القسم الثالث
(١)
مرة أخرى أن أغلق نفسي على حبي، ولكن كم أنا في حاجة إلى سعادة وسكينة؟ إنها «مارسلين» التي تمنحني ذلك، كأنها راحة أبدية لا تشعر أبدًا بالتعب، وكم أحسست أنها متعبة، وأنها في حاجة إلى حبي، رحت ألفها بحبي وأختلق الحاجة التي أعوزها، أحسست بآلامها التي لا تحتمل، سوف أظل أحبها إلى أن تُشفى.
آه! كم اعتنيت بها عاطفيًّا، وفي السهرات الرقيقة، مثلما يقوم آخرون بإحياء ضمائرهم وهم يبالغون في ممارستها. وهكذا طورت حبي، واستوعبته «مارسلين»، كما قلت، وكما أملت، فلا يزال ينبض فيها الكثير من الشباب، كما كانت تأمل، لقد هربنا من «باريس» كأننا نقضي ليلة عرس جديدة، ولكن منذ اليوم الأول لرحلتنا بدأ الألم يزداد، واضطررنا أن نتوقف في «نيوشاتل».
كم أحب هذه البحيرات ذات الضفتَين الأزورديتَين بلا أي رخام، ومياهها مثل المستنقع اختلطت طويلًا بالأرض، وتسربت بين عيدان البوص، كان عليَّ أن أجد غرفة من أجل «مارسلين» في فندق مريح تطل على البحيرة، ولم أتركها طيلة النهار.
راحت تتحسن برغم أنني منذ اليوم التالي أحضرت طبيبًا من لوزان، وقد أبدى الطبيب قلقه، وبدا الأمر غير مجدٍ، حاول أن يعرف شيئًا عن أسرة زوجتي، هل عرفت حالات عديدة من الدرن؟ أجبت بنعم. لم أكن متأكدًا، أشعرني بغم حين قال إنني السبب في كل هذا. وسألني عمَّا إذا كنت مريضًا قبل أن أعتني ﺑ «مارسلين»؟ بحت له بكل شيء، برغم أن الطبيب لم يطرح ذلك إلا بشكل عارض، فإنه أكد لي أن المرض يعود تاريخه إلى فترة زمنية قديمة، ونصحنا بالجو النقي في أعلى جبال الألب، مؤكدًا أن «مارسلين» سوف تبرأ، كنت أرغب أن أقضي الشتاء بأكمله في «أنجادين»، خاصة أن «مارسلين» لم تكُن تحتمل السفر، ومع ذلك رحلنا.
كم أذكر كل حدث عشناه على الطريق، كان الجو ملبدًا وباردًا؛ فارتدينا أكثر الفراء دفئًا … وفي «كوار» لم تتوقف الزوبعة، فمنعتنا تمامًا من النوم، وأخذت نصيبي من ليلة بيضاء لم أحس فيها بالتعب، لم أنزعج قط من هذه الضجة، سوى أن «مارسلين» لم تجد لها مكانًا في غرفتي، حاولت أن أنام برغم الضجة، وكانت «مارسلين» في أشد الحاجة إلى النوم. وقبل فجر اليوم التالي رحلنا، وجلسنا في نفس الأماكن في العربة المتجهة إلى «كوار»، وانطلقت الجياد بشكل جيد يسمح لنا أن نصل إلى «سان موريتز» في يوم واحد.
عبرنا «تفنكسنان» و«بوجوليه» و«سمدان» … وأذكر كل شيء، ساعة ساعة، شخص يأمل كل ما هو جديد، ونقاء الهواء، وصهيل الجياد، وسط جوعي ولهاث الظهر أمام الفندق، والبيض المسلوق الذي أحبه في الشوربة، والخبز والنبيذ المثلج، هذه الأطعمة الخشنة كانت تسبب ألمًا ﻟ «مارسلين»؛ فلم تستطع أن تأكل سوى القليل، أو لا تأكل شيئًا بالمرة سوى بضع قطع من البسكويت الجاف التي اشتريتها لحسن الحظ من على الطريق.
كنت أرى غروب النهار، وسرعة صعود الظل على منحنيات الغابات، ثم عند المحطة، أصبح الهواء أكثر حيوية وأكثر حركة. وعندما توقفت العربة انغمسنا بكل قلوبنا في الليل، وفي الصمت الرخو الهش … ليست هناك كلمات أخرى، فأقل ضجة تأخذني في هذا الجو الغريب الشفاف. وفي المساء نعاود الرحيل، تسعل «مارسلين» … آه! إنها لا تتوقف عن السعال؟ أتذكر عربة مدينة سوسة، يبدو لي أنني كنت أسعل أكثر منها، إنها تبذل جهدًا خارقًا … كم تبدو ضعيفة ومتغيرة! في الظل أكاد أتعرف عليها بصعوبة، فقد شحبت ملامحها، ترى هل أراها هكذا بهذين الثقبين السوداويين في مفارشها؟ آه! إنها تسعل بشكل مخيف! هذه هي حصيلة عنايتي بها، خفت من التعاطف معها، ففيه تختبئ كل العدوى؛ فنحن يجب ألا نتعاطف إلا مع الأقوياء.
حقًّا، إنها لا تستطيع! ولن يحدث ذلك قريبًا … ماذا تفعل؟ تمسك منديلها وتضعه على شفتيها. وتستدير … شيء مرعب! هل سوف تبصق دمًا ثانيةً؟ أشد المنديل بعنف من يديها، وأنظر إليه في ضوء المصباح الضعيف … لا شيء … لكنني أحس بالمعاناة. تجاهد «مارسلين» بحزن في أن تبتسم وتتمتم: لا. لا يزال بعد.
وصلنا أخيرًا. ليس أمامنا سوى الوقت، نتماسك بصعوبة، ولا تقنعنا الغرف التي تُعدُّ من أجلنا، نقضي فيها الليل وفي الغد نغيرها. لم يبدُ لي شيئًا جميلًا ولا غاليًا. موسم الشتاء لم يبدأ بعد؛ فإن أغلب الفندق خالٍ من الروَّاد، ويمكنني أن أختار، اخترت حجرتَين واسعتَين يدخلهما الضوء، وبهما أثاث بسيط، وقاعة كبيرة تؤدي إلى نافذة يمكن أن نرى فيها البحيرة الزرقاء، ولا أعرف أي مرتفع بشع هذا، إنه ذو انحناءات وعرة ومكشوفة تمامًا. هناك كنا نُعدُّ وجباتنا. كانت الغرفة غالية السعر، لكن ماذا يهم؟ لم تكن أبحاثي معي، لكننا بعنا «لامورنيير»، وسوف تسير الأمور على ما يرام … من ناحية أخرى هل أنا في حاجة إلى المال؟ هل أنا في حاجة إلى كل ذلك؟ لقد أصبحتُ قويًّا الآن … أعتقد أن تغيُّرًا ماليًّا كاملًا يجب أن يتم أكثر من تغيُّر في صحة «مارسلين»، إنها في حاجة إلى مكان فخم، فهي ضعيفة … آه! فمن أجلها أودُّ لو أنفقت كل ما أملك وسرعان ما ينتابني. الخوف والإحساس بالفخامة. لقد غسلتها، وحممت فيها مشاعري الحسية، ثم تمنيتها شاردة.
وبدأت «مارسلين» في التحسن، وانتصرت عنايتي الصارمة، وعندما أصبحت قادرة على الأكل، رحت أحمِّس شهيتها بكلماتي وتوسلاتي، كنا نشرب أحسن النبيذ، وتمنيت أن تتذوقه جيدًا، وكم كانت تسليني هذه الأنوار الغريبة التي تعبر عنها كل يوم، إن لها عبق نبيذ الراين، وشراب «التوكي» الذي يملؤني بالنشوة الحقيقية، إنه شراب غريب، لم يبقَ منه سوى زجاجة، ولا أستطيع أن أحدد مذاقه الموجود في الزجاجات الأخرى.
في كل يوم كنا نخرج في سيارة، ثم إلى زحافة، وعندما يتساقط الجليد نتلفع بالفراء حتى الرقبة، وأولِّي وجهي للنيران، وقد ملأتني الشهية ثم النوم، لم أكُن قد تخليت تمامًا عن العمل، وفي كل يوم كنت أخصص ساعة لأنجز ما يجب أن أقوله. لم يكُن التاريخ محل نقاش، فمنذ أمد طويل وأبحاثي التاريخية لم تَعُد تهمني إلا كوسيلة للراحة النفسية، وتساءلت: كيف ارتبطتُ من جديد بالماضي؟ عندما تصورت أن المتاعب تتراكم، — زعمت بقوة الضغط على الموتى — أنني أحصل منهم على بعض تعليمات الحياة السرية … الآن فإن الشاب «أمالريك» يمكنه أن يكلمني، وينهض من مقبرته. لم أسمع الماضي قط، تُرى هل تكفي إجابة قديمة للرد على سؤال جديد؟ وماذا يستطيع الإنسان؟ هذا هو ما يهمني معرفته، وما قاله الإنسان حتى الآن. ترى ماذا يمكنه أن يقوله؟ ألم يجهل دومًا ما يكونه؟ ألم يبقَ له ما يقوله؟ نحن نتخبط يوميًّا داخل مشاعر الثراء الخفي الذي يغطي ويخنق الثقافات والمعنويات.
بدا لي أنني ولدت من أجل نوع مجهول من الوجود، اندمجت عاطفيًّا في أبحاثي الصعبة التي أعرف فيها أن على الباحث أن يدفع عن نفسه الثقافة، والكياسة، والمعنى.
لم أستطع أن أتذوق شيئًا آخر سوى بعض الاحتجاجات الوحشية، ولسبب بسيط لم أرَ في المشرف سوى القيود والاعتراضات والخوف، أعجبني أن نتحابَّ وكأنه أمر صعب ونادر. بدت عادتنا ذات عامل مشترك وأبدي متعاقدًا عليه، إنها في سويسرا تمثل جزءًا من التوافق، فهمت أن «مارسلين» في أمسِّ الحاجة إليها، ولكنني لم أخفِ عنها أفكاري ودراساتي الجديدة لتلك الأفكار. لقد كانت تمتدح هذا الشرف الذي تتنفسه في «نيوشاتل» من خلال الجدران والوجود، قلت: دراستي تكفيني بشكل متسع، لديَّ ما يكفي من الشرفاء لدرجة مثيرة، وليس لدي ما أخشاه منهم، ليس لديهم ما يقولونه … الشعب السويسري شريف! ولا شيء يهمه، إنه يعيش بلا جرائم، ولا حكايات، ولا أدب، ولا فنون، أنه أشبه بزهرية خالية من الورد والأشواك.
كم يضايقني هذا البيت الشريف، خاصة ما تعرفه عن ماضيه، ولكن خلال شهرين أصبح هذا الملل نوعًا من الصرع، رحت أفكر في الرحيل.
كنا في منتصف يناير، ولقد تحسنت «مارسلين» كثيرًا، وتلاشت الحمى عنها ببطء، وبدأ الدم يورد خديها، مثلما كانت قبل المرض، لم أجد صعوبة في إقناعها أن كل شيء على ما يرام، وأن هذا الجو كان مناسبًا، وأنه من الأفضل الآن أن ننزل إلى إيطاليا حيث أرض الربيع الدافئة التي ستساعد على شفائها نهائيًّا، لم أجد صعوبة في إقناع نفسي بذلك بعد أن مللت كثيرًا من هذا العلو الشاهق.
ومع ذلك، فالآن، راح الماضي الكريه يستعيد قوته وسط كل هذه الذكريات التي تغريني، والتدريبات السريعة في التزحلق، واللعب في الهواء الجاف، وتلطخ الجليد، والمشي الحذر في الضباب، وصفاء الأصوات الغريب، وظهور بعض الأشياء المفاجئ. ظل البعض في القاعة وهم يقرءون ويشاهدون المناظر الرائعة عبر الزجاج ومناظر الجليد التي تخفي معالم العالم الخارجي، جمعت الأفكار بشكل حسي … ورحت أتزحلق على الجليد معها، فوق البحيرة النقية المحاطة بأشجار الأرز الضائعة، ثم أعود معها في المساء.
كان النزول إلى إيطاليا بالنسبة لنا أشبه بدوامات السقوط. بدا الجو جميلًا، رحنا نغوص في الهواء الدافئ والكثيف، بدت الأشجار متجمدة في أطرافها: الأرز، والصنوبر. بدت خضرة الأشجار الداكنة غارقة في البلل وأن عليَّ أن أترك الحياة المجردة، وبرغم الشتاء فقد رحت أتخيل العطور تفوح في كل مكان، آه! منذ وقت طويل لم نضحك إلا من الظلام! لقد أثملني الحرمان، وأسكرني العطش، مثلما يسكر آخرون من النبيذ.
كانت حياتي المالية مستقرة، وعلى عتبة هذه الأرض الزاخرة والواعدة لشهيتي المتفجرة، يكمن حب ضخم يعصف بي، ويتسرب أحيانًا من أعماق جسدي إلى رأسي ويخترق أفكاري.
لم يستغرق هذا الوهم الربيعي سوى القليل من الوقت، واستطاع أن يزعجني تغير الموقف المفاجئ للحظة، ولكن ما إن غادرنا ضفتي بحيرات «بلاجيو» و«كوم»؛ حيث أقمنا بضعة أيام حتى وجدنا الشتاء والمطر، أما المطر الذي عانينا منه فقد كان في «أنجادين»، وهو ليس أكثر جفافًا وخفة مثلما هو في أعالي الجبال، ولكنه رطب وجاف، مما جعلنا نعاني. راحت «مارسلين» تسعل، وكي نهرب من البرد توجهنا نحو الجنوب، ثم تركنا ميلانو إلى نابولي التي كانت — تحت مطر الشتاء — أكثر المدن التي عرفتها مرارة، وعشنا مللًا لا اسم له، ثم آثرنا العودة إلى روما لنبحث عن الدفء والراحة؛ فأجرنا غرفة واسعة فوق مرتفعات «بيشينو» وكانت ذات موقع متميز، ولم أشعر بالارتياح في فنادق فلورنسا. وأجرنا «فيلا» رائعة لمدة ثلاثة أشهر تطل على «وادي شيلي». لم نبقَ هناك أكثر من عشرين يومًا، وفي كل مرحلة جديدة كنت أعتني بكل شيء، فقد كان علينا أن نعاود الرحيل؛ لذا راح شيطان قوي يدفعني للرحيل، لم نحمل معنا سوى ثماني حقائب، واحدة منها مليئة بالكتب، لم نفتح أيًّا منها طوال الرحلة.
لم أذكر أن «مارسلين» انشغلت بأمر المصاريف، ولم أحاول أن أتولاها، فهي منهكة تمامًا، وكنت أعرف أنه يمكنها أن تفعل شيئًا، أما «بوكاج» فقد كتب أنه لم يجد مشتريًا، ها هو ذا المستقبل يؤكد أن المصاريف ستكون أكثر.
آه! كما أنا في حاجة إلى الكثير ودفعة واحدة! رحت أفكر وأتأمل، وأنا أعاني وأترقب، فلا شك أن حياة «مارسلين» الهزيلة تتبدد أسرع من ثروتي. وبرغم أنها كانت تلقى مني كل عناية؛ فإن هذه التنقلات السريعة كانت تتعبها، ولكن الذي أتعبها أكثر — وأستطيع أن أبوح بذلك الآن — هو الخوف من أسلوبي في التفكير.
قالت لي يومًا: أنا أفهم مذهبك، مذهب العصر، إنه رائع! ثم أضافت بصوت خفيض ومحزن: ولكنه مذهب الضعفاء.
أجبت على الفور رغمًا عني: هذا هو المفروض.
ورحت أتشمم — تحت تأثير وقاحة كلمتي — هذا الكيان الحساس ينثني ويرتعد. آه! ربما تفكرون أنني لم أحب «مارسلين»، أقسم إنني أحببتها بقوة، ولم تكن ولم تَبدُ لي جميلة مثلما كانت في هذه المرحلة.
لقد انتشر المرض وأنهك ملامحها؛ لذا لم أتركها، ورحت أحوطها بكل عناية، وأحميها وأسهر عليها في كل لحظة، ليلًا ونهارًا، كان نومها خفيفًا، حاولت أن أجعل نومي أكثر خفة، أراقبها وهي تنام، وأستيقظ قبلها، وعندما أتركها أحيانًا ساعة أسير بمفردي في الحقول أو في الشوارع، ولا أعرف أي أهمية للحب والخوف أن تشعر بالملل الذي يربطني نحوها بسرعة، وأحيانًا أنادي إرادتي، وأحتج على هذه السلطة وأنا أقول لنفسي: أليس هذا هو ما تساويه؟ رجل مزيف كبير، يجعلني أخشى أن يدوم غيابي، وأعود وذراعاي محملتان بالزهور، زهور حديقة لم تتفتح أزهارها. أو نضجت نباتاتها قبل الأوان … نعم. أقول لكم: لقد أحطتها برعايتي، ولكن كيف أعبر عن هذا؟ لقد قلت من احترامي لنفسي، وأكثرت من تبجيلها، ومن يخبرني كم من العاطفة وكم من الأفكار يمكنها أن تسكن في الإنسان؟!
منذ أمد طويل انتهى الطقس السيئ، ووصل الربيع، أزهرت أشجار اللوز، إنه أول مارس، في الصباح أتوجه إلى ميدان «إسبانيا»، أرى الفلاحين يهزون الأغصان البيضاء، وزهور أشجار اللوز محملة في سلال البائعات، وكم تبلغ سعادتي حين أشتري باقة يحملها لي ثلاثة رجال، وأعود بكل هذا الربيع وقد تشابكت الأغصان عند الأبواب، وتسبح البتلات فوق السجاد، فأضع منها في كل مكان، في الزهريات، وتصطبغ القاعة باللون الأبيض، في اللحظة التي تغيب فيها «مارسلين»، ثم تلهيني فرحتها حين أسمعها قادمة، ها هي ذي تفتح الباب، ماذا بها؟ إنها تتأوه … تنفجر منتحبة:
– ماذا بك يا «مارسلين»؟
أسرع نحوها، وأغطيها بالمداعبات الرقيقة، وكأنني أعتذر عن دموعها. قالت: هذه الرائحة تؤلمني، إنها النهاية، هناك رائحة غامضة.
وقبل أن تكمل أمسكت كل الأغصان البريئة الهشة ورحت أحطمها، وكسرتها جميعًا وألقيتها، في حين تفجر الدم في عينيها، آه! لقد حل عليها ربيع لم تَعُد تحتمله.
كنت أتألم دومًا من هذه الدموع، وأعتقد الآن أنني أشعر بالذنب، إنها تندم على مواسم الربيع المنصرمة، رحت أفكر أن البهجة الكبرى لا تحل إلا على الأقوياء، أما هي فلا تكسرها الفرحة، مهما حدث، ولم تعُد تحتمل ما يمكن أن نسميه السعادة، وما أطلق عليه «الراحة». أنا الذي لم أكن أنشد سوى الراحة.
بعد أربعة أيام، رحلنا مرة أخرى إلى «سورنتو»، وفشلت في أن أجد الدفء. بدا كل شيء مرتعدًا، فالرياح لا تكفُّ عن الهبوب، مما أنهك «مارسلين» كثيرًا، أردنا أن ننزل في نفس الفندق الذي نزلنا فيه أثناء رحلتنا السابقة، وسكنَّا نفس الغرفة، ثم رحنا نتطلع بدهشة إلى الديكور المندي أسفل سماء ملبدة بالغيوم، فها هي ذي حدائق الفندق مبللة وتبدو ساحرة عندما ننزه حبنا فيها.
حاولنا أن نصل على بحر «باليرمو» الذي يوفر لنا المناخ المطلوب، فعُدنا إلى نابولي، ومن هناك أردنا أن نبحر، لكننا تأخرنا، لم أشعر بأي ضيق، فنابولي مدينة حية لا تعود أبدًا إلى الوراء.
كنت أجلس على مقربة من «مارسلين» طيلة النهار، وفي الليل تنام مبكرة تعِبة؛ فأروح أراقبها وهي نائمة، وأحيانًا أنام، وعندما تبدأ في اللهاث أحس أنها نائمة؛ فأنسحب بخفة، ثم أرتدي ملابسي وسط الظلام، وأتسلل إلى الخارج كاللصوص.
في الخارج أُطلق تنهيدة، وأتساءل: ماذا أفعل؟ لا أعرف الإجابة، فالسماء قد غامت، وتخلصت من سحبها، وبدأت أشعة القمر تملؤها.
أحيانًا أمشي بلا هدف، وبلا رغبة أو خشية، وأنظر إلى كل شيء بعيون جديدة، وأترقب في كل ليلة بعينين منتبهتين، أتنفس رطوبة الليل، وأضع يدي على أشياء، وأنا أتجول في المكان.
في آخر ليلة أقمناها في نابولي قمت بجولة حرة، وعندما عدت وجدت «مارسلين» تبكي، أخبرتني أنها خائفة، وأنها استيقظت فجأة وأحست بي هناك. رحت أهدئ من روعها، وأحدثها عن غيابي، وعدتها ألا أتركها، ولكن في أول ليالينا في «باليرمو»، رحت أخلُّ بوعدي، فخرجت. كانت أشجار البرتقال تطلق زهورها، وتدفع الرياح إلى خياشيمي بروائحها.
لم نبقَ في «باليرمو» سوى خمسة أيام، ثم اتجهنا إلى «تاورمين» التي اشتقنا لرؤيتها، هل قلت إن القرية معلقة في الجبل؟ كانت المحطة تطلُّ على شاطئ البحر، اصطحبتنا العربة إلى الفندق مباشرةً نحو المحطة؛ حيث رحت أجمع حقائبنا، ظللت واقفًا في العربة أتحدث مع الحوذي إنه صقلي صغير، جميل كقصيدة ثيوقراط، انطلق يتكلم وكأنه ثمرة طازجة، قال بصوت ساحر وهو ينظر إلى «مارسلين» تبتعد: كم هي جميلة هذه السيدة!
أجبت: وأنت أيضًا جميل يا فتى!
وبرغم أنني كنت قريبًا منه فلم أستطع الإمساك به، أو أن أجذبه، تركني أفعل وهو يضحك. وقال: كل الفرنسيين عُشَّاق.
أجبت وأنا أضحك: لكن ليس كل الإيطاليين عُشَّاقًا.
– رحت أبحث عنه في الأيام التالية، لكنني لم أستطع أن أجده.
تركنا «تاورمين» إلى «سيراكوزة»، ثم كان علينا أن نكرر رحلتنا الأولى بنفس الخطى، ونبدأ حبنا من جديد، ومن أسبوع لأسبوع، مثل رحلتنا الأولى عندما كنت أتماثل للشفاء، ومن أسبوع لآخر رحنا نتجه نحو الجنوب، في حين كانت حالة «مارسلين» تزداد سوءًا.
تملكتني رغبة جنونية يحكمها العناد الأعمى، خاصة أنني حاولت أن أقنعها أنه يلزمها الضوء والحرارة، ورحت أتذكر فترة نقاهتي في «بسكرة» … كان الجو دافئًا أحيانًا أقرب إلى «باليرمو»، كان معتدلًا، وقد أعجب «مارسلين». لعلها يمكن أن تتحسن هناك، لكن هل أستطيع الاختيار، وأن أقرر رغبتي؟
كان البحر في «سيراكوزة» والخدمة من الأمور العادية، وأجبرتنا السفن أن ننتظر ثمانية أيام، في كل لحظة كنت أقضيها قريبًا من «مارسلين»، رحت أقضيها في الميناء القديم، ميناء صغير تفوح منه رائحة الدهانات، ويمتلئ بالمتشردين، والبحارة السكارى، كان مجتمعًا مليئًا بأناس يتمتعون بصحبات جميلة، كم أنا في حاجة أن أفهم لغتهم، وأن يتذوقها جلدي جيدًا، أما بشاعة المشاعر فتبدو في عيني مخادعة، وتبدو عليها صحتها لا بأس بها، قلت لنفسي: إن هذه الحياة البائسة لا يمكن أن تمثل بالنسبة لهم سوى الذوق الذي أتمتع به. آه! أردت أن أجلس معهم تحت المائدة، وألا أستيقظ إلا على رعشة الصباح الحزينة، ورحت أخفي أمامهم رعبي المتنامي من كثرة الراحة، وهذه الموهبة التي تمثل لي حماية من صحتي التي جعلتني غير مجدٍ، ومن كل التحذيرات التي نمارسها كي نحفظ أجسادنا من الاتصال المفاجئ بالحياة. تخيلت وجودهم من بعيد، حاولت أن أتبعهم، وأنا أغوص في سكرتهم، ثم فجأة تراءت لي «مارسلين»، ماذا تفعل في هذه اللحظة؟ إنها تعاني، ولعلها تبكي … قمت مسرعًا، ورحت أجري، وعدت إلى الفندق، وبدا لي أنه مكتوب على الباب «هنا يدخل المساكين».
تستقبلني «مارسلين» بنفس الطريقة … لا تبدو عليها الثقة أو الشك، تحاول أن تبتسم برغم كل شيء، تتناول وجبتها، وأقوم بخدمتها، ويبدو الفندق المتوسط في أفضل حالاته، وأروح أفكر وأنا آكل قطعة خبز وجبن، تكفيها ثمرة «شمار»، وتكفيني مثلها، وربما كان هناك على مقربة منها شخص جوعان، وهناك من ليس لديه هذا الرزق البسيط، وها هو ذا على مائدتي أحتفظ به طوال ثلاثة أيام، حاولت أن أحطم الجدران، وأن أطرد الضيوف؛ لأن الإحساس بالجوع يجعلني أعاني بشدة، فأعود إلى الميناء القديم، وأطلب لقيمات صغيرة أملأ بها الجيوب.
فقر الإنسان هو عبوديته للأكل، إنها تجعله يقبل عملًا بلا متعة؛ فكل عمل ليس مبهجًا يثير الكراهية، رحت أقول لنفسي، لا تفعل هكذا، فهذا أمر يثير الملل، كم أحلم لكل إنسان بهذا الفراغ دون تفسير. يا للخطيئة! ويا للفن!
لم تناقشني «مارسلين» في أفكاري عندما عدت من الميناء القديم، ولم أخفِ عنها أي بشر مساكين أحاطوا بي، كلهم من البشر، فهمت «مارسلين» جيدًا ما أحاول أن أكتشفه، وكأنني جعلتها تؤمن بالفضائل التي تخترعها حسب رؤيتها وقالت لي: أنت لا تكون سعيدًا إلا عندما ترتكب بعض الرذائل، ألا تفهم أن نظرتنا تنمو وتنتشر إلى حد أن نصبح نحن ما نزعم أن نكون؟ حاولت أن أفهمها أنها ليست على حق، ولكن يجب أن أقول: إنه في كل كيان تبدو لي الغريزة المضاعفة أكثر صفاءً.
تركنا «سيراكوزة» وقد أغوتنا ذكريات الجنوب. عند البحر تحسنت «مارسلين» … رأيت صوت البحر هادئًا. أسمع صوت الهدير والضجيج المتموج، وغسيل الكوبري، عند الواحة ارتفعت فرقعات الأقدام الحافية للغسَّالين. رأيت «مالطة» بيضاء. ثم اقتربنا من «تونس»، وأدركت كم تغيرت!
كان الجو حارًّا ورائعًا، ويبدو كل شيء جميلًا، يهتز العشب بتلذذ، حاولت طويلًا أن أقول لكم كيف أصبحت. آه! ارتبكت روحي لهذه العقلانية غير المحتملة! فلم أحس بشيء من هذا النبل في داخلي.
في تونس، النور أكثر كثافة وقوة، والظل ممتد، ويبدو الهواء أكثر نقاءً، يلمع فيه كل شيء ويغوص ويسبح. هذه الأرض النشوى تبدو راضية، ولكنها لا تعبر عن أي رغبة، وترتفع فيها نسبة الرضا.
إن أرضي في إجازة من العمل الحرفي، كم أحتقر هؤلاء الذين لا يعترفون بالجمال الذي فرض نفسه. الشعب العربي يعيش فنه ويحياه، ويتغنى به ويشدو كل يوم، إنه لا يحدده أبدًا ولا يحتفظ به في أي عمل، وهذا سبب غياب الفنانين الكبار … كم آمنت أن الفنانين الكبار هم الذين يُكسبون الأشياء جمالًا طبيعيًّا من خلال ما يقولونه ويرونه: «كيف لم أفهم حتى الآن أن هذا كان جميلًا؟»
كان الليل في القيروان — التي لم أكن قد عرفتها جيدًا، حين ذهبت بدون «مارسلين» — جميلًا للغاية، وكانت حرارة الساحل المنخفضة قد أضعفت «مارسلين» كثيرًا، حاولت أن أقنعها بما يلزمنا، وهو أن نصل إلى «بسكرة» بأسرع ما يمكن، فقد كنا في بداية شهر أبريل.
بدا السفر طويلًا، وصلنا في اليوم الأول إلى «قسنطينة»، وفي اليوم التالي تعبت «مارسلين» كثيرًا، ولم نكن قد وصلنا إلا إلى «القنطرة»، رحنا هناك نبحث عن ظل ظليل أكثر فوجدناه، راح هذا الظل يزحف إلينا، ومن فوق المنحدر الذي نجلس عليه كنا نرى الوديان المتعانقة.
في هذه الليلة لم تقدر «مارسلين» على النوم، وتملكها صمت غريب، وكانت أقل ضجة تُسبب لها إزعاجًا، كنت أخشى أن تصاب ببرد، وسمعتها تسعل في سريرها، وفي اليوم التالي رأيتها شاحبة، فرحلنا.
وصلنا «بسكرة» التي كم نشدتها … ها هي ذي … ها هي ذي الحديقة العامة، والمقعد، عرفت المقعد الذي جلستُ عليه في الأيام الأولى من نقاهتي، ماذا يربطني به إذَن؟ فأنا لم أفتح كتاب «هوميروس» منذ ذلك الحين، وها هي ذي الشجرة التي مسست لحاءها، كم كنت ضعيفًا آنذاك! ها هم الأطفال لا لم أتعرف عليهم. كم تبدو «مارسلين» مَهيبة، لقد تغيرت مثلي. لماذا تسعل في هذا الجو الجميل؟ ها هو ذا الفندق. ها هي ذي غرفنا وشُرفاتنا. فيمَ تفكر «مارسلين»؟ لم تقُل لي كلمة حتى وصلت إلى غرفتها، فتمددت على السرير، فبدت تعِبة، وقالت إنها تريد أن تنام قليلًا، فخرجتُ.
لم أتعرف على الأطفال، لكن الأطفال عرفوني، وبمجرد وصولي أحاطوا بي تُرى هل يمكن أن يكونوا هم؟ لقد كبروا، ربما أكثر بعامين، يا له من أمر مستحيل متعب! ويا لها من خطايا! تُرى أي بشاعة تبدو فوق هذه الوجوه التي ينفجر منها الشباب؟ أي أعمال قاسية تنهك هذه الأجسام الجميلة؟ رحت أسأل.
«بشير» صبي يعمل في مقهى، و«عاشور» يكسب قروشه القليلة بكسر حجارة الطريق، أما «عطار» فقَد فَقدَ عينيه، وأما «صادق» فيساعد أخاه الأكبر في بيع الخبز في السوق، بدا عليه أنه أصبح غنيًّا، وأما «نجيب» فيعمل جزارًا مع أبيه، وقد أصبح بدينًا ودميمًا، إنه ثري ولا يريد أن يتكلم مع رفاقه الذين خاصمهم … كم من السمات الشريفة تبدو غبية! ترى هل أجد بينهم ما أكرهه فيما بيننا؟ وماذا عن أبي بكر؟ لقد تزوج وهو لم يبلغ الخامسة عشر. يا له من أمر جسيم! ومع ذلك قابلته في المساء، راح يشرح أن زواجه كان بمثابة صفقة تجارية، إنه — كما أعتقد — واجب مقدس، ولكنه يشرب ويفقد وعيه … وماذا بقي أيضًا؟ إنها الحياة! أحسست أن حزني الذي لا يُحتمل قد دفعني لرؤيتهم، لقد كان «مينالك» على حق، فالذكرى ابتداع الأسى.
وماذا عن مختار؟ لقد خرج من السجن، واختفى، ولم يتفق الآخرون معه، أردت أن أراه، لقد كان أكثرهم جمالًا، هل سوف يعرفني؟ لقد وجدوه … ترى هل سيصحبونني إليه؟ لا! لم تبدُ لي ذكرياتي رائعة، كانت قوته وجماله رائعين … ابتسم حين تعرف عليَّ.
– ماذا فعلت قبل أن تدخل السجن؟
– لا شيء.
– هل سرقت؟
احتج.
– ماذا تفعل الآن؟
ابتسم.
– إذَن، فليس لديك ما تفعله … سوف تصحبنا إلى «تورجورت».
لم تتحسن «مارسلين»، ولم أعرف ماذا يحدث لها، وعندما عدت في تلك الأمسية إلى الفندق، راحت تضغط على يدي دون أن تنطق كلمة، وقد أغلقت عينيها، كشف كمها الواسع عن ذراعها التي أصابها الهزال، داعبتها وضممتها طويلًا، كطفل نريده أن ينام، أهو الحب أم المعاناة؟ أم الحمى التي تجعلها ترتعد هكذا؟ ربما كان هناك وقت.
ألن أتوقف؟ لقد بحثت ووجدت ما هي قيمتي. إنها نوع من العناد الزائد، لكن كيف سأقول لمرسلين إننا سنرحل في الغد إلى «تورجورت»؟
إنها الآن نائمة في الحجرة المجاورة، القمر مضيء منذ وقت طويل ويضيء الشرفة بكاملها بضياء يثير الخوف، ولا يمكن أن يختفي … كان بغرفتي بلاط أبيض، بدا الضوء متسللًا من النافذة المفتوحة، وقد غطى الغرفة حتى الباب، لقد دخل قبل عامين بنفس الطريقة … نعم، إنه يتقدم الآن، وعندما قمت لأنام أسندت كتفي على الباب وتطلعت إلى أشجار النخيل ترى أي كلمات حفظتها في هذا المساء؟ … آه! نعم، كلمة السيد المسيح للقديس بيير: «الآن سوف تركن نفسك، وستذهب إلى حيث تشاء.»
ترى أين أذهب؟ أين أريد أن أذهب؟ لم أقرر. إلى نابولي. في المرة الأخيرة وصلت إلى بوستوم ذات يوم وحدي ورحت أبكي أمام الحجارة! وبدا الجمال القديم بسيطًا، وراقيًا، ومبهجًا، ومهجورًا، وأحسست بالفن في داخلي، هل أضع شيئًا مكان آخر؟ ما عادت الأشياء كما كانت، ابتسم، الابتسامة مشرقة، يا إلهي، أعطني القدرة لمعرفة هذه الأجناس الجديدة.
في صباح اليوم التالي ركبنا العربة ومعنا مختار الذي كان سعيدًا وكأنه الملك.
مررنا ببلاد كثيرة على الطريق: «شيجا»، «كتل دور»، «معزير» … بدا الأمر غير محتمل … فهذه الواحات تثير الضحك، ليس بها سوى الرمال والحجارة، وبعض الأدغال التي تنمو فيها زهور غريبة، وفي بعض الأحيان يتحول النخيل إلى مخابئ، كم أفضل الواحة في الصحراء … هذا البلد ذو المجد الخالد والروعة الأبدية يبدو فيه جهد الإنسان قبيحًا وبائسًا. الآن فإن كل الأرض الأخرى تثير فيَّ الملل.
قالت «مارسلين»: «هل تحب كل ما هو غير آدمي؟»
راحت تنظر إلى نفسها، وبكل نهم.
بدا الجو مزعجًا قليلًا في اليوم التالي، بمعنى أن الرياح اشتدت، وتبلد الأفق بالسُّحب، وراحت «مارسلين» تعاني؛ فقد راحت الرمال التي تتنفسها تحرقها، وتؤلم حنجرتها، وتعكس آثار التعب في نظرتها، وبدا هذا المنظر العدواني كأنه يقتلها، لكن الآن يبدو الوقت متأخرًا فيما يتعلق بالعودة، فخلال بضع ساعات سنكون في «تورجورت».
لا أذكر التفصيلات جيدًا بشأن هذا الجزء الأخير من الرحلة، أذكر المناظر في اليوم التالي، وما فعلته في «تورجورت». وأذكر أنني تذرعت بالصبر جيدًا.
اشتد البرد في الصباح، وفي المساء هبت ريح عاتية، ونامت «مارسلين» بعد أن أنهكها السفر بمجرد وصولها، تمنيت أن أجد فندقًا مريحًا، بدت غرفتنا مخيفة، غزاها الرمل والشمس والذباب، وكل شيء قذر وغير منعش، لم يتغير فيها شيء منذ الفجر. أعددت الطعام، لكن كل شيء بدا رديئًا ﻟ «مارسلين»، ولم أستطع أن أجعلها تتخذ قرارًا، أعددنا الشاي معًا، وانشغلت بالاعتناء بها، وفي العشاء تناولنا بعض الكعك والشاي الذي أكسبته المياه القذرة طعمًا غير مستساغ.
وفي ليلة أخرى، ظللت حتى المساء قريبًا منها، وفجأة أحسست بخوارٍ في قوايَ، ترى أهو طعم الرماد أم التعب، أم الحزن من الجهد غير الآدمي؟ أكاد أستطيع رؤيتها، وأعرف جيدًا أن عينيَّ بدلًا من أن تبحثا عن نظراتها فإنهما تركزان فوق فتحتي أنفها السوداوين. كانت تعبيرات وجهها قاتمة، ولم تكن تنظر إليَّ. أحسست بمعاناتها وأنا ألمسها، راحت تسعل كثيرًا، ثم نامت، ومن لحظة لأخرى تهزها الرعشات.
يمكن أن يكون الليل سيئًا، وقبل أن يتأخر كنت أودُّ أن أعرف إلى أين أتوجه فأخرج. وأمام باب الفندق ميدان «تورجورت»، والشوارع، والجو، يبدو كل شيء غريبًا لدرجة تجعلني أحس أنني لست الذي يراها، وبعد لحظات أعود، وأرى «مارسلين» تنام هادئة، وأحس بالخوف فوق هذه الأرض الغريبة التي ينفجر فيها الخطر، يا له من أمر عبثي! أحس بشيء يكتمني فأخرج.
في الميدان تنتابني مشاعر مريرة، الميدان صامت، تعزف الرياح موسيقى غريبة تمزق المكان ولا أعرف من أين تجيء .. أرى شخصًا يقبل نحوي، إنه مختار، قال إنه ينتظرني وإنه اعتقد أنني سأخرج، إنه يعرف «تورجورت» جيدًا، وكثيرًا ما جاء إليها ويعرف أين يصحبني، فتركت نفسي له.
سرنا في الليل، ودخلنا مقهى عربيًّا انبعثت منه الموسيقى، ترقص فيه نساء عربيات، هل يسمون هذه الحركات ذات الوتيرة الواحدة رقصًا؟
أمسكتني واحدة منهن بيدي، وتبعتها، إنها عشيقة مختار الذي صحبها، ودخلنا غرفة ضيقة بها قطعة أثاث واحدة هي السرير، سرير منخفض جلسنا عليه. هناك أرنب أبيض محبوس في الغرفة، هاج في البداية ثم سكن وجاء يأكل من يد مختار، جاءوا لنا بالقهوة، وبينما راح مختار يداعب الأرنب جذبتني المرأة نحوها.
آه! يمكن أن أتظاهر بالسكوت، لكن ماذا يهم في هذا الأمر؟ هل يمكن أن يصبح حقيقة؟
عدت إلى الفندق، وبقي مختار هناك طيلة الليل، كان الوقت متأخرًا، هبت رياح شديدة مشبعة بالرمل والزوابع برغم الليل، وما إن مشيت حتى غرقت فيها وهرولت لأعود، وسرت في التيار، ربما استيقظت … ربما كانت في حاجة إليَّ؟ لا … فممر الغرفة مظلم. سمعت صفير الرياح وأنا أفتح، دخلت برقة في الظلام، ما هذه الضجة؟ لم أعرف سعالها، فأضأت النور.
كانت «مارسلين» جالسة القرفصاء فوق سريرها، وقد وضعت إحدى يديها النحيلتين فوق مسند السرير في حين غرقت يداها وقميصها في فيضان الدماء، وبدا وجهها متسخًا، أما عيناها فقد اتسعتا بشكلٍ بشع، ولا أعرف أي صرخة ألم أثارتني في صمتها. بحثت في وجهها الشفاف عن مكان صغير أطبع عليه قُبلة، انطبع مذاق عرقها على شفتي، غسلت ورطبت جبهتها على السرير. انحنيت ولملمت المسبحة التي اشترتها من «باريس» والتي سقطت منها، وضعتها في يدها المفتوحة، ولكن يدها انبسطت! لم أعرف ماذا أفعل؟ وودت أن أطلب النجدة … سقطت يدها عليَّ في يأسٍ شديدٍ، ترى هل تصورت يائسة أنني أريد أن أتركها؟ قالت: «آه! يمكنك أن تنتظر أيضًا» … أحست أنني أريد أن أتكلم، فأضافت: «لا تقل شيئًا، كل شيء على ما يرام.» ومن جديد لملمت المسبحة، ثم تركتها من جديد. ماذا أقول؟ لقد سقطت، انحنيت عليها ورحت أضغط على يدها.
تركت نصفها على اللوح، والنصف الآخر على كتفي، وبدت نائمة قليلًا … ثم ظلت عيناها مفتوحتين.
وبعد ساعة انسابت يدها من يدي، واستقرت على قميصها، بعد أن مزقت الدانتلا، إنها تختنق. وفي الصباح انتابها التقيؤ الدموي.
(٢)
لقد انتهت حكايتي. ماذا أضيف؟ القور الفرنسية في «تورجورت» بشعة، فقد غطتها النيران. حاولت أن أنتزعها بكل ما بقي لي من قوة واهنة في هذا المكان، لقد استراحت في القنطرة، في ظل حديقة خاصة كانت تحبها، حدث هذا منذ ثلاثة أشهر، هذه الأشهر الثلاثة تبدو وكأنها قد ابتعدت لعشر سنوات.
ظل «ميشيل» صامتًا فترة طويلة، وسكتنا نحن أيضًا، أصاب كلًّا منا أسى غريب، لقد حكى «ميشيل» حكايته بشكل عقلاني، ولا نعرف كيف نتأكد من التبريرات التي قدَّمها لنا، والتي تبدو تقريبًا ضالعة، لقد أنهى قراءة النص دون أي رجفة في صوته، وبدون أن نشهد عليه أي حركة أو أي انفعال يزعمه، تملكه كبرياء جنوني لم يؤثر فينا لمرة، حاول إثارة عوطفنا بدموعه، لكن أبدًا لم أستطع أن أميز شيئًا فيه حتى الآن فيما يتعلق بالكبرياء، والجمود، والعفة.
ما يخيفني هو أنني ما زلت شابًّا، ويبدو لي أحيانًا أن حياتي الحقيقية لم تبدأ بعد. أبعدوني عن هنا الآن وأعطوني أسباب وجودي؛ فأنا لم أعرف كيف أجده، لقد تخلصت منه قدر الإمكان، لكن ماذا يهم؟ كم أعاني من هذه الحرية! صدقوني كم أنا مرهق من جريمتي!
من هذه الحرية! صدقوني كم أنا مرهق من جريمتي! من فضلكم سموها هكذا، ولكن يجب أن أبرهن لنفسي أني لم أتجاوز حقي.
لقد كان لديَّ أثر فكري عميق عندما عرفتموني أول مرة، وأنا أعرف أن هذا يصنع الرجال الحقيقيين، لكنني لم أبلغ هذا الأمر بعد، والسبب على ما أعتقد هو المناخ، فلا شيء يُحبط أكثر من الفكر الذي يلح على الإنسان، فكم من لذة تطارد الغريزة، تحوطها الروعة والموت. أحس الآن بالسعادة، وأرغب أن أهجرها، أنام وسط النهار كي أقضي وقت فراغي الذي لا يطاق.
ها أنا ذا هنا، انظروا إلى الحصى الأبيض الذي أضعه في الظل، كم أمسكت بالزَّبَد بين يدي حتى يتلاشى، فأعاود الأمر من جديد، أبادل الحصى، وأحاول أن أبلل التي خفت برودتها.
مر الوقت، وحل المساء … خذوني من هنا، فأنا لا أستطيع أن أفعل ذلك وحدي، لقد تحطم شيء ما في إرادتي، لا أعرف أين أجد القوة لأبتعد عن القنطرة.
أحس أحيانًا بالخوف؛ لأنني لا أستطيع الانتقام، أريد أن أبدأ من جديد، أريد أن أتخلص من بقايا ثروتي. انظروا … فهذه الجدران لا تزال مفتوحة … هنا لا أرى شيئًا تقريبًا. صاحب فندق نصف فرنسي، مَنحني قليلًا من الطعام، وأحضر لي الطفل الذي رأيتموه يهرب ليلًا ونهارًا مقابل بعض القروش. هذا الطفل الذي يبدو متوحشًا مع الغرباء يبدو لطيفًا وفيًّا. أخته اسمها «ولدنايل» تذهب في كل عام إلى «قسنطينة»، إنها جميلة، وكم عانت في الأسابيع الأولى، وتجيء أحيانًا لقضاء الليل معي، ولكن أخاها الصغير «علي» فاجأنا ذات صباح معًا، فثار غضبه، ولم يعد طوال خمسة أيام برغم أنه لم يعرف كيف رأى أخته، كان قبل ذلك يتكلم بلهجة ومعنى، هل هو غيور؟ لقد بلغ المهرج هدفه؛ فنصفه متضايق ونصفه يخاف أن يفقدني، بعد هذه المغامرة ابتعدت عني الفتاة غير غاضبة، ولكن في كل مرة أقابلها تضحك وتخرج بسبب أخيها … ولعلها على حق.