بين نارين
أعاد «أحمد» فحص الجثة مرةً أُخرى … كانت باردةً، ومعنى هذا أن الرجل قد مات أو قتل قبل وصول الثلاثة بوقتٍ طويلٍ … وبحث «أحمد» عن الرسومات، ووجد حقيبةً صغيرةً بجوار الجثة، فحمَلها وخرج …
لم يكد «أحمد» يُغادر باب الكوخ، حتى انطلقت بضع رصاصاتٍ مرت بجوار رأسه … فعاد إلى الكوخ، أخرج مسدسه من طراز «لوجر» وأعده للإطلاق، ثم فتح نوافذ الكوخ، وحاول أن ينظر إلى الخارج … كان الظلام دامسًا، انبطح على الأرض في الوقت المناسب، فقد انهمر على الكوخ وابلٌ من الرصاص.
ظلَّ «أحمد» رابضًا في مكانه لحظاتٍ، ثم بدأ يزحف … فتح باب الكوخ بحذرٍ شديدٍ … وهو يُقدِّر أنه ما دام لا يرى في الظلام، فإنَّ الذين يُطلقون عليه الرصاص من الخارج لن يروه … واستطاع أن يخرج من باب الكوخ، وهو يحمل الحقيبة في يده … وفي يده الأخرى مسدسه.
تدحرج على الثلوج حتى السفح … ثم توقَّف لحظاتٍ … وعندما وقف انهالت عليه طلقات الرصاص، ولجأ إلى جذع شجرةٍ ضخمةٍ، وأخذ يَرصُد مصدر الطلقات، ثم أطلق ثلاث طلقاتٍ في الاتجاه الذي حدَّده، وسمع في الظلام آهةً ترتفع من خلف الأشجار، وأدرك أنه أصاب أحد المطاردين.
كان «أحمد» يُفكر … أين «هومو» الآن؟ ولماذا لا يتدخَّل في الصراع؟!
انتظر «أحمد» لحظات، ثم غادر مكمنه … تدحرج على السفح المجاور له دون أن يتعرَّض لأخطارٍ، ثم وقف على قدميه.
ومرة أخرى أحسَّ بالألم كالنار في كتفه … لقد أُصيب … وحرَّك ذراعه … وأدرك أن الطلقات أصابت اللحم … ولكنها لم تُصِب العظم، ووضع يده على مكان الإصابة … وأطلق مسدَّسه في اتجاه الطلقات … ثم وقف، وانطلق كالصاروخ في اتجاه محطة «التلفريك».
كانت عاصفة ثلجية تتجمع … وأحسَّ «أحمد» بمقدمها … وأخذت الريح تعصف شيئًا فشيئًا … وأخذت الرؤية تنعدم تدريجيًّا … وكان «أحمد» يُحدِّد اتجاه «التلفريك» بقمة جبلٍ «سان أنطوان»، ولكن القمة أخذت تختفي تدريجيًّا … وأدرك «أحمد» أنه في مأزقٍ ودار دورةً سريعةً واسعةً … ثم اتجه إلى الغابة مرةً أخرى يحتمي بأشجارها من العاصفة التي يُمكن أن تطرحَ به أرضًا، ثم تغمره الثلوج.
أخرج منديلًا من جيبه، وربط الجرح … ثم أعاد ملء مسدسه بالطلقات … وكان الظلام يهبط سريعًا مع شدة الريح … وفجأة لمح «أحمد» على الأرض البيضاء المغطاة بالثلوج نقطةً سوداء تتحرك في اتجاهه، ثم ظهرت نقطةٌ ثانية … وثالثة ورابعة … وأحسَّ «أحمد» بالخطر يُحيط به من كل جانبٍ، فقد ظهرت نقطةً أخرى في الاتجاه الآخر، ثم تلتْها ثانية وثالثة وعرف «أحمد» أنها مجموعةٌ من الذئاب الجائعة … وبدأ يتحرَّك لمُغادَرة مكانه … ولكن العاصفة جعلته يترنَّح ويقع في مكانه … واقتربت الذئاب … وسمع عواءَ قائد القطيع … ثم تبعه عواء ثانٍ وثالث … كان القطيع يستعدُّ للهجوم، … وبسرعةٍ … ورغم ذراعه الجريحة أخذ يتسلَّق الشجرة التي يقف تحتها … ولم يكد يرفع قدمه من على الأرض، حتى كان أحد الذئاب يقفز ليَلحق بها، ولكن «أحمد» استطاع بالكاد أن ينتزعها من أنياب الذئب …
تجمَّعت الذئاب تحت الشجرةِ، … وارتفع عواءها المخيف مُختلطًا بصوت العاصفة … وأخذت الثلوج تتساقط بشدةٍ … وأحسَّ «أحمد» أن الشجرة تترنح به … وأنها في أية لحظةٍ قد تهوي على الأرض، لم يكن هناك بُدٌّ من أن يُطلِق رصاصةً لتفريق القطيع … رغم أنه لم يكن يودُّ أن يُطلق نيرانه على حيواناتٍ جائعةٍ … أطلق ثلاث طلقاتٍ مُتتاليةٍ … وارتفع عواء الذئاب … ثم بدأت تتفرَّق … وانتظر دقائق حتى بدت النقط السوداء تبتعد …
عندئذٍ سمع صوت طلقات رصاص أخرى من جهةٍ قريبة … وأدرك أن ثمة من يُريد الاتصال به … وفكر … هل هو عدو أو صديق؟
ظل مكانه والعاصفة قد جُنَّ جنونها … وعادت الشجرة تهتزُّ به … وقرر النزول … ولم تكد قدماه تلمسان الأرض حتى انطلقت رصاصة مرت تئزُّ بجوار رأسه … وأدرك أنه مطاردٌ.
ألقى بنفسه على الأرض وتدحرج … ثم تذكر الحقيبة، فعاد إليها زاحفًا … كان الثلج قد انهمر عليها، حتى كاد يغطيها وأخذ يجذبها ويجرها خلفه، كانت ذراعه تؤلمه ألمًا لا يطاق، ولكنه كان مصرًّا أن يَحملها معه …
خشي أن يخرج إلى الساحة البيضاء المكشوفة، وقرر أن يتوغل في الغابة لتُخفيه عن مكان المطاردين … ظل يسير مسافةً طويلة، حتى أحس أنه منهك، ولا يستطيع الاستمرار، ولكنه تحامل على نفسه عندما رأى ما يمكن أن يكون هيكل مبنًى صغير غطته الثلوج …
أخذ يجرُّ نفسه جرًّا في اتجاه المبنى الصغير، حتى وصل إليه … وكم كانت دهشته، عندما وجده نفس الكوخ الذي خرج منه منذ ساعة أو أكثر … وفكر أنه أفضل مكان يأوي إليه؛ لأن المُطارِدين لن يتوقَّعوا أن يعود إليه … فقد وصله من طرف الغابة؛ أي إنه وصل من اتجاهٍ عكس الاتجاه الأول بذل جهدًا جبارًا لفتح الباب؛ فقد كانت الثلوج قد تراكمت عليه، ولكنه في النهاية انفتح ودخل «أحمد»، كان الظلام دامسًا … فأخرج بطارية صغيرة تزود بها كالعادة في مغامراته … وأطلق شعاعًا من الضوء وكم كانت دهشته عندما لم يجدِ الرجل القتيل الذي رآه في نفس المكان منذ ساعة.
تفقَّد الكوخ من الداخل … كان به غرفة نوم تتسع لثلاثة أشخاصٍ … ومطبخ، وأسرع يعدُّ لنفسه كوبًا ساخنًا من الشاي …
جلس يشرب الشاي ويُفكر … كيف اختفت الجثة؟ … من هم الذين يطاردونه؟ أين «هومو»؟
كيف يتصرف بعد أن تهدأ العاصفة.
فتح خريطة وُزعت عليهم في محطة «التلفريك» تُوضِّح معالم المنطقة، ووجد أنه قريبٌ جدًّا من خطٍّ حديديٍّ يمرُّ بالمكان، وكانت المحطة لا تَبعُد عنه أكثر من ثلاثة كيلومترات … وقرر ألا يعود إلى محطة «التلفريك»، فلا بدَّ أن مُطارديه سينتظرونه هناك …
ارتاح نصف ساعة على أحد الأسرَّة التي في الغرفة … وكانت العاصِفة قد بدأت تهدأ، فعاود الوقوف … وأحس ببعض الضعف.
ولكنه تماسَك، وحمل الحقيبة وفتح الباب مُحاذرًا … كان الثلج يَسقط ناعمًا مُتراخيًا … فقد هدأت العاصفة … وحدَّد اتجاهه، ثم خرج وأخذ يسير مسرعًا بقدر ما تستطيع قوته المنهكة … ولحسن الحظ لم يفقد الطريق، واستطاع أن يصل إلى محطة صغيرة قابعة وسط الثلوج، وتقدم مُتثاقلًا منها وهو يجرُّ ساقَيه … وجلس على أول مقعد صادفه، وتخلص من أدوات الانزلاق، وأخذ ينظر حوله في قلق …