المنهج
لم يُصَغْ مصطلح «النظرية النقدية» إلا في عام ١٩٣٧. في ذلك الوقت كانت النظرية النقدية منفية في الولايات المتحدة؛ فنتيجةً لخشية أعضاء مدرسة فرانكفورت من العزلة السياسية في موطنهم الجديد، وفي خضم سَعْيِهم لضمان استمرار المعهد، استخدموا هذا المصطلح كغطاء لهم، ورغم كل شيء، نشأتِ النظرية النقدية في الإطار الذي قدَّمتْه الماركسية الغربية. وكان شيوعيون مثل جورج لوكاتش وكارل كورش — اللذين ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بالمعهد منذ بدايته — من بين ممثِّليها الرواد. ويمكن أن ينضم إليهما أيضًا إرنست بلوخ. كان هؤلاء جميعًا متحمِّسين لاستيلاء البلاشفة على مقاليد الحكم عام ١٩١٧، ولحالة النشوة التي أحاطت بالانتفاضات الراديكالية الأوروبية خلال الفترة ما بين عامَيْ ١٩١٨ و١٩٢٣.
دعونا نفترض جدلًا أن الأبحاث الحديثة قد أَنكَرَتْ نهائيًّا كلَّ أطروحات ماركس الخاصة، حتى لو اتضح صحة ذلك، فإن كلَّ ماركسي «تقليدي» مُخلِص سيظل قادرًا على تقبُّل مثل هذه النتائج الحديثة كافةً دون تحفظ … إن الماركسية التقليدية لا تُشير ضمنًا إلى القبول غير النقدي لنتائج أبحاث ماركس؛ فهي لا تَعنِي «الإيمان» بهذه الأطروحة أو تلك، وهي ليست بتفسير لكتاب «مقدَّس»، بل على العكس، تُشِير «التقليدية» إلى المنهج وحدَه دون سواه.
كان لوكاتش يُعَدُّ رمزًا بارزًا للحداثة الثقافية في المجر قُبَيْل الحرب العالمية الأولى، ولعلَّه كان أبرز مفكِّر في الحركة الشيوعية، كان كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» أحدَ الأعمال المؤثِّرة التي قدَّمتْها الماركسية الغربية، وقد كان مصدر إلهام لكلِّ مفكري التقليد النقدي الكبار تقريبًا، لكنْ يسهل إدراك السبب وراء إدانة لوكاتش وكورش وماركسيين غربيين آخَرين في المؤتمر الخامس للكومنترن (الأممية الشيوعية) عام ١٩٢٤؛ فقد عكست كتاباتهم سنوات ازدهار الثورة: مجالسها العمالية، وتجاربها الثقافية، وآمالها في الخلاص. كما أنهم تخلصوا من اليقين المرتبط بالنسخ العلمية من الاشتراكية من خلال الفصل الواضح بين التقصي في أمور المجتمع والتقصي في أمور الطبيعة. في الواقع، حبَّذ لوكاتش النقل عن جيامباتيستا فيكو (١٦٦٨–١٧٤٤) قوله: «إن الفارق بين التاريخ والطبيعة هو أن الإنسان قد أنشأ الأولَ ولم يُنشِئ الثاني.» وفي ظل الرؤية اليوتوبية للماركسية الغربية، وموقفها النقدي من الأنظمة الفلسفية العديمة الفعالية وإصرارها على تمكين طبقة البروليتاريا، كانت الماركسية الغربية معبِّرةً عما أَطلَق عليه بلوخ «التاريخ السفلي للثورة».
هكذا أصبح التحرر البشري هدفًا للماركسية الغربية؛ فعزم المنهج النقدي على مكافحة الهيمنة — تلك الكلمة التي اشتُهرت بعد أن جاءت في كتاب «رسائل السجن» لأنطونيو جرامشي (الذي نُشر بعد وفاته عام ١٩٧١) — بكافة أشكالها. لم يكن جرامشي — الذي كان من بين الأعضاء المؤسسين للحزب الشيوعي الإيطالي وتدهورت صحته وتُوفِّيَ في السجن في ظل حكم بينيتو موسوليني — ذا تأثير مهمٍّ على مدرسة فرانكفورت، لكن عمله رسم صورةً واضحةً للماركسية الغربية.
ركَّز جرامشي — الذي كان معنيًّا في الأساس بالمجتمع المدني ومؤسساته غير الاقتصادية وأفكاره التوجيهية — على الكيفية التي تنمِّي بها الثقافةُ المهيمِنةُ عاداتِ الخنوع لدى المحكومين، وقد زعم أنه لا بد من استراتيجيةٍ مناهضةٍ للهيمنة؛ من أجل تمكين الطبقة العاملة وتعزيز قدراتها على الإدارة الذاتية، وذلك من خلال مؤسسات مدنية جديدة، ودَعَتْ مثل هذه الاستراتيجية إلى التنظيم، ليس فحسب من أعلى أو عبر حزب طليعي قوي منفصل عن الجماهير، وإنما عبر العمل الفعلي من قِبَل المفكِّرين التنظيميين المرتبِطِين بطبقة البروليتاريا ارتباطًا جدليًّا.
وقد تشارك الماركسيون الغربيون وجهة النظر الأساسية هذه؛ وكانوا جميعًا نشطاء. وجميعهم فسروا المادية التاريخية بأنها نظرية تطبيقية ينبغي أن تكون أقرب إلى النهي منها إلى الوصفية. فقد كانوا يسعَوْن لتوضيح الشروط المتغيرة للفعل المحدِث للتحول. وهذا المنظور جعل من غير المنطقي أن يحمل الماركسيون تلقائيًّا الأفكار والتصنيفات من فترة زمنية إلى التي تليها بطريقة آلية؛ أو — إنْ شئنا التعبير عن المسألة بعبارة أخرى — لقد أجبر الماركسيون الغربيون المادية التاريخية على إظهار طابعها التاريخي.
أسهم كارل كورش في هذه الرؤية إسهامًا بارزًا من خلال مؤلَّفه «الماركسية والفلسفة». فقد أوَّل كورش — الذي يُعَدُّ أقلَّ ممثِّلي الماركسية الغربية شهرةً — الأيديولوجية بوصفها تجربةً مُعَاشةً سيكون لها تأثيرها على الفعل أكثر منها ردَّ فعلٍ للاقتصاد، واعتمد تمكين المُستَغَلين على الوعي والتعليم والتجربة العملية، وقد وضع كورش — الذي أضرمَت فيه الثورة الروسيةُ نيرانَ الراديكالية وأَلْهَمتْه الانتفاضات التلقائية للسوفييت ومجالس العمَّال — مخططًا للديمقراطية الاقتصادية الراديكالية في كتيِّبه «ما هي التنشئة الاشتراكية؟» (١٩١٩). وانضمَّ كورش إلى الحزب الشيوعي الألماني في عام ١٩٢٠، وتولَّى منصب وزير العدل في تورينجن خلال انتفاضة البروليتاريا في عام ١٩٢٣، وأصبح ذا تأثير مهم على مفكري اليسار المتطرف الذين لم يكن لهم انتماء تنظيمي بعدَ إبعاده من الكومنترن عام ١٩٢٦.
كان عمل كورش «المفهوم المادي للتاريخ» (١٩٢٩) يُشكِّل هجومًا على كلِّ التفسيرات العلمية للماركسية، ولم يتخلَّ كورش أبدًا عن إيمانه بضرورة تمكين طبقة البروليتاريا، وقد كان كتابه الأخير «كارل ماركس» (١٩٣٨) بمنزلة سيرة ذاتية رائعة لمفكر كبير. وكان كورش مُصِرًّا على أنَّ أيَّ فكرة يمكن أن تُفسَّر لأغراض رجعية، وكان يتمنَّى إخضاع الممارسات الثورية الشيوعية لمُثُلِها الخاصة، وقد سلط الضوء على الأهمية المنهجية ﻟ «التخصيص التاريخي». وكان يتعامل مع الماركسية كأي شكل آخَر من الفلسفة. وكانت سماتها ووظيفتها في وقت ما بعينه تُفهَمان من ناحية المصالح والقيود والفُرَص التنظيمية للتحرك التي يُتِيحها السياق التاريخي. ولم يَعُدْ ممكِنًا أن تُعَدَّ الماركسية عقيدة رسمية أو نظامًا ثابتًا له ادِّعاءات متعالية، فقد كانت الماركسية هي الأخرى قابلةً للتطويع والنقد.
وقد بَنَى هوركهايمر على هذه الرؤى في مقال له بعنوان «النظرية التقليدية والنقدية» نُشر عام ١٩٣٧. لم يَعتبر هوركهايمر الرؤيةَ الجديدة نظامًا منطقيًّا مكتمِلًا ولا مجموعةً من الادِّعاءات الثابتة. وحيث إنه كان معنيًّا بتوضيح الجوانب المُهْمَلة للحرية، ومصمِّمًا على طابع الواقع الذي يُشكِّله التاريخ، وكان متشكِّكًا بالفعل بشأن مهمة التحرُّر التي تَقَع على كاهل البروليتاريا، فقد وَضَع تصوُّرًا للنظرية النقدية بوَصْفها بديلًا للنماذج الفلسفية السائدة. أما الأشكال الفكرية الأخرى فكانت تُعتَبَر مؤيِّدة للنظام القائم، بالرغم من إعلان التزامها بالحيادية والموضوعية؛ فبِقَدْر ما تجاهلت تلك الأشكالُ الفكريةُ الطابعَ المُشكَّلَ من قِبَل التاريخ للنظام القائم واحتمالية وجود بديل له (سواء عن وعي أم عن غير وعي)، بات يُرى أنها تُبرِّر آليات عمل هذا النظام.
ومن ثم؛ فإن النظرية التقليدية لم تكن محايدةً، ولم تكن تأملية بقدْر ما كان يعتقد مؤيدوها عادةً. لقد كانت الاهتمامات الاجتماعية مختبئةً في الخطاب الفلسفي، ولو اقتصر الأمر على هذا السبب وحده، لما كان من الممكن ببساطة نبذ المناهج القائمة بالكامل وعلى الفور؛ فقد كانت هناك حاجة إلى نقد داخلي لتوضيح الكيفية التي أفسدت بها قِيَم النظام القائم مقدمات الرُّؤى الفلسفية المنافِسة.
وقد جابَه هوركهايمر بالفعل شكلَيْن شهيرين من الفلسفة السائدة فيما يتعلق بهذه الجوانب عبرَ مقالِه المؤثِّر «المادية والميتافيزيقا» (١٩٣٣). فقد اتُّهِمَتِ المادية التي تتخذ شكل الفلسفة الوضعية وفروعها بأنها تنبذ الذاتية والمشاكل العرقية، فيما تحلِّل المجتمع عبر معايير ومقاييس مستمَدَّة من العلوم الطبيعية، وفي المقابل، انتُقِدت الميتافيزيقا لتجاهلها الأهمية الفلسفية للعالَم المادي وتوظيفها مبادئ عامة لتمكين الفرد — سواءً من خلال ما أَطلَق عليه كانط «العقل العملي» أو ما فهِمَه هايدجر على أنه الفينومينولوجيا — من إصدار ما يصير في النهاية أحكامًا أخلاقيةً بديهيةً.
كان هوركهايمر يَرَى هاتين الرؤيتين الفلسفيتين المتعارضتين فيما يبدو كوجهين مختلفين لعملة واحدة. فكل منهما تُعرَّف بما تعارضه، لكنهما تشتركان في انشغالهما التأملي بالأسس الفلسفية والمبادئ غير المتغيِّرة لتفسير الواقع والمفاهيم الثابتة للتحقق من التجربة أو ادعاءات الصحة. في الواقع، كانت مدرسة فرانكفورت تَعتَبِر أن العقلانية العلمية هي الأكثر ضررًا من بين الرؤيتين، ومع ذلك، فإن أعضاء المدرسة هاجَموا الرؤيتين في الأساس لتجاهُلِهما التأمل النقدي، والتاريخ، والخيال اليوتوبي.
كان المقصود من النظرية النقدية أن تكون نظريةً عامة عن المجتمع، الدافع الذي يقف وراءها الرغبةُ في التحرر، وقد أدرك ممارسوها أن ظروفًا اجتماعية جديدة من شأنها أن تُنتِج أفكارًا جديدةً للتطبيق الراديكالي وتَضَع مشكلاتٍ جديدةً في سبيله، وأن طبيعة المنهج النقدي من شأنها أن تتغيَّر جنبًا إلى جنب مع جوهر التحرر. هكذا أصبح تسليط الضوء على سياق التطبيق هو الاهتمام الأساسي لمنهج مدرسة فرانكفورت الجديدة المُتعدِّد التخصصات. وقد دفع ذلك بدوره أعضاء المدرسة لرفض الفصل التقليدي بين الحقائق والقيم.
كانت النظرية النقدية تتعامَل مع الحقائق بصِفَتها منتجاتٍ تاريخيةً مبلورةً للتحرك الاجتماعي أكثر منها لقطاتٍ منفصلةً للواقِع. وتَمَثَّل الهدف في إدراك أي حقيقة في إطار السياق المُثقَل بالقيمة الذي تتخذ الحقيقة في داخله معنًى لها. وقد وضع لوكاتش بالفعل مبدأ الكل — أو ما يسميه ماركس «مجموع العلاقات الاجتماعية» — في قلب المادية التاريخية. كان الكلُّ يُرى على أنه يتشكَّل من لحظات مختلفة، حيث الاقتصاد مجرد لحظة من بين لحظات أخرى، مثل الدولة والمجال الثقافي، الذي يمكن أن يُقسَّم بدوره إلى الدِّين والفن والفلسفة. ويشكِّل الكلُّ كلَّ لحظة، مع العلم أن لكلِّ لحظة ديناميكيتها الخاصة؛ ومن ثَم تأثيرها على ممارسات تلك العناصر الفاعِلة (الطبقة العاملة، على سبيل المثال) العازمة على تغيير الواقع. بناءً عليه، يجب أخْذ كل لحظة من هذه اللحظات مأخَذ الجدِّيَّة.
وقد جعل فروم من هذه الفكرة نقطةَ انطلاقِه في مقالَيْه «التحليل النفسي وعلم الاجتماع» (١٩٢٩) و«السياسة والتحليل النفسي» (١٩٣٠). أشار هذان المقالان المبكِّران إلى تأثير المجتمع على الكيفية التي تتشكَّل بها الأنا، والكيفية التي يؤثر بها الجهاز النفسي على تطور المجتمع، ومدى قدرة علم النفس على دعم المواجهة السياسية للأحوال غير الإنسانية. وسعى فروم أيضًا لإظهار كيفية تداخل المواقف النفسية في العلاقة بين الفرد والمجتمع.
وقد حلَّل أشهرُ أعماله «الهروب من الحرية» الشخصيةَ السوقية التي ولَّدها المجتمع الرأسمالي والصورة السادية منها بصفتها ردَّ فعلٍ محددًا للأزمة الثقافية في جمهورية فايمار، وقد أشار هذا العمل إلى الدوافع الاغترابية للحياة الحديثة، التي أسفرت عن رغبةٍ في التماهي التام مع قائد ما. وقد تجلَّت أفكاره في علم النفس المادي بالفعل خلال أواخر عشرينيات القرن العشرين في مؤلَّفه «الطبقة العاملة في فايمار الألمانية»، وهو دراسة تجريبية ضخمة تناولت التأثير الموهن للمواقف التقليدية والعلاقات العائلية والحياة الاجتماعية على الوعي الطبقي الثوري.
أحيَتِ النظرية النقدية من جديد الاهتمامَ بالأيديولوجية وأثرها التطبيقي. فقد أظهر كتاب «التاريخ والوعي الطبقي» كيف أن المنظور الطبقي غير المبالي قد حال دون تعامل حتى عمالقة الفكر البرجوازي مع قضايا الاغتراب والتشيؤ الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، أكد كورش على أنه كان ضروريًّا رؤية كل الأشكال المختلفة من الماركسية في ضوء التطورات التي تطرأ على الحركة العمالية في أي فترة زمنية بعينها. وبدأت مدرسة فرانكفورت في تحليل الثقافة الجماهيرية والدولة والتقاليد الجنسية الرجعية، بل حتى الفلسفة فيما يتعلق بآثارها على الوعي، وسرعان ما ثبت أن إلقاء الضوء على الكيفية التي تؤثر بها النواتج اليومية على طابع المجتمع والاتجاهات الثقافية في فترة زمنية بعينها يمثل أهمية خاصة لأعضاء مدرسة فرانكفورت ورفاقهم. وقد سَعَتِ النظرية النقدية إلى إنفاذ فكر ماركس الشاب والانخراط في «نقد عنيف لكل شيء موجود». وقد أصرَّ ممثِّلوها الرُّوَّاد على أن الكل يمكن أن يُرى في الجزء وأن الجزء يَعكِس الكلَّ.
على سبيل المثال، أشار عمل سيجفريد كراكور «الزخرف الجماهيري» (١٩٢٧) إلى كيفية أن الأنماط الهندسية والحركات البالِغة النظام والتناغُم لفرقة رقص معروفة مثل تيلر جيرلز (متوقعًا ظهور فرقة ذا روكيتس التي كانت تقدم عروضها على قاعة راديو سيتي للموسيقى) كانت تعكس تنظيم الجماهير وضياع الفردية في المجتمع الجماهيري.
ألَّف كراكور — الذي كان صديقًا مقربًا لبنجامين وأدورنو ومرتبطًا على نحو ما بمدرسة فرانكفورت — «جاك أوفنباخ وباريس في عصره» (١٩٣٧) — الذي زعم أنه «سيرة ذاتية اجتماعية» — والذي وضع موسيقى المُلحِّن الكبير في سياق التمرد البرلماني الذي اندلع عام ١٨٣٢ مع النظر إلى الجبهة الشعبية المناهضة للفاشية، في الوقت ذاته، كان كتابه الكلاسيكي «من كاليجاري إلى هتلر» (١٩٤٧) يصور كيف راحتِ الأفكار النازية تخترق الأفلام الألمانية لجمهورية فايمار اختراقًا متزايدًا.
وقد حذا مفكرون آخرون حذوه. فناقش مقال «الراوي» (١٩٣٦) لفالتر بنجامين تراجع التقليد الشفوي في السرد وطابع التجربة التاريخية المهدد بالنظر للاحتمالات التكنولوجية لإنتاج الفن في المجتمع الحديث، وفسَّر على نحو مبتكر مقالُ تيودور في أدورنو «الشعر الغنائي والمجتمع» (١٩٥٧) الترسباتِ الأيديولوجيةَ التي ينطوي عليها الشعر الغنائي الذي عادةً ما كان يُدرَس بمعزلٍ عن القوى الخارجية المؤثِّرة. وفي الاتجاه نفسه، رأى ليو لوفنتال أن الانعدام المتزايد للفردية بين النجوم السينمائيين يعكس القوة المتزايدة للشكل السلعي في مجموعة مقالاته التي ظهرت باسم «الأدب والثقافة الجماهيرية» (ونُشرت عام ١٩٨٤). كما قدم تحقيقًا اجتماعيًّا رائعًا عن ظهور العقلية البرجوازية من خلال شخصيات أدبية مهمة في مؤلَّفه «الأدب وصورة الإنسان» (نُشِر عام ١٩٨٦).
تشير كل هذه الأعمال إلى تأثير علم اجتماع المعرفة الذي كان رائده كارل مانهايم يُقِيم ندواتٍ في معهد البحث الاجتماعي، وقد زعم مؤلَّفه المهم «الأيديولوجيا واليوتوبيا» (١٩٣١) أنه حتى أكثر نماذج الفكر عموميةً ويوتوبيةً أيديولوجيٌّ ما دام يعكس بطبيعته مصالح طبقة أو جماعة اجتماعية بعينها، ويرى مانهايم (الذي تأثر كذلك تأثرًا عميقًا بلوكاتش) أن «النخبة المثقَّفة الحُرَّة» قادرة دون غيرِها على إدراك مفهوم الكل.
وقد تناول هوركهايمر كلَّ ذلك في عمله «الوظيفة الاجتماعية للفلسفة» (١٩٣٩). واعترض على الاختزال الآلي للفلسفة إلى علم الاجتماع، ومع ذلك، فقد تجنَّب تجنُّبًا واضِحًا مُجابَهةَ فكرة النخبة المثقفة الحرة، وهذا أمر منطقي؛ إذ كان هوركهايمر يفخر بالاستقلال السياسي للمعهد. كذلك، زعم أن نقد الأيديولوجية يوظِّف أساليب تأملية للحكم على الكيفية التي تعبِّر بها الأفكار عن مصالح اجتماعية معينة، فهذا النقد يُقَيِّم الظواهر الثقافية من ناحية كيفية تبريرها للنظام القائم ومحاربتها القضاء على الاستغلال والبؤس.
يمكن فهم النظرية النقدية على أنها تقدم نسخةً من علم اجتماع المعرفة تضم مدلولًا تحويليًّا. كان ماركس قد فَهِم الرأسمالية بصِفَتها نظامًا اقتصاديًّا تُعَدُّ فيه الطبقة العاملة هي المنتِجة للثروة (أو رأس المال)؛ ولهذا السبب وحده، تشكِّل البروليتاريا القوةَ الوحيدة القادرة على تغيير النظام. ومع ذلك، في «البيان الشيوعي» (١٨٤٨)، أصرَّ ماركس وإنجلز على أن الثورات لا تكون ممكِنة إلا إذا تفكَّكت أوصال الطبقة الحاكمة والْتَحَقَتْ بنضال المضطهدين، وما دامت الطبقة العاملة واقعة في شَرَك الرأسمالية، والشقاء المادي يقزِّم وعيها، يتعين على المفكرين البرجوازيين إمداد البروليتاريا بنقد منهجي للرأسمالية وإعلامهم بالاحتمالات الثورية التي ينطوي عليها هذا النقد. وكان لينين مَن استنتج الآثار الراديكالية لذلك.
كانت مدرسة فرانكفورت متعاطِفة مع الشيوعية خلال ثلاثينيات القرن العشرين. ولم يكن أعضاؤها قد قدَّموا بَعْدُ نقدًا صريحًا للعقلانية التقنية، وقد كانوا مُكتَفِين بزعم أن هيمنة العقل الأداتي لم تكن سوى تعبير عن العلاقات الاجتماعية الرأسمالية. ولكن مع تحول الشيوعية إلى الشمولية، تحررت مدرسة فرانكفورت من الوهم الذي كانت واقعةً تحت سيطرته، واشتدَّتْ حِدَّة نقْدِها لعملية التشيؤ. وكانت معاهَدة ستالين وهتلر التي انعقدت عام ١٩٣٩ وأشعلت الحرب العالمية الثانية هي القشَّة التي قصمتْ ظهرَ البَعِير، وفي ذلك الوقت بَدَتِ الادِّعاءاتُ الغائية المتعلقة بالمادية التاريخية عقيمةً مثل القواعد الأخلاقية للمثالية. ولم يَعُدِ التغيير الاجتماعي هو الموضوع المحوري بالنسبة للنظرية النقدية التي حوَّلتْ تركيزَها بسبب الشمولية للحفاظ على الفردية.
كانت هناك حاجة إلى دوافع وأشكال جديدة من المقاومة، وقد فسَّرت بالفعل مجموعةُ هوركهايمر المبكرةُ من جوامع الكلم القصيرة التي نُشرت تحت عنوان «الفجر» التعاطفَ والإشفاقَ على أنهما احتياجان ماديان ودافعان أخلاقيان للتحرك، وفي ذلك، اتفق تفكيره مع النقد الذي قدَّمه ديفيد هيوم ذات مرة فيما يتعلق بفلسفة كانط، والذي تمثَّل في ضرورة توفير الحماية للحيوانات — حسبما يزعم الفيلسوف الاسكتلندي العظيم — ليس لأنها تفكر؛ ولكن لأنها تُعانِي؛ ومن ثَم، فُسِّرت التجربة العاطفية بأنها مصدر للمقاومة والتحرر، وكتب فالتر بنجامين كيف أن السيريالية باعتمادها على قوى اللاوعي تولِّد «نشوة» ثورية تُواجِه «فقر الجبهة الداخلية» المُحبط.
وقد أعطى أدورنو لكتابه «الحد الأدنى للأخلاق» (١٩٥١) العنوان الفرعي «تأملات في حياة مدمَّرة»، وكانت قضايا الحب والإشباع الشخصي تلعب دورًا أكثر عمقًا من أي وقت مضى في كتابات فروم اللاحقة. فيما طوَّر ماركوزه في النهاية فكرة «الإدراك الجديد» في عمله «مقال عن التحرر» (١٩٧٢)، وكانت مدرسة فرانكفورت في ذلك الوقت قد انخرطت في تخليص القدرات المكبوتة في التجربة الحياتية للفرد.
وقد أَلْهَمَ الجهودَ الفكرية لمدرسة فرانكفورت احتقارُ أعضائها للقسوة ورغبتُهم في العيش في إطار وجود مستقيم؛ فقد أظهر كلُّ أعضائها اهتمامًا واضحًا بالقضاء ليس فقط على الظلم الاجتماعي وإنما أيضًا على الأسباب النفسية والثقافية والأنثروبولوجية للتعاسة، وانبثق الدعم الفكري لهذا الالتزام من عدد وفير من المصادر. كانت مدرسة فرانكفورت جريئة في محاولاتها دمْجَ الرُّؤى الخاصة بمفكرين مختلفين في إطار المادية التاريخية، وقد كان أعضاؤها يتخذون فرويد مرجعيةً، إما لفكرة علم النفس التأملي التي وضعها — والتي قد تدعم نقدهم للحضارة — وإما للحصول على رؤًى مأخوذة من عمله الإكلينيكي. علاوة على ذلك، ومثل بقية أبناء جيلهم، أَلْهَمَ نيتشه روادَ مدرسة فرانكفورت بإحيائه للذاتية ومنهجه «المنظوري» وإسهاماته في الحداثة ونقده اللاذع للاتجاه المعادي للثقافة، وكان هؤلاء المفكرون يساعدون في تعميق الرؤية الفلسفية والثقافية الخاصة بمدرسة فرانكفورت، واعتُبِرَت مسألةُ كون آرائهم تتناسب من الناحية المنطقية مع نظامٍ مُعَدٍّ سابقًا قائمٍ على المادية التاريخية مسألةً غير مهمة.
سعى فالتر بنجامين فعليًّا لإعادة صياغة الماركسية من خلال تشكيل التزاماتها الثورية من الناحية اللاهوتية. فوفقًا لمقاله «أطروحات حول فلسفة التاريخ» الذي كتبه قُبيل وفاته بفترة قصيرة في عام ١٩٤٠، يمكن أن يظهر المخلِّص المنتَظَر في أي لحظة من الزمان؛ وأن كل المقتضيات والقيود ستستسلِم أمامَ الاحتمالات التي ينوء بحمْلِها «الزمن الحاضر»؛ تصبح الثورة «قفزة» مُنذِرة بالنهاية «في سموات التاريخ المفتوحة». إلا أنه لا توجد إشارات إلى الكيفية التي يمكن أن يتحقَّق كل ذلك بها، أو ماهية ما يُشار إلَيْه فعليًّا. وتتفوَّق الرموز على الواقع؛ إذ يتجاوز الخيال حدودَه، هنا تصبح استعادةُ اللحظات المنسية من التاريخ هدفَ النقد. وتصوَّر بنجامين التاريخ ﮐ «كارثة واحدة لا تَزَال تُراكِم الحطامَ بعضَه على بعض.» فقط من منظور المادية الخلاصية، تكون بقايا هذه الكارثة قابلةً للترميم.
كان جيرشوم شولِيم مصيبًا حين وصف صديقه بنجامين «عالِم لاهوت تُرك في بحور العالم المُدنَّس.» ما تبقَّى من دراسات بنجامين ليس منهجًا صريحًا بقدر ما هو محاولة فاشلة لخلط الإصلاح اللاهوتي للتجربة بالجوهر الثوري للمادية التاريخية، وكثيرًا ما كان يَستَخدِم بنجامين الأساليبَ الحداثية، وقد ألْهَمَه التأكيد على الذاتية الذي لم يقدَّم فحسب في أساليب التعبيرية والسريالية، ولكنْ أيضًا في أساليب الرومانسية والباروك، وقد اقترنت دعوته «بضرورة عدم نسيان الأفضل يومًا» برغبته في «دفع التاريخ ضد التيار». تكشف البقايا المنسية عن احتمال حدوث خلاصٍ مُنذِرٍ بالنهاية على مستوًى غير محدد قد يحدث في أي لحظة، أو الأرجح أنه لن يحدث أبدًا.
تمثل الحياة اليومية مادة لليوتوبيا، ولا توجد خطة محددة سابقًا أو مجموعة من المبادئ العامة التي تكفي لتحديدها، تنبثق اليوتوبيا من الإرادة التخيلية لإعادة تشكيل ما أطلق عليه بنجامين «نفايات» التاريخ؛ جادة منسية أو طوابع بريدية أو عمل أدبي في مرحلة الطفولة، أو تناول طعام أو جمع كتب أو النشوة التي يُسبِّبها الحشيش أو ذكريات الثوار وهم يطلقون النار على الساعات المثبتة في الأبراج. وكان المونتاج وتيار الوعي الأكثر ملائمةً لتوليد ذلك النوع من «النشوة الثورية» التي دفعت مقاتلي الشوارع الراديكاليين هؤلاء في عام ١٧٨٩ إلى إطلاق النيران بالفعل على الساعات المثبتة في الأبراج فوقهم، هكذا يتغيَّر وجه الواقع في ضوء الخلاص المستقبلي. وتكسر الإرادةُ التخيلية — اللاهوتية الأصل — قيودَ التاريخ المادية. وتصبح كل لحظة من الزمان بابًا يمكن أن يَعبُر المخلِّص المنتَظَر عبرَه.
وجهه مُولًّى نحو الماضي؛ حيث ندرك سلسلة من الأحداث، يرى هو كارثة واحدة لا تزال تُراكم الحطام بعضه على بعض وتَطرَحه عند موضع قدميه، يرغب الملاك في البقاء وإيقاظ المَوتَى وإصلاح الحطام. لكن ثمة عاصفة تهبُّ من الجنة؛ وقد أمسكتِ العاصفة بجناحيه بعنف حتى إن الملاك لم يَعُدْ قادرًا على ضمِّهما، تَدفَعه العاصفة دفعًا لا يقاوَم إلى المستقبَل الذي يُدِير له ظهرَه، بينما تَزدَاد كومة الحطام المُلْقاة أمامَه مرتفعةً نحو السماء. هذه العاصفة هي ما نُطلِق عليه التقدُّم.
إن الخلاص الآن هو السبيل إلى اليوتوبيا. يتذكر النقد ما ينساه التاريخ من خلال التجول بين الأطلال واستخدام النفايات لإشعال فتيل الخيال، حينئذٍ يمهد الكل طريقًا ﻟ «تشكيلة» من الحقائق التجريبية المتجاورة التي تُجَلِّي موضوعًا أو مفهومًا محددًا ينبغي لأفراد من الجماهير أن يقدموا له روابط وتفسيرات دائمة التغير. ومؤلَّف بنجامين «بواكي باريس» غير المكتمل، الذي نُشر بعد وفاته يعبر عن هذه الرؤية، تُبرِز محاولة هذا الكتاب تقديم «التاريخ الأصلي للعصرية» من خلال عرض آلاف الأقوال المقتبَسة دون تعليق المؤلف عليها سردًا متساميًا بُنيَ من هذه الشذرات وشُكِّل من خلال منظور دائم التغير لرغبة القارئ. تشكِّل هذه الأقوال المقتبَسة — التي تقع في «أفق» تجريبي منيع على ما يبدو مما تفرضه التصنيفات الخارجية — عملًا مونتاجيًّا كبيرًا. إذا كان المجتمع الخاضع للإدارة الشمولية يعمل على تنميط الفكر بجعله ممنهجًا، فإن الخلاص لا يمكن أن يوجد في الشكل السردي البسيط، وحدها جوامع الكلم القصيرة أو الشذرات تُتيح لحظاتٍ عابرةً يمكن من خلالها رؤية لمحاتٍ من اليوتوبيا، فيفسح الكل الوسيط أمام التشكيلة الذاتية التكون بصفتها المبدأ التنظيمي للنظرية النقدية.
وقد وظَّف مقال أدورنو «حقيقة الفلسفة» — كان كذلك المحاضرةَ الافتتاحية التي ألقاها أمامَ أعضاء المعهد في عام ١٩٣١ — هذه التشكيلةَ في تحدي الرؤية التنميطية لهيجل وماركس، ولا تقدم هذه التشكيلة سردًا منظمًا أو منطقًا شاملًا من شأنه تقديم رؤية توافقية لما هو مقدم، فكل فرد من الجمهور يستطيع وضع بصمته التأويلية على هذه التشكيلة، كما لو كان ينظر إلى مجموعة من الملصقات أو لوحة فنية سريالية، ويبلور كتاب «بواكي باريس» لبنجامين هذه التشكيلة، كما يُواجِه تفسير بنجامين للعصرية الافتراضات العقلانية السابقة على ما يبدو وكأنه عالَم متكامل مع أنه يَسودُه التمزُّق والتفكُّك في واقع الأمر.
ثم تحوِّل النظرية النقدية محورَ تركيزها؛ إذ أصبح هدفها الآن إيقاظ الفرد من حالة السُّبَات الفكري التي فُرضت عليه، ولم تَعُدِ الذاتية تُعتَبَر مطابقة أو يمكن ربطها بأي تصنيف، على سبيل المثال، في كتابه «رطانة الأصالة» (١٩٦٤)، يُصِرُّ أدورنو على أنه حتى الفينومينولوجيا الوجودية تنمِّط التجربة، وأن البديهيات المشكَّلة على أساس أنطولوجي — بخاصةٍ من ذلك النوع المرتبط بالاحتضار والموت — تَعتبر التفردَ بديلًا عن الفردية. إن فصل التجربة عن التأمل النقدي يخلق منفذًا للأيديولوجية، ويوهن القدرة على مقاومة ما أَطلَق عليه أدورنو «أنطولوجيا الأوضاع الخاطئة». لكن هجوم بنجامين وأدورنو على النظام والمنطق والسرد له ثمنه؛ إذ إنه يقوِّض القدرة على وضع معايير لإصدار أحكامٍ أخلاقية وسياسية؛ مما يهدِّد بإيقاع النظرية النقدية في فخ النسبية.
في كتاب «الخطاب الفلسفي للعصرية» (١٩٨٧)، سعى يورجن هابرماس لمعالجة هذه المشكلات الفلسفية. فقد شكَّك في التأكيد على الذاتية الحرة للمقاومة، وأصرَّ على ضرورة وجود أُسُس واضحة لأي نظرية نقدية أصيلة للمجتمع. وأشار إلى أنه من الأفضل الاعتمادُ على تركيب اللغة — أو الفعل التواصلي — لدعم العلاقات المتبادَلة والتأمُّل والعمومية. إلا أن هذا الشكلَ من النقد يَتَراجَع بشِدَّة أمام الأشكال الفلسفية المؤسساتية. فهو يَظَلُّ عالِقًا في المشاكل التحليلية، وتظل الأمور التي تُعارِضها الحجة هي المحددَ لمعالِم تلك الحجة.
كان ماكس فيبر أحد أهم الشخصيات المؤثرة في النظرية النقدية بوجه عام وفي مدرسة فرانكفورت بوجه خاص. لم يكتب فيبر يومًا عملًا يعبِّر تعبيرًا كاملًا عن منهجه، ولا يزال الجدل دائرًا حول طبيعة هذا المنهج، ومع ذلك، يُعَدُّ تشكُّكه السليم في تناول المسائل التطبيقية من منظور ميتافيزيقي بمنزلة علاج مُفِيد للهواجس الجمالية والفلسفية التي شكَّلت النظرية النقدية في عصرنا الذي يُفترض أنه العصر الذي تَجَاوَز الأمور الميتافيزيقية، وفي سنوات عُمْر فيبر الأخيرة، صرَّح قائلًا: «إن المنهج هو الأكثر عقمًا من بين كل الأمور … فلم يسبق أن تحقق أي شيء عبر المنهج وحده.» وقد أصاب بذلك كَبِدَ الحقيقة.
كانت مدرسة فرانكفورت في الأساس ترى أنها تعبِّر عن شكل جديد من المادية المعبَّأة بالتأمل النقدي والقدرة على التخيل وإمكانية مقاومة عالَم متَّجِهٍ بِخُطًا متسارِعة نحوَ البيروقراطية. إلا أن ماهية الأغراض التطبيقية التي كانت الاستفسارات التأملية للمدرسة تهدف لخدمتها صارت أكثر غموضًا من أي وقت مضى. وبات فهم المقاومة يزداد الْتِباسًا، فكان الأمر يبدو كأن تضاربات المصالح الفعلية والاختلالات الواقعية في موازين القوى كانت تتلاشَى في كلٍّ يَطغَى عليه الاغتراب والتشيؤ.