مدرسة فرانكفورت
تأسس معهد البحث الاجتماعي في عام ١٩٢٣. وكان هيرمان فايل هو مَن تولَّى تمويلَ هذه المؤسسة الفكرية الماركسية الأولى من نوعها، التي انبثقت عن مجموعة دراسة من الماركسيين كانت تسعى إلى معالجة المشكلات العملية التي تواجه الحركة العمالية في أعقاب الثورة الروسية. كان هيرمان فايل رجل أعمال مستنير صنع ثروته من سوق الحبوب الأرجنتينية، وقد قدم المال بعد إلحاح من ابنه فيليكس الذي كان يعتبر نفسه «بلشفيًّا مُتْرَفًا».
كان كورت ألبرت جيرلاخ من بين أصدقاء فيليكس فايل المقربين، وهو الذي كان سيصير أول مدير للمعهد لكونه ديمقراطيًّا واقتصاديًّا اشتراكيًّا، لكنه للأسف تُوفِّي بسبب إصابته بمرض السكري. وتولَّى كارل جرونبرج المنصب بدلًا منه، وأسس أول مطبوعة رسمية تصدر عن المعهد تحت عنوان «أرشيف تاريخ الاشتراكية والحركة العمالية» التي نشرت عددًا من الأعمال المهمة، بما فيها كتاب «الماركسية والفلسفة» (١٩٢٣) لمؤلفه كورش. وقد الْتَحَق بجرونبرج كلٌّ من هنريك جروسمان وفريدريش بولوك وفريتس شترنبرج وكارل أوجوست فيتفوجل. كانوا جميعًا شيوعيين، وكانوا لا يزالون يحملون حنينًا لمجالس العمال الديمقراطية التي ظهرت في الأعوام من ١٩١٨ إلى ١٩٢١، وشكَّلوا تصورًا لجمهورية ألمانية تُشبِه الجمهورية السوفييتية. قدمت جهودهم الفكرية مجموعةً ثرية من الآراء عن انهيار الرأسمالية، والدور الجديد للدولة، والإمبريالية. إلا أن هذه المجموعة كان لها أن تتوارى ليتغيَّر التوجُّه العام للمعهد في عام ١٩٣٠؛ إذ كان ذلك العام الذي جمع فيه ماكس هوركهايمر الحلقة الداخلية الجديدة لما سيُعرَف لاحقًا باسم مدرسة فرانكفورت.
الحلقة الداخلية
وُلِد هوركهايمر بالقرب من شتوتجارت لعائلة رجل أعمال يهودي ثري. لم تكن سنواته الدراسية الأولى مُميزة، وقد ترك المدرسة الثانوية للعمل متدرِّبًا في مصنع النسيج المملوك لوالده. ولكن في عام ١٩١١، تعرَّف بفريدريش بولوك الذي علَّمه الفلسفة والعلوم الاجتماعية وظلَّ صديقًا له مدى الحياة. أنهى هوركهايمر دراسته الثانوية بعد الحرب العالمية الأولى. اهتمَّ بالشيوعية، ودرس مجموعة متنوعة من المواد في جامعة فرانكفورت ليكتب في النهاية رسالةً علميةً عن عمل كانط «نقد ملكة الحكم» الذي ظهر في عام ١٧٩٠.
لم ينشر هوركهايمر إلا النَّزْر اليسير من الأعمال قبل تولِّيه منصب مدير المعهد، وقد تغيَّر ذلك عقب ترؤُّس هتلر لألمانيا عام ١٩٣٣ عندما أصبح منشغلًا بمحاولة نقل المعهد أولًا من فرانكفورت إلى جنيف ثم إلى باريس، وأخيرًا إلى جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك. وكانت مقالاته خلال ثلاثينيات القرن العشرين تركِّز على تمييز النظرية النقدية عن منافِساتها الفلسفية، وتوضيح الكيفية التي خانت بها الرأسماليةُ الليبراليةُ وعدَها الأساسي بخلق أسس نفسية وعِرْقية وسياسية للشمولية. مهَّدت أعمالٌ أخرى تتناول الثقافة الجماهيرية والعقلانية الأداتية والدولة السلطوية الطريقَ لعمل أدورنو وهوركهايمر الكلاسيكي «جدل التنوير» (١٩٤٧). بالطبع، تغيَّر تفكير هوركهايمر على مدار السنين، إلا أنه طالما حافظ على اهتمامه بأثَر المُعاناة واحتمالات التحرر الخاصة بالتجربة الفردية.
كذلك ظل هوركهايمر متميزًا في الأبحاث المتعدِّدة التخصصات. وقد حاولت مدرسة فرانكفورت تحت قيادته سدَّ الفجوة بين النظرية المعيارية والعمل التجريبي، وقد شدَّدتْ محاضرته الافتتاحية في عام ١٩٣٠ على هذا الهدف. وحتى أثناء وجوده في المنفى، حرَّر مشروعًا بحثيًّا متعدد التخصصات صدر في عدة أجزاء بعنوان «دراسات في التحيز» لصالح اللجنة اليهودية الأمريكية. وقد تضمَّنتْ هذه الأجزاء كتاب «تدريب على الدمار» (١٩٤٩) لبول ماسينج، الذي حلَّل الأصول الاجتماعية لمعاداة السامية في ألمانيا الإمبريالية تحليلًا عبقريًّا؛ وكتاب «أنبياء الخداع: دراسة عن أساليب مثيري الشغب الأمريكيين» (١٩٥٠) لليو لوِفنتال ونوربرت جوترمان؛ والكتاب الكلاسيكي «الشخصية السلطوية» (١٩٥٠) لتيودور في أدورنو وحشد كبير من الباحثين الآخرين.
أجَّجتِ الثورة الروسية وانتفاضة سبارتاكوس الألمانية — التي اندلعت في عام ١٩١٩ — نيران راديكالية هوركهايمر، لكن حملات التطهير الستالينية وأعمال الرعب التي قام بها نظامه كان لهما أثرهما البالغ على هوركهايمر؛ ففي النهاية هجر الشيوعية، بل والماركسية أيضًا، وتحوَّل توجُّهه السياسي إلى اليَمِين حتى قبلَ إعادته المعهد إلى ألمانيا وعمله رئيسًا لجامعة فرانكفورت من عام ١٩٥١ إلى عام ١٩٥٣. وتوقَّف هوركهايمر عن معارضة النضال ضد الاستعمار في الجزائر ودعم حرب فيتنام وإدانة الثورات التي انطلقت في عام ١٩٦٨.
في ذلك الوقت، اتخذ انشغاله برفض البؤس منعطفًا جديدًا. فبالرجوع إلى العهد القديم، الذي حرَّم تصوير الإله، اعتَقَد أن الحفاظ على فكرة المقاومة باتت غير ممكنة في ذلك الوقت إلا من خلال الإنكار الشامل للواقع والتطلع إلى التحرر. وبات المُقدَّس — أو من الأفضل أن نقول الأُخروي — هو منطلق مواجَهة الدنيوي. وذهب هوركهايمر في نقد التنوير إلى أقصى درجة. ولاحظ أصدقاؤه تزايد مغازلته للكاثوليكية. بُتِرَت كل الروابط بين النظرية والتطبيق، وأصبحت النظرية النقدية في مهبِّ الريح فعليًّا مع وفاة ماكس هوركهايمر عن عمر يناهز الثامنة والسبعين.
كان إريك فروم أحد أقرب أصدقاء هوركهايمر منذ بداية مشواره. وكان متخصصًا في علم النفس، لكنه كان متبحِّرًا بعمق في المسائل اللاهوتية. في الواقع، كان معهد التحليل النفسي الذي أسَّسه مع زوجته الأولى فريدة رايشمان في برلين يُطلَق عليه «عيادة الشفاء من التوراة»؛ حيث ترك الكثير من الذين انضمُّوا للمعهد دينَهم. كان فروم كاتبًا غزير الإنتاج ذا جرأة فكرية؛ إذ إنه كان من أوائل مَن ربط بين فِكْر سيجموند فرويد وفكر ماركس. ومع ذلك لم تَعُدْ أفكار فروم تُؤخَذ اليوم على محمَل الجِدِّ. وعادةً ما يقترن ذِكرُه الآن بما يعتبره النقادُ الأكثرُ أكاديمية كتبَ «المعرفة العملية» مثل «فن الحب» (١٩٥٦) الذي قدَّم بديلًا موثوقًا به للطريقة التي يُقدَّم بها الحب من قِبَل الثقافة الجماهيرية؛ والأعمال «التي تَضَعك في حالة شعورية جيدة» مثل «قلب الإنسان» (١٩٦٤) الذي قدم ردًّا على الهجمات الساخِرة على الثقافة الغربية؛ وما يُفتَرَض أنها دراسات سطحية عن الشئون الدولية من قَبِيل «هل يمكن أن ينتصر الإنسان؟» (١٩٦١) الذي دعا بعقلانية إلى القضاء على الأسلحة النووية وتهدئة روح الحرب الباردة. أما كتاب «الهروب من الحرية» (١٩٤١)، فيُشتَهَر بتحليله الثاقب للشمولية. ومع ذلك، فقد أُهمِلَت دراسته البحثية المنشورة تحت عنوان «تحليل التدمير البشري» (١٩٧٣) الذي حصل على منحة لإجرائها إهمالًا جائرًا.
نشأ فروم في عائلة يهودية متشدِّدة، وتربَّى على يد حاخامات مثقفين مثل نيمايا نوبل وسلمان باروخ رابينكو على وجه الخصوص، وكانت رسالته العلمية بعنوان «القانون اليهودي: مساهمة في علم اجتماع الشتات اليهودي» (١٩٢٢) بالإضافة إلى أن أوائل أعماله تناولت موضوعات دينية، مثل: «السبت» (١٩٢٧) و«عقيدة المسيح» (١٩٣٠) الذي لا يخلو من لمسة تحريف ماركسية. ولم يختفِ شغفه بالطابع النفسي والباعث الأخلاقي المنطلِق من الدِّين تمامًا أبدًا، بالرغم من النزعة الإلحادية التي تبنَّاها خلال عشرينيات القرن العشرين، وقد عزف على وَتَر شهير بإعادة تأويله الإنساني للعهد القديم في كتابه «ستصير كالآلهة» (١٩٦٧). وقد عكست محاولة فروم لتطوير «علم نفس مادي» التزامَ النظرية النقدية الأصلي تجاه محاولة إحداث تحول اجتماعي شامل. وقد تميَّز مشواره المهنيُّ بالتشديد على الطابع العملي للتحليل النفسي وعلاقته بمقاومة الكبْت ودعم القِيَم الإنسانية.
ساهم فروم في تأسيس الجمعية المكسيكية للتحليل النفسي في عام ١٩٦٢، وأصبح واحدًا من أكثر الشخصيات تأثيرًا في تطوير مجال التحليل النفسي في أمريكا اللاتينية. وقد أيَّد فروم — الذي كان معارضًا قويًّا لحرب فيتنام والإمبريالية الأمريكية وداعمًا لقضايا تقدمية لا حصر لها — شكلًا لا بيروقراطيًّا وتشاركيًّا من «الاشتراكية الجماعاتية»، وكان بلا شك صاحب أفضل أسلوب وأبلغَ كاتِبٍ أنجبتْه مدرسة فرانكفورت، وقد ترك مدرسة فرانكفورت في النهاية عام ١٩٤٠، وقد حَسَدَه أعضاء آخرون من الحلقة الداخلية للمدرسة حسدًا واضحًا على شهرته، بالرغم من أنه كانت لهم اختلافات سياسية وفلسفية مشروعة معه أيضًا. وفي السنوات الأخيرة من حياته، لم يكن هناك ما يربطه بأيٍّ من رفاقه السابقين في المدرسة، مع ذلك، ومثل أي عضو آخَر من مدرسة فرانكفورت، ظلَّ إريك فروم مخلصًا لجوهر النظرية النقدية: اللحظة المادية، والروح الإنسانوية، وهدف إحداث تحول.
كان هربرت ماركوزه منافسَه الحقيقي الوحيد باعتبار تأثيره الفكري على اليسار الجديد. يبدأ تاريخ ماركوزه السياسي بفترة عمله في مكتب الخدمات الاستراتيجية من عام ١٩٤١ وحتى خمسينيات القرن العشرين، حيث قام بدَوْر مُهمٍّ وكبير في تشكيل السياسة الأمريكية تجاه أوروبا الغربية، مرورًا بمشاركته وهو شاب في انتفاضة سبارتاكوس في عامَيْ ١٩١٨ و١٩١٩، وقد سَعَتْ مقالاته الأولى إلى ربط المادية التاريخية ﺑ «التاريخية» أو البِنَى الفينومينولوجية التي يَختَبِر الفردُ الواقعَ الاجتماعيَّ من خلالها. وقد شكَّلتْ قضايا مماثلة محور كتابه «أنطولوجيا هيجل ونظرية التاريخية» (١٩٣٢)، الذي أسهم في تنامي النهضة الهيجلية في أوروبا؛ فيما قدَّم كتابه «العقل والثورة» (١٩٤١) تفسيرًا مهمًّا ومؤثرًا لعلاقة المفكر العظيم بالنظرية النقدية. ألَّف ماركوزه كذلك عددًا من مجموعات المقالات الرائعة. تصور ماركوزه — الذي كان مُدرِكًا دائمًا للإمكانية اليوتوبية التي يقدِّمها الفن، لكنه ظل منشغلًا بالأشكال العملية للمقاومة — خروجًا عن النظام القائم. ومع ذلك، فقد أكملتْ مجموعة متنوِّعة من الدراسات الاجتماعية والسياسية مشروعاته التأملية تلك.
بعد الْتحاق ماركوزه بمعهد البحث الاجتماعي في عام ١٩٣٣، درس مسألة الدولة الليبرالية والعلاقة بين الرأسمالية الاحتكارية والفاشية وتفكك الشيوعية، وقد توقَّعت أعماله اللاحقة أن يكون للحركات الاجتماعية الجديدة دَوْر في الرد على اغتراب المجتمع الصناعي المتقدِّم. وبالإضافة إلى تفاؤل ماركوزه فيما يتعلق باحتمالات التغيير في عام ١٩٦٨، فقد تصور أيضًا ردَّ الفعل المحافِظ الذي أعقب ذلك. وكان ماركوزه هو مَن نشر مفاهيم مثل الوعي السعيد والترغيب القمعي والرفض العظيم. وقد قدَّم مؤلَّفه المميَّز «الإنسان ذو البُعْد الواحد» (١٩٦٤) النظرية النقدية للولايات المتحدة، كما قدَّم من خلال الاستشهاد به كثيرًا من المفكرين الشباب لمدرسة فرانكفورت، ودائمًا ما كان ماركوزه يرى نفسه أنه يعمل في ظل تقليد المادية التاريخية، لكنه كان مَرِنًا في منهجه وكان رسولًا للتغيير الثقافي. لقد جسَّد هربرت ماركوزه اللحظة السياسية الراديكالية للنظرية النقدية لجيل من الراديكاليين الشباب في الولايات المتحدة وفي بقاعٍ كثيرة من العالم.
على الجانب الآخَر، لم يكن فالتر بنجامين مشهورًا في الولايات المتحدة إلى أن نَشَرَتِ المنظِّرة السياسية البارِزة حنا أرنت مقالةً عنه في مجلة «نيويوركر» وحررت مجموعة مقالاته الرائعة التي نُشرت تحت عنوان «إشراقات» (١٩٦٩). منذ ذلك الحين، أصبح بنجامين مشهورًا بأنه مفكِّر متميز عبقري نافذ البصيرة، لتأتي بعد ذلك مقتطفات أخرى من مجموعة مقالاته التي نُشِرَت تحت عنوان «تأملات» (١٩٨٦) لتؤكِّد هذا الحكم. تتراوح كتابات بنجامين بين عمليه الممتعَيْن اللذين تعرَّض فيهما لسيرته الذاتية «شارع ذو اتجاه واحد» (١٩٢٨) و«طفولة في برلين نحو عام ١٩٠٠» (١٩٥٠) الذي ظهر في الأصل في صورة مجموعة من المقالات الصحفية خلال ثلاثينيات القرن العشرين، ودراسة معقدة عن عصر الباروك بعنوان «أصول الدراما التراجيدية الألمانية» (١٩٢٨)، ومؤلَّفه الذي لم يكتمل «بواكي باريس» (١٩٨٢)، والذي شمل بضعة آلاف من الاقتباسات وقدَّم صورة مضطربة لفهم العصرية. ومع الشهرة التي صاحبتْ فِكْر ما بعدَ الحداثة وأشكال أخرى من الذاتية الفلسفية في الولايات المتحدة خلال سبعينيات القرن العشرين، سرعان ما طبَّقت شهرة بنجامين الآفاق؛ فظهرت مجموعة كبيرة من أعماله الثانوية، وأصبحت كل مجلدات عمله «كتابات مختارة» تقريبًا من الأعمال الأكاديمية الأكثر رواجًا.
وُلد بنجامين في برلين، وكان هو أيضًا ابنًا لعائلة يهودية ثرية، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة برن في عام ١٩١٩، وقد أصبح بعد ذلك كاتبًا كثير التنقل ولم يحصل أبدًا على وظيفة ثابتة، من ناحية ما، جسَّد بنجامين فكرة الإنسان غير العملي؛ ذلك الشخص غير الواقعي الذي يحمله خياله إلى ما وراء هذا العالم، وقد تميز عمله بالاهتمام بالطابع المَرِن للغة، وطبيعة الذاكرة وخبرات الحياة اليومية العادية فيما يبدو مثل تناول الطعام وسرد القصص وجمع الكتب. كل هذه الأشياء — بحسب اعتقاد بنجامين — تُلقِي الضوء على اتجاهات اجتماعية أوسع نطاقًا، كانت كتاباته السياسية الصريحة تفتقر إلى الإثارة، علاوةً على أنها لا تقدم أي فكرة متعمِّقة في الأحداث البارزة في عصره — حسبما يتبين لنا من عمله «يوميات موسكو» في الفترة ما بين عامَيْ ١٩٢٦ و١٩٢٧ — لكن الأمر يختلف حين يتعلق بدراساته عن شعر شارل بودلير، أو رواية «التجاذب الاختياري» ليوهان فولفجانج فون جوته، أو روايات فرانس كافكا ومارسيل بروست. ينطبق الأمر نفسه على مقالاته عن الفن المعماري والتصوير الفوتوغرافي والرومانسية والترجمة؛ حيث تستكشف مقالاته الرائعة والمثيرة التأثيرَ الجمالي للعصرية على التجربة الفردية والحياة اليومية.
حاول بنجامين — الذي تأثَّر بكلٍّ من جيرشوم شوليم، صديق طفولته الذي أصبح عالِمًا أسطوريًّا في الصوفية اليهودية، والكاتب المسرحي الماركسي برتولت بريشت — دَمْجَ رؤية خلاصية بما صار اهتمامًا متزايدًا بالمادية التاريخية. جابَهَ بنجامين حتمية الاشتراكية العلمية، وازدَرَى تحويلَها للمجتمع غير الطبقي إلى نموذج مثالي بعيد المَنَال، وقد تمحور اهتمامه حول استرجاع التجربة الميتافيزيقية التي ينطوي عليها الواقع والاحتمالات اليوتوبية غير المتحققة — في نهاية الأمر — التي يحملها التاريخ بين طياته. إلا أنه تعذَّر تنفيذ تلك المحاولة نتيجةَ عدم القدرة على التعبير عن معوقات التحرر، بالإضافة إلى المتناقضات والافتراضات المتعارضة التي تضمَّنتْها وجهة نظره العامة. مع ذلك، فما من شك في أن فالتر بنجامين لا يزال يُلهِم ويُحبِط ويُعلِّم بوجْهٍ خاصٍّ المفكِّرين البوهيميين والراديكاليين الشباب. إن كتاباته تستحضر روح المنفى في عصر «الحطام»، وقد ترك انتحاره التراجيدي في عام ١٩٤٠ — بينما كان يحاول الفرار من الغزو النازي لفرنسا — طابعًا دراميًّا خاصًّا على حياته.
لم يكن لفالتر بنجامين سوى تلميذ واحد، وهو تيودور في أدورنو، الذي كان يلعب دور المفكِّر المُتعدِّد التخصصات في مدرسة فرانكفورت ويُعَدُّ صورةً للمفكِّر الأوروبي، كان يبدو أنه يَعرِف كل شيء، بل وأفضل من أي شخص آخَر، وحصل أدورنو — الذي وُلد كذلك لعائلة برجوازية، ولكن لأب يهودي وأم إيطالية — على درجة الدكتوراه في عام ١٩٢٤. كان أدورنو عالِمًا في الموسيقى دَرَس مع الملحِّن العظيم ألبان بيرج، وتأثر تأثرًا عميقًا بأرنولد شونبرج، وقد ترأَّس تحرير دورية موسيقية خلال عَقْدَيِ العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وقدَّم لتوماس مان لاحقًا نصائح بشأن الأجزاء التي تتناول نظرية الموسيقى في رواية «دكتور فاوستوس» (١٩٤٧)، وقد جاءت تأويلات لملحِّنين كبار مثل لودفيج فون بيتهوفن وريتشارد فاجنر وجوستاف مالر وفقًا لمؤلَّفه الكلاسيكي «فلسفة الموسيقي الحديثة» (١٩٤٩).
كان أدورنو ناقدًا حساسًا للأدب والشعر، بل وربما أكثر العقول الفلسفية في عصره إبهارًا. وكونه ملتزمًا تجاه فكرة الجدل السلبي، ومتشككًا بعمق في كل الأنظمة والأشكال التقليدية لفهم السرد، فقد عزم على توضيح طابع الحضارة المَعِيب بطبيعته مع رفض أي محاولة لتَمَاهي الفرد مع الجماعة.
وقد نسج أدورنو كل هذه الموضوعات في سرده الفلسفي الشامل، لكنه كان منخرطًا في البحث التجريبي كذلك. وقد أكملتْ دراسات أدورنو عن الإذاعة والتليفزيون — التي أوضحت التأثير الأيديولوجي لِمَا يَعتَبِره معظم الناس مجرد أشكال للترفيه — عملَه عن الميول السلطوية والامتثالية للمجتمع الحديث. وكان كاتب مقالات بارعًا بحقٍّ؛ فقد أوضح مقاله «عن الموسيقى الشعبية» (١٩٣٢) تأثير الشكل السلعي على هذا اللون الموسيقي، في حين أثبتت تأويلاته المبتكرة العميقة الرؤية لبيكيت وكافكا وبروست اهتمامَه الأوسعَ نطاقًا بالفهم التأملي للتجربة.
قلَّما كان أدورنو يتناول الموضوعات السياسية؛ لكنه كان دائم الخوف من الحركات الجماهيرية. اتخذ النفي قيمةً في حدِّ ذاته، وربط أدورنو بين المقاومة وضمان «اللاهوية» بين الفرد والمجتمع. لا يوجد تأثير يُضاهي تأثير أدورنو على سُبُل الفهْم المعاصرة للنظرية النقدية، وما من مفكِّر آخَر غيره يدلِّل تدليلًا أفضل على التزام النظرية النقدية العنيد تجاه وميض الحرية.
لا يزال لنا حديث عن يورجن هابرماس. إنه الطالب الأكثر تميزًا بين طلاب هوركهايمر وأدورنو، وهو الذي صار المفكر الأكثر إنتاجًا من بين كلِّ المفكرين الذين ارتبطت أسماؤهم بمدرسة فرانكفورت. لقد مسَّت كتاباته كلَّ أوجه الحياة الاجتماعية — بما في ذلك الدِّين — وامتدَّتْ مقالاته من شروح المبادئ الفلسفية للمدرسة لتعليقاته على القضايا المعاصِرة. ولكن إذا كانتْ أعماله المبكِّرة قد قدمت إسهاماتٍ مهمَّةً للنظرية النقدية، فإن مَسَارَه الفكري مع ذلك قادَه في اتجاهات جديدة.
لقد تركت نشأة هابرماس في ظل النازية — وهو ما لم يتعرَّض له بقية أعضاء مدرسة فرانكفورت — بداخله إيمانًا قويًّا بأهمية حكم القانون والديمقراطية الليبرالية. هذا علاوة على أن هذه النشأة عملت على إظهار اهتمامه بتطويع الخطاب وأهمية «التواصل غير المشوَّه»، وتشتمل أعماله كافة على هذه الأفكار؛ لقد قدمت الأعمال المبكِّرة لهابرماس — الذي لعب دورًا بارزًا في الحركة الطلابية في ستينيات القرن العشرين، رغم عدم تورطه أبدًا مع أيٍّ من فصائلها المتطرِّفة — تأملاتٍ نقديةً حول المادية التاريخية والشرعية المؤسسية والعلاقية بين النظرية والتطبيق. على النقيض من ذلك، راحتْ أعمال هابرماس اللاحقة تزداد تداخلًا في الفلسفة التحليلية؛ إذ تُصِرُّ هذه الأعمال على ضرورة تبرير الادِّعاءات، وصياغة حُجَجٍ منهجية، وتوفير توصيفات أنطولوجية للطبيعة والعلوم. ولا يزال مدى كون تناول هذه الأمور خروجًا عن النظرية النقدية مثارًا للجدل. في الواقع، إن إطلاق هذا الحكم يستدعي دراسة البواعث المغذِّية للفكرة الأصلية.
كلمة أخيرة
تميَّزتْ مدرسة فرانكفورت بالتعدُّدية مع الوحدة؛ إذ كان كل عضو في حلقتها الداخلية مختلفًا عن الآخَر؛ فكانت لكلٍّ منهم اهتماماته الخاصة ونقاط قوته وضعفه الفكرية المميزة، إلا أن جميعهم كانوا يشتركون في الْتِزامهم تجاه المجموعة نفسها من الموضوعات والاهتمامات، لم يربط أي عضو من تلك المدرسة يومًا الحرية بأي نظام أو جماعة أو تقليد، وكانوا يتشكَّكون كافةً في نماذج التفكير المؤسساتية. وقد سَعَوْا جميعًا لمعالجة مشكلات جديدة من خلال تقديم فئات جديدة، وكانت النظرية النقدية بين أيديهم تتميَّز بجرأة فكرية وبطابع تجريبي. وقد كانت تلك النظرية بالنسبة إليهم مسألة منهج في المقام الأول، وقد عبر هوركهايمر عن ذلك بأسلوب جيدٍ حين كتب يقول: «إن النظرية النقدية في شكلها المفاهيمي وفي كل مراحل تطورها ركَّزت عن وعْيٍ منها على التنظيم العقلاني للنشاط البشري الذي يتولى مهمة التنوير وإضفاء الشرعية. فهذه النظرية ليست معنيةً فقط بالأهداف التي تفرضها طرق الحياة الحالية علينا بالفعل، بل كذلك بالبشر وكل إمكاناتهم.»