا وهي تبتعد. فجأة، أحسست أنني أهملت «مارسلين» قليلًا.
كانت جالسة في المقدمة، اقتربتُ منها، ولأول مرة نظرت إليها حقيقةً.
كانت «مارسلين» جميلة كما تعرفون، وقد رأيتموها، لاحظت أنني لم أراقبها من قبل مع أنني أعرفها تمامًا، ها أنا ذا أراها من جديد، فقد ارتبطت أسرتنا معًا فترة طويلة، ورأيتها تكبر، وتعودت على لطفها، ولأول مرة اندهشت، فهذه اللطيفة قد أصبحت بالغة. تركت خمارًا طويلًا ينسل تحت قبعةٍ بسيطةٍ من القش الأسود. كانت شقراء، ولكنها لا تبدو رقيقة، بدت تنورتها ومشدها وكأنهما مصنوعان من شال اسكتلندي اخترناه معًا. لم أودُّ أن تنغمس معي في أحزان عزائي.
أحست أنني أنظر إليها، استدارت نحوي، لم أكن قريبًا منها حتى تلك اللحظة إلا في النزر اليسير. وبدلًا من الحب تملكتني مشاعر باردة وأنا أراها. وددت أن أزعجها قليلًا، هل أحست «مارسلين» في هذه اللحظة أنني أنظر إليها لأول مرة بطريقة مختلفة؟ بدورها دققت فيَّ، ثم ابتسمت لي بِرقة دون أن تتكلم، جلستُ على مقربة منها.
لقد عشت حياتي من أجلي — أو على الأقل حتى تلك اللحظة — فقد تزوجت دون أن أتخيل زوجتي شيئًا آخر غير أن تكون صديقة، أو أفكر أن ارتباطنا يمكن أن يغير حياتي، وفهمت لتوي أن هذا ليس سوى حديث داخلي مع نفسي. كنا وحدنا فوق سطح السفينة. مالت بجبهتها نحوي، وجذبتُها برقة إليَّ. رفعت عينيها، قبَّلتُ أهدابها، وأحسست فجأة على إثر قُبلتي بنوع من الشفقة غمرتني بشدة لدرجة جعلتني لا أسيطر على دموعي. سألتني «مارسلين»: ماذا بك؟
بدأنا في الكلام، سحرتني جُملها الساحرة، تصرفت على قدر استطاعتي، وتكلمتُ عن بعض الأفكار حول حماقات النساء، وقد أحسست — في تلك الأمسية — أنني أنا الساذج والأحمق. إنها الوحيدة التي ربطت حياتها الخاصة بحياتي الحقيقة! أيقظتني هذه الفكرة مرات عديدة في هذه الليلة، ولمرات كثيرة تمددت فوق فراشي لأرى السرير الآخر «الأكثر انخفاضًا» الذي تنام عليه زوجتي «مارسلين».
في اليوم التالي، بدت السماء رائعة، وبدا البحر هادئًا على مقربة منا، وقاربت ما بيننا بعض الأحاديث السريعة، وبدأ الزواج الحقيقي. وأبحرنا في صباح اليوم الأخير من أكتوبر إلى «تونس». كان في نيتي أن أبقى هناك بضعة أيام، ويهمني أن أبوح لكم ببعض غبائي، فلم يجذبني في هذا البلد الجديد سوى «قرطاج» وبعض الأطلال الرومانية، مثل «تيمجاد» التي حدثنا عنها «أوكتاف»، وفن الموزاييك في مدينة «سوسة»، وخاصةً مسرح «الجُم» الدائري، الذي ظللت أجري فيه لتوِّي.
كان يجب أن أصل إلى «سوسة»، ثم أقلتنا سيارة البريد من «سوسة». كنت أود ألا يشغلني شيء هناك. وبرغم هذا فإن «تونس» فاجأتني بشدة، ولمسَت فيَّ أحاسيس جديدة حرَّكت مشاعري. أشياء كانت نائمة لم يسبق لي أن مارستها، وحفظَت في داخلي كل أسرارها الشابة. كنت أكثر دهشة كشخص يبحث عن التسلية، وما أثار إعجابي حقًّا هو فرحة «مارسلين».
في صباح كل يوم كان المرض يشتد عليَّ، ووجدت أنه من العار أن أمتثل له. رحت أسعل، وأحس بتعب غريب في صدري، فاتجهنا جنوبًا، معتقدًا أن الحرارة قد تساعد في شفائي. تركت عربة المسافرين المتجهة إلى «صفاقس» مدينة «سوسة» في الساعة الثامنة مساءً. ووصلتُ منطقة «الجُم» في الواحدة صباحًا، واحتفظنا بنفس أماكننا.
وتوقعت أن أجد عربة مناسبة، لكن على العكس، كنا غير مستريحين في إقامتنا، إنه البرد! فارتدى كل منا الملابس الخفيفة، شالًا واحدًا. وما إن خرجنا من سوسة، ومن بطن وديانها حتى بدأت الريح تهب. وراحت تعصف فوق الهضبة، وتصرخ وتصفِّر، وتدخل من كل فتحة في البوابة، لا شيء يمكن أن يمنعها. كنا قد وصلنا — خاصةً أنا — إلى أقصى حالات الإنهاك من خلال هزات العَجَل. ومن السعال المرعب الذي راح يهزني بقوة شديدة. يا لها من ليلة!
وعندما وصلنا إلى «الجُم» لم نجد أي فندق. بل كان هناك نُزُل مرعب. ماذا نفعل؟ استأنفَت العربة الرحيل. وبدت المدينة نائمة في وسط الليل الدامس حيث تبدو الأطلال أشبه بهياكل ضخمة، وكلاب تعوي.
اتجهنا إلى نُزُل لم يكن به سوى سريرين. راحت «مارسلين» ترتعد من البرد، لكن — على الأقل — كنا قد أصبحنا بعيدين كثيرًا عن الريح.
بدا النهار في اليوم التالي نديًّا، فقد فوجئنا — أثناء خروجنا — برؤية السماء وقد تلبدت بالسحب، وراحت الريح تهب؛ ولكنها كانت أخف من البارحة. لم تكن العربة تقلع إلا في المساء … كان يومًا مرعبًا كما أخبرتكم. بدا لي المسرح الدائري قبيحًا أسفل هذه السماء الغاضبة. ربما ساعدها تعبي في أن تزيد من حدة تبرمي؛ لذا عدت في منتصف النهار وأنا أدقق في كل دقائق الحجارة. كانت «مارسلين» تقرأ كتابًا إنجليزيًّا يمنحها بعض السعادة بعيدًا عن صرير الريح. جلست على مقربة منها، وقلت: يا له من يوم حزين! ألا تشعرين بالتبرُّم؟
– لا. كما ترى فإنني أقرأ.
– ماذا جئنا نفعل هنا؟ على الأقل فأنتِ تحسين البرد.
– ليس كثيرًا. وأنت؟ فعلًا! أنت تبدو شاحبًا.
– لا …
وفي الليل استعادت الريح قوتها … ووصلت العربة أخيرًا ورحلنا.
وما إن بدأت العجلات في الاهتزاز حتى أحسست أنني أتحطم. ونامت «مارسلين» من شدة التعب على كتفي، لكن سعالي أيقظها على ما أعتقد. وبكل رقة أسندتها على جدار العربة، وجاهدت ألا أسعل. لا. فقد بدأتُ أتقيأ. ومن جديد فعلت ذلك دون أي جهد، وعلى فترات منتظمة.
كان إحساسًا بالغ الغرابة، رحت أعتاد عليه في أول الأمر لكنه راح يبعث فيَّ الغم، وخامرني إحساس مجهول أنه يتركز في فمي. وأصبح منديلي غير صالح للاستعمال؛ فملأت راحة يدي. ترى هل أوقظ «مارسلين»؟
لحسن الحظ فقد تذكرت الوشاح الكبير الذي تلفه حول حزامها فسحبته برقة. بدأت التقيؤات التي لم أستطع مقاومتها تتدافع بغزارة، وتخففت منها بغرابة. إنها نهاية «الإنفلونزا» على ما أعتقد. وفجأة أحسست نفسي خائر القوى، بدا كل شيء يدور حولي، اعتقدت أن شرًّا سوف يُلم بي، ترى هل سوف أوقظها؟ … آه!
تماسكت بطفولتي البريئة، بكل ما أُكِّن من كراهية للضعف الإنساني، وأنا أتصور أنني فوق بحر من حديد، وأن صوت عجلات العربة قد أصبح كصخب الأمواج … وتوقفت عن التقيؤ، ثم غرقت في نوم عميق. وعندما خرجت منه كان الفجر قد ملأ السماء، أما «مارسلين» فكانت لا تزال نائمة.
تلامسنا. كان الوشاح الذي أمسكه شفافًا، من النوع الذي لا يظهر فيه شيء، ولكن عندما أخرجت منديلي فوجئت أنه مملوء بالدم. كان أول ما تبادر إلى ذهني هو إخفاء الدم عن «مارسلين» … ولكن كيف؟ بذلت كل ما بوسعي لكي أخفيه، وخاصةً في يدي، كأنني نزفت من أنفي، لو سألتني فسوف أقول لها: إنني نزفت من أنفي.
ظلت «مارسلين» نائمة حتى وصلنا. كان عليها أن تنزل أولًا، ولم تلحظ شيئًا، ووجدنا غرفتَين محجوزتَين لنا. ألقيت نفسي في حجرتي واغتسلت، وأخفيت الدماء، ولم ترَ «مارسلين» شيئًا. ومع هذا أحسست أنني بالغ الوهن، وطلبت شايًا لاثنين، وبينما كانت تعده بدت هادئة، وشاحبة بعض الشيء، إلا أنها لم تفقد ابتسامتها، انتابني إحساس بالضيق؛ لأنها لم تلحظ شيئًا.
أحسست أنني ظالم وقلت لنفسي: حقًّا، إنها لم ترَ شيئًا مما أخفيته عنها، لا يهم، لكن الأمر تضاعف في داخلي بشكل غريزي … وفي النهاية اشتد الأمر عليَّ، ولم أتماسك طويلًا. قلت وقد أصابني شرود:
بصقت دمًا هذه الليلة.
لم تصرخ، بل بدت شاحبة للغاية. ترنحت وأرادت أن تتماسك، ثم سقطت بثقلها فوق الأرض.
أسرعت نحوها وقد أصابني صرعة: «مارسلين»! «مارسلين»! هيا! ماذا فعلت؟ ألا يكفي أن أكون مريضًا؟ ولكنني كنت بالغ الوهن، ألا يجب أن أصاب بألم بدوري؟ فتحت الباب، ورحت أنادي وأنا أهرول.
أذكر أنني وجدت في حقيبتي رسالة توصية من ضابط المدينة، استخدمت هذه الرسالة كي أبحث عن طبيب. كانت «مارسلين» في تلك الآونة قد استردت عافيتها … فهي جالسة الآن عند طرف سريري الذي كنت أرتعد فيه من الحمَّى.
وصل الطبيب وراح يفحصنا — أنا و«مارسلين» — وأكد أن «مارسلين» ليس بها شيء، وأنها لم تحس بنفسها وهي تسقط، أما أنا فقد زادت حالتي سوءًا، لم يود أن يتكلم، ووعد أن يعود قبل أن يحل المساء.
عاد، وابتسم لي وهو يتكلم، أخذ يُسدي العديد من النصائح الطبية. فهمت أنه يدينني — كما صرحت لكم — لم أرتجف، كنت مصابًا بالملل، وتركت نفسي بكل بساطة … ترى مَن يهبني الحياة؟ لقد عملت بكل طاقتي كل ما يمليه عليَّ واجبي، أما الباقي … آه! ماذا يهم؟ فكرت وأنا أرى عقلانيتي جميلة بشكل كافٍ. راحت بشاعة المكان تسبب لي المعاناة. فغرفة هذا الفندق بشعة حين أنظر إليها، وفكرت أن هناك غرفة مشابهة مجاورة لغرفة زوجتي «مارسلين».
سمعتها تتكلم بصوت خفيض، مَرَّ بعض الوقت، وكان عليَّ أن أنام.
رأيت «مارسلين» عندما استيقظت، أدركت أنها كانت تبكي، لا أحب الحياة عندما أكون سببًا للشفقة، لكن بشاعة هذا المكان تؤلمني، خاصة عندما تستقر عيناي عليه.
إنها الآن قريبة مني تكتب، بدت لي جميلة، رأيتها تغلق رسائل عديدة، ثم قامت واقتربت من سريري، وأمسكت يدي برقة وقالت: كيف حالك الآن؟
ابتسمتُ وقلتُ بنبرة حزينة: ترى هل سأشفى؟
وعلى الفور ردت: سوف تبرأ.
أحسست بمشاعر مشوشة تجاه كل ما في الدنيا، كما أحسست بالحب تجاهها وتجاه الحياة المتموجة الجميلة، والتي تبدو في دموعها المتدفقة من عينيها لدرجة دفعتني أن أبكي دون أن أجد القوة للدفاع عن نفسي. وبكل حبها القوي دفعتني أن أترك «سوسة» واتجهنا إلى «تونس»، ثم من «تونس» إلى «فلسطين».
بدت «مارسلين» رائعة، وكان عليَّ أن أتماثل للشفاء في «بسكرة». وبدت ثقتها شديدة، ولم يفتر حماسها لحظة، كانت قد أعدت كل شيء، وتدبر كل شيء، تتأكد من المسكن والرحيل، هذا الرحيل الذي يبدو أقل بشاعة، وتصورت مرارًا أن عليَّ أن أتوقف، كنت أتصبب عرقًا مثل شخص يحتضر، وكنت أختنق أحيانًا. وفي نهاية اليوم الثالث وصلت إلى «بسكرة» وأنا أقرب إلى الموتى.
(٢)
لماذا نتكلم عن الأيام الخوالي؟ وماذا بقي منها، فذكرياتها مثيرة للرعب. لم أعرف الكثير عمن أكون أنا ولا عن مكاني. كنت أرى «مارسلين» — فقط — وأنا فوق السرير، جالسة.
أعرف أن عواطفها وعنايتها بي قد أنقذا حياتي، وأنا أشبه ببحار ضائع يتطلع إلى الأرض. كنت أحس بضوء الحياة ينبعث. واستطعت أن أبتسم ﻟ «مارسلين».
لماذا أحكي كل هذا؟ الآن الموت قد لمسني — كما يقال — بجناحيه، وأصبح من المدهش أن أكون على قيد الحياة، وأصبح النهار بالنسبة لي ضوءًا غير ملهم، ففيما قبل لم أكن أفهم معنى أن يكون المرء حيًّا؛ لذا يجب أن أجعل من الحياة نبضًا دائمًا.
لقد جاء اليوم الذي يمكنني أن أنهض فيه. امتثلت للشفاء في بيتي الذي لم يكن قريبًا سوى شرفة، ويا لها من شرفة! تطل عليها غرفتي وغرفة «مارسلين»، تلك الشرفة تبدو كأنها راقدة فوق السطح وفي أعلى المنزل يستطيع المرء أن يتخيل، ومن أعلى النخيل تطل الصحراء.
وعلى الجانب الآخر من الشرفة تقع حديقة المدينة. لقد كسرت أفرع الحديقة التي تظللها، إنها تمتد بطول الفناء، فناء صغير مرتب، مزروع فيه ست نخيلات، وينتهي بسلم يربطه بالفناء. كانت غرفتي رحبة، يدخلها الهواء، وحوائطها بيضاء غير معلق عليها شيء، ويؤدي بابها الضيق إلى غرفة «مارسلين».
أما الباب الكبير الزجاجي فيفتح على الشرفة. هناك تتعاقب الأيام بلا ساعات. كم رأيت الأيام البطيئة التي مرت أثناء وحدتي! وقد جلست «مارسلين» على مقربة مني تقرأ وتطرز وتكتب.
أما أنا فلا أفعل شيئًا، أنظر إلى الشمس، وأتطلع إلى الظل، وأرى الظل يحل مكان الضوء، وأفكر فيه قليلًا وأنا أراقبه.
كنت لا زلت خائر القوى، أتنفس بصعوبة، كل شيء يؤلمني، حتى القراءة … لماذا أقرأ ولديَّ ما يشغلني بما فيه الكفاية؟
ذات صباح دخلت «مارسلين» وصاحت ضاحكة: جئت لك بصديق!
ورأيتها تدخل خلفها صبيًّا عربيًّا صغيرًا، أسمر البشرة، كان يُدعى «بشير»، تشع عيناه الواسعتان اللتان تنظران إليَّ بالصمت، أحسست بالامتنان، هذا الامتنان الذي يتعبني، لم أقل شيئًا. وبدا الصبي غاضبًا أمام برودة استقبالي.
استدار نحو «مارسلين»، وبحركة حيوانية لطيفة وممازحة تكور أمامها وأمسك يدها، وقبَّلها بحركة كشفت ذراعيها العاريتين.
رحت أنظر إليه وقد بدا أنه نسي وجوده معنا. كانت قدماه حافيتَين، راح يضمُّ البوص بقبضته. أخذ يحرك سكينته بحركات تدعو إلى الدهشة. تُرى هل أهتم بهذا حقًّا؟ كان حليقًا على الطريقة العربية، يضع على رأسه غطاءً صغيرًا من القش. وعندما سقطت الغندورة ظهر كتفه الدقيق، ووددت أن أحادثه، لكنني لم أفعل.
استدار نحوي وابتسم، أشرت له إشارة أن يعطيني الصفارة، ثم أمسكتها وأبديت إعجابي الشديد بها، إنه يود الآن أن يرحل، أعطته «مارسلين» كعكة، أما أنا فمنحته قرشين. وفي اليوم التالي — وللمرة الأولى — أحسست بالملل وأنا أنتظر. ترى ماذا أنتظر؟ أحسست بقلق، ثم تململت أخيرًا: ألن يأتي «بشير» هذا الصباح؟
– إذا أردته، فسوف أبحث عنه.
تركتني ونزلت، وبعد لحظة عادت وحدها.
ماذا أصابني من مرض؟ كنت حزينًا، لقد تضايقت حين رأيتها تعود بدون «بشير».
قالت لي: الوقت متأخر، وقد غادر الصبية المدرسة وتناثروا في أماكن عديدة … تعرف أنه جذاب، وأعتقد الآن أن الجميع يعرفونني.
– حاولي أن تأتي هنا غدًا على الأقل.
وفي اليوم التالي جاء «بشير»، وجلس مثلما فعل قبل البارحة، أخرج سكينه وأراد أن يشذب قطعة خشب صلدة، وراح يجاهد وهو يغرس فيها نصل السكين. انتابتني رجفة من السعادة، راح يضحك وهو يكشف السكين اللامع ويُحس بالفرحة وهو يراها تُسيل دمه. كشف عن أسنانه البيضاء وهو يضحك، وترك جرحه.
بدا لسانه ورديًّا كأنه لسان قط. آه! كم يبدو رائعًا! إنه يمتلك أشياء أفتقدها!
وكالصحة، فقد بدت صحة هذا الجسم الصغير على ما يرام. وفي اليوم التالي جاء ببعض البِلي، وأراد أن يلاعبني. لم تكن «مارسلين» هناك، ترددت وأنا أنظر إلى بشير. أمسك الصغير ذراعي، ووضع البلي بين يدي، لكنني لم أستطع الاستمرار، كنت بالغ التعب، ألقيت البلي وسقطت في مقعدي.
ارتبك «بشير»، وراح ينظر إليَّ، وقال بطريقته اللطيفة: هل أنت مريض؟
كانت رنة صوته حزينة … وعندما عادت «مارسلين» قلت لها: خذيه، فأنا متعب هذا الصباح.
وبعد بضعة أيام من بصقي للدم رحت أمشي بصعوبة في الشرفة.
كانت «مارسلين» مشغولة بحجرتها، ولحسن الحظ فإنها لم ترَ شيئًا، أخذت ألهث بشدة وفجأة امتلأ فمي كله … إنه ليس دمًا نقيًّا مثل باقي البصقات السابقة … إنه كتل ضخمة مرعبة، بصقتها فوق الأرض بكل ازدراء. ومشيت بضع خطوات مترنحًا، وقد امتلأت بالتأثُّر.
ثم ارتجفت، فقد استبدَّ بي الخوف، وكنت غاضبًا، وتصورت حتى هذه اللحظة أن الشفاء سيحل بي، إنه ليس عليَّ سوى انتظاره.
حدث هذا الأمر كي يردني القهقرى، شيء غريب! البصقات الأولى لم تترك أثرًا فيَّ، أتذكر الآن أنها جعلتني هادئًا، فتُرى من أين يجيء خوفي ورعبي؟ هل يجيء في نفس اللحظة التي بدأت فيها أحب الحياة؟
عدت إلى الوراء، وانحنيت متطلعًا إلى بصاقي، أمسكت قشة، ورفعت الكتلة الدموية، ووضعتها في منديلي ونظرت إليها: إنها دم أسود، كتلة جيلاتينية مرعبة، فكرت في دماء «بشير» النقية.
وفجأة انتابتني رغبة وأمنية مثيرة للرعب أكثر مما أحسست طيلة حياتي حتى الآن: أريد أن أعيش، أن أعيش، أن أعيش! زممت أسناني، ورحت أطلق بقبضتي بكل قوة نحو الفراغ.
بالأمس جاءتني رسالة من «ت.» ثم رحت أرد على سؤال قلِق من «مارسلين»، كانت مفعمة بالنصائح الطبية إلى «ف. ت» … بخطابه بعض الأوراق الطبية وكتاب متخصص، بدا لي أكثر جدية.
قرأت الرسالة — بلا مبالاة — وكأنني أكاد أن أطبعها، تقاربت هذه الأوراق مع كل المعنويات التي لصقت بي منذ طفولتي. فها هي ذي نصائح تقيدني. لم أفكر في أن هذه «النصائح الدرنية» و«علاج الدرن الفعال» يمكن أن تنطبق على حالتي، لم أظن نفسي مصابًا بالدرن، بل أرجعت أعراضي الأولية إلى أسباب عديدة، أو — بمعنى أصح — لم أرجعها إلى شيء. تجنبت التفكير فيها وحكمت على نفسي أنني قد شُفيت، أو شيء كهذا تقريبًا.
قرأت الكتاب وتصفحت أوراقه، وتعاملت معها فجأة بأسلوب مخيف، خُيِّل لي أنني لم أعتنِ بنفسي بما فيه الكفاية.
لقد تركت نفسي أحيا حتى تلك اللحظة، وتعلقت بأمل قوي، وفجأة بدت لي حياتي كأنها معرضة للهجوم، هجوم تحت الحزام، هناك عدو متعدد القوى مليء بالحيوية، ويعيش معي، أسمعه وأراقبه. وأحس به، لم أهزمه بدون مقاومة، وأضفت بصوت خفيض حتى أحاول أن أقنع نفسي:
إنها مسألة إرادة.
ووضعت نفسي في حالة عدوانية.
وعندما حل الليل رتبت أموري، ولبعض الوقت كان شفائي حالة من التمحيص، وكان همي صحتي، ويجب أن أكون في حالة أفضل، وكل ما يهمني أن أكون «بخير» وأن أنسى، وأن أدفع عني كل ما يثيرني؛ لذا فقبل أن أتناول وجبة المساء رحت أقوم بتمرينات تنفسية وغذائية، وأضع حلولًا للأمور.
تناولنا طعامنا في كشك صغير تحوطه الشرفة من كل الأنحاء، وجلسنا هادئين، وبعيدين عن كل شر مثير، وكانت المحبة التي تجمع مائدتنا رائعة، حمل إلينا زنجي عجوز من فندق مجاور الطعام المناسب، دققت «مارسلين» في قائمة الطعام، وأوصت على طبق، وتجاوزت بقية الأطباق.
لم أحِس بجوع شديد ولم أفتقد الأطباق الناقصة، ولا قائمة الطعام غير الكافية. لم تعتَد «مارسلين» على تناول الكثير من الطعام، ولا تعرف كيف تأخذ في حسبانها أنني لا آكل ما يكفيني؛ فالأهم هو أن آكل كثيرًا، وبأي طريقة. وأدعي أنني لم أنفِّذ ذلك في تلك الأمسية؛ لأنني لم أقدر.
كان أمامنا طبق من الأسماك الخليطة، ومشويات تمت تسويتها جيدًا. بدا سخطي شديدًا، أكثر مما بدا على «مارسلين»، رحت أنثر أمامها كلمات انفعالية وأنا أتهمها، بدت كأنها تسمعني، وأنها تحس بالمسئولية عن رداءة هذه الوجبات، وأن هذا التأخير البسيط للنظام الذي اتبعته أصبح ذا خطورة وأهمية.
نسيت الأيام الخوالي، فقد أفسدت هذه الوجبة الناقصة كل شيء، وتحجرت، وكان على «مارسلين» أن تنزل إلى المدينة لتبحث عن علب مأكولات محفوظة مهما كان نوعها.
وفي المساء لم تَعُد الوجبات في أفضل حالاتها، برغم أنها أكثر عددًا، كانت هناك وجبة كل ثلاث ساعات، الأولى في السادسة والنصف، وكان علينا أن نحتفظ بمعلبات من كل الأنواع، وأن نطلب عينة من كل أطباق الفندق.
لم أستطع النوم هذا المساء، وانتابتني مشاعر جديدة عن فضائلي الجديدة. أعتقد أن حمى أصابتني، كانت هناك زجاجات مياه معدنية، شربت زجاجة وأعقبتها بأخرى، ثم الثالثة مرة واحدة.
تغلبت على إرادتي، وأمسكت على عدوانيتي، وواجهتها قبالتي، وكان عليَّ أن أناضل من أجل كل شيء، فصحتي تخصني وحدي.
وأخيرًا رأيت الليل مصابًا بالشحوب، ومن شحوبه يتولد النهار، إنها صحوة قوتي. كان اليوم التالي هو الأحد، لم أكن قلقًا آنذاك بشأن إيمان «مارسلين»، أو اختلافاتها، أو عفتها.
بدا لي أن هذا ليس مسألة نقاش؛ لذا لم أعلق به أهمية، ففي هذا اليوم توجهت «مارسلين» إلى القداس، وعلمت عند عودتها أنها صلت من أجلي. دققت النظر فيها، ثم قلت بكل ما أمتلك من رقة: يجب ألا تصلي من أجلي يا «مارسلين».
قالت بشيء من الاضطراب: لماذا؟
– لا أحب هذه الأمور.
– هل ترفض مساندة السماء؟
– لا شك أنني أعترف بالجميل، لكن هذا يسبب متاعب قد لا أريدها.
بدَونا كأننا نمزح، لكننا لم نتطرق إلى أهمية كلماتنا.
تنهدت قائلة: لن تشفى وحدك يا صديقي المسكين.
– طبعًا.
أضفت وأنا أرى حزنها بلهجة أخف بشدة: سوف تساعدينني.
(٣)
تكلمت مرارًا عن جسدي، وسوف أتكلم عنه كثيرًا، مما سيجعلكم تتصورون أنني نسيت جزءًا من روحي؛ فإهمالي في هذا النص شيء إرادي، إنه هناك. لم يكن لديَّ ما يكفي من القوة للدخول في حياة مزدوجة، أما الروح فسوف أتحكم فيها فيما بعد عندما أشفى.
كنت متعبًا، وبلا سبب كنت أتصبب عرقًا، وبلا سبب كانت تتملكني رجفة البرد، كنت مثلما قال روسو: «لاهث النفس»، أحيانًا أُصاب بقليل من الحمى، ودائمًا تنتابني — خاصة في الصباح — مشاعر مرعبة ملولة، وأبقى دائمًا خائر القوى في مقعدي نافرًا من كل شيء، أنانيًّا، مهمومًا وأنا أتنفس بصعوبة. تنفست بضيق شديد، وبكل صعوبة.
كان زفيري يتصاعد إلى مرحلتين، أما إرادتي فلا يمكن الإمساك بها تمامًا، ولقد ظللت فترة طويلة أحاول أن أتجنب ذلك لفترة بكل ما أملكه من قوى. لكن الذي جعلني أعاني أكثر هو أن درجة حرارة مشاعري المرضية قد تغيرت كثيرًا.
أفكر وأنا أتذكرها الآن، إنها كانت حالة عصبية زادت من حدة المرض، لم أستطع أن أفسر أن هذه السلسلة من الأعراض ليست سوى حالة درن بسيطة؛ فقد كنت دائمًا إما بالغ السخونة أو بالغ البرودة، فأغطي جسمي بالمزيد من الأغطية، ولا أتوقف عن الارتعاد، وأتصبب عرقًا، ثم أنزع الغطاء قليلًا وأنا أرتجف من عدم القدرة على التنفس.
تتجمد أجزاء من جسدي وتصبح باردة — برغم العرق — في ملمسها وكأنها الرخام، لا شيء يمكنه أن يدفئها. كنت حساسًا للبرد لدرجة أن نقطة من الماء لو سقطت فوق قدمي وأنا في الحمام؛ فإنها تصيبني بنزلة شعبية، وحساسًا أيضًا للحرارة بنفس الدرجة، واحتفظت بهذه الحساسية، وظللت على هذا المنوال.
طَوال اليوم كان الأمر مثيرًا للمتعة، فكل حساسية حية، تبعًا للعضو عندما يكون قويًّا أو ضعيفًا، تصبح — على ما أعتقد — سببًا للذة أو الحرمان، فكل ما يسبب لي قلقًا أصبح يسبب اللذة.
لم أكن أعرف كيف يمكن أن أنام والنوافذ مغلقة (تبعًا لنصيحة ف.)
حاولت أن أفتحها في المساء قليلًا في البداية، ثم دفعتها على مصراعيها؛ لعل هذا سيصبح عادةً، لكن ما إن تنغلق النوافذ حتى أختنق، ومع بعض اللذة أحسست فيما بعد أني أدخل إلى نسيم الليل ونور القمر.
حدث أن انتهت هذه الثأثآت الصحية الأولى بفضل تلك العناية الشديدة، وذلك الجو النقي، وبنظام غذائي أفضل، وسرعان ما تحسنت. وحتى تلك الآونة كنت أخشى لهاث السلم، ولم أجرؤ على ترك الشرفة في الأيام الأخيرة من يناير، ثم أخيرًا غامرت بالنزول إلى الحديقة.
اصطحبتني «مارسلين»، وهي تضع شالًا على كتفها.
كانت الساعة الثالثة مساءً، والرياح تهب شديدة في هذا البلد، مما ضايقني طَوال الأيام الثلاثة، لكن نسمة الهواء كانت بديعة.
إنها حديقة عامة يقطعها ممر واسع، ويظلله صفان من النخيل العالي الذي يسمونه بالخزائن، وفي ظل هذه الأشجار توجد مقاعد وقناة نهرية صغيرة، أعني أن عمقها أكبر من اتساعها، على مقربة من اليمين ممر طويل، ثم هناك قنوات أخرى أقصر تقسم مياه النهر، وتصلها عبر الحديقة نحو النباتات، والمياه الراكدة بلون الأرض، لون الصلصال الوردي أو الرمادي.
لا يوجد غرباء. هناك بعض العرب يتنزهون، الذين ما إن يتركوا المكان حتى تكتسي معاطفهم بلون الظل. تملكتني رعشة غريبة عندما دخلت منطقة الظل، تلفحت بالشال، لم أُحس بأي ألم، بل على العكس، جلسنا فوق أريكة، والتزمت «مارسلين» الصمت.
مر بعض العرب، وتبعتهم مجموعة من الأطفال، كانت «مارسلين» تعرف كثيرين منهم، وراحت تحييهم، فاقتربوا منها.
أبلغتني بأسمائهم، ودارت بينهم أسئلة وإجابات، وابتسامات وتجهمات، وألعاب صغيرة، كل هذا حركني قليلًا، إلا أنني أحسست مرة أخرى بالضيق، وتصبب العرق في بدني.
سألت نفسي: ترى فيم يعنيني هذا؟ إنهم ليسوا سوى أطفال، وهي أيضًا، نعم إنها تتصرف هكذا، ضايقني وجودها؛ فلو قمت من مكاني راحت تتبعني، وإذا نزعتُ الشال عني تجعلني ألبسه، وإذا خلعته بعد ذلك تقول: «ألست مصابًا بالبرد»؟ ثم تتكلم إلى الأطفال.
لم أجرؤ أن أكلمهم، أحسست أنها تحميهم رغمًا عني؛ ولذا أحسست أن علينا أن نرحل. قلت لها: «هيا بنا إلى المنزل.» وقررت أنني لو عدت إلى الحديقة مرة أخرى فسأفعل ذلك وحدي.
في اليوم التالي خرجت في نحو العاشرة صباحًا، وسرعان ما انتهزتُ الفرصة، جاء «بشير» يرفع شالي، وهو الذي لم يَعُد يأتي إلا قليلًا، أحسست أنني خفيف الحركة، وأن قلبي يطير في الهواء، كنا قريبًا في الممشى، أسير ببطء، أجلس لحظة وأعاود المشي. يتبعني «بشير».
وصلت إلى ناحية النهر، حيث تقوم الغسالات بالغسيل، ووسط التيار كان هناك حجر مسطح نامت فوقه فتاة صغيرة، قد مالت بوجهها نحو المياه، وغمست يدها في التيار، لعلها سقطت فيها، أو وضعتها عن طيب خاطر، وقد لمست قدماها الحافيتان المياه، إنها تود أن تبلل نفسها من هذا الحمام، ويبدو جلدها كأنه محفور.
اقترب منها «بشير» وراح يكلمها، استدارت وابتسمت لي، وردت على «بشير» باللغة العربية. قال لي: إنها أختي. ثم أخبرني أن أمه ذهبت للغسيل وأن أخته الصغيرة تنتظرها، وأن اسمها «خضراء». قال كل هذا بصوت رخيم وواضح، وطفوليِّ المشاعر، ثم أضاف: إنها تطلب أن تمنحها قرشين.
أعطيته عشرة، وبينما أستعد للرحيل وصلت الأم (الغسالة) وكانت امرأة رائعة بدينة، وعلى جبهتها وشم كبير أزرق، ترتدي قلنسوة من الكتان فوق رأسها تبدو أشبه بحاملات القرابين القديمات، وقد تحجبت قليلًا بقماش أزرق غامق حوله حزام يتدلى حتى قدميها.
وما إن رأت «بشيرًا» حتى أشارت له متجهمة، ورد بعنف، وتدخلت الفتاة الصغيرة. دار بين الثلاثة نقاش مليء بالحيوية، ثم راح «بشير» أخيرًا يفهمني أن أمه في حاجة إليه هذا الصباح.
مدَّ لي يده بالشال وقد ارتسم عليه ضيق؛ لذا كان عليَّ أن أستكمل مشواري وحدي. لم أتحرك سوى عشرين خطوة، وبدا الشال ثقيلًا لا يتحمل، وتصببت عرقًا وجلست فوق أول مقعد قابلني، وتمنيت لو ظهر صبي يخفف عني هذا الحمل، وكان أول طفل ظهر في الرابعة عشر من عمره تقريبًا، أسود كأنه سوداني، وبدون خجل قدمت نفسي له.
اسمه عاشور، بدا لي جميلًا رغم أنه أعور، يحب الحديث، وأخبرني أنه قادم من ناحية النهر، وأنه بعد الحديقة العامة توجد واحة يخترقها النهر، نسيت تعبي وأنا أسمعه، أكثر خفة مما بدا لي «بشير»، اقترب مني أكثر، وبدوت سعيدًا لأن الأشياء تغيرت، وعدته أن أنزل مرة أخرى إلى الحديقة وحدي وأن أنتظره، أن أجلس فوق مقعدي، وأنتظر أن تحين مصادفة لمقابلته. بعد أن توقفت مرات عديدة وصلنا أنا وعاشور أمام بابي، وددت أن أدعوَه للصعود مرة، لكنني لم أجرؤ، فأنا لا أعرف ماذا ستقول «مارسلين».
وجدتها في صالة الطعام جالسة على مقربة من طفل صغير هزيل يبدو نحيفًا، لم أشعر نحوه في البداية إلا بالاستياء أكثر من الشعور بالشفقة، وبكل حياء قالت «مارسلين»: مسكين هذا الصغير فهو مريض.
– أتمنى ألا يكون مرضه معديًا … ماذا به؟
– لا أعرف بالضبط، إنه يشكو من كل شيء، ويتكلم الفرنسية بصعوبة. عندما سيكون «بشير» هنا غدًا سنطلب منه تفسيرًا لما فعله، وسأجعله يتناول الشاي.
وكنوع من الاعتذار — ولأنني جلست بعيدًا بدون أن أتكلم — أضافت: إنني أعرفه منذ وقت طويل، ولم أجرؤ أن أجعله يأتي، أخشى أن يسبب لك تعبًا، أو لا يروق لك. قلت: لماذا؟ أحضري كل الأطفال كما تريدين، يبعثون على التسلية.
وفكرت أنني لم أتصرف بشكل جيد عندما لم أجعل عاشورًا يصعد.
نظرت إلى زوجتي، تبدو أمًّا حنونًا مداعبة، بدت رقتها مؤثرة نحو الصغير، حدثتُها عن نزهتي، ورحتُ أفهِّم «مارسلين» بكل رقة سبب خروجي وحدي.
اعتقدت أن تكون ليالي مليئة بالأزمات التي توقظني وقد تثلج جسدي أو تصبب عرقًا، كانت هذه الليلة رائعة، وتقريبًا بلا أزمات؛ لذا ففي صباح اليوم التالي استعددت للخروج في الساعة التاسعة.
كان الجو جميلًا، وأحسست أنني في حال أفضل، وأنني أقل ضعفًا وسعيد، وأنني أنشد التسلية.
بدا الجو هادئًا ودافئًا، ومع ذلك أخذت الشال بدافع الاحتياط، ربما ليكون حجة للتعرف على شخص يحمله عني. قلت: إن الحديقة تكاد تمس شُرفتنا، وسرعان ما دخلت في ظلها. بدا الجو صحوًا، واكتست أشجار السنط بالأزهار قبل أن تكسوها الأوراق، فبعث في المكان رائحة مجهولة تثير البهجة في داخلي، وتنفست بكل ارتياح وبدت خطواتي أكثر خفة، ومع ذلك جلست فوق أول مقعد أكثر نشوة من الأمس، رحت أنظر حولي، وبدا الظل مناسبًا وخفيفًا وهو ينبسط فوق الأرض، وبدا كأنه محفور هناك.
آه أيها الضوء! إنني أسمعك. ترى ماذا أسمع؟ لا شيء، بل كل شيء، رحت أتسلى بسماع الأصوات البعيدة، وأتذكر الشجيرات التي تبدو جذوعها من بعيد أشبه بكائنات غريبة عليَّ، أن أقوم كي ألمسها.
مسستها وكأنني أداعبها، وجدتها رائعة، وتساءلت: ترى هل ولدت من جديد هذا الصباح؟ نسيت أنني وحدي، لم أنتظر شيئًا، نسيت الزمن، بدا لي أنني أحس أكثر مما أفكر، وأنني مندهش لهذه النتيجة، فعلى إحساسي أن يكون أقوى من فكري.
ها هي ذي آلاف الأضواء تتولد، وتتناثر آلاف الأحاسيس، وها هي ذي أحاسيس تسمح لي بالتوقُّد، وتمكن فيها قصة الماضي بأكمله، تعيش فيه، تحيا! لم تكفَّ قط عن العيش، وتكتشف نفسها عبر سنوات دراستي، حياة كامنة ومشرفة لا مثيل لها.
لم أقابل أحدًا طيلة هذا اليوم، وفكرت في الراحة؛ لذا أخرجت من جيبي كتاب «هوميروس» الصغير، الذي لم أفتحه منذ رحيلي إلى مارسيليا، وقرأت ثلاث عبارات من «الروسية»، وجدت فيها مادة كافية لراحتي، ثم طويت الكتاب، أصابتني رعشة جسدية أكثر حيوية مما كنت أظن؛ ولذا رحت أبعد عني الخمول الذي كان يسبب لي السعادة فيما قبل.
(٤)
في تلك الآونة لاحظت «مارسلين» — وهي سعيدة — أن صحتي قد رُدَّت إليَّ، وبدأت — لبضعة أيام— تحدثني عن بساتين الواحة الرائعة.
إنها تحب الهواء الجميل والمشي، أما الحرية التي افتقدتها في مرضي فقد سمحت لها بممارستها طويلًا كما تشاء، وحتى تلك الآونة لم نكن نتكلم كثيرًا، ولم تجرؤ أن تحثني على أن أتبعها، وكم خشيت أن تراني مغموسًا في حزني وأنني غير قادر على التمتع بوقتي، ولكنني الآن أصبحت في حال أفضل، واعتمدت على جاذبيتها كي تجعلني أمتثل، وسرعان ما أحسست بحلاوة المشي والتطلع حولي؛ لذا فبدايةً من اليوم التالي خرجنا معًا للنزهة.
سبقتني في طريق غريب، لم أرَ مثله في أي بلد آخر، يدور بين جدارين مرتفعين عن الأرض، وقد اتخذ شكل الحدائق والتي راحت تحددها الجدران.
ينحني الطريق ثم ينكسر، وعند بداية المدخل توجد انحناءة تجعلك تشعر بأنك تائه، ولا تعرف من أين ولا إلى أين الطريق.
أما المياه فتبدو قادمة من النهر وتتبع المجرى بطول الجدران التي تصنع الطريق من الأرض، إنها الواحة الداخلية، أما الصلصال الوردي أو الرمادي الرقيق فإن المياه تجعله أكثر ليونة، في حين أن الشمس الحارة تسبب الانزعاج وتنشر الحرارة، لكنها لا تلبث أن تسترخي عند قطرات المطر الأولى، وتصنع عندئذٍ أرضًا هشة تغوص فيها الأقدام الخلفية.
عندما اقتربنا طارت العصافير، فراحت «مارسلين» تنظر نحوي وقد انتابتها نشوة عارمة. نسيت تعبي وضيقي، وسرت صامتًا وأنا أشعر بالمتعة والخفة والانشراح، في هذه اللحظات كان اللهاث خفيفًا. وراح النخيل يهتز، ورأيت النخيل العالي ينحني، ثم ساد الجوَّ سكون، سمعنا صوت ناي قادمًا من خلف الحائط، رحنا نتتبعه، ودخلنا من فتحة وراء حائط.
إنه مكان ظليل مليء بالضوء والهدوء يبدو لي كمأوى يهرب إليه المرء من الزمن، مليء بالصمت والأنين، وتسمع فيه أصوات المياه المناسبة التي تروي النخيل، وتنساب من شجرة لشجرة، وتنادي طيور «الترغلة» بلغة خاصة تتغنى على أنغام ناي ينفخ فيه طفل صغير.
إنه حارس لقطيع من الماعز، كان جالسًا فوق جذع نخلة مكسورة، لم ينزعج لظهورنا، ولم يهرب، ولم يتوقف عن العزف إلا للحظة. ولاحظت أثناء الصمت القصير أن نايًا آخر يرد عليه، وتقدمنا قليلًا ثم قالت «مارسلين»: ليس مهمًّا أن نذهب أبعد من ذلك، فهذه الخضرة تتشابك معًا عند أطراف الواحة، ترى هل ستصبح أكثر اتساعًا؟ وافترشت الشال أرضًا وقالت: استرخِ.
لا أعرف كم من الوقت بقينا، ولا كم ساعة؟ كانت «مارسلين» قريبة مني، فتمددت. ووضعت رأسي فوق ركبتيها، وانطلق عزف الناي، يتوقف لحظات ثم يعاود الانطلاق ثانيةً متلاحمًا مع خرير المياه.
أحيانًا تزعق إحدى الماعز فأغلق عيني، وأحس بيدي «مارسلين» المنعشة فوق جبهتي، وأحس بالشمس الحارة تتسلل من بين النخيل، وللحظات عادت الضجة من جديد، وفتحت عيني، إنها الرياح الخفيفة تهب من بين النخيل، إنها لا تنزل إلينا ولا تحرك سوى النخيل العالي.
في صباح اليوم التالي عدت إلى نفس الحديقة مع «مارسلين»، وفي مساء نفس اليوم عدت إليها وحدي، كان هناك راعي الماعز الذي يعزف على نفس الناي، اقتربت منه وكلمته، كان يدعى «لطيفًا»، وفي الثانية عشرة من عمره.
كان جميلًا وأخبرني باسم ماعزه، وقال: إن القنوات تُسمى «ساقية»، وإن المياه لا تجري فيها دومًا، فالمياه تجف أحيانًا، وتجعل النباتات مصابة بالعطش ثم ما تلبث أن تعود إليها، وفي أسفل كل نخلة هناك حفرة صغيرة تلتقط المياه وتروي الشجرة، إنه نظام إلهي عبقري.
راح الطفل يتحدث عنه وكأنه يعزف، وشرح لي أن السيطرة على المياه جاءت من فكرة وجود العطش الأكبر.
وفي اليوم التالي رأيت شقيق «لطيف». كان أكبر منه سنًّا وأقل جمالًا، كان يدعى «هاشمي». ومن خلال سلم خاص مصنوع فوق لحاء النخلات القديمة المقطوعة، رأيته يتسلق النخلة، ثم ينزل بسهولة، ورأيت تحت معطفه الطائر ملابسه المذهبة.
راح يأخذ لأعلى الشجرة — التي لا حواف لها — إناءً من الطين كي يضعه فوق جروح النخيل ويستخرج منها عصارة أشبه بالنبيذ اللذيذ الذي يعجب كل العرب، إنه عرق البلح. تذوقته بدعوة من «هاشمي»، لكن هذا الطعم «الماسخ» الحار واللاذع لم يعجبني.
في الأيام التالية رحت بعيدًا، ورأيت حدائق جديدة، ومراعي أخرى، وبعض قطعان الماعز، وكما قالت لي «مارسلين»؛ فإن كل الحدائق متشابهة ومع ذلك تبدو مختلفة.
كانت «مارسلين» تصحبني هناك أحيانًا، ولكن — غالبًا — ما إن تدخل الحدائق حتى تتركها، وأدعي أن التعب قد أصابني، وأنني أريد الجلوس، وعليها ألا تنتظرني؛ لأنها في حاجة للمشي أكثر، ويجب ألا تنهي نزهتها.
أبقى قريبًا من الصغار الذين تعرفت على العديد منهم، فأتحدث معهم طويلًا، وأتعلم ألعابهم، وألقنهم ألعابًا أخرى أفقد فيها كل قروشي، ويصحبني بعضهم إلى مسافات بعيدة «كنت أطيل خطواتي كل يوم» وأمشي في طريق جديد، وأنا أرتدي معطفي وشالي، وأحيانًا الاثنين، وقبل أن أتركهم أوزع عليهم قطع النقود؛ فيروحون يتبعونني أحيانًا حتى باب منزلي، وأحيانًا يمرون من هناك.
راحت «مارسلين» — من ناحيتها — تأتي بالتلاميذ وتشجعهم على العمل — بعد الخروج من المدرسة — حيث يأتيها العقلاء منهم، وأكثرهم رقة، أما أنا فكنت أصحب معي آخرين وأجمعهم كي نلعب معًا، نهتم دومًا بإعداد المشروبات والحلوى، فيما بعد كان البعض يأتي من تلقاء نفسه حتى وإن لم ندعُه.
في آخر شهر يناير تغير الجو فجأة، وهبت رياح باردة، وعلى الفور تأثرت صحتي، وانكشف الفضاء الواسع الذي يفصل الواحة عن المدينة، ولم يصبح الجو بالنسبة لي منعشًا، وصار عليَّ أن أبتعد عن الحديقة العامة، ثم راحت السماء تمطر مطرًا جليديًّا قادمًا من كل الآفاق، فمن الشمال هب الجليد الذي يغطي الجبال تمامًا.
قضيت هذه الأيام الحزينة قريبًا من المدفأة، أناضل — قدر الإمكان — ضد المرض الذي انتصر عليَّ في هذا الجو الرديء.
كانت أيامًا مريرة، لم أستطع فيها أن أقرأ ولا أعمل، كان أقل جهد يجعلني شديد اللهاث، أما التأمل فكان ينهكني، إذا لم أسهر على صحتي أشعر بالاختناق.
كان الأطفال طوال هذه الأيام الحزينة هم سلوتي الوحيدة، ففي الأيام الممطرة اشتدت العلاقات الأسرية، وجاءوا يومًا وقد ابتلت ملابسهم، وجلسوا نحو النيران يصنعون دائرة، ومر وقت طويل بدون أن يتكلموا، وكنت متعبًا للغاية، أعاني من شيءٍ ما، فلم أنظر إليهم.
كانت صحتهم الطيبة تبرئني، أما «مارسلين» فقد أخذت تقول: إنهم ضعفاء، ونحفاء، وبالغو التعقل.
شعرت بالغضب عليها وعليهم، وودت أن أطردهم؛ لأنهم كانوا يسببون لي الخوف. ذات صباح اشتد غضبي على نفسي، فمختار هو الوحيد الذي لم يضايقني قط، وكانت امرأتي تدافع عنه؛ لأنه أكثرهم جمالًا.
جلس معي في غرفتي، بدت نظرته ذكية ومليئة بالحزن، وانتابني فضول دفعني بمراقبة حركاته، كنت واقفًا على مقربة من النار، وقد أسندت مرفقي فوق المدفأة أمام كتاب، وبدوت منهكًا، لكنني أخذت أراقب حركات الطفل الذي يشعر بالبرد وأنا أوليه ظهري، رأيته يقترب من مائدة حيث وضعت «مارسلين» فوقها زوجًا من المقصات الصغيرة، فالتقطها خلسة، ثم وضعهما بين ملابسه.
خفق قلبي بشدة للحظة، لا أعرف لماذا لم أحس في داخلي نحوه بالغضب، بل على العكس؛ فإنني أؤكد أن الشعور الذي انتابني كان شيئًا آخر غير الفرحة.
لقد تركت لمختار الفرصة أن يسرقني، استدرت نحوه وتحدثت إليه كأن شيئًا لم يكن، لا شك أن «مارسلين» تحب هذا الغلام كثيرًا؛ لذلك لم أفعل شيئًا.
لعلي خائف أن أؤلمها، عندما سأراها سوف أحدثها عن ضياع المقصين، وأخبرها أنني لا أعرف شيئًا، لكنني أجزم أنه منذ هذا اليوم أحسست أن مختار هو طفل «مختار».
(٥)
لم يكن مقدرًا لإقامتنا في «بسكرة» أن تستمر لفترة أطول، فقد انتهت أمطار فبراير، وانطلقت الحرارة بكل قوتها، وبعد أيام عديدة عسيرة عشناها تحت زخات المطر، صحوت فجأة ذات صباح وقد علتني البهجة، وما إن استيقظت حتى جريت نحو الشرفة العليا، بدت السماء نقية بطول الأفق، وتحت أشعة الشمس الحارة تصاعدت الأبخرة وانطلق الدخان في جميع أركان الواحة، سمعنا زمجرة بعيدة عن الوادي، كان الجو نقيًّا وجميلًا، وأحسست أنني أفضل بكثير.
وعندما جاءت «مارسلين» وددت الخروج، لكن الطين في ذلك اليوم أعاقنا.
وبعد أيام من عودتنا إلى «كرمة نصيف» بدت جذوع الأشجار ثقيلة ومنداة وغارقة في المياه. هذه الأرض الإفريقية — التي لم أعرفها قط — تغطس لأيام طويلة، وها هي الأخرى تهب من الشتاء ثملة من الماء، وتنفجر من بين العصارات الجديدة، وتضحك لقدوم ربيع قوي أحسست بعطره وكأنه يتعاظم في داخلي.
اصطحبنا عاشور ومختار في البداية، سعدت لصداقتهما العابرة، فهي لم تكلفني سوى نصف فرنك يوميًّا، لكنني — فيما بعد — شعرت بالملل منهما.
انتابني الإحساس أنني أكثر ضعفًا وفي حاجة إلى صحة كصحتهم، ولم أجد في ألعابهم الدافع اللازم كي أكون مبتهجًا، وعدت إلى «مارسلين» لاهثًا بأملي وبأحاسيسي، وغمرتها بهجة حلت مكان حزن رأيته يجثم عليها.
اعتذرت كطفل دائم الخطأ، وأرجعت ذلك إلى ضعفي ومزاجي «الفالت» والغريب، وأكدت أنني — حتى الآن — كنت بالغ التعب كي أحب، ولكنني منذ الآن فصاعدًا أحس أنني أنمو مع صحتي وحبي، تكلمت بصدق، كنت بلا شك ضعيفًا، وأمامي شهر على الأقل كي أشتهي «مارسلين».
ومع كل يوم ترتفع درجات الحرارة ولا شيء يربطنا ﺑ «بسكرة» سوى هذا السحر الذي يذكرنا على التو بقرارنا بالرحيل الذي تم اتخاذه، وخلال ثلاث ساعات استعددنا، وفي فجر اليوم التالي أقلع القطار.
أذكر الليلة الأخيرة، فقد كان القمر شبه مكتمل، وراحت أشعته الفضية تدخل من نافذتي الكبيرة المفتوحة وإلى غرفتي، كانت «مارسلين» نائمة، أما أنا فَرُحت أفكر، وكنت متمددًا لا أستطيع النوم.
أحسست بحمى تلهبني من السعادة وأنه ليس هناك في الدنيا سوى الحياة … قمت مرتعدًا وقد نضح وجهي ويداي بالعرق، ثم دفعت الباب الزجاجي وخرجت.
كان الجو متأخرًا، لا ضجيج، ولا همس. يبدو الجو نائمًا أيضًا، وأكاد أسمع صوت الكلاب يأتي من بعيد وكأنها ابن آوى، كانت تنبح طيلة الليل. أمامي الحوش الصغير والأسوار الواطئة تحدث ظلالًا مائلة، والنخلات — كعادتها — بلا أي لون ولا حياة، هناك لا يبدو شيء نائمًا، كل شيء يبدو ميتًا، أحس بالخوف من هذا الهدوء الذي راح يغزوني فجأة من جديد كنوع من الاحتجاج.
والوحشة في الصمت موحشة لدرجة تدفعني للصراخ كالحيوانات.
أمسكت يدي اليسرى بيدي اليمنى، وأردت أن أحملها إلى رأسي، وفعلت، لماذا؟ كي أؤكد لنفسي أنني على قيد الحياة! ووجدت هذا رائعًا، لمست جبهتي ورموشي، وامتلكتني رعشة. سوف يحل يوم جديد.
فكرت في أن يومًا آخر سيأتي، وكي أوفر لشفتي المياه التي تروي عطشي، فيجب أن تكون لديَّ القوة الكافية، عدت ولكنني لم أنم أيضًا، وأردت أن أثبت نفسي هذه الليلة، وأن أركز الذكرى في فكري، وأن أمسك بها، وتحيرت فيما سأفعله، أمسكت كتابًا من فوق مائدتي — الإنجيل — وتركته مفتوحًا، واتجهت إلى نور القمر؛ كي أتمكن من القراءة، وقرأت كلمات السيد المسيح إلى بيير، هذه الكلمات التي لا يمكن أن أنساها: «الآن، حزم نفسك، واذهب حيث تشاء، ولكن عندما تصبح عجوزًا، امدد يديك …»
وفي فجر اليوم التالي رحلنا.
(٦)
لن أتكلم عن كل مرحلة من السفر، خاصة تلك التي لم تترك ذكرى مؤثرة، كانت صحتي أحيانًا أفضل، وأحيانًا أسوأ، تتأثر لتوها بالرياح الباردة، وتقلقلها ظلال السحب، وترتبط حالتي العصبية بالمتاعب المتكررة، ولكن رئتي — على الأقل — قد شفيتا، وأصبحت كل انتكاسة أقل طولًا وأقل حدةً، وعندما يكون هجومها شديدًا يصبح جسدي مسلحًا ضدها.
توجهنا من «تونس» إلى «مالطا»، ثم إلى «سيراكوزه»، ثم عدت إلى الأرض الكلاسيكية التي كنت أعرف لغتها وماضيها.
منذ بداية ألمي عشت بلا امتحان وبلا قانون يجبرني أن أعيش ببساطة، مثلما يفعل الأطفال والحيوانات. أنشغل الآن أكثر بالألم، وأصبحت حياتي أكيدة وواعية، وبعد هذه المعاناة الطويلة، أعتقد أنني قد ولدت من جديد، وفصلت ماضيَّ عن حاضري، وجدت نفسي جديدًا في أرض مجهولة، يمكن أيضًا أن أكون منهكًا، فكل ما تعلمته هنا فاجأني: إنني قد تغيرت تمامًا.
عندما أردت — في «سيراكوزه»، وفيما بعد — أن أستكمل دراستي، وأن أغوص مثل غابر الزمان في امتحان الماضي، اكتشفت أن شيئًا قد استلب مني، على الأقل فيما يتعلق بتغيير الذوق، إنه شعور الحاضر الذي يأخذ بتلابيب تاريخ الماضي، الآن يبدو هذا السكوت وهذه الظلام المزيفة النابتة في أحواش «بسكرة» كسكون الموت، قبل أن أعجب بهذا الثبات الذي قد يسمح بالتأمل الروحي، تبدو لي كل وقائع التاريخ أشبه بقطع قديمة في متحف أو نباتات في مرعًى يساعدني جفافها الظاهر في النسيان ذات يوم، بأنها كانت غنية وبالعصارة، لقد عاشت تحت الشمس.
الآن إذا أردت أن أعجب بالتاريخ فيجب أن أتخيله على أنه حاضر، يجب أن تحركني الوقائع السياسية الكبرى أكثر من الأحاسيس التي يولدها فينا الشعراء، وبعض صانعي الأحداث. أعدت قراءة «ثيوقراط»، وفكرت أن مراعيه الجميلة أشبه بتلك التي أحببتها في «بسكرة».
كان تنقيبي في العلم يتيقظ كل يوم ويتراكم عليَّ، ويُثري بهجتي، لا أستطيع أن أرى مسرحًا إغريقيًّا ولا معبدًا بدون أن يبدو لي تجريديَّ الشكل، وفي كل عيد قديم تجعلني الأطلال الباقية في مكانها أشعر بالحزن لأنها ماتت؛ فأرتعد من الموت. هربت إلى هذه الأطلال وفضلت آثار الماضي الجميلة على هذه الحدائق التي تُسمى ﺑ «اللاتومي»، التي يبدو فيها الليمون ذا طعم حمضي أحلى من البرتقال. وتمتد سواحل «سينثيا» المذكورة في أوراق البردي في زرقة النهار، والتي جعلت العاشق «بروزبرن» يبكي.
بلغت درجة اختفاء هذا العلم في نفسي حدًّا صنعه كبريائي في أول الأمر، هذه الدراسة التي اعتبرت بمثابة حياتي في أول الأمر لم تبدُ لي أكثر من تقرير جاء من قبيل المصادفة، ومتناسبًا معي، وبعد أن لمسني جناح الموت فقد كل شيء هنا بريقه، في حين أصبحت أشياء أخرى أكثر أهمية، وهي لم تبد قط هامة، ولم يعرف أحد أنها موجودة، إنها كومة مكدسة فوق روحنا من كل المعارف ترزح كعبء ثقيل، وفي نفس المكان نرى الجسم عاريًا، والوجود الحقيقي مختفيًا.
فقد اكتشف هذه الأمور التي أزعمها، أعني الوجود الحقيقي للإنسان القديم الذي لم يكن سبق الإنجيل، من كتب الأجداد والآباء.
في البداية حاولت أن أختصرها، بدت لي آنذاك — بسبب الأعباء — أكثر إحباطًا وصعبة الاكتشاف، وذات قيمة منذ ذلك الحين احتقرت وجودي الهامشي وعلمت أن المصير مكتوب في السماء، وأننا يجب أن نهز هذه الأثقال عنا. بدأت أقارن نفسي بالأوراق الممسوحة، وتذوقت فرحة العالم الذي يكتشف في الكتابات المعاصرة كل ما كان مكتوبًا في الماضي من نص قديم جدًّا أكثر ثراءً.
ترى ماذا كان في هذا النص الخفي؟ هل يجب أن نمحو النصوص الحاضرة حين يجب أن نقرأه؟ وبرغم ذلك فلم أكن أكثر هزالًا ومهارةً عما كانت عليه معنوياتي فيما قبل، بل مليئًا بكل الصلابة والعناد اللازمَين. هناك في هذا المكان ما هو أكثر من النقاهة، هناك ارتقاء وانتكاس للحياة، وتدفق الدم الثري والأكثر سخونة، والذي عليه أن يلمس أفكاري، يلمسها الواحدة وراء الأخرى، وأن يتغلب في كل شيء، ويثير المشاعر، ويصبغ أكثرها بعدًا عنا، وأكثرها حساسية وسرية لوجودنا؛ لأننا نمارسها ضعفاء أم أقوياء، ونجومها حسب القوى التي تشكلها. إذَن، فلتنم ولتتضخم قوتها. كل هذه الأفكار لم أمتلكها بعد، وتبدو هنا زائفة، فعلًا، فأنا لا أفكر في شيء، ولا أدقق في شيء. فكم أخشى ألا تزعج نظرة خاطفة للغاية كل ما ينتابني من تحوُّل بطيء.
علينا أن نترك الزمن بكل سماته المموهة أن يُعاود الظهور. وألا نحاول تشكيله، وأن أترك مخي جانبًا، ليس بدافع الإهمال ولكن فوق أرض الراحة الأبدية، تركت نفسي بشكل غريزي لأشياء بدت لي قدرية. لقد تركنا «سيراكوزه»، ورُحتُ أجري فوق الطريق الوعر الذي يربط «تاورمين» ﺑ «لامول»، وأنا أصرخ مناديًا على نفسي: كيان جديد! كيان جديد!
كان جهدي الأوحد هو ألا أكشف وأخفي — بشكل تلقائي — كل ما أومن به، وبما يتعلق بكياني الأسبق، وبمعنوياتي الأولى، بكل الحقارة الممكنة لعلمي، وبكل ازدراء لذوقي كعالم … لقد رفضت أن أرى معبد «أجريجنته» وبعد عدة أيام — وفوق الطريق المؤدي إلى نابولي — لم أتوقف عند معبد «بوستوم»، الذي تحس فيه حضارة الإغريق، والذي تحس فيه بحضارة الإغريق، والذي صليت فيه قبل عامين لإله لم أعرف كنهه.
هل يمكن أن أتكلم عن قوة فريدة؟ هل يمكن أن أهتم بنفسي وكأنني كيان كامل؟ هذا الكمال المجهول الذي أتخيله بطريقة مشوشة، لم تتحمس له إرادتي قط إلا من أجل لمسة، لقد قمت بتوظيف هذه الإرادة في داخلي وأنا أحصن جسمي، وأصبغه باللون البرونزي، قريبًا من «سالرينو»، وعندما تركنا الشاطئ توجهنا إلى «رافيلُو»، وهناك بدا الجو صحوًا، وبدت الصخور مليئة بالانكماش والمفاجآت، وأعماق العقيق الغامضة تساعدني في أن أسترد قوتي، وبهجتي، وأن أحقق قفزة للأمام.
بدت «رافيلُو» أكثر قربًا من السماء وبعيدة عن الشاطئ، وإنها تطل على حافة عالية، تبدو في مواجهة الشاطئ البعيد والمسطح وكأنها واقعة تحت السطوة النورماندية، وتبدو «بوستوم» وكأنها مدينة ذات أهمية، كانت تطل على شريط ساحلي ضيق، كنا نتقابل فيه نحن الغرباء على ما أعتقد في منزل ديني قديم، تحوَّل الآن إلى فندق قائم في قمة الصخرة وشرفاته وحديقته تبدو كأنها مائلة في السماء الصافية، وبعد الجدار المليء بالأغصان لا نرى شيئًا سوى البحر.
يجب أن نقترب من الجدار كي يمكن متابعة المنحدر المزروع الذي يربط «رافيلو» بالساحل بواسطة السلالم والممرات. تظهر الجبال في أعلى «رافيلو» وأشجار الزيتون، وأشجار الخروب الكثيفة، وتنطلق الأبخرة في ظلالها. أما أشجار الكستناء فتبدو عالية وكثيفة.
هناك نباتات الشمال أكثر انخفاضًا، ومقابر قريبة من البحر، إنها مرتبة في زراعات صغيرة فوق المنحدر، إنها حدائق مدرجة، أو هكذا تقريبًا، في وسطها ممر ضيق، وفي أطرافها معبر يمكن الدخول إليه بلا أي ضجيج، كم يمكن للمرء أن يحلم تحت هذا الظل الأخضر، فالأوراق كثيفة وثقيلة، ولا يمكن لأي أشعة أن تخترقها، كأنها نقاط الورنيش الكثيف، أما الليمون فتنبعث روائحه، ويبدو في الظل أبيض أو مائل إلى الخضرة. إنها تكاد تُلمَسُ باليد، وتبعث على الانتشاء.
كان الظل كثيفًا، لم أجرؤ على أن أتوقف تحته بعد المشي كي ألتقط أنفاسي، فبرغم أن السلالم لم تنهكني كثيرًا؛ فإنني رحت أتنهد وأنا أغلق فمي، وكنت ألهث وأنا أقول لنفسي: سوف أصل إلى هناك بلا تعب، نعم سأصل إلى هدفي، وأجد مكافأتي في كبريائي السعيدة.
تنفست طويلًا، وبعمق شديد، وبطريقة تبدو لي كأن الهواء يدخل صدري ليغسله، أنا أولي العناية لكل جسدي المنضبط تمامًا، ثم أتقدم.
كم أندهش وأنا أحس بصحتي تُسترَدُّ سريعًا، لدرجة أنني اعتقدت أنني كنت أبالغ في حالتي الصحية، وشككت أنني كنت مريضًا وضحكت من دمائي التي بصقتها، وأسِفتُ؛ لأن شفائي لم يستغرق سوى القليل من الوقت.
كانت عنايتي بنفسي بالغة الأهمية في البداية، وأنا أجهل حاجات جسمي، وتذرعت بالصبر، وتملكتني مهارة شديدة، لدرجة أنني رحت أتصرف وكأن الأمر لعبة، برغم كل الحذر والعناية، أما الذي جعلني أعاني كثيرًا فهو حساسيتي المرضية لأقل تغيُّر في درجات الحرارة، فبرغم أنَّ رئتيَّ الآن قد شُفِيَتا؛ فإنني يمكنني أن أغدو عصبيًّا، حساسًا للمرض، وأحاول أن أتغلب على كل هذا، وأن أرى البشرة تصطبغ وتخترقها أشعة الشمس، والناس الذين يعملون في الحقول يفتحون ستراتهم، وكأنهم يصبغون بشراتهم مثلي.
ذات يوم رحت أخلع ملابسي، وأخذت أنظر إلى نفسي. لم تجعلني رؤيتي لجسمي النحيف ولكتفي أستطيع أن أتراجع إلى الوراء؛ ولكن ملأني الخجل لجسمي الأبيض ولبشرتي التي تلونت، ورحت أذرف الدمع. وسرعان ما ارتديت ملابس. وبدلًا من النزول إلى «أمالفيا» مثلما اعتدت أن أفعل، توجهت إلى الصخرة مغطاة بالأعشاب والحشائش، بعيدة عن العمار، وعن الطرق، حيث أعرف أن أحدًا لن يراني، وهناك بدأت أخلع ملابس ببطء، وبدا الجو مليئًا بالحيوية، لكن الشمس حامية، رحت أقدم جسمي للهيبها. أجلس، وأنام، وأدور. وأحسست بالأرض الصلبة من تحتي، تثيرني حركة الأعشاب المجنونة، وتحت الرياح كنت أرتعد، وأهتز لكل هبة ريح، وبدت سيقاني ضعيفة للغاية، وتوافد كل وجودي نحو بشرتي.
أقمنا في «رافيلُو» خمسة عشر يومًا، كنت أتوجه فيها كل صباح إلى هذه الصخور من أجل إجراء علاجي، وأصبح خلع ملابس التي تعطيني أمرًا ممتعًا ورائعًا.
وفي صباح أحد هذه الأيام الأخيرة «كنا في منتصف شهر أبريل» اشتدت جرأتي في منحنيات الصخور التي أتكلم عنها، رأيت نبعًا تنساب مياهه كأنه شلال، وإن كان يبدو ضعيفًا، لكن تحت الشلال هناك حفرة عميقة تتحرك فيها مياه نقية.
لقد جئت هنا ثلاث مرات، وتوقفت، وتمددت فوق الحافة، وقد غمرني العطش والرغبة، رحت أتأمل أعماق الصخرة مليًّا حيث لا يمكن أن نكتشف أي شائبة، ولا نبتة عشب واحدة، أما الشمس فهي لا تكاد تختفي حتى تعود. في هذا اليوم الرابع تقدمت نحو الماء، وكان عومي أكثر شدة من أي فترة سابقة، ودون أدنى تفكير غصت بكاملي في داخله، لكنني سرعان ما تركت المياه وتمددت فوق العشب تحت الشمس، هناك حيث تتشابك فروع النعناع المعطر … رحت أجمعها، وأمسكت أوراقها ورحت أدعكها بجسمي المبلل الذي يحترق وأنا أنظر إلى نفسي بدون أي خجل، وبكل فرحة، لم أرَ نفسي فقط قويًّا، ولكن يمكنني أن أكون كذلك مليئًا بالتناسق والحسية والجمال.
(٧)
هكذا أحسست بالسعادة إزاء كل نشاط وكل عمل أقوم به، وللتمرينات الطبيعية التي جعلت معنوياتي تتغير. لم يَبدُ لي هذا أكثر من وسيلة للراحة لم تكن كافية لإرضائي.
هناك حدث آخر، لمسته عيونكم الساخرة، وهو أنني قمت بحلاقة شعري وأنا في «أمالفيا».
كنت قد احتفظت بلحيتي حتى هذا اليوم، وبشعر حليق تقريبًا، لم تنتابني الفكرة أنني سأكون أفضل لو قمت بتغيير تصفيف شعري، وفجأة في أول يوم تعرَّيتُ فيه فوق الصخرة، راحت هذه اللحية تضايقني، وكأنها قطعة أخيرة من الملابس لم أستطع أن أتخلص منها، أحسست كأنها مصطنعة برغم أنها كانت معقوصة بعناية، ليس إلى الحد اللازم، ولكن في شكل مربع، يبدو لي أيضًا غير مريح وعبثيًّا. عندما عدت إلى غرفتي في الفندق، نظرت إلى المرآة ولم أعجب بنفسي، كان مظهري حتى ذلك الحين أشبه بشخص أجريت عليه بعض التحسينات.
حين نزلت إلى «أمالفيا» كانت المدينة صغيرة للغاية، وكان عليَّ أن أتسوق من محل شعبي في الميدان، إنه يوم السوق. كان المحل مزدحمًا، وعليَّ أن أنتظر طويلًا، لكنني لم أجد شيئًا، لا الأمواس الحادة، ولا فرشاة الحلاقة الصفراء، ولا العطور، ولا أدوات حلاقة، لا يمكن أن أتراجع.
أحسست بلحيتي تسقط تحت تأثير المقصين، وكأنني أخلع متاعبي، ملأني الشعور أنني أصبحت أفضل، ليس من الفرحة، وإنما من الخوف، لم أفكر طويلًا فيما تملكني من شعور، فقد انتابني الخوف الذي بدا لي أنه يعري فكري، أحسست فجأة أنه شيء مشكوك فيه. وعلى العكس فقد أطلقت شعري.
هذا هو الشخص الجديد، شخص يُولد في داخله حَدَثٌ مدهش، ولكن فيما بعد قلت لنفسي إنه سيكون شخصًا بالغ الأهمية، عليه أن يحيا، وأن ينتظر، رحت أتأمل — مثلما فعل ديكارت — بطريقة يمكن السير على هداها، لدرجة أن «مارسلين» نفسها قد خُدِعَت حين شاهدتني، تُرى هل تغيرت نظرتي حقًّا، خاصةً في ذلك اليوم الذي ظهرتُ فيه بلا لحية؟ ربما أقلقتها ملامحي الجديدة، ولكنها تحبني كثيرًا حين تراني؛ لذا رحت أتصرف معها بأفضل ما يكون، فهي تحرص ألا تزعجني وهي تختلس نظراتها. لذا كان عليَّ أن أختفي.
وبرغم أن «مارسلين» كان عليها أن تحب من تتزوجه؛ فإن هذا ليس هو «كياني الجديد»، وقد قلت هذا مرارًا؛ كي أحرض نفسي على التخفي، ولم أكشف لها سوى صورة أكثر ثباتًا، وأمانة للماضي، لكنها أصبحت مزيفة يومًا وراء يوم.
ظلت علاقتي ﺑ «مارسلين» ثابتة، ونحن ننتظر، مهما حدث، يومًا وراء آخر. يكللها حب كبير. كان اختفائي (إذا كان علينا أن نسمي حاجة الجسم للتفكير بهذا الاسم) قد زاد، أعني أن هذه اللعبة قد شغلتني عن «مارسلين» بلا توقف، وربما أن كل هذا الكم من الكذب قد كلفني إيَّاها، ولكنني سرعان ما فهمت أن الأشياء التي تزايدت، كالكذبات، ولا شيء آخر عداها. لم تكن الممارسة، ولكنها أصبحت سريعة، ومبهجة، ومن الرقة أن نفعلها وتبدو أمورًا عادية.
وأيضًا بالنسبة لكل شيء يبدو فيه الفساد مهزومًا، بلغت درجة من الإحساس والمتعة في هذا الاختفاء لم أعرفها من قبل، مثل لعبة الشموليات المجهولة، وفي كل يوم رحت أتوغل في حياة أكثر ثراءً وأكثر امتلاءً، قادتني نحو سعادة كاملة.
(٨)
كان الطريق من «رافيلُو» إلى «سورنته» جميلًا مثلما تمنيت، ففي هذا الصباح بدا كل شيء جميلًا فوق الأرض، من انحدار الصخرة الحاد إلى انسياب الهواء والبساطة، كل شيء يملؤني بسحر رائع للحياة، ويكفيني إلى درجة أن مجرد نسمة خفيفة من السعادة تبدو وكأنها تسكن داخلي … تنساب الذكريات والاعتذارات والآمال ومشاعر الخوف من المستقبل نحو الماضي، فأنا لم أعرف من الحياة سوى ما يأتي به الحاضر … هتفت: «يا لها من فرحة!» وأحسست أن عضلاتي قد استردت عافيتها.
رحلت في ساعة مبكرة، سابقًا «مارسلين» التي بدا عليها الهدوء والارتياح أكثر مني، ولأن خطواتها تجعلني أُبطئ خطواتي، فقد راحت تلحقني بسيارة في «بوزيتانو» حيث كان علينا أن نتناول الغداء.
عندما اقتربت من «بوزيتانو» فوجئت — حين سمعت أصوات تروس — كأنها تشدو بأغنية غريبة، لم أرَ شيئًا في بادئ الأمر بسبب انحدار الطريق عند أطراف صخور الشاطئ، وفجأة برزت عربة على الطريق، إنها عربة «مارسلين»، كان الحوذي يغني ويمايل رأسه بحركات ظاهرة وهو واقف يضرب حصانه بوحشية جنونية. يا للبشاعة!
راح يمرق أمامي وكأن ليس لديه وقت، ولم يتوقف لندائي … هرولت، ولكن العربة ولت الأدبار.
ارتعدت فجأة، انطلق الحصان، أرادت «مارسلين» الهروب، ولكنها وجدتني قريبًا منها، وما إن رآني الحوذي حتى استقبلني بشتائم بذيئة، أحسست بالغضب من الرجل، وعند أول شتمة قفزت عليه وألقيته بعيدًا. ورحت أدور معه فوق الأرض، ولم أفقد توازني.
بدا مبغوتًا بسقطته وبهذه اللكمة التي لكمتها في وجهه عندما أحسست أنه سيعضني، ومع ذلك لم أتركه، وضعت جبهتي فوق صدره. وحاولت أن أسيطر على ذراعيه، ونظرت إلى وجهه الذي زادت قبضتي من بشاعته، راح يبصق، وسال لعابه، ونزف وهو يشتم: آه، أيها المخلوق المرعب! بدا الخنق أمرًا شرعيًّا، ولعلي سوف أفعل ذلك … على الأقل فقد أحسست أنني قادر على أن أفعل ذلك، وأعتقد أن فكرة وجود الشرطة جعلتني أتوقف.
وبكل صراحة ألقيته — وكأنه حقيبة — في العربة.
آه! يا لها من نظرة! ويا لها من قبلة تبادلناها! لم يكن الخطر جسيمًا، ولكن كان يجب أن أكشف عن قوتي لكي أحميها، شعرت أنني يمكن أن أهبها حياتي، وأن أعطيها كل السعادة … بدا الحصان جائحًا، صعدنا إلى السياج معًا، ونحن في أحسن حال.
في هذه الليلة امتلكت «مارسلين».
هل فهمت كيف أقول إنني جديد في مسائل الحب؟ ربما لهذا طالت ليلة عرسنا حتى هذه الليلة … لأنه يبدو لي — وفي ذاكرتي الآن — هذه هي أول ليلة تحول فيها الحب إلى لذة ومتعة، وأن ليلة واحدة تكفي لحب كبير، وطالما أن ذاكرتي تدفعني إلى أن أتذكر هذه الليلة فإن ضحكة انطلقت لحظة انغمست فيها أرواحنا … لكن أعتقد أن هناك حبًّا فريدًا، وأن الريح تحاول — بلا جدوى — أن تتجاوز، وأن الجهد الذي يبذل لبعث سعادته على المرء أن يبذله، وأن لا شيء يحجب السعادة مثل الذكريات السعيدة. آه! كم أتذكر تلك الليلة!
كان فندقنا خارج المدينة محاطًا بالحدائق والرياض، وهناك شرفة واسعة لغرفتنا تملؤها الأغصان، يدخل الفجر من فتحاتها الواسعة، أتحرك برقة ولطف وأحتضن «مارسلين» وهي نائمة، أحس بنفسي أكثر قوة، أما هي فأكثر رقة وهشاشة، برغم أن بعض الأفكار الصاخبة تعصف برأسي، فكرت أنها لم تكذب حين قالت: إنني كل شيء في حياتها، ثم قلت توًّا لنفسي: ماذا فعلت كي أسعدها؟ فأنا أتركها دائمًا كل يوم، وهي دائمًا تنتظرني … ملأت الدموع عيني، وبلا جدوى رحت أبحث وسط ضعفي السابق عن وسيلة للاعتذار، ماذا عليَّ أن أفعل الآن؟ ألست أقوى منها في هذه اللحظة الآن؟
لقد هجرت الابتسامة وجنتيها، وبرغم أنها تزين كل شيء، فإن الفجر بدا لي حزينًا وشاحبًا، وربما اقتراب النهار جعلني أحس بالشجن: هل جاء اليوم الذي يجب فيه أن أعتني بك؟ كم أنا قلق بالنسبة لك يا «مارسلين»؟ رحت أكتب ذلك في داخلي وأنا أرتعد، وقد امتلأتُ بالحب والشفقة والرقة، وطبعتُ بكل سكينة فوق عينيها المغلقتين، الأكثر شفافية، أحلى قبلات الحب.
(٩)
كانت الأيام التي عشناها في «سورنته» سعيدة وهادئة، لم أذُق قبل ذلك طعمَ هذه الراحة والسعادة، ولا أظن أنني سوف أتذوق مثلها فيما بعد! كنت دائمًا على مقربة من «مارسلين»، لم أعد أهتم بنفسي إلا قليلًا، انشغلت بها، أو رحت أبحث عن كل وسيلة لإسعادها. تلك السعادة التي وفرتها لي في الأيام السابقة حين كنت ملتزم الصمت.
أصابتني الدهشة حين أحسست أن حياتنا تائهة، كنت أتصور أنني أشعر برضاء تام، لم أكن أنظر إليها إلا كحالة مؤقتة، بدا لي أن هذا الإعراض عن الحياة ناتج من أنني أصبحت لا أعطيها الوقت الذي تستحقه، ولأول مرة تولدت لديَّ رغبة للعمل من الفراغ، خاصةً أن صحتي قد تحسنت، ورحت أتكلم بجدية عن العودة، وعن الفرحة التي تبدو ظاهرة في «مارسلين»، وأدركت كم كانت تفتقدها منذ أمد طويل.
في تلك الآونة، بدأت بعض أشياء التاريخ تفقد مذاقها، وكما قلت لكم، فإنه منذ إصابتي بالمرض، فإن المعرفة المجردة والمحايدة للماضي بدت لي بلا جدوى، وفكرت أنني يمكن أن أنشغل بأبحاث «أبيولوجيا»، وأن أحدد — مثلًا — مدى تأثير «الغوطيين» على تفتيت اللغة اللاتينية، وأن أتجاهل وأهمل وجوه كل من «تيودوريك» و«كاسيدور»، وأما لسونت ومشاعرهم العظيمة حتى لا ألهث في البحث عن علامات محددة من حيواتهم.
الآن، فإن هذه العلامات من الفقه الكامل لم تكن بالنسبة لي سوى أفضل وسيلة لهذه الموهبة المتوحشة المتعاظمة، والتي تبدو نبيلة، صممت أن أنشغل بهذا العصر القديم، وأن أحدد إحدى الفترات الزمنية في السنوات الأخيرة من الإمبراطورية «الغوطية»، وأن أضع تصورًا عن المسرح.
ولكنني أعترف أن وجه الملك الشاب «أتارفيك» قد جذبني كثيرًا، تخليت عن هذا الطفل ذي الخمسة عشر ربيعًا وقد انغمس تمامًا مع الغوطيين، وهو يتمرد ضد أمه «أما لسونت» ثم يقاوم ضد تربيته اللاتينية، ويلقي عن كاهله بالثقافة كحصان يحمل سرجه كاملًا، ويفضل المجتمع الغوطي الدوني عن العجوز كاسيدور بالغ الحكمة، والذي تذوق لبضع سنوات — مع قسوة من هم في سنه — عنف الحياة ولذة الحرمان؛ كي يموت في الثامنة عشرة من عمره، وقد أفسد كل شيء بعد أن أسكرته الغواية، وجدت في هذه الفقرة المأساوية حالة أكثر وحشية وحسية، شيئًا ما مما كانت «مارسلين» تسميه وهي تبتسم ﺑ «قضيتي». كنت أبحث عن توافق أطبقه على روحي حتى لا أشغل جسدي. ومن خلال موت «أما لريك» المرعب رحت أقنع نفسي أنني يجب أن أقرأ ذلك على أنه مجرد درس من الدروس.
بعد «رافن» رحنا في جولة لمدة خمسة عشر يومًا، رأينا «روما» و«فلورنسا» على عجالة، ثم تركنا مدينة «البندقية» و«فيرونا»، وفوجئنا بأن الرحلة انتهت، وأنه ليس أمامنا سوى أن نتوقف في «باريس». وعهدت في نفسي لذة جديدة، هي الكلام عن المستقبل مع «مارسلين»، وبقينا على غير يقين فيما يتعلق بموضوع وظيفة الصيف. أصابنا الملل من السفر، وقررنا ألا نرحل.
تمنيت أن تتاح لدراستي الوقت الطويل والهدوء العميق، وفكرنا في امتلاك قطعة أرض كانت تملكها أمي فيما قبل، قضيت فيها معها بعض فصول الصيد إبَّان طفولتي، كان أبي قد عهد لأحد الحرس برعايتها والسهر عليها، لقد غدا رجلًا عجوزًا، أما الأرض فتبدو الآن وكأنها تخصه أكثر، فهو يرسل لنا ريع الحقل بشكل منتظم، هناك منزل كبير ومريح في حديقة مليئة بالمياه المتدفقة تركت في نفسي الذكريات السعيدة تُسمى «لامورنيير».
وبدت لي أنها قد تكون مسكنًا مناسبًا.
كنت قد خصصت الشتاء القادم لقضائه في روما من أجل العمل وليس للسفر، ولكن هذا المشروع الأخير سرعان ما انقلب، ففي بريدنا الهام الذي ننتظر وصوله منذ وقت طويل، علمنا من رسالة مفاجئة أنه يوجد مقعد شاغر في «الكوليج دو فرانس»، وأن اسمي قد رشح لمرات عديدة، لم يكن هذا بذلك سوى رجاء، ولكن مَن يترك لي في المستقبل حرية التصرف؟ أشار لي الصديق الذي أخبر بالأمر ووددت أن أوافق؛ فهناك بعض الإجراءات البسيطة التي علينا اتخاذها. وراح يضغط عليَّ بقوة أن أقبل، ترددت وأنا أتصور العبودية تقيدني، ثم فكرت أنه من المهم أن أعرض أعمالي في محاضرة عن كاسيدور، وأحسست بالسعادة أنني سأبلغ قراري إلى «مارسلين»، خاصةً بعد أن اتخذته بشكل نهائي.
كان أبي قد عقد العديد من الصلات التي استكملتها بنفسي من خلال المراسلات، جعلتني هذه الطريقة أمارس البحث الذي أريده في «رافن» وفي أماكن أخرى. لم أكن أفكر إلا في العمل، وكانت «مارسلين» توليه ألف عناية وألف اهتمام.
بدت سعادتنا كبيرة في نهاية هذه الرحلة، وهادئة لدرجة لا أستطيع أن أحكيها، فأفضل الإبداع الإنساني قد تم من خلال المعاناة الحقيقية.
كيف ستكون السعادة؟ ترى مَن يصنعها؟ ومَن يهدمها؟ ومَن يحكي عنها؟ أرد عليكم وأقول: إنني الذي صنعت هذه السعادة.