القسم الثاني
(١)
إلى «لامورنيير» في الأيام الأولى من شهر يوليو، لم نتوقف في «باريس» إلا للضرورة ومن أجل التموين، وللقيام ببعض الزيارات القليلة.
أخبرتكم أن «لامورنيير» تقع بين «ليزيو» و«كوبري القس» في البلاد الأكثر ظلالًا، وأكثر البلاد التي عُرفت تشبعًا بالماء، إنها مليئة بالتعاريج والمنحنيات الضيقة التي تؤدي إلى ساحل «أوج» المتسع الذي يطل مباشرةً على البحر، وعلى مسافة قريبة، فإن الغابات الكثيفة يملؤها الغموض.
هناك يوجد بعض الحقول، وعلى مقربة منها، توجد المراعي الكثيفة التي يبدو فيها العشب وكأنه ينمو منذ سنتين، وأشجار تفاح عديدة، وعند غروب الشمس تصنع الظلال التي تمر من بين فروع الأشجار أبراجها، وفي كل حفرة توجد المياه والبرك والطمي حيث نسمع النهر وهو لا يكف عن التدفق.
آه! كم أعرف المنزل عن ظهر قلب! أسقفه الزرقاء، وجدرانه المشيدة من الطوب والحجارة والخنادق، وانعكاسات الشمس فوق المياه الراكدة … إنه بيت قديم سكنا فيه قرابة اثني عشر عامًا، كان ﻟ «مارسلين» ثلاثة عشر خادمًا يساعدونها، فضلًا عني، لقد نجحنا أن نشكل حزبًا، أما حارسنا العجوز الذي يُسمى «بوكاج» فقد راح يبذل كل ما لديه من أجل تجهيز بعض الغرف.
لقد استيقظ أثاث الغرفة من نومه بعد عشرين عامًا من الرقاد، بقي كل شيء هناك كما هو مائل في ذاكرتي، كانت النقوش لا تزال مهدمة، أما الغرف فلم يسكنها أحد قط، وكأنها مستعدة لاستقبالنا. «بوكاج» يملأ كل الزهريات بالورود التي وجدها أمامه، وراح يعزق ويجرف الحوش الكبير والحديقة القريبة من الممرات، لقد عاد لنا البيت الكبير أخيرًا، وتسلل إليه الشعاع الأخير من الشمس، أما الوادي فقد ملأه الضباب الذي يبدو كأنه يطير حين يبلغ النهر.
وقبل أن أصل بقليل تعرفت على رائحة العشب، وعندما قمت بدورة حول المنزل سمعت زقزقات البلابل، وانتفض الممر وكأنه ينتظرني ويعرفني، ويريد أن يمنع اقترابي منها.
وخلال بضعة أيام، أصبح المنزل أكثر ملاءمة، وأصبح في إمكاني أن أبدأ العمل، فرحت أسمع وأتذكر كل الماضي، ثم رحت أحسُّه بمشاعر جديدة، وقد حدثتني بعد وصولنا بأسبوع أنها حامل.
بدا لي منذ تلك الآونة أن عليَّ أن أعتني بها من جديد، وأن لها الحق في المزيد من الحنان، على الأقل في الفترة الأولى التي أعقبت تصريحها؛ حيث رحت أقترب منها كل ساعات النهار، كنا نجلس على مقربة من الغابة فوق المقعد الذي كنت أجلس عليه سابقًا مع أمي، هناك تنتابنا الرغبة في كل لحظة، تجري الساعات بسرعة، لم ترتبط بذاكرتي أي غريزة في هذه الفترة، ولم أحتفظ منها بأقل قدر من الذكرى، ولكن برغم أن كل شيء ينغمس فيَّ، فإن الأمور قد تشكلت في شكل واحد؛ حيث يندمج المساء بالصباح بلا فاصل، وترتبط الأيام ببعضها البعض بدون إحداث أي مفاجأة. استعدت قدرتي على العمل ببطء، وبروح هادئة، ساكنة، واثقًا في قوتها، متطلعًا نحو المستقبل بكل ثقة، وبإرادة قوية، كأنني أسمع نصيحة تنبعث من هذه الأرض البسيطة.
رحت أفكر أن هذه الأرض التي تنمو فيها كل الفواكه والعشب الكثيف قد تركت أثرها عليَّ، وهو أثر ممتاز، ورحت أتأمل المستقبل الهادئ الذي يتمثل في هذه المراعي الوفيرة، وأشجار التفاح التي تطرح نباتات من أفرعها المدلاة فوق التلال التي أثمرت في هذا الصيف محصولًا رائعًا، رحت أتخيل، تُرى أي تلك الأفرع سوف يمتلئ بالفواكه التي تنمو فوق زرعها من هذا الرخاء المبهج، وهذه الزراعات المزهرة؟ هناك إيقاع لحني متناسق، ليس فجائيًّا ولكن وطيد، إيقاع متناسق، جمال إنساني وطبيعي، لا نعرف ماذا يعجبنا، يختلط مع الخصوبة المتفجرة للطبيعة الحرة، وبمعرفة الإنسان الذي ينظمها.
رحت أتساءل: ترى ماذا تكون هذه المعرفة؟ وهل هناك إمكانية لإنقاذها؟ ماذا ستكون الدفعة الموحشة لهذه العصارة الفائضة من مكنون الذكاء الذي يسدها ويصحبها وهو يضحك؟ تركت نفسي أحلم بالأرض التي تقوم فيها كل القوى بكل ما هو لازم، وتدبر كل المصاريف الممكنة وكل التغيرات المتاحة. وأصبح الأمر حساسًا، فها أنا ذا أطبق حلم حياتي، أشيد علم أخلاق يصبح عملًا مفيدًا للإنسان من خلال مكنونه وذكائه.
أين أغوص فيه؟ وأين أختبئ من متاعب الأمس؟ بدا لي أنني هادئ وأنها لم تكن هناك قط؛ لذا تدفق حبي الذي يكشفها جميعًا.
في تلك الآونة راح العجوز «بوكاج» يصنع الحماس من حولنا، كان يدير كل شيء، يرقب وينصح، ونحس بحاجته أن يبدو كشخص يجب عدم مناقشته، وحتى لا نجبره فقد كان علينا أن نختبر حساباته ونسمع كل تفسيراته اللامتناهية، لم يكن هذا يكفيه، كان عليَّ أن أصحبه فوق الأرض الزراعية أسمع أحكامه المثالية، وخطبه المستمرة، وأرى الرضاء التام يلفه، وخلال فترة قصيرة من الزمن راح يغطيني، فقد أصبح متعجلًا شيئًا فشيئًا، بدا لي هذا أمرًا جيدًا من أجلي، عندما يحدث شيء غير عادي فإنه يعطي علاقتنا معًا سمة مختلفة، فقد أعلن «بوكاج» ذات مساء أنه ينتظر وصول ابنه «شارل» في صباح اليوم التالي. هتفت بصوت ذي نبرة مختلفة: آه! فحتى تلك الفترة لم أكن أعرف الكثير من مشاعر الأطفال حتى أفهم «بوكاج»، ثم رأيت أن اختلافنا قد مسه، وأنه كان ينتظر مني بعض دلائل الاهتمام والدهشة، سألته: أين هو الآن؟
ردَّ «بوكاج»: في مزرعة نموذجية، قريبة من البنسيون.
أكملت: لعله الآن قد اقترب من …
رحت أخمن مَن هذا الابن الذي لم أكن أعلم بوجوده حتى تلك اللحظة، وتكلَّمت ببطء كي أترك له فرصة مقاطعتي، ردَّ «بوكاج»: سبعة عشر عامًا مضت، لم يكن عمره أكبر من أربع سنوات عندما ماتت السيدة أمك. آه إنه شاب كبير الآن، وقريبًا سوف يصبح أطول من أبيه … وعلق «بوكاج» ذات مرة أن لا شيء يمكن أن يوقفه بعد أن بدا أنني أحسست بالملل.
في صباح اليوم التالي لم أفكر إلا في هذا الأمر، وعندما جاء «شارل» في نهاية اليوم، راح يلقي بتحيته ﻟ «مارسلين» ولي. بدا شابًّا جميلًا موفور الصحة، ومرن الجسم، ووسيمًا وهو بملابسه المدنية الأنيقة التي ارتداها على شرفنا، ولم يستطع أن يجعل منها شيئًا سخيفًا، أضاف خجله على ملامحه بعض الحمرة الطبيعية.
بدا في الخامسة عشرة من عمره، اكتست نظراته بملامح طفولية، راح يتكلم بسلاسة بدون أن يحس بأي خجلٍ، وعلى عكس أبيه، لم يكن يتكلم لمجرد الكلام، لا أذكر في أي موضوع تناقشنا في الأمسية الأولى، انشغلت بالنظر إليه، لم أجد شيئًا أقوله، وتركت «مارسلين» تتحدث إليه، ولكن في اليوم التالي وللمرة الأولى لم أنتظر أن يجيء العجوز كي يأخذني إلى المزرعة، حيث عرفت أن الأعمال قد بدأت.
كان الأمر يتعلق بإصلاح بِركة، إنها البركة الكبيرة التي كانت تسرب المياه، عرفنا مكان التسرب من أجل أن نوقفه بالأسمنت، يجب أن يبدأ الأمر بتفريغ البركة من المياه، لم نفعل هذا منذ خمسة عشر عامًا، هجرتها أسماك «السبوط» و«الكمة» وتضخم بعضها في الأعماق، أردت أن أجمعها في مياه الخندق وأن أعطيها للعمال، مما أضاف شيئًا من متعة الصيد إلى العمل، معلنًا عن إعادة الحياة إلى المزرعة، وسرعان ما جاء بعض أطفال الضواحي واختلطوا بالعمال، أما «مارسلين» فقد تأخرت عن الانضمام إلينا.
انخفض منسوب المياه قبل فترة طويلة من وصولي، كان أحيانًا يعلو فجأة فوق السطح فتظهر الأسماك السمراء الشفافة في وسط المستنقع، ويقف الأطفال الموحلين وهم يلتقطون الأسماك الصغيرة، ثم يلقونها في جرادل مليئة بالمياه النقية في مياه البركة، وما تلبث حركة الأسماك أن تعكرها وتصبح بين لحظة وأخرى كثيفة ومعتمة. زادت الأسماك هناك، ولو وضعت يديك مصادفةً فإنها ستمتلئ بالأسماك، أحسست بالأسف أن «مارسلين» قد انتظرت، وقررت أن أبحث عنها عندما انطلقت التهليلات معلنة عن ظهور سمك «الأنفلس»، لم ينجح أحد في الإمساك بإحداها، فهي ما تلبث أن تنزلق بين الأصابع، لم يتمكن «شارل» من الإمساك بها، وكان يقف قريبًا من أبيه، فجأة خلع جوربه وحذاءه ووضع سترته جانبًا، وشمَّر بنطاله عاليًا وأكمام قميصه، وانغمس في الطين المتحرك، ولتوي رحت أُشجعه.
صحت: حسنًا يا «شارل»، هل عدت بالأمس؟
لم يرد، راح ينظر إليَّ وهو يضحك، وقد انشغل تمامًا بصيده، ناديته كي يساعدني في أن أحاصر إحدى السمكات، وتماسكت أيادينا من أجل الإمساك بها، ثم رحنا نمسك واحدة أخرى. ملأ الوحل وجوهنا، وأحيانًا كنا نغوص فجأة في الماء حتى الركب، فنبتل تمامًا، ورحنا نتبادل بعض الصيحات أثناء اللعب، وفي آخر النهار لاحظت أنني رفعت الكلفة عن «شارل». بدون أن أعرف متى بدأ هذا الحادث المشترك الذي علم كل منا أنه لا يمكن أن نتحدث طويلًا. لم تكن «مارسلين» قد جاءت، ويبدو أنها لن تجيء ولم أحس بالأسف لغيابها، بدا لي أن حضورها يمكن أن يفسد متعتنا قليلًا.
وفي صباح اليوم التالي خرجت لملاقاة «شارل» في المزرعة، ثم توجهنا معًا نحو الغابة.
اندهشت وأنا الذي لا أعرف أرضي جيدًا وأشعر بالقلق لأنني لا أعرفها، ولأن «شارل» يعرفها أفضل، خاصةً المنتجات الزراعية، راح يعلمني ما سبق أن تعلمته من ستة مزارعين، وأخبرني أنني يمكن أن أكسب النصف لو قمت بإصلاح المزرعة من جميع النواحي. ثم ابتسم وهو يفحص الزراعات، مما جعلني أتشكك في أن أرضي يمكن أن تصبح ممتازة أكثر مما كنت أعتقد، وأنني يمكن أن أولي بها إلى «بوكاج».
فاتحت «شارل» في هذا الموضوع، وبدا على الطفل العملي أنه يعمل على تسليتي بذكائه، فقد رحنا نتنزَّه يومًا وراء يوم، كانت ممتلكاتي واسعة، وعندما نفتش كافة الجوانب نبدأ بأكثرها تقليدية، لم يُخفِ «شارل» عني مشورته عند رؤية بعض الحقول مزروعة بشكلٍ سيِّئ.
فهناك مساحات استولت عليها أعشاب القرنيات، والأشواك، والحشائش الجافة. كان يعرف كيف يجعلني أشاركه كراهية هذه الأرض، وأن أحلم معه بزراعة أفضل.
قلت له: لكنني أعاني من الأشخاص المُدعين، هل المزارع الحقيقي موجود؟ ربما أن إنتاج المزرعة لا يفي بثمن المنتجات الحقلية.
أحس «شارل» بالغضب، وقال: لو سمحت لي أن أرد، فأنت لا تعرف شيئًا ابتسمت ولا تهتم بالعائد، ألم تلحظ أن العائد قد قل؟ أرضك غير مزروعة جيدًا، إنها تفقد قيمتها ببطء.
– لو تمت زراعتها بشكل أفضل فإنني أشك أن المزارع لن يستغلها، أعرف أنه يمكن أن يحصدها كما يجب أن يكون الحصاد.
أكمل «شارل»: أنت لا تدخل الأيدي العاملة في الحساب. فهذه الأرض بعيدة أحيانًا عن المزارع، وعند زراعتها لن تدر شيئًا، أو هكذا تقريبًا ولكنها على الأقل لن تبور.
استمر الحوار لمدة ساعة ونحن نخترق الحقول وبدا لنا أننا نكرِّر نفس الشيء، ورحت أستمع إليه كل يوم، وقلت له يومًا وقد نفد صبري: على كُلٍّ، فهذا يرجع لأبيك.
أصابت الحُمرة «شارل» قليلًا، وقال: أبي رجل عجوز، وعليه أن يسهر على الناحية الجمالية، فيهتم بالمباني، والقيام بأعمال المزرعة على أحسن واجب، وليست مهمته الإصلاح.
أكملت: أي إصلاح تود؟
تهرَّب من الإجابة زاعمًا أنه لا يعرف شيئًا. وتحت إلحاحي الشديد رحت أشرح له وأنا أضيف: نضم إلى المزارع كل الأرض التي أهملت زراعتها، فإذا ترك الزُرَّاع جزءًا من أرضهم بورًا؛ فإن هذا دليل أن عليهم أن يدفعوا لك الكثير لإصلاحها، أو يمكنهم أن يزعموا أشياء كثيرة، فيروحوا ينقصون ثمن المنتجات الزراعية، الناس كسالى في هذا البلد.
– كانت هناك ست مزارع استعدتها بإرادتي، وتقع فوق التل الذي يطل على «لامورنيير»، كان اسمها «لافالتري»، لم يبدُ المزارع الذي يتولاها شخصًا جذابًا عندما تحدثت معه، وقريبًا من «لامورنيير» هناك مزرعة تُسمى «مزرعة العقد» أجر «بوكاج» نصفها بطريقة المشاركة مستغلًّا غياب المالك، وملكيته لجزء من الماشية. الآن وُلِدَ التحدي، وبدأت أشك في ذمة «بوكاج» نفسه وأنه قد خدعني، أو على الأقل أنه قد ترك البعض يخدعونني، حقًّا إنه احتفظ لي بإسطبل وزريبة، لكن بدا لي أنها لم تخصص إلا للمزارعين لكي يطعموا أبقارهم وجيادهم بالقرطم الذي أملكه، وعلفي.
تنامت إلى مسامعي أخبار عديدة أن «بوكاج» — من وقت لآخر — كان يعطيني الإيحاء أنها قد نفقت، أو ماتت أو مريضة، وقد ارتضيت بكل هذا، يكفيني أن تسقط إحدى الأبقار مريضة كي تصبح بقرتي، لم أفكر في أن ذلك يمكن أن يكون حقيقة؛ فإذا تحسنت بعض الأبقار بعيدًا فهي بقرة المزارع، هنا بدأت بعض تعليقات «شارل» تفلت منه، وكشف بعض الملاحظات الشخصية لي، وسرعان ما استيقظ ضميري.
راحت «مارسلين» تضع كل شيء في الحسبان، برغم أني حذرتها أن تفعل ذلك، لكنها لم ترتكب أي خطأ، أفلتت منها مسألة عدم أمانة «بوكاج»، ماذا نفعل؟ هل نطرده؟ رحت أتدبر الأمر بغضب وقررت أن أرقب الحيوانات وألا أتركها بعيدة عن ناظري.
كان لدي أربعة جياد وعشر بقرات، وهناك ما يمكن تسميته «مُهر» برغم أنه كان هناك منذ ثلاث سنوات ولم نهتم بالاعتناء به، بدأت أهتم به فعلًا عندما بدا لي ذات يوم أنه شرسٌ للغاية، وأنه لا يمكن أن يكون مفيدًا لنا، ومن الأفضل أن أتخلص منه، وحتى لا يتسرب إليَّ الشك فقد كسر مقدمة عربة صغيرة، ولوَّث العراقيب بالدماء.
رحت أحتفظ بهدوئي في ذلك اليوم، وما أثارني هو اهتمام «بوكاج»، لاحظت أن به ضعفًا وسوء نية، فالخطأ هو أن يحس الخدم أن لا أحد يوجههم.
خرجت إلى الحوش لأرى المهر، ما إن سمعني حتى اقترب، راح الخادم الذي يضربه يداعبه، وتصرفت كأنني لم ألحظ شيئًا، لم أكن أعرف الكثير عن الجياد، ولكن هذا المهر بدا لي جميلًا، ذا شكل جذاب، وتشع الحيوية من عينيه، وتبدو خصلته وذيله ذواتي لون أشقر. تأكدت أنه لم يُجرح، وبُلغتُ أنهم قد ضمدوا جراحه، ولم أنطق بكلمة واحدة.
وفي المساء، ما إن رأيت «شارل» حتى حاولت أن أعرف رأيه في «المهر» فقال لي: أعتقد أنه رقيق، ولكنهم لا يعرفون معاملته، وسوف يدفعونك إلى أن تفقد أعصابك!
– كيف تزعم ذلك؟
أجاب: ألَا يريد السيد أن يجعلني مسئولًا عنه ثمانية أيام؟
– ماذا ستفعل به؟
– سوف ترى.
في صباح اليوم التالي صحب «شارل» المُهر في ركن من المراعي تتكثف فيه الأشجار، ويحيط به النهر، في حين رحت أرافق «مارسلين». بدا أكثر حيوية، ربط «شارل» المهر بحبل طوله عدة أمتار في وتد مثبت في الأرض. بدا المهر عصبيًّا وغاضبًا، وراح يضرب في الهواء، ثم برك وقد أصابه التعب، ثم استدار بطريقة بالغة الهدوء، كان يبدو محببًا بكل ما به من خفة، ويبدو للعين جذابًا وكأنه يرقص.
وقف «شارل» في منتصف الدائرة يتجنب في كل دورة أي قفزة مفاجئة، ويروح يهدئه بكلمة ويمسك سوطًا في يده لم يستخدمه، بدا كل شيء طبيعيًّا في حركاته وشبابه وبهجته، مما أعطى هذا العمل مظهرًا يبعث على الفرحة، فجأة، لم أعرف كيف امتطى الحيوان، كان يعرف كيف يبطئ حركاته، ثم يتوقف، داعبه خفيفًا، ثم رأيته فوق المهر، والآن يلمس شعره ضاحكًا ويطيل مداعبته، ظل المهر مركوبًا لحظة، بعد أن صار جميلًا ومرنًا مثلما أراد «شارل». قلت له: بضعة أيام من التدريب ولن يضايقه السرج. وبعد أسبوعين سوف تجرؤ «مارسلين» على أن تركبه، سيكون رقيقًا كالحمل.
ردَّ: «حقًّا»؟ وبعد أيامٍ استسلم الحصان للمداعبة، وتصرف بدون تحدٍّ، وركبته «مارسلين» عندما كان عليها أن تجتاز هذا الاختبار، ثم سمعت «شارل» يقول: يجب أن يجرب السيد.
هذا هو ما لم أحاول أن أفعل، ولكن «شارل» اقترح أن أسرجه من أجله، أو أي حيوان آخر في المزرعة، وكانت صحبته تجعلني أشعر بالمتعة.
كم أنا مدين لأمي، إنها جعلتني أروض الخيل أثناء شبابي الأول، لقد أفادتني هذه الذكرى البعيدة من الدروس الأولى، لم أشعر بالدهشة لجلوسي فوق السرج، وخلال لحظات قليلة لم أعد أخشى شيئًا، أحسست بأنني على راحتي، وكان الحصان الذي يركبه «شارل» أكثر ثقلًا، وبلا أصل، ولكن رؤيته لم تكن تسر، خاصةً أن «شارل» كان يمتطيه بشكل جيد. اعتدنا أن نخرج قليلًا كل يوم، وكنا نفضل أن نخرج في الصباح إلى البراري الواسعة الوردية اللون حتى نصل إلى أطراف الغابة، ثم نجتاز الممر المائي ونتبلل. ينفتح الأفق شيئًا فشيئًا، إنه وادي «أوج» الواسع، تصورنا البحر من بعيد، وقفنا لحظة بدون أن ننزل، هناك ولدت الشمس ملونة، وأشرقت، ثم نثرت الضباب، استأنفنا الرحيل في خُطى طويلة، إلى أن بلغنا المزرعة حيث العمل يكاد يبدأ، أحسسنا بالفرحة الممزوجة بالفخر، فقد سبقنا العمال، ثم تجاوزناهم، وعدت إلى «لامورنيير» في اللحظة التي استيقظت فيها «مارسلين».
عدتُ ثمِلًا من الهواء، مذهولًا من إيقاع الأشياء، استرخت الأعضاء قليلًا من تأثير الماء، في حين كان الأمل لا يزال مليئًا بالصحة والشهية والطزاجة. بدت «مارسلين» كأنها تود أن تشجع خيالي، جلست إلى جوار السرير تنتظرني، وانبعثت رائحة الأوراق المنداة التي تعجبها، وراحت تسمعني أحكي لها عن السباق، وعن صحوة الحقول، وبداية العمل … انتابتها فرحة عارمة، وبدت كأنها تجعلني أشعر بالحياة، وكلما غمرتها الفرحة رحت أفرط في الحكايات، فتطول فرحتنا وتنزهاتنا، مما جعلني في بعض الأحيان أعود عند منتصف النهار.
في بعض الأحيان كنت أحتفظ لنفسي — على أحسن ما يكون — بنهاية النهار والمساء كي أقوم بدراستي، وليتقدم عملي. كنت راضيًا، ولم أعتبر هذا عملًا مستحيلًا، وأنني يجب أن أستجمع كل دروسي في وقت واحد كأمر طبيعي كي تنتظم حياتي، وأنا أنظم كل شيء، لقد استحوذ عليَّ علم أخلاق الغوطيين، وانشغلت بدراستي تمامًا، واهتممت أن أختزل كل ما يمكن أن نذكره وأنا أتساءل: تُرى إلى أي مدى يمكن لهذه الحكمة أو الجنون أن يذهب بي؟
ود اثنان من المزارعين، الذين يستمر إيجارهم حتى عيد الميلاد أن يجددا الإيجار عندما قابلاني، كان الأمر يتوقف على التوقيع، تقول الورقة «وعد الإيجار». وبكل ثقة من «شارل»، وتأثرًا بأحاديثه اليومية، رحتُ أنتظر المزارعين اللذين بَدَوا قويين أكثر من أي مزارعين. طلبا في البداية تخفيض الإيجار، وبدت عليهما الدهشة عندما أخبرتهما أنني قرأت «الوعد»، وقلت أنني لا أرفض فقط تخفيض المنتجات الحقلية، ولكن أيضًا أن أخفض بعض قطع الأرض التي أحتفظ بها ولم يستخدماها. تظاهرا في البداية بالضحك، ورحت أمزح، ترى ماذا سأفعل بهذه الأرض؟ إنها لا تساوي شيئًا، وطالما لا تساوي شيئًا فإننا لن نفعل بها شيئًا … عاندا فعاندتُ من ناحيتي، تصورا أنهما يخيفانني وهما يهددانني بالرحيل، وعندما تخيلت أنني لم أسمع سوى هذه الكلمة قلت لهما: «هه! ارحلا إذا أردتما! ولن أعيدكما.»
وأمسكت «وعد الإيجار» ومزقته أمامهما.
بقيت هكذا. ماسكًا أكثر من مائة هكتار بين ذراعي، لقد وكلت إدارتها إلى «بوكاج» منذ بعض الوقت، معتقدًا أنها سوف تُدار بشكل غير مباشر من «شارل»، وتصورت أنني يمكن أن أهتم بها من ناحية أخرى، ولم أفكر طويلًا في هذا الأمر، الخطر هو أن العناد أمسك بي، كأن المزارعين لن يُخليا المكان إلا في عيد الميلاد. وأخبرت «شارل» بالأمر، وأسعدتني فرحته، لم يستطع أن يخفيها، مما جعلني أحس كثيرًا بشبابه.
وراح الوقت يتحرك، كنا في هذه الفترة من السنة؛ حيث تترك المحاصيل بدون جني في الحقول من أجل الحرثة الأولى، ومن خلال اتفاقٍ ما، فإن أعمال المزارع تتم وتتقاطع فيما بينها، حيث تترك القطعة تلو القطعة، خاصة التي تنمو فيها الأعشاب، رحت أشك في كراهية المزارعين البغيضة، فهم يعجبهم أن يتظاهروا بسلوك مثالي أمام ناظري «لم أعرف الهدف من ذلك إلا فيما بعد» لقد أنهك الرجل الأرض الزراعية التي استأجرها والتي ستعود إليَّ قريبًا. الآن اقترب الخريف، ويجب أن أستأجر أكثر من رجل كي أسرع من عمليات الحرث، والبذر. اشترينا نوارجَ، وقلابات، ومحارث، ورحت أتجول فوق جوادي، أرقب وأدير الأعمال، وأنا أحس بالمتعة أنني آمُرُه، وأسيطر.
في تلك الآونة، كان المزارعون في المراعي المجاورة يجمعون التفاح المتساقط، ويدورون داخل الأحراش الكثيفة التي بدت مهملة لسنوات عديدة، لم يكن هناك عدد يكفي من العمال، جاءوا من القرى المجاورة للعمل كأُجراء لمدة ثمانية أيام، كنا نتسلى أحيانًا، أنا و«شارل» فنساعدهم، يهز بعضهم الأفرع لإسقاط الثمار الناضجة، كما يتجمع جمع الثمار الساقطة تحت الأشجار، إنها دائمًا مضروبة في الأعشاب العالية، التي لا يمكن أن نمشي فيها بدون أن ندوس عليها، كانت الرائحة المنبعثة من المرعى نفاذة العبق، رقيقة، وتختلط برائحة المحاريث.
تقدم بنا الخريف، وبدت الأيام الأخيرة أكثر جمالًا وإنعاشًا وصفاءً، كان الجو أحيانًا يبدو قرمزيًّا ويصبغ الأفق بزرقة، مما جعل من النزهة سفرًا، بدا البلد كبيرًا، وأحيانًا على العكس، تجعل شفافية الجو الأفق أكثر قربًا، فنكاد نبلغه بضربة جناح، فلا أعرف أي الاثنين يملأ المكان، استمر ذلك حتى كاد العمل ينتهي، أقول ذلك لأنني كنت أشرد قليلًا. أما الوقت الذي لا أَمُرُّ فيه على المزرعة فإنني أقضيه مع «مارسلين»؛ حيث نخرج معًا إلى الحدائق، نمشي ببطء، وتضع رأسها على ذراعي حين نجلس فوق أحد المقاعد، وهناك يبدو العقيق مليئًا بالضوء في المساء. كانت لديها طريقتها الرقيقة للاتكاء على كتفي، ونبقى هكذا حتى المساء، نحس بالنهار في داخلنا بدون أن نتحرك أو نتكلم. كم عرفنا في الصمت إلى أي حد وصل حبنا! كان حب «مارسلين» أقوى من أن تعبر عنه الكلمات، وكم كنت أعاني أحيانًا من هذا الحب، وكأنه نفخة ريح قوية تهب فوق مياه آسنة، فأقل شعور يظهر فوق جبهتها يجعلني أقرأ الغموض عليها، إنها تسمع حياة جديدة تئن، تعلقت بها وكأنني في مياه عميقة نقية، بعيدة لدرجة نكاد نراها، لم نكن نرى سوى الحب. آه!
هكذا كانت السعادة، أعرف أنني أردت التمسك بها منذ تلك الآونة، مثلما تركت نفسي أستسلم ليديها القريبتَين، لكن بلا جدوى، فالمياه لا تلبث أن تنفلت، كنت أحس وأنا على شفا السعادة بأشياء أخرى غير الفرحة التي تلون حبي، وأيضًا تلون الخريف.
راح الخريف يتقدم، فيهتز العشب كل صباح، وعندما يجف يكتسب لونه الذهبي، وفي ساعات الفجر يصبح أبيض، ويحط البط فوق سطح البركة مرفرفًا بأجنحته، ويتحرك بكل وحشية، ونراه أحيانًا يطير، ويطلق صيحات عالية وهو في طيرانه العالي حول «لامورنيير»، واختفى فجأة ذات صباح، وعرفنا أن «بوكاج» قد حبسه، وأخبرني أنهم يحبسونه دائمًا في الخريف، في فترة الهجرة وبعد بضعة أيام تغير الجو، فذات مساء هبت الرياح قوية قادمة من البحر، جالبة معها المطر من الشمال، والطيور المهاجرة. كان عليَّ أن أعتني ﺑ «مارسلين» كل عناية، راحت حاجتي تدفعني للذهاب إلى المدينة، فها هو ذا الفصل السيئ قد بدأ مبكرًا، وها هو ذا ينهش أجسامنا.
راحت أعمال المزرعة تناديني في نوفمبر. كان عليَّ أن أتعلم كل الأمور من «بوكاج» من أجل الشتاء. أعلن لي عن رغبته أن يرسل «شارل» كي يستكمل تعليمه، تحدثت معه طويلًا، وجربت كل السُّبل، لكنني لم أنجح في إقناعه، كل ما وافق عليه هو أن يقصِّر فترة دراسته كي يسمح ﻟ «شارل» أن يعود في فترة مبكرة. لم يُخفِ عني «بوكاج» أن تحسن أمور المزارعين، لم يحدث بدون متاعب كبيرة، ثم راح يقدم لي اثنين من الفلاحين يأتمران بأمره، إنهما تقريبًا مزارعان، أو مستأجران، أو لعلهما خادمان. بدا الأمر جديدًا تمامًا كما تنبأ، دارت هذه المحادثة في نهاية أكتوبر، وفي الأيام الأولى من شهر نوفمبر كنا قد غادرنا المكان لنستقر في «باريس».
(٢)
سكنَّا في شقة بشارع س … قريبًا من «باسي»، أشار بها علينا أحد أشقاء «مارسلين»، الذي استطعنا زيارته أثناء عبورنا الأخير ﺑ «باريس»، إنها أكبر من تلك التي تركها لنا أبي. بدت «مارسلين» قلقة قليلًا، ليس فقط بسبب الإيجار العالي، ولكن أيضًا من كل المصاريف التي نتكبدها. رحت أهدئ من كل تخوفاتها، ورحت أجاهد كي أخفف عنها، لا شك أن مصاريف الإقامة تستهلك دخولنا في هذه السنة، لكن ثروتنا لا بأس بها، ويجب أن تزيد، اعتمدت في هذا على نشر كتابي «ويا له من جنون» وعلى الإيراد الجديد للمراعي. قلت لنفسي: إنني لن أتوقف عن أي مصروف، فقد كان عليَّ أن أقلل من إحساسي بالتشرد الذي كنت أشعر به.
كنا نقضي الأيام الأولى من الصباح حتى المساء في الدراسات. وراح شقيق «مارسلين»، مضطرًّا، يدخر لنا الكثير. أحست «مارسلين» بالإرهاق، وبدلًا من الراحة الواجبة عليها، كانت تقوم باستقبال الزوار تلو الزوار. زاد البعاد فيما بيننا، ﻓ «مارسلين» لم تعتد على الناس، ومع ذلك لم تجرؤ أن توصد أبوابها، كنت أجدها في المساء منهكة، ولم أقلق لتعبها؛ لأنني لم أعرف سببه الحقيقي، حاولت أن أقلل من ألمها، وأنا أضع نفسي دائمًا في مكانها، لكن هذا لم يبعث في قلبي التسلية. فرحت أقوم برد الزيارات للزوار، وكان هذا الأمر يساعدني أحيانًا في التسرية.
لم أكن متحدثًا لبقًا، فقد كان نزق الصالونات وروحها شيئًا لا يعجبني، ومع ذلك أحسست بالتوتر. تُرى ماذا حدث منذ تلك الآونة؟ أحسست وأنا قريب من الآخرين أنني حزين، غاضب، متضايق وثائر … ولمرات عديدة، أنتم يا من أعدكم أصدقائي الوحيدين الحقيقيين، لم تكونوا في «باريس»، وكان يجب ألا تعودوا إليها قبل فترة طويلة، هل كان يجب عليَّ أن أكلمكم؟ هل كان يجب أن أجعلكم تفهمون أفضل أنني لست أنا؟ ولكن كل ما كان ينمو في داخلي وما أقوله لكم الآن هو: ماذا كنت أعرف لقد بدا لي المستقبل شيئًا أكيدًا، ولم أصدق يومًا أنني أستطيع السيطرة عليه.
ومع ذلك فقد كنت أكثر غضبًا، فأي سبيل يجعلني أجد نفسي في كلٍّ من هويير، وديديه، وموريس وآخرين، إنني أعرفكم وأحملكم المسئولية مثلي، فسرعان ما فهمت أنه من المتعذر أن أتفق معهم، ومنذ بداية النقاشات الأولى بيننا رأيت نفسي شخصًا مزيفًا، وأن عليَّ أن أتشابه مع ما يعتقدون أنني أكونه، وأن أبدو غاضبًا، وأن أبدو في أحسن حال، وأنني أحمل نفس الأفكار والذوق الذي يتصورونه فيَّ، وأننا لا يمكن أن نكون أوفياء لذلك أو حتى نتظاهر به.
رأيت على غير رغبتي الناس من مدرستي الأثرية والفقهية، ولكنني لم أجد شيئًا أتحدث به معهم أكثر من متعة المرء ومن إحساسه وهو يتصفح قاموس التاريخ.
في البداية كنت أتمنى أن أعثر على مفهوم مباشر للحياة لدى بعض الروائيين وبعض الشعراء، ولكنهم لو كانوا يمتلكون هذا المفهوم؛ فيجب أن نعترف أنهم لم يعبِّروا عنه قط، ويبدو لي أن أغلبهم لم يعِش قط أيضًا، ولم يسعد بالحياة ولو قليلًا، لقد تعاملوا مع الحياة بغضب وهم يكتبون، لا أريد أن أتدخل في ذلك ولا أؤكد أن الخطأ لا يأتي مني.
من ناحية، ماذا أنتظر من الحياة؟ هذا هو بالتحديد ما أردت أن أتعلمه، فالواحد منهم يتحدث إلى الآخر بمهارة عن مختلف شئون الحياة، بدون أن يتحدث عن الدوافع.
أما بالنسبة لبعض الفلاسفة، الذين كان لهم دور في تعليمي؛ فإنني أعرف منذ فترة طويلة ماذا يجب أن ننتظر منهم، سواء أكانوا علماء الرياضة أو النقاد، لقد اهتموا بأبعد ما يكون بالحقيقة المؤلمة، لم يهتموا إلا بعلم الجبر في حل المعادلات التي يقيسونها.
عند العودة إلى «مارسلين»، لم أُخفِ عنها الملل الذي أصابني، فقلت لها: كلهم متشابهون، كل منهم يمارس وظيفة مزدوجة، فعندما أتكلم عن واحد منهم يبدو لي أنني أتكلم عن العديدين.
ردَّت «مارسلين»: لكن يا صديقي لا يمكنك أن تطلب من كل واحد أن يختلف عن الآخرين.
إنهم يتشابهون فيما بينهم ويختلفون عني.
ثم أكملت بنبرة حزينة: لا أحد يعرف أنه مريض، إنهم يعيشون وقد بدت عليهم الحياة، لا يعرفون أنهم يعيشون. فمنذ أن اقتربت منهم لم أعد أعيش، ماذا أفعل؟ أنا مضطر أن أتركك في الساعة التاسعة، وقبل أن أرحل أمامي وقت لأقرأ قليلًا، إنها اللحظة الحقيقية الوحيدة في النهار، ثم ينتظرني أخوك عند الموثِّق، وبعد الموثِّق لا يتركني، فيجب أن أرى بائع السجاد معه، ويصحبني إلى مصنع الأثاث، ولا أتركه إلا عند «جاستون»، وأتغذى في الحي مع «فيليب»، ثم أجد «لوي» ينتظرني في المقهى، فأتحدث معه عن الدراسات العبثية ﻟ «تيودور» التي أثنيت عليها عند صدورها.
وكي أرفض دعوته للقاء يوم الأحد كان عليَّ أن أصحبه إلى منزل «آرثر»، ومع «آرثر» أشاهد معرضًا للرسوم المائية حيث تعرض بطاقات عن «البرتين» و«جولي» … وأخيرًا أعود منهكًا وأجدكِ أكثر تعبًا منِّي، وأرى «آدلين»، و«مارت»، و«جان»، و«صوفي» … وفي المساء أسترجع كل أحداث النهار … وأحس أن يومي كان غير مفيد، ويبدو لي أنه كان خاويًا، وأنني أريد أن أستعيده، وأن أبدأ ساعاته الواحدة تلو الأخرى، وأحس بالحزن لدرجة البكاء.
لم أجرؤ أن أقول: إنني لا أعرف كيف أعيش، ولا ما هو الطعم الذي تذوقته لحياة أكثر اتساعًا، وأقل نضارة، وأقل همًّا من أي حياة أخرى، بدا لي هذا السر أكثر غموضًا — سر البعث — رحت أفكر.
لقد ظللت شخصًا غريبًا بين الآخرين كشخص عائد من بين الموتى، في البداية لم أحس إلا بغضب شديد، ولكن ما لبث أن انتابني شعور جديد للغاية، لم أحس بأي كبرياء، وأؤكد على ذلك حتى عند نشر الأعمال التي حققت لي الكثير من التقريظ، ترى هل هي الكبرياء؟ ربما، لكن أي نوع من الغرور اختلط بي؟ إنها المرة الأولى التي أعي فيها قيمتي الحقيقية، وما يفصلني عن الآخرين يميزني ويجعلني مهمًّا، وإذا لم يَقُل أي شخص أنه لا يمكنه أن يتكلم، فإنني أعرف كيف أقول نيابةً عنه.
سرعان ما بدأت دراستي، لقد شدني الموضوع، غرقت في درسي الأول بكل ما أملك من مشاعر جديدة، أما بالنسبة لازدهار الحضارة اللاتينية فقد رحت أمشط تلك الثقافة، مرتقيًا إلى أحاسيس البشر، بطريقة غاضبة تشير إلى موفور الصحة التي تتجمد وتتعارض مع كل اتصال روحي مع الطبيعة، تختبئ تحت مظهر الحياة المُلِحِّ، وعندما تستمر الحياة تتكلم حيث الروح، وتلمع، ثم تموت، وأخيرًا تدفع كل أفكاري لأقول: إن الثقافة المولودة من الحياة تقتل الحياة.
استنكر المؤرخون نزعة التعميمات البالغة السرعة. واستنكر البعض الآخر طريقتي … أما الذين امتدحوني فقد تصرفوا كأنهم لم يفهموني كما يجب.
وبمجرد صدور دراستي التي كنت أحلم بها للمرة الأولى رأيت «مينالك»، لم أقابله من قبل إلا قبل زواجي بقليل، لقد رحل من أجل القيام ببعض الاكتشافات البعيدة التي كان يخبرنا عنها أحيانًا لأكثر من عام، لم أعجب به قط فيما قبل، كان يبدو فخورًا، لم يهتم بحياتي، كم دهشت لرؤيته في محاضرتي الأولى، لقد أبعدتني عن وقاحاته، أما الابتسامة التي بدت لي ساحرة فقد كنت أعرف أنها نادرة، كان شخصًا عبثيًّا، أثيرت حوله فضيحة وجدت فيها الصحف فرصة ذهبية لتلطيخه، لقد جرحت كرامته وتميزه، وتملكه رغبة الانتقام، وما أثارني أكثر هو أنه بدأ يوجه لي شتائم رحتُ أرد عليها.
– يجب أن تترك للآخرين فرصة ليكونوا على حق، وأن يكون هذا باعثًا للعزاء، فهم لا يملكون شيئًا آخر.
– لكن «المجتمع الصالح» كما يشير هؤلاء الذين، حسبما يقال: «يتبادلون الاحترام»، عليهم أن يعتقدوا أنهم يتوجهون نحوه ويجعلونه صالحًا في حقارته، مما جذبني نحوه بقوة غامضة، وجعلني أقترب منه وأن أقبله بمودة أمام الجميع.
ها أنا ذا أرى مع مَن أتحدث، وها هي ذي المتاعب تتجاذب فيما بينها، فأبقى وحدي مع «مينالك». وبعد الانتقادات الساخنة والتقريظات الحمقاء انطلقت بعض كلماته حول دراستي، فقال: أنت تحرق ما تحب. حسنًا، لقد تأخرت، فقد اندلعت النيران، ولا أعرف هل أنتظرك أم لا؟ أنت تثير فضولي وأنا لا أتحدث عن طيب خاطر، لكنني أود أن أتحدث معك، لنتناول معًا العشاء هذا المساء.
أجبته: يا عزيزي «مينالك»، يبدو أنك نسيت أنني متزوج.
علَّق: فعلًا، فأنا أرى الرباط العاطفي الذي جرؤت أن تكشفه لي، لقد تصورت أنك حر .. خشيت أن أراه مجروحًا، فقد بدا ضعيفًا، فأخبرته أنني سألحق به عند العشاء.
في «باريس» كان «مينالك» يتصرف كالمسافرين، فهو يسكن الفنادق، وينتقل بين غرف عديدة وكأنها شقته، طالما أن هناك من يخدمه، إنه يأكل على سجيته، ويعيش على سجيته، يتمدد فوق الأرض. وعلى الأثاث الذي بهرته قذارته، بعض الأقمشة ذات الثمن المرتفع التي جاء بها من نيبال والتي انتهى — كما قال — به الأمر أن يقدمها إلى متحف، حدثني قبل أن ألحق به أنها كبيرة للغاية، فاجأته عندما دخلت، ورحت أعتذر، أنا أزعج مائدته، فقال لي: لم تكن لديَّ النية قط لمقاطعتك، أعلم أنك ستتركني أنتهي، لو حضرت أثناء العشاء، فسوف أسكب لك نبيذ الشيراز الذي كان يغني «حافظ الشيرازي» من أجله، لكن الوقت متأخر الآن، يجب أن تصوم لتشربه. هل تتناول أفضل السوائل؟
– ووافقت، وقد تصورت أنه سيتناوله معي، لكنه لم يقدم لي سوى كأس. قال وقد أصابتني الدهشة: معذرةً؛ لأنني لا أشرب أبدًا!
– هل تخشى أن تبلغ الثمالة؟
أجاب: آه! على العكس! ولكنني أمسك بنفسي حتى لا أصل إلى حد الثمالة، يجب أن أحتفظ بوعيي.
– وتسكب للآخرين الشراب؟
ابتسم وقال: لا أستطيع، إنها من فضائلي، من الجميل أن أجد فيها رذائلي.
– على الأقل فأنت تدخن؟
– ليس كثيرًا، إنها ثمالة غير شخصية، سلبية، ومن السهل قهرها، أبحث في الثمالة عن لهاث، وليس عن دوام الحياة.
– لنترك هذا. هل تعرف من أين جئت؟ من «بسكرة». عرفت أنك مررت من هناك، أردت أن أقتفي أثرك. ماذا حدث في «بسكرة»؟ لم أعتد أن أكون وغْدًا إلا لمن لا يبوح لي، ولما أعلمه بنفسي، وبفضولي أنا أعترف بذلك، لقد بحثت عنه دومًا، وسألت في مكان أستطيع الوصول إليه، خدمني كتماني وأعطاني الرغبة أن أراك، أعلم أنني يجب أن أعرف الآن، ولك أن تشرح لي السبب.
– أحسست بحمرة الخجل، فقلت:
– ماذا تعرف عني يا «مينالك»؟
– هل تريد أن تعرف؟ لا تخف! أنت تعرف أصدقاءك جيدًا، وأيضًا أصدقائي، وتعرف أنني لا يمكن أن أتكلم عنك مع أحد، وتعرف أن أبحاثك مفهومة جيدًا!
قلت بلهجة نافذة الصبر: ولكن لم تقل إنني أستطيع أن أكلمك أكثر من الآخرين، هه! ماذا عرفت عني؟
– عرفت أنك كنت مريضًا.
– لكن هذا لا يفيد في ..
– آه! إنه مهم للغاية. قيل لي: إنك كنت تخرج وحدك وبإرادتك، بلا كتاب! وهنا بدأت في الدهشة! وعندما لا تكون وحدك تكون في صحبة امرأتك أو الأطفال … لا تحمر خجلًا … وإلا فلن أتابع كلامي.
– دون أن تنظر إليَّ.
– أحد هؤلاء الأطفال كان يُسمَّى مختارًا كما أذكر، جميل مثل جلده، ولص وزمار مثل الآخرين، ويبدو لي أنه يستحق أن أتكلم عنه طويلًا، لقد اشتريت ثقته، وأنت تعرف أن هذا ليس سهلًا، أعتقد أنه كان يكذب وهو يقول إنه لا يكذب … هل ما حكاه لي عنك حقيقي؟
– قام «مينالك» وأخرج علبة صغيرة من درج وفتحها، قال وهو يمد لي شيئًا ما ليعرفني: هل هذه المقصات كانت ملكًا لك؟ إنها صدِئة، من الأبونيت المزيف، لم أجد صعوبة في التعرف على هذه المقصات الصغيرة التي يملكها مختار.
– إنها ملك زوجتي.
– برغم أنك صاحبها، وأنك أدرت رأسك ذات حين كنت وحدك معه في الغرفة، المهم ليس هذا؛ فهو يزعم أنه أخفاها في ملابسه، وأدرك أنك كنت تراه في المرآة، وفوجئ بأنك تنظر إليه بدهشة، رأيته يسرق ولم تقُل شيئًا! لقد أصابت الدهشة مختارًا نتيجة لهذا الصمت … وأنا أيضًا.
– ليس هذا مهمًّا، لقد تمتعت بما فيه الكفاية بهذه اللعبة؛ فهؤلاء الأطفال يلهون بنا دائمًا، واعتقدت أنك أمسكت به، ولكنه هو الذي أمسك بك … ليس هذا مهمًّا، فسر لي سبب صمتك.
– أردت أن يفسر لي ذلك.
– ظللنا صامتين لبعض الوقت. راح «مينالك» يمشي في غرفته الواسعة، ثم أشعل سيجارته، وما لبث أن ألقاها لتوه، وعلق:
– هناك «حِس» مثلما يقول الآخرون، حس يبدو أنك تفتقده يا عزيزي «ميشيل».
قلت وأنا أجاهد في أن أبتسم: الحس الروحي؟ ربما.
– أو ببساطة حس الامتلاك.
– أعتقد أنك لم تُحس به قط.
– لقد أحسسته قليلًا، انظر هنا، لا شيء يخصني في هذا المكان، لا شيء بالمرة حتى السرير الذي أنام عليه، كم أشعر بالخوف من الراحة، إن الامتلاك أو الملكية تشجعني على ذلك، مما يجعلني لا أنام في أمان. أحب أن أعيش كي أزعم لنفسي أنني أحيا، وكي أحفظ نفسي، حتى في قمة ثرائي؛ فإن هذا الإحساس يصيبني بحالة من الحذر والضيق. فأروح أعطي الحماس لحياتي، لا أستطيع أن أزعم أن الحب خطر، ولكنني أحب حياة المصادفات، وأريد منها المزيد في كل لحظة، وبكل شجاعة، وكل سعادة، وكلي موفور بالصحة.
قاطعته: إذَن، ماذا يقربك مني؟
– آه! أنت تفهمني بشكل سيئ. يا عزيزي «ميشيل»، لقد حاولت — بشكل غبي — أن أوقظ ضميري.
يا صديقي «ميشيل» لو انشغلت كثيرًا أو قليلًا بمشاكل الناس، فليس هذا بدافع القبول أو الرفض، هذه الكلمات لا تعني شيئًا كبيرًا بالنسبة لي، لقد كلمتك كثيرًا عن نفسي، معتقدًا أنني أتورط في الكلام، لقد أردت أن أخبرك أن هناك أشخاصًا لا يمتلكون حس الملكية ويبدو أنك تملك الكثير، وهذا شيء خطير.
– ماذا أملك إذَن؟
– لا شيء، إذا أخذت الأمر بهذا المفهوم … فعليك ألا تكمل أبحاثك. ألست مالكًا في مقاطعة «نورماندي»؟ ألم تجئ من مقامك هناك؟ ألم تعش حياة بذخ في يأس؟ أنت متزوج وتنتظر طفلًا، أليس كذلك؟
قلت وقد نفذ صبري: حسنًا! هكذا يثبت ببساطة أنني أعرف كيف أمارس حياة أكثر خطورة — مثلما تقول — منك.
كرر «مينالك» بقوة: طبعًا … ببساطة.
ثم استدار فجأة ومد لي يده:
– إذَن، وداعًا، يكفي هذا في مسائنا، لن نقول أفضل من ذلك، إلى اللقاء قريبًا.
– ولم أرَه بعد ذلك لفترة طويلة.
– شغلني الهم والقلق من جديد، ذات يوم مدني أحد العلماء الإيطاليين بوثائق جديدة؛ حيث كنت أقيم أبحاثي، أحسست بدرسي الأول صعبًا على الفهم، وأنه قد فتح شهيتي من أجل التوضيح بأسلوب مختلف، وخاصةً الدروس التالية، رحت أفهم من خلال تجربتي بأن كل ما فعلته كان من قبيل المصادفة، وأنه كم من المثقفين يجب أن يمارسوا قوتهم في هذا المضمار؛ لأنهم لم يفهموا نصف كلمة، أما بالنسبة لي فلم أستطع أن أفهم حتى كلمة، وأعترف بذلك، إنه جزء من العناد الذي امتزج بحالة من الثقة الطبيعية، وما كان عليَّ أن أقوله من جديد، بدا لي أكثر عجالة، وأصبح من الصعب عليَّ أن أقوله، بل وأن أسمعه.
لكن كم من العبارات تصبح شاحبة عندما نكتبها! فهل كانت الحياة، عند أقل بادرة من «مينالك» أكثر بلاغة من أبحاثي؟ آه! لقد فهمت جيدًا في تلك الفترة أن التعليم شيء معنوي لدى العديد من الفلاسفة القدامى الذين كانت لديهم حصيلة كبيرة من الكلمات.
رأيت «مينالك» في بيتي بعد ثلاثة أسابيع من لقائنا الأول. حدث ذلك بعد اجتماع حضره الكثيرون، وكي نتجنب أي إزعاج يومي فضلت أنا و«مارسلين» أن نترك أبوابنا مفتوحة في مساء يوم الخميس، ثم نقوم بإغلاقها في الأيام الأخرى، وفي كل خميس يأتي أصدقاؤنا. يتيح لنا اتساع قاعتنا أن نستقبل أعدادًا كبيرة منهم، يطول الاجتماع كثيرًا قبل أن يحل الليل، أعتقد أنني أجذبهم، خاصة بطيبة «مارسلين».
وحمية النقاش فيما بينهم، أما بالنسبة لي فلم أجد منذ الأمسية الثانية من هذه الأمسيات شيئًا يستحق أن نسمعه ولا أن أقوله، رحت أخفي ضيقي، وأنا تائه من حجرة التدخين إلى الصالة؛ فالغرفة القديمة، والمكتبة، أردد أحيانًا جملة، وأتأمل شيئًا، وأتطلع حولي كأنني تائه.
راح «أنطوان»، و«إيتيان»، و«جود فري» يتناقشون في الغرفة وهم يستندون على مقاعد زوجتي، أما هوبير ولوي فقد راحا يتحسسان بلا حذر، وجربا المياه المتجمدة في مجموعة أبي. وفي غرفة التدخين وضع «ماتيا» سيجارة فوق المائدة كي يسمع «ليونارد» بشكل أفضل.
كانت المائدة مصنوعة من خشب الورد وفوقها كأس من الكوارسو، انسكب فوق السجاد، أما قدما ألبير الموحلتان فقد داسَتا فوق أريكة، ولطختا القماش أما الدخان الذي يتنفسونه فقد جعل من استعمال الأشياء أمرًا مرعبًا … وانتابتني رغبة غامضة أن أدفع كل ضيوفي في أكتافهم، لقد فقدت الموبيليا والأقمشة والأوشام كل قيمتها عند أول محاولة؛ فاتسخت أشياء وأشياء أصابها المرض، وكأن الموت قد ترك أثره فيها، أردت أن أصور كل شيء وأن أضع على كل شيء مفتاحًا خاصًّا بي، فكرت أن «مينالك» سعيد برغم أنه لم يحصل على شيء! أما أنا فأريد أن أحتفظ لنفسي بكل ما يسببه لي من معاناة، وأن أتساءل من أجله، فماذا يهمني في كل هذا؟
في صالة صغيرة أقل إضاءة يفصلها زجاج بلا قصدير، لم تستقبل «مارسلين» سوى بعض المقربين، كانت متمددة فوق إحدى الأرائك، وبدت شاحبة تمامًا، ورأيتها بالغة التعب؛ فأحسست بالخوف، مما جعلني أؤكد أن هذا الاستقبال سيكون الأخير من نوعه. كان الوقت متأخرًا، ورحت أنظر إلى ساعتي، وأحسست أن في جيب سترتي مقصات مختار الصغيرة.
– لماذا سرقها؟ هل من أجل تدميرها وإتلافها؟
في تلك اللحظة طرق أحدهم على كتفي، فاستدرت فجأة، إنه «مينالك». إنه تقريبًا الوحيد الذي يرتدي زيه الرسمي، جاء لتوه، شدني كي أقدمه إلى زوجتي، لم أكن قد فعلت ذلك بعد. بدا «مينالك» أنيقًا ووسيمًا، وله شوارب متهدلة ومجعدة تجعل وجهه أشبه بوجه القرصان، ينم البرود على وجهه عن كثير من الشجاعة والحيرة والطيبة. لم يكن أمام «مارسلين» سوى أن تخبرني أنه لا يروق لها، وبعد أن تبادل معها العبارات الجامدة اللطيفة، سحبته إلى غرفة التدخين.
في الصباح علمت المهمة التي كلفه إياها وزير المستعمرات، فقد تحدثت صحف كثيرة عن الموضوع، وعن مغامراته التي يبدو أنها تنافت مع قواعد مهنته، في الأمس بالغت الصحف كثيرًا فيما يتعلق بالخدمات المؤداة للوطن وللبشرية من قبل الاكتشافات التي أسفرت عن استكشافاتهم الأخيرة، بدا كل شيء كأنه لا يلتزم بأمر إلا لهدف إنساني، برغم أنني عهدت فيه التفاني من أجل الآخرين، والإخلاص، والجرأة، وكأنه قد استعاد شيئًا من حقه من كل هذا المديح.
بدأت أهنئه، فقاطعني عند الكلمات الأولى قائلًا:
– ماذا وأنت أيضًا يا عزيزي «ميشيل»، أنت تشتمني، اترك هذه السفاسف للصحف، إنهم يَبدون مندهشين أن رجلًا له تقاليده يمكن أن تكون له بعض الفضائل، لا أعرف كيف أمارس بنفسي تلك الامتيازات والمزايا التي يزعمونها، إنها جميعها أشياء عمومية، لا أزعم شيئًا سوى كل ما هو طبيعي؛ فالمتعة التي أحسها تجعلني أشعر أنني يجب أن أفعلها.
– قلت له: هذا يمكن أن يذهب بك بعيدًا.
رد «مينالك»: لقد حسبتها جيدًا، إذا كان كل من يحيطون بنا يمكنهم إغواؤنا هكذا؛ فإن أغلبهم يفكر ألا يحصل بنفسه على مكسب جيد إلا من خلال الضغط، لا يعجبهم سوى الضغط، فمن خلاله يزعم كل إنسان أن به تشابهًا خاصًّا، كل شخص يختار رئيسه ثم يثيره، حتى ولو لم يختر الرئيس الذي يغضبه، فهو يوافق على الرئيس الذي اختاره. وأعتقد أن هناك أشياء أخرى يجب قراءتها في الإنسان، ونحن لا نجرؤ، لا نجرؤ أن ندير صفحة، إنه قانون الإثارة، كما أسميه قانون الخوف، نحن خائفون أن نكون وحدنا، وألا نجد شيئًا، هذا الإرهاب المعنوي يبدو لي بشعًا، إنه الجبن المزدوج، تُرى من يحاول؟ إنه الشخص الذي يُحس في نفسه بالتناقض، وهو أيضًا الذي يمكنه أن يمتلك شيئًا من الندرة، ويرتبط بكل ما يعطيه أي إنسان للأمر من قيمة، وما يحاول أن يبرزه ويثيره، ويزعم أنه يحب الحياة.
تركت «مينالك» يتكلم عما حدث له قبل شهر من ذلك الحادث، أما أنا فقد تحدثت إلى «مارسلين» كي أؤكد لها كلامه، لكنه — وبكل جبن — قاطعني، كررت عليه — مثيرًا «مارسلين» — الجملة كلمة كلمة:
– عزيزي «مينالك» … لا يمكنك أن تطلب من كل شخص أن يختلف عن الآخرين.
سكت «مينالك» فجأة، ونظر إليَّ بطريقة غريبة، ثم استسمح مني وأدار ظهره بلا مبالاة، ثم راح يتحدث مع «هكتور» في أشياء غير مفهومة.
وكما قلت، فإن عبارتي بدت لي غبية، وأحسست أنه يمكن أن تجعل «مينالك» يصدق أنني أتحسس بالهجوم في كلماته، كان الوقت متأخرًا، وضيوفي قد رحلوا، وعندما خوت القاعة عاد «مينالك» إليَّ، وقال لي:
– لا أستطيع أن أترككما هكذا، لقد فهمت — بلا شك — كلماتكما خطأ.
أجبت: لا، أنت لم تفهم خطأ، ولكنها كانت بلا معنى، ولم أقلها إلا لأنني أعاني من حماقاتهم، وخاصةً أنني أحس أنها تحقرني في عيونكم، وكأنكم أقمتم محاكمة لنا، أنا أؤكد أنني أكره وقاحتي مثلكم، وكل الرجال أصحاب المبادئ.
رد «مينالك» ضاحكًا: إنهم كذلك، الناس الأكثر كراهية في العالم، نحن لا نكنُّ لهم أدنى قدر من زلاتهم فهم لا يفعلون — قط — ما يتفق مع مبادئهم، إنهم ينظرون إلى ما يفعلونه كأنه أمر سيئ؛ فيكاد الشك يكون واحدًا منهم. أحسست بالكلمة تتجمد على شفاهي، أما الشجن الذي استبدَّ بي فقد عرَّفني كيف أن عاطفتي لا تزال حية نحوكما، لقد تمنيت أن أكون دنيئًا، ليس في عواطفي، ولكن في الحُكم الذي أصدره.
– في الحقيقة إنَّ حكمك خاطئ.
– قال وهو يمسك يدي فجأة. ليس هذا هو المهم، فيجب أن أرحل قريبًا. كنت أريد أن أراكما، سيكون سفري هذه المرة أكثر طولًا من كل السفريات السابقة، ولا أعرف متى سأعود. يجب أن أرحل خلال الأسبوعين، فلا أحد يعرف شيئًا عن موعد رحيلي، وها أنا ذا أعلنه لكما في سرية، سوف أرحل عند الفجر، وليلة الرحيل بالنسبة لي في كل مرة ليلة معاناة مخيفة، وبصفتك رجل مبادئ: هل يمكن أن أعتمد عليك أن تقضي هذه الليلة الأخيرة قريبًا مني؟
قلت له: لكننا سنلتقي.
– لا، سأكون مشغولًا خلال الأسبوعين، لن أكون في «باريس»، غدًا سوف أرحل إلى بودابست، وطوال عشرة أيام يجب أن أكون في روما، هنا أو هناك يوجد أصدقاء أريد أن أودعهم قبل مغادرة أوروبا، وهناك شخص آخر ينتظرني في مدريد.
– حسنًا، سوف أقضي ليلة الرحيل معك.
– وسوف نشرب نبيذ شيراز.
وبعد بضعة أيام من هذه الأمسية بدأ حال «مارسلين» يسوء، فقد استبدَّ بها التعب، كانت تتجنب الشكوى، ولأنني أُعِدُّ نفسي مسئولًا عن هذا التعب فقد وجدت أن هذا شيء طبيعي، وتجنبت إثارة القلق. أخبرنا طبيب عجوز أن الوقت أزف، وأثناء هذا حدثت متاعب جديدة مصحوبة بحمى، جعلتني أستدعي الطبيب، وهو أمهر المتخصصين، أدهشه أنني لم أستدعه قبل ذلك، وأَوصى بنظام علاجيٍّ متشدد، كان عليها أن تتبعه منذ وقت طويل، وبحذر شديد، وأصبح على «مارسلين» أن تتصرف بدءًا من هذا اليوم وحتى نهاية شهر يناير بشكل مختلف؛ فعليها أن تجلس فوق المقعد طويلًا، بدون أي قلق، فلازمها الكثير من الاكتئاب الذي لا تريد أن تعبِّر عنه.
رضخت «مارسلين» تمامًا لتعليمات الطبيب، ولكنها غضبت قليلًا عندما طلب منها الدكتور أن تتناول «الكينين»؛ لأنها كانت تعرف أن ابنها يمكن أن يعاني منه طوال الأيام الثلاثة؛ لذا رفضت بإصرار شديد أن تتناوله، فازدادت الحمى، ثم كان عليها أن تمتثل، ولكن حدث هذا مع الكثير من الأسى، كأنها تتخلى عن المستقبل، وبنوع من الامتثال للقدر رضخت للرغبة التي كانت تعتمل فيها حتى ذلك الحين بطريقة جعلت حالتها تزداد سوءًا طوال الأيام التالية.
رحت أحيطها بأكبر عناية ممكنة. وتصرفتُ على أحسن ما يكون، وأنا أكرر كلمات الدكتور الذي لم يرَ أن حالتها جسيمة للغاية، ولكن العنف الذي صاحب خوفها انتهى بأنني أعلنت الطوارئ بدوري.
آه! كم هو خطير أن تتوقف سعادتنا على الأمل وعلى مستقبل مجهول، خاصةً بالنسبة لي أنا، لم أجد طعمًا للأشياء إلا في الماضي، إن إنقاذها المفاجئ حتى لو للحظة مكنني أن أتألم يومًا، كما رحت أفكر، لكن المستقبل يفسد الحاضر أكثر من أن يفسد الحاضر الماضي.
وفي أثناء ذلك، حل المساء الذي وعدت به «مينالك»، وبرغم تبرمي أن أترك «مارسلين» في أمسية شتوية؛ فقد نجحت أن أجعلها توافق على شرف الموعد، كي أوفي بوعدي، بدت «مارسلين» في أحسن حالاتها في هذا المساء، ومع ذلك كنت قلقًا، ورحت ألزم مكاني إلى جوارها، ولكن في الشارع اكتسب قلقي قوة جديدة، فرحت أدفعها كأنني أناضل ضدها، وأثور ضد نفسي قائلًا: من الأفضل أن أتحرر منها، بلغت هذا شيئًا فشيئًا إلى أن وصلت إلى حالة عالية من التوتر والحماس الفريد، والمختلف تمامًا، وقريبًا من القلق المؤلم الذي قد يضطرها للولادة، ولكن على مقربة منَّا توجد سعادة.
كان الوقت متأخرًا، وسرت بخطى كبيرة. كان الجليد قد بدأ في التساقط والانهيار، أحسست بالسعادة وأنا أتنفس جو الليل المنعش، وأنا أناضل ضد البرد، وكنت سعيدًا وأنا أمشي ضد الريح في الليل، وفوق الجليد، ورحت أحتفظ بطاقتي.
رأيت «مينالك» وقد جاء يستقبلني فوق درجات السلم، ينتظرني نافد الصبر، بدا شاحبًا ومنهكًا قليلًا. خلع عني المعطف، وأجبرني أن أغير حذائي الطويل المبلل، وأن أرتدي خفًّا فارسيًّا طريًّا، وفوق منضدة قريبة من النيران كان قد وضع قطع الحلوى ومصباحين يضيئان الغرفة، سألني «مينالك» عن صحة «مارسلين»، وكي أخفف من حدة الأمر، أجبته:
– إنها على أحسن ما يرام.
قال: هل تنتظران طفلكما قريبًا؟
قلت: خلال شهر.
انحنى «مينالك» نحو النيران، وكأنه يريد أن يخفي وجهه، صمت وسكت طويلًا لدرجة أثارت اهتمامي، لا أعرف ماذا أقول له، قمت وتحركت بعض خطوات، ثم اقتربت منه، ووضعت يدي على كتفه في حين استغرق هو في التفكير. همست: يجب أن تختار. المهم هو أن تعرف ماذا تريد؟
سألته وأنا أحس أنني يجب أن أعطيه كلمتي: ألا تود الرحيل؟
– يبدو …
– هل أنت متردد؟
– مِمَّ؟ أنت لك امرأة وطفل. أما أنا فعرفت شكلًا من الحياة لا أحد يعرفه سوى من جرَّبه، كم أتمنى السعادة للآخرين، إنه لمن الجنون ألا تعرف كيف تمارس السعادة، أعرف أنني سأرحل غدًا، حاولت أن أصنع سعادة على مقاسي … احتفظ ببيتك سعيدًا وهادئًا.
صحت: إنها قامتي التي أحاول أن أقيس سعادتي عليها، ولكنني كبرت الآن، وسعادتي تقبض عليَّ، وأحس أحيانًا أنني أختنق.
قال «مينالك»: ياه! سوف تفعل.
ثم اتجه نحوي، وحَدَّق في عيني، لم أجد شيئًا أقوله. ابتسم بحزن. وردَّ: نعتقد أننا نملكه، ونحن نملكه، اسكب كل «الشيراز» يا عزيزي «ميشيل»، لن تذوق مثل طعمه أبدًا، وكُل من هذه الفطيرة الوردية التي يصنعها الفُرس، أريد أن أشرب هذا المساء وأنسى أنني راحل غدًا، وأتحدث طول الليل.
هل تعرف ماذا يحدث الآن للشعر؟ وماذا عن الفلسفة؟ هل مات الأب؟ إنها أشياء منفصلة عن الحياة، لقد كان للإغريق فكرة عن الحياة المثالية؛ حيث كانت حياة الفنان حقيقية شعرية، وحياة الفيلسوف مستمدة من فلسفته وممتزجة بالحياة، وبدلًا من أن تدَّعي الجهل؛ فإن الفلسفة تتغذى من الشعر، والشعر يعبر عن الفلسفة، كان هذا شيئًا رائعًا اليوم؛ فإن الجمال لا يبقى طويلًا، كما أن الحكمة تنتفي. قلت له: لماذا تعيش حكمتك؟ ولماذا لا تكتب مذكراتك؟
أجبت وأنا أراه يبتسم: آه، ببساطة ذكريات رحلاتك؟
علَّق: لأنني لا أريد ذكرياتي، أعتقد أن هذا يمنع وصول المستقبل، وأنَّ تجاهل الماضي أفضل شيء لنسيان الأمس، لم أكن سعيدًا دومًا؛ فهذا لا يكفيني.
أثارتني كلماته التي تسبق فكرتي، حاولت أن أنسحب للوراء، وأن أوقفه، حاولت أن أعارضه؛ فقد أثارني ضد نفسي أكثر مما أثارني ضد «مينالك»؛ لذا التزمت الصمت، أما هو فكان يتحرك جيئةً وذهابًا وكأنه وحش في قفص، أو كأنه متعلق في نيران، وسكت طويلًا، ثم قال فجأة: إذا كانت عقولنا المحدودة تعرف كيف تحتفظ بالذكريات؛ فإنها تحتفظ بها بشكل سيئ، والذكريات الرقيقة تتبخر، والأكثر روعة تفسد. والأكثر لذة تعقبها الأكثر خطورة. نحن إذن نتذكر أكثرها لذة أولًا.
ومرة أخرى خيم صمت طويل، ثم عاد يتكلم: أسف، وندَم، وتوبة، إنها أشياء قريبة العهد، لا أحب أن أنظر إليها من الخلف، إنني أترك الماضي خلفي بعيدًا كأنه عصفور يطير ويترك ظله. آه، يا «ميشيل»! كل البهجة تنتظرنا دومًا، لكنها تريد أن تجد العش الخاوي، أن تكون وحيدة، وأن تصل إليها كأنها أمل. آه يا «ميشيل»! تبدو كل البهجة في هذه الصحراء التي تفسد من يوم لآخر، إنها أشبه بماء منبع إميليه الذي حكى عنه أفلاطون، لا يمكن الاحتفاظ بها في أي آنية، وفي كل لحظة تفرغ كل ما تحمله.
تكلَّم «مينالك» طويلًا أيضًا، لا أستطيع أن أذكر هنا كل جملة؛ فالكثير منها قد تضاخم في داخلي، إنها أكثر قوة من أن أحاول أن أنساها بسرعة، ليس لأنها بدت لي وكأن لا جديد فيها، ولكنها راحت تعري أفكاري، أفكار اكتشفت أن عليها أستارًا، وأنني قد خنقتها تقريبًا، وانسابت في السهرة.
وفي الصباح، بعد أن رافقت «مينالك» إلى القطار الذي أقلَّه، سرت وحدي عائدًا إلى «مارسلين»، أحسست نفسي مُفعمًا بالحزن الشديد من هذا الحقد ضد سعادة «مينالك» المجنونة، وددتها أن تنفعل، حاولت أن أتجاهلها، أحسست بالثورة؛ لأنني لم أعرف كيف أرد عليه، شعرت بالغضب لأنه قال بعض كلمات حاول فيها أن يشكك في سعادتي وفي حبي، لدرجة أنه قال: إن سعادتي أمر مشكوك فيه، «هذه السعادة الساكنة» كما قال «مينالك». لم أستطع أن أبعد القلق عن نفسي، ولكنني أزعم أن هذا القلق يفيد في تغذية الحب، تطلعت نحو المستقبل ورأيت فيه ابني الصغير يبتسم لي، وقد تشكلت فيه روحي وارتسمت؛ لذا قررت أن أمشي فيه بخطًى ثابتة.
عندما عدت في الصباح إلى البيت صدمَني شيء غير مألوف منذ الوهلة الأولى، فقد هرولت الحارسة لتقابلني، وأخبرتني بكلمات مرتعدة أن ألمًا مخيفًا قد انفرد بزوجتي في الليل، ثم اشتد عليها، لم تكن تؤمن بخطر البدانة، وأحسَّت بألم شديد، أرسلت في طلب الطبيب الذي جاء مهرولًا أثناء الليل، ولم يترك المريضة قط، أرادت الحارسة حين لاحظت شرودي أن تجعلني أتماسك، قالت: إن كل شيء على ما يرام، وإن … وأسرعت نحو حجرة «مارسلين».
كانت الغرفة خافتة الضوء، في البداية لم أميز الطبيب الذي أمسكني بيده كي أظل ملتزمًا الصمت، ثم بدأ الظلام يكشف عن وجهٍ لا أعرفه، اقتربت قلقًا، وبدون أن أحدث ضجة دنوت من السرير، كانت «مارسلين» مغلقة العينين، شاحبة أكثر مما أعتقد، كأنها ميتة، أدارت رأسها نحوي بدون أن تفتح عينيها. في ركن الغرفة المظلم بدا الوجه غريبًا ويخفي أشياء عديدة، ورأيت الأجهزة اللامعة. ورأيت — أو اعتقد أنني رأيت — خطًّا من الدم، وشعرت أنني أترنح، ثم اتجهت نحو الطبيب الذي أسندني. فهمت، وخفت أن أفهم، سألته بقلق: والصغير!
هز كتفه بحزن بدون أن أعرف ماذا أفعل. ألقيت بنفسي فوق السرير وأنا أنتحب. آه! يا له من مستقبل! تمددت الأرض فجأة تحت خطوتي، وأمامي لم أرَ سوى فراغ حيث رحت أترنح بكامل جسدي.
راح كل شيء يخوض في ظلام الذكريات، وبدأت «مارسلين» تتحسن بسرعة، وتركت لي إجازات بداية العام القليل من الراحة، استطعت أن أبقى على مقربة منها طيلة ساعات النهار، كنت أقرأ عليها، لم أخرج قط إلا وأحضرت لها بعض الزهور. رحت أتذكر عنايتها الرقيقة التي أحاطتني بها عندما كنت مريضًا، أحطتها بالكثير من الحب الذي منحته لي فيما قبل وهي سعيدة، لم نتبادل أي كلمة بشأن الحادث التعس الذي قتل أملنا.
قيل: إنه التهاب في الوريد، وعندما بدأ في الزوال أصابها انسداد في الشريان، مما وضع «مارسلين» بين الحياة والموت.
كان الجو ليلًا ووجدت نفسي مرتميًا عليها وأحس من خلالها أن قلبي يدق أو يعود إلى الحياة.
يا لها من ليالٍ سهرت فيها طويلًا، مركزًا نظراتي الجامدة عليها، آملًا بقوة الحب أن أهب لحياتها القليل من حياتي.
لم أفكر طويلًا في السعادة وكان حزني وفرحي هو أن أرى «مارسلين» تبتسم.
انقبض قلبي، أين أجد القوة لأعد أبحاثي، ولأقولها: ضاعت ذكرياتي ولم أعرف كيف تتابعت الأسابيع ثم حدثت واقعة صغيرة أريد أن أخبركم بها:
ذات صباح وقعد وقت قليل من الأزمة كنت قريبًا من «مارسلين» التي بدت في حال أفضل ولكن أحسن الحال ما زال ينقصها، ولم تقدر أن تحرك سوى ذراعيها.
انحنيت كي أساعدها لكي تشرب، وعندما شربت انحنيت نحوها أيضًا، وبصوت أضعفه آلامها رجتني أن أفتح خزانة أشارت إليها بعينيها.
كانت الخزانة تحت المائدة؛ ففتحتها وكانت مليئة بشرائط من الأقمشة ومجوهرات صغيرة بلا قيمة، ترى ماذا تريد؟
أحضرت العلبة قريبًا من السرير، وبدأت أخرج كل شيء الواحد وراء الآخر.
هل هذا أو ذاك؟ لا لا، أحسست أنها قلقة. آه يا «مارسلين»، هل هذه المسبحة هي التي تريدين؟ حاولَت أن تبتسم.
– هل تخشين ألا أعتني بك بما فهي الكفاية؟
همست: آه! يا صديقي.
وتذكرت حديثي في «بسكرة»، وحساسيتها الشديدة وهي تسمعني أردد: فضل الله، استجمعت جأشي وقلت: لقد شفيت وحدي.
أجابت: لقد صليت طويلًا من أجلك.
قالت هذا برقة وبحزن، وأحسست في نظرتها بقلق يبتهل، وأمسكت المسبحة ثم وضعتها في يدها الواهنة المسترخاة فوق المفرش.
نظرة معبقة بالدموع والحب كأنها تكافئني، ولم أستطع أن أرد عليها وتأخرت لحظة، ولم أعرف ماذا أفعل.
وبقيت متضايقًا ولم أصِل إلى شيء.
قلت لها: وداعًا.
ثم تركت الغرفة بشكل عدواني وكأن شخصًا اصطادني.
وصل انسداد الشرايين إلى درجة خطيرة، جلطة دموية خطيرة، أصبح على إثرها القلب ضعيفًا ومنهكًا فأثَّر على الرئتين وأضعف التنفس وجعله صعبًا لاهثًا.
تصورت أنني لن أراها بعد ذلك؛ فلقد دخل المرض في «مارسلين» وسكن فيها أكثر وراح يرسمها ويترك علامته عليها، إنه لشيء مرعب!
(٣)
أصبح المناخ معتدلًا، وما إن انتهت أبحاثي حتى نقلت «مارسلين» إلى «لامورنيير» وأكد الطبيب أن كل الخطر قد زال، وكي يتم العلاج فليس هناك من شيء سوى الهواء النقي، وأنا أيضًا كنت في أشد الحاجة إلى الراحة، فقد طالت هذه السهرات التي تحملتها بنفسي، وخاصة هذا النوع من الحنان التلقائي الذي أحسسته نحو «مارسلين» حين أصابها انسداد الشرايين، وأحسست في داخلي نفس المشاعر المرعبة التي تحسها، أتعبني كل هذا وكأنني أنا نفسي مريض.
فضلتُ أن أرافق «مارسلين» إلى الجبال، ولكنها أبدت رغبتها القوية في العودة إلى «نورماندي»، زاعمة أن أي جولة تجعلها أفضل، وذكرتني أنه يجب أن أرى المزرعتين اللتين كلفتُ نفسي بعض العناية بهما، وراحت تقنعني أنني المسئول، وأنني يجب أن أنجح.
لم نصل إلى درجة أن تدفعني للجري فوق الأرض، ولم أعرف أن الكثير من التفاني قد دخل بيننا في إلحاحها المحبب، خاصةً أنني خشيت أن أعتقد أنني قريب منها فقط من أجل العناية بها، وأنني يجب أن أعطيها المزيد.
لم أحس أنني بكامل حريتي … لقد راحت «مارسلين» تتحسن، وجرت الدماء في وجنتيها، ولم يجعلني شيء مستريحًا أكثر من الإحساس أن ابتسامتها أقل حزنًا، وأنني يمكن أن أتركها بدون خوف؛ لذا عدت إلى المزرعتين، وهناك حصدنا الشوفان.
كان الجو مليئًا بالأتربة والروائح التي خنقتني في بادئ الأمر مثل شراب ملتهب، بدا أنني منذ عام مضى لم أتنفسه، أو لم أتنفس أي أتربة، وجعلني أحس بالجو بشكل أفضل فوق المنحدر، حيث كنت أجلس وكأنني مُنحنٍ.
تذكرت «لامورنيير» ورأيت أسقفها الزرقاء، ومياهها الساكنة، وتلالها حول الحقول المحصودة، وأخرى مليئة بالعشب، وعلى مسافة بعيدة منحنى الجدول، وعلى بُعد أكثر تبدو الغابة التي تنزهت فيها خلال العام الماضي فوق الحصان مع «شارل». انطلقت الأغنيات التي راحت تقترب مني.
إنها طيور تكاد تحط فوق كتفي، هؤلاء العمال الذين أكاد أعرفهم يمثلون بالنسبة لي ذكرى غاضبة، اقتربت منهم، وابتسمت لهم، وتكلمت إليهم طويلًا، وراح «بوكاج» ذات صباح يخبرني بحالة المزروعات.
كان يراسلني بشكل منتظم، لم يكف عن إبلاغي بأقل حادث جرى في المزارع، كانت المحاصيل على ما يرام، أكثر مما لو كان «بوكاج» سيتركها لي، ومع ذلك راح ينتظر بعض القرارات المهمة، وخلال بضعة أيام، وجهتُ كل شيء على أحسن ما يكون، بلا أي إحساس بالمتعة، ولكن لمجرد أنني أهب لهذا النوع من العمل حياتي السيئة.
ما إن أصبحت «مارسلين» في أحسن حال حتى استعددت لاستقبال بعض الأصدقاء الذين جاءوا يسكنون معنا، كان مجتمعهم العاطفي والصاخب يعجب «مارسلين». لقد تركت المنزل كثيرًا عن طيب خاطر، فأنا أُفضِّل مجتمع سكان المزرعة.
بدا لي أنني يمكن أن أجد ما أتعلمه أفضل … كنت أحس بهذا النوع من البهجة عندما أكون على مقربة منهم، وأشعر أنهم يعرفونني كثيرًا أثناء دوران الحوار بين أصدقائنا، أو قبل أن يبدءوا الكلام؛ لذا كانت رؤية هؤلاء الفقراء تسبب لي سعادة لا توصف.
قالوا أنهم سوف يردون على كل التساؤلات التي أتجنب أن أطرحها، وهكذا فإنهم يتحملون وجودي بشكل أفضل؛ لذا فسرعان ما أدخل في الحوار معهم، مثلما أحس بالسعادة وأنا أراقبهم يعملون، أردت أن أرى ألعابهم، وأحيانًا كنت أجلس معهم على مائدة الطعام، أو أسمع مزاحهم وأرقب سعادتهم.
وقد انتابتني مشاعر حب عاطفية أشبه بما أحسسته نحو «مارسلين»، إنه صدى سريع لكل إحساس غريب ليس جارفًا، ولكنه محدد وحاد.
أحسست في ذراعي تجاعيد رجل الحصاد، وكللت من التعب، وشربت خمر التفاح التي يشربونها، وأحسست بها ترويني وهي تنزلق في حنجرتي.
بدا لي أيضًا أن وجودي هنا ليس فقط من أجل الالتقاء بالطبيعة، ولكنني أحسست بنوع من المشاعر التي تثير هذا التعاطف الغريب.
كان وجود «بوكاج» يسعدني، وكان عليه أن يجعلني أُؤدي دور السيد عندما يأتي، ولم أرغب قط في هذا.
رحت أقوم بجولات وأوجه العمال على طريقتي، لكنني لم أمتط ظهر الحصان خشية أن أحس أنني سيدهم فعلًا برغم التحذيرات التي تنتابني حتى لا يعانوا كثيرًا لوجودي، ولا يُحرَج أحد أمامي.
لقد بقيت أمامهم — مثلما كنت فيما قبل — مليئًا بالفضول السيئ، وظل وجودهم غامضًا، وبدا لي أن جزءًا من حياتهم بالغ السرية، فماذا يفعلون عندما لا أكون هناك؟ لم أتصور أنهم لا يتسلون، رحت أعير كل واحد منهم سرًّا عاندت نفسي أن أعرفه. أخذت أطوف وأتابع وأتجول، واهتممت بطبائعهم الواضحة، وكأنني أستقي من جانبهم الغامض ما يمكن أن ينير لي بعض الجوانب.
أثار انتباهي واحد منهم، إنه جميل وطويل، وغبي تمامًا، لكنه أثار غريزتي، لم يكن يفعل شيئًا، إنه ليس من أبناء البلدة، تم التقاطه بالمصادفة، يعمل بمهارة طوال يومين، وفي اليوم الثالث بكَّر لدرجة الموت. تسللت ليلًا لكي أراه في صومعته، كان راقدًا وسط القمامة، يغط في نوم ثقيل لرجل ثَمِل، أخذت أدقق فيه لوقت طويل!
ذات يوم صحو رحل مثلما جاء، وعلمتُ في نفس المساء أن «بوكاج» قد طرده.
أحسست بالغضب من «بوكاج»، واستدعيته وسألته: يبدو أنك طردت بيير، هل لك أن تخبرني السبب؟
– لعل السيد لا يريد أن يحتفظ في مزرعته بسكير قذر، يمكن أن يفسد العمال.
– أعرف أفضل منك ما يجب أن أحتفظ به.
إنه متشرد! ولا نعرف من أين جاء؟ وفي هذه البلاد فإن صدى مثل هذا الأمر سيئ دائمًا … إنه يمكن أن يشعل النيران في المزرعة ذات ليلة، ولعل سيادتكم سعيد لما حدث.
هذا الأمر يخصني، والمزرعة ملكي، وأعتقد أنني يمكن أن أدير ما يعجبني، وفي المستقبل حدثني عن دوافعك قبل أن تصدر حكم بإعدام أحد.
قلت: إن «بوكاج» قد عرفني طفلًا؛ لذا أصابه جرح من أسلوبي في الكلام، إنه يحبني لدرجة لا تجعله يغضب؛ لذا لم يأخذ الأمر على محمل الجد، لقد سكن الفلاح النورماندي طويلًا مؤكدًا أنه لن يتدخل في شيء، أي أنه لن يتصرف تبعًا لما يتمتع به من أهمية، لقد اعتبر «بوكاج» أن هذا الخصام نوع من النزوة العابرة.
ومع ذلك لم أود أن أفسد العلاقة بحدث عابر، رحت أبحث عما يمكن أن أضيفه، وسألته بعد لحظة صمت: ألا يمكن أن يعود ابنك «شارل» قريبًا؟
– قال «بوكاج» — وقد أحس بالجرح ورأيته قلقًا عليه: اعتقدتُ أن السيد قد نسِيه.
– أنا أنساه يا «بوكاج»؟! كيف يمكن بعد كل ما فعلناه معًا في السنة الماضية؟ إنني أعتمد عليه كثيرًا بالنسبة للمزارع.
– حسنًا يا سيدي، فعلى «شارل» أن يعود بعد ثمانية أيام.
– إذَن، فأنا سعيد يا «بوكاج».
– وأنا أيضًا.
كان «بوكاج» على حق، فأنا لم أنسَ «شارل»، ولكنني لم أولِه أي اهتمام؛ فكيف أفسر أنه بعد الصداقة القوية التي ربطتنا لم أحس نحوه إلا بفضول شجن؟ لعله انشغالي بأموري التي لم تكن مثل السنة الماضية.
كان يجب أن أهتم بالمزرعتين؛ فلم أكن أهتم من قبل إلا بالناس الذين يعملون عندي، وأن أجعلهم يتوترون، ولا شك أن وجود «شارل» سيكون مبهجًا، فهو مقنع للغاية وجدير بالاحترام، راحت المشاعر الجياشة تفيض بي وأنا أتذكره، وانتظرت مجيئه دون أي خشية.
لقد عاد، ثم كنت على حق في مشاعري، فقد ألقى «مينالك» كل ما يتعلق بالذكريات، رأيت رجلًا آخر يدخل بدلًا من «شارل»، إنه سيد مقصوص الشعر بدلًا من تلك القبعة السخيفة، يا إلهي! كم تغير! إنه يختلف تمامًا، حاولت ألا أردَّ بالكثير من البرود، استقبلته في القاعة ولأن الوقت ليل فلم أميِّز وجهه، ولكن عندما أضأت المصباح لاحظت أنه في أحسن حال.
بدا اللقاء كئيبًا، عرفت أنه لم يكفَّ عن الحضور للمزرعة، وتجنبت طوال ثمانية أيام الالتقاء به، وعكفت على أبحاثي، وعزفت عن ضيوفي، ثم بدأت في الخروج، وانشغلت من جديد.
ملأ الحطَّابون الغابة، إنهم يأتون إليها كل عام لقطع جزء منها، قسموها إلى اثنتي عشرة قطعة متساوية، كانت الغابة تقلُّ في كل عام، خاصةً بعض الأشجار التي ندر أن نجد مثلها، ففي خلال اثني عشر عامًا سوف تكون حطامًا.
تم هذا العمل في الشتاء، ثم قبل الربيع تم الاتفاق على البيع، كان على الحطابين أن يفرغوا من عملهم، ولكن نتيجةً لإهمال الأب «هورتفان»، تاجر الأخشاب الذي يدير العملية، جعل الربيع يأتي بسرعة، وتكومت الأخشاب عبر البقايا الميتة من الأشجار، وأخيرًا قام الحطابون بتفريغها، حدث هذا بعد أن أصابوا البراعم الجديدة في الصميم.
هذا العام تجاوز إهمال الأب «هورتفان» — المشتري — كل خشيتنا، كان يجب أن أترك له الشحنة بسعر بخس، هل سوف يضغط بقوة كي يقطع غابة اشتراها بثمن ضعيف؟ ومن أسبوع لآخر راح يمارس العمل محتجًّا أحيانًا على غياب العمال، وأحيانًا أخرى بأن الجو سيئ، ثم على حصان مريض، وعلى المسائل التمويلية الأخرى.
أغضبني هذا — إلى حد كبير — في الصيف الماضي، أما هذا العام فالأمر هادئ تمامًا، لم أخفِ الخطأ الذي فعله بي «هورتفان»؛ فهذه الغابة التي تحتضر كانت جميلة، رُحتُ أتنزه فيها سعيدًا منشرحًا، أرقب الصور، وأُفاجَأ بالأفاعي، وأجلس طويلًا فوق أحد الجذور النائمة التي تبدو كأنها على قيد الحياة، والتي تبرز منها بعض العساليج الخضراء من خلال الفتحات.
وفجأة — وفي النصف الأول من أغسطس — قرر «هورتفان» أن يرسل رجاله. جاء ستة رجال زاعمين أنهم يمكنهم إنهاء العمل في عشرة أيام، كان جزء من الغابة يكاد يلمس مقاطعة «فالتاري»، وافقت على تسهيل أعمال الحطابين، وأن أرسل لهم الطعام من المزرعة، وكان الرجل الذي عليه أن يقوم بذلك يُدعى «بوت». إنه أحد رجالي الذين كنت أتحدث إليهم عن طيب خاطر، حاولت أن أراه بدون أن أذهب من أجل ذلك إلى المزرعة؛ لأنني لم أكن أخرج في تلك الآونة إلا قليلًا، ولم أترك الغابة لبضعة أيام إلا قليلًا. ولم أعد إلى «لامورنيير» إلا من أجل ساعات الراحة.
كان عليَّ أن أرقب العمل، ولكن الحقيقة أنني كنت أرقب العمال.
أحيانًا ينضم إلى المجموعة من الرجال الستة اثنان من أبناء «هورتفان»، الأول في العشرين من عمره، والثاني في الخامسة عشرة، يبدوان نحيفان، وجامدَا الملامح وكأنهما من عرق أجنبي، وقد علمت فيما بعد أن أمهما إسبانية. اندهشت في البداية، كيف جاءت إلى هنا؟ ولكن «هورتفان» كان نزقًا في شبابه، قد تزوجها على ما يبدو في إسبانيا؛ ولهذا السبب كان محط أنظار البلد. في المرة الأولى التي فيها التقيت فيها بأصغر الشابين — كما أتذكر— كان المطر يهطل، وكان يجلس وحده فوق عربة مرتفعة وفوقها كومة عالية من أحزمة الحطب، تمدد بين الأفرع، وراح يغني ويدندن بأغنية غريبة لم أسمع بها قط في البلاد.
كانت الجياد التي تجرُّ العربة تعرف طريقها، تتقدم بدون أن يقودها أحد، لا أستطيع أن أتكلم عن التأثير الذي أحدثته هذه الأغنية فيَّ؛ لأنني لم أسمع مثلها إلا في أفريقيا … بدا الصغير ثملًا، فعندما مررت لم ينظر إليَّ، وفي اليوم التالي عرفت أنه ابن «هورتفان». ولرؤيته ثانية أو لانتظاره؛ فيجب أن أؤخر عملية قطع الأشجار، لم يأتِ وَلدَا «هورتفان» سوى ثلاث مرات، كانا يبدوان متباهيَين، ولم أستطع الحصول على كلمة منهما.
كان «بوت» — على العكس — يحب أن يحكي، وقد أدركت أنه سوف يفهم قريبًا أنه يمكن أن يتكلم معي، إنه لا يغضب أبدًا ويفهم البلد، اهتممت بسره الغامض، وفي كل مرة كان يخيب أملي، ولا يعمل على إرضائي، هل هو الذي يتذمر مدعيًا أن الأمر ليس سوى خداع جديد؟ وماذا يهم؟ سألت «بوت» وأنا أحدثه عن حياة القوطيين، وعن نصوصهم التي تخرج منها أبخرة كثيفة تصعد إلى رأسي … وأخشى عند أقل عتاب بيننا، أن تُفقد بيننا الثقة، ابتسم، وبروح الفضول التي تنمو في داخلي.
قلت: والأم، ألم تقل شيئًا؟
– ماتت الآم منذ اثني عشر عامًا … لقد قتلها.
– كم عددهم في الأسرة؟
– خمسة أطفال، لقد رأيت أكبر الأبناء والأكثر شبابًا، إنه في السادسة عشرة، وهو ليس قوي البنيان، ويريد أن يصبح قسًّا، ثم الفتاة الكبرى، وطفلًا من الأب …
وعرفت — بالتدريج — أشياء أخرى، تجعل من منزل «هورتفان» مكانًا مشتعلًا، ذا رائحة نفاذة. راح خيالي يلفُّ حوله كأنه ذبابة تطن حول لحم، وهي تلفُّ. ذات مساء، حاول الابن الأكبر أن يغازل الخادمة، وحين راحت تقاوم، حاول الأب أن يساعد ابنه فاحتواها بين يديه القويتين، وأثناء ذلك كان الأخ الأصغر يستكمل صلاته في الطابق الأعلى، فيما ظل الأصغر شاهدًا على المأساة، يتسلى، تنبهت أن الأمر ليس صعبًا. لأن «بوت» بعد فترة طويلة حكى أن الخادمة أرادت أن تفسد القس الصغير.
سألت: ألم تنجح المحاولة؟
أجاب بوت: كان الأمر أكثر جسامة.
– ألم تقل: إن هناك فتاة أخرى؟
– أجل، لا يجب أن ننام عند الأب … ولكن هذا أمر لا يهم الآخرين.
تشجعت من نظراته، وسألت: ألم تحاول؟
أخفض عينيه متصنعًا، وقال مازحًا: أحيانًا. ثم رفع عينيه بسرعة: والصغير أو «بوكاج» أيضًا.
– أي صغير؟ هل هو أبو «بوكاج».
– «السيد»، إنه الذي ينام في المزرعة. ألا يعرفه سيدي؟
أكمل «بوت»: حقًّا، ففي العام الماضي كان عند عمه، ولكن المدهش أن «السيد» لم يقابله في الغابة؛ لأنه يذهب إلى الصيد في كل مساء.
قال «بوت» هذه الكلمات الأخيرة بصوت خفيض وهو ينظر إليَّ، فهمت أنه متعجل الابتسام، ثم أكمل بوت وهو يحس بالرضاء: السيد يعرف مكانًا يصطادون فيه الحشرات، فالغابة أوسع من أن يكون فيها مكان واحد للصيد.
هناك كنا نتسلى جيدًا أنا وبوت، حيث نغرس وتدًا لا يمكن اكتشافه، وأقسم له أنني لن أتخلى عنه أبدًا. ولقد رحل «بوت» هو لا يريد أن يفعل شيئًا، أما أنا فقد تمددت فوق أرض المنحدر ورحت أنتظر.
انتظرت ثلاث أمسيات بلا فائدة، وبدأت أومن أن «بوت» قد خدعني، في الأمسية الرابعة سمعت وقع خطوات تقترب، خفق قلبي، وعرفت معنى الخوف اللذيذ المصاحب للترقب، كانت القبة قد غرست من قبل «السيد» بكل حرفية، رأيته فجأة يختبر الوتد النحاسي، أراد أن ينفذ منه، فسقط، وراح يضرب في الهواء كفريسة وقعت في مصيدة، لكنني أمسكته، إنه صبي وقح، أخضر العينين، أما شعره الأصفر فيبدو كأنه لشخص لئيم، ركلني بقدمه، ثم حاول أن يغضبني، وعندما لم ينجح ألقى على مسامعي أقذع الشتائم التي سمعتها في حياتي، وفي النهاية لم أستطع الإمساك به، فانفجرت ضاحكًا، ثم أوقفته فجأة، ونظر إليَّ، وبنبرة يائسة قال: أيها الوغد، إنك تؤلمني. انظر.
خفض جوربه إلى أسفل حذائه وأشار إلى ندبة ميزتها بصعوبة، بدت مائلة إلى اللون الوردي قليلًا. ابتسم قليلًا ثم قال بمكر: سوف أخبر أمي أنك وضعت الفخ في طريقي.
– يا إلهي، إنه واحد من فخاخك!
– بالتأكيد أنت الذي وضعتها هناك.
– ولماذا لا تكون أنت؟
– أنت لا تعرف جيدًا، أرني كيف تفعلها.
– علمني.
في هذا المساء عدت في ساعة متأخرة من أجل العشاء، وكالعادة وجدت «مارسلين» قلقة، لم أحكِ لها أنني أقمت ستة أطواق «مصائد» بعيدة عن زئير «السيد» الذي منحته ستة قروش.
في اليوم التالي رحت أراجع معه كل الأوتاد، وشعرت بالسعادة عندما عثرت على أرنبين بين المصائد، أطلقت سراحهما؛ فالصيد لم يكن من اهتماماتي، فماذا ستنتاب هذه الفريسة إذَن؟ وكيف يمكن أن نمسكها بدون أن نقترف خطأً؟ إنه «السيد» الذي أمسكها كما صرح لي. وأخيرًا عرفت من «بوب» أن «هورتفان» هو رجل أعمال، وأنه يجب أن أتدخل بين «السيد» وبين الشاب الأصغر من أبناء ألومسيين، أكثر من قبل في هذه الأسرة الغاضبة، لكن بأي عاطفة سوف أصطاد؟
كنت أقابل «السيد» في كل مساء؛ فنمسك الأرانب بأعداد كبيرة، أمسكنا في إحدى المرات ماعزًا صغيرًا، كان يتحرك بصعوبة، لا أتذكر أي بهجة سببها لي «السيد» وهو يقتله بدون خوف، لقد وضعنا الماعز في المكان الصحيح، حين استطاع ابن «هورتفان» أن يأتي للبحث عنه في الليل.
منذ ذلك الحين لم أخرج من المنزل في النهار — حسب إرادتي — حيث بدت لي الغابة الخاوية أقل جاذبية، حاولت أن أعمل بلا هدف؛ لأنني منذ أن انتهيت من دراستي الأخيرة رفضت أن أكمل الطريق، إنه عمل ناكر للجميل، وأصبح يسبب لي أقل قدر من البهجة، وأصبحت أقل ضجة في الريف، وأي صيحة كفيلة بإثارتي. كم من مرة جلست أقرأ بعيدًا عن نافذتي حتى لا أرى أحدًا يمر! وكم من مرة خرجت فجأة … أما الشيء الوحيد الذي كنت قادرًا عليه فهو أنني أمتلك أحاسيسي.
ولكن عندما يحل الليل، والليل هنا يحل سريعًا، أحس أن ساعتنا قد حانت، فلا أشك حتى في الحمَّال، أخرج مثلما يخرج اللصوص، وتصبح عيناي كأنهما عينا طير الليل، فيشد العشب المتموج العالي انتباهي، وأيضًا الأشجار الكثيفة، ويحفر الليل كل شيء، وتبتعد الأشياء فتصبح الأرض بعيدة، والمسطحات عميقة، وتبدو الممرات حساسة، ونحس أننا نعيش وجودًا مظلمًا.
– ترى أين يتصور أبوك مكانك الآن؟
– في حراسة الحيوانات في الحظيرة.
كان «السيد» ينام هناك، وكنت أعرف ذلك، قريبًا من الحمام والدواجن، وكأنه يحبس نفسه هناك كل مساء، ويخرج من فتحة ضيقة من السقف، وتلتصق بملابسه روائح الدواجن الدافئة.
ثم فجأة يسقط الصيد، فيتسلل في الليل كأنه سيسقط في فخ، بدون أي إيماءة وداع، وبدون أن يقول لي: إلى الغد. كنت أعرف أنه قبل أن يعود إلى المزرعة فإن الكلاب تلزم الصمت. يقابل الصغير «هورتفان» ويسلمه العلف، ولكن أين؟ هذا ما لم تتوصل إليه رغبتي، تهديدات، ومكائد فاشلة، لم يكن آل «هورتفان» يتركون أحدًا يقترب منهم، لم أعرف أين يكمن سر هذا الانتصار الجنوني والسر الغامض الذي يتراجع دائمًا أمامي بالنسبة لهم؟ هل يمكن أن نتوهم الغموض بقوة الفضول، فنرى ماذا يفعل «السيد» حين يتركني؟ هل ينام فعلًا في المزرعة؟ آه لم أخفِ عنه احترامي له ولا ثقتي الزائدة فيه، لقد أثارني هذا، ومنحني بعض السلوى.
لقد اختفى فجأة، فأصبحت وحدي بشكل يثير الخوف، عدت عبر الحقول وسط العشب الكثيف. وقد أسكرني الليل والحياة البرية والفوضى، وتبللت ملابسي ولوثني الوحل، وغطتني الأوراق، ومن بعيد بدت «لامورنيير» بعيدة ونائمة، وكأنها ترشدني كالنار، خاصة مصباح غرفة «مارسلين»، لم أستطع أن أنام بالفعل فوق سريري، ولم أتوقف عن التفكير وقد لمسني خوف شديد.
كانت حصيلة الصيد هذا العام وفيرة من الأرانب، والأرانب البرية التي تتابعت على أوتاد المصايد، ورحت أرى كل شيء يمشي على ما يرام، «بوت» فظل يخبرنا طوال الأمسيات الثلاث أنه سوف يلحق بنا بدون أن يفعل ذلك.
وفي الأمسية السادسة من ليالي الصيد لم نجد أكثر من طوقَين من الاثني عشر، وعندما طلع النهار طلب مني «بوت» مائة قرش كي يشتري الخيط النحاسي؛ لأن الخيط الحديدي لا ينفع في شيء.
في صباح اليوم التالي، غمرتني السعادة حين رأيت عشرة أطواق عند «بوكاج»، وكان عليَّ أن أكافئه على حماسه الأكثر حمية مما كان في العام الماضي، لقد وعدته بعشرة مليمات لكل طوق ممسوك، وكان عليَّ أن أعطي مائة إلى «بوكاج»، وفي هذه الأثناء كان «بوت» قد اشترى لنا الخيط النحاسي بمائة قرش، فجمعت مائة جديدة ﻟ «بوكاج» الذي قال لي وأنا أهنئه: لست أنا الذي يجب أن تهنئه، إنه «السيد».
– أوه!
كم من دهشة يمكن أن تضيعنا؟ أحسست أنَّ عليَّ أن أتماسك.
– أجل، أكمِل يا «بوكاج»، ماذا تريد؟ «السيد»! أنا رجل عجوز، وأنا مشغول كثيرًا بالمزرعة، وأصبحت الغابة صغيرة عليَّ الآن! إنه يعرفها أحسن مني، إنه شخص لئيم، ويعرفها أفضل مني، حيث يروح يفتش ويحصد الصيد.
– أنا أعرف ذلك جيدًا يا «بوكاج».
– إذَن، مقابل المائة قرش التي منحته إيَّاها؛ فإنني سأترك خمسة قروش عن كل صيد.
– أقسم أنه يستحقها، عشرين طوقًا في خمسة أيام! لقد اشتغل بكل جدية، كما بذل الصيادون ما في وسعهم، وعليهم أن يستريحوا الآن.
– آه يا سيدي، فبقدر ما أعطَوا بقدر ما نالوا؛ فالصيد يباع بسعر طيب هذا العام، والسعر أعلى ببضعة قروش.
– ورُحت أمثل أنني أُصدق «بوكاج»، وأن ما يعنيني في هذا العمل ليس هو الربح المتضاعف الذي يراه «السيد» وأنا أراه يخدعني؛ فتُرى ماذا سيفعلان بالنقود هو و«بوت»؟ لا أعرف شيئًا من آخرين، إنهما يكذبان دومًا ويخدعانني لمجرد الخداع؛ فهذا المساء لم يأخذا مائة قرش فقط، بل عشر فرنكات أعطيتها لبوت، وحذرته أنها المرة الأخيرة؛ لأننا لو استعدنا الأطواق، فسوف تكون الخسارة كبيرة.
وفي اليوم التالي جاء «بوكاج» لزيارتي، بدا شديد الغضب، وكنت أكثر منه غضبًا؛ فترى ماذا حدث؟ أخبرني «بوكاج» أن «بوت» لم يعد إلا بصيد صغير من المزرعة، وأن إحدى الفرائس كانت بولندية، وعندما واجهه «بوكاج» بأول كلمة ردَّ عليه وشتمه، ثم رمى بنفسه عليه وضربه.
قال لي «بوكاج»: لو أذِن لي سيدي وأعطاني السلطة؛ فإنني سوف أطرده.
– سوف أفكر يا «بوكاج»، أنا شديد الأسف؛ لأنك قد تفقد هيبتك، وأنا أرى أن تدعني وحدي أفكر، وعُد هنا بعد أسبوعين.
وخرج «بوكاج».
لو احتفظت «ببوت» فسوف أفقد «بوكاج»، ولو طردت «بوت» فسوف أدفعه للانتقام، خسارة! لقد فسد، وأنا المذنب الوحيد؛ ولذا فعندما عاد «بوكاج» قلت: أيمكنك أن تخبر «بوت» أننا لا نود رؤيته هنا ثانية.
– ثم انتظرت ماذا يفعل «بوكاج»؟ وماذا يقول «بوت»؟ وفي المساء فقط سمعت صدى الفضيحة، لقد تكلم بوت، أدركته أولًا من صيحاته التي أطلقها في مسكن «بوكاج»، كان الصغير «السيد» هو الذي يضرب، أما «بوكاج» فكان يتحرك جيئةً وذهابًا، سمعته يقترب، خفق قلبي بقوة؛ لأنه لا يضرب من أجل الصيد، يا لها من لحظة صعبة على المرء! لقد طرحت كل المشاعر الكبرى، وعليَّ أن أتصرف حيالها بشكل حاسم، ترى أي تفسيرات سوف يختلقها؟ ترى هل سأتصرف بشكل سيئ؟ آه … عليَّ أن أستعيد دوري.
دخل «بوكاج»، ولم أفهم شيئًا مما قاله، إنه أمر عبثي، ويجب أن أجعله يعيد ما قاله، إنه يؤمن أن «بوت» هو المذنب الوحيد، وقد أفلتت منه الحقيقة، وهي أنني أعطيت عشرة فرنكات إلى «بوت»، ولماذا أفعل؟ إنه رجل من «نورماندي»، لقد سرق «بوت» الفرنكات العشرة بالتأكيد، وهو يزعم أنني قد منحتها له، ثم أضاف الكذب إلى السرقة، وابتدع قصة لإخفاء سرقته، ليس «بوكاج» الذي يجب ألا نصدقه … المسألة لا تتعلق فقط بالصيد؛ فقد كان السبب الحقيقي لأن يضرب «بوكاج» «السيد» هو أن الصغير قد بات خارج المنزل.
وهكذا أنقذت الموقف، على الأقل أمام «بوكاج»، فكل شيء على ما يرام، ترى أي غبي هو «بوت»! بالتأكيد لن تكون لي رغبة هذا المساء في الصيد الممنوع.
اعتقدت أن كل شيء قد انتهى، ولكن بعد ساعة ظهر «شارل»، لم يبدُ عليه أنه يمزح، فهو يبدو من بعيد أكثر صلعة من أبيه، على الأقل أكثر من العام الماضي.
– حسنًا يا «شارل»، أنت لم تذهب منذ فترة طويلة.
– إذا حاول سيدي أن يراني فليس عليه سوى أن يأتي إلى المزرعة، صدقني، أنا لا أحب الغابة، خاصة في الليل.
– آه. لقد حكى لك أبوك.
– لم يحكِ لي أبي؛ لأنه لا يعرف شيئًا، كم هو في حاجة لأن يعرف.
– انتبه يا «شارل»، لقد ذهبت بعيدًا.
– يا إلهي، أنت السيد وتفعل ما يحلو لك.
– أنت تعرف يا «شارل» أنني لا أسخر أبدًا من أحد، ولو فعلت ما يحلو لي فإن هذا لا يلغي سواي.
وهز كتفيه هزة خفيفة: كيف تريد أن يدافعوا عن مصالحك، عندما تهاجم بنفسك؟ لا يمكنك أن تحمي الحارس وتصطاده.
– لماذا؟
– لأنه … آه … يا سيدي، هذه كلها أشياء لئيمة بالنسبة لي، وببساطة فإنه لا يعجبني أن أرى سيدي يكوِّن عصابة مع هؤلاء الذين يعطلون العمل ويفسدونه.
قال «شارل» هذا بصوت مليء بالثقة، وبدا شخصًا نبيلًا، لاحظت أنه يتصرف كما يريد، وأنه يرى أن هذا حق؛ ولذا لُذتُ بالصمت، فأكمل: لدينا واجبات تجاه ما نملك، لقد علمني سيدي في السنة الماضية، ولكن يبدو أنه نسِي، يجب أن نأخذ هذه الواجبات مأخذ الجد، ونتخلى عن اللهو مع … وإلا أصبحنا غير جديرين بما نملك.
وعمَّنا الصمت.
– هل هذا كل ما لديك لتقوله؟
– بالنسبة لهذا المساء، نعم يا سيدي، ولكن في أمسية أخرى إذا دفعني سيدي، ربما آتي لأقول له: إنني وأبي سنترك لامورنيير.
وخرج بخطًى بطيئة وهو يحييني، ثم رحت أفكر: «شارل»، إنه على حق، ولكن هل هذا ما يسميه «شارل» بالأملاك؟
جريت خلفه، ولحقت به في الليل، وبسرعة كي أؤكد على قراري المفاجئ: أخبر أباك أنني سأعرض «لامورنيير» للبيع.
حياني «شارل» بمهابة، وابتعد دون أن يقول كلمة، وبدا كل هذا عبثًا.
لم تتمكن «مارسلين» أن تنزل في هذا المساء من أجل العشاء، وأخبرتني أنها تعاني، صعدت مسرعًا — وقد ملأني القلق — إلى غرفتها؛ فأكدت لي توًّا: إنه ليس أكثر من لسعة برد كما توقعت، لقد أخذت بردًا.
– ألم يمكنكِ أن تتغطي؟
– بمجرد أن أحسست بالرعشة الأولى ارتديتُ الشال.
– ليس من الواجب أن ترتدي الشال بعدها، ولكن قبلها.
نظرت إليَّ، وحاولت أن تبتسم. آه! لعل يومًا سيئًا للغاية قد بدأ يجعلها تعاني، قالت لي بصوت عالٍ: هل تتماسك طالما أنا على قيد الحياة؟
لم أسمعها جيدًا. رأيت كل شيء يتفكك حولي، وكل ما تمسكه يدي، لم تعرف يدي ماذا تمسك، اقتربت من «مارسلين» ورحت أغطيها بالقبلات، لم تتماسك، وراحت تبكي على كتفي.
– آه! يا «مارسلين» لنرحل من هنا إلى مكان آخر، فسوف أحبك مثلما أحببتك في سورنتو … لقد اعتقدت أنني تغيرت، أليس كذلك، لكن سوف تشعرين أن شيئًا لم يغير حبنا.
ولم أشفِ حزنها … فهناك أمل ما قد تعلقت به.
لم يكن الشتاء قد تقدم بعد، لكن الجو كان منديًا وباردًا، وراحت براعم تنمو بدون أن تتلون، وأما ضيوفنا فكانوا قد تركونا منذ فترة طويلة، لم تعانِ «مارسلين» إلا من القيام بإغلاق المنزل، وخلال خمسة أيام كنا قد رحلنا.