أوهام مُستَنِيرة
ربما كان كتاب «جدل التنوير» لماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو أول مواجهة نقدية رائعة لليسار مع العصرية، ظهر هذا الكتاب للمرة الأولى في طبعة خاصة للمعهد تحت عنوان «شذرات فلسفية» عام ١٩٤٤. ومع ذلك، حين صدر الكتاب أخيرًا عن دار نشر كريدو فرلاج في عام ١٩٤٧، تحوَّل العنوان الأصلي إلى عنوان فرعي، وأصبح محور الاهتمام أكثر تحديدًا. في البداية، لم يزد هذا في الأمر شيئًا؛ إذ لم يُبَع من الكتاب إلا نحو ألفي نسخة، لكن اليوم يُعتبر «جدل التنوير» مَعلَمًا رئيسيًّا في مجال الفلسفة الحديثة، بل وربما بمنزلة أيقونة النظرية النقدية؛ فهو يعبِّر عن توجهين فكريين مختلفين، ويُظهِر نصُّه أن التوترات المعقَّدة والتفسيرات المتنوِّعة ممكنة. ومع ذلك، فثمة سمات محددة لا تَقبَل الجدل.
يبحث هذا العمل عن الكيفية التي تطرد بها العقلانية العلمية (أو الأداتية) الحرية من العملية التاريخية وتُمكِّن التشيؤ من النفاذ إلى كل ناحية من المجتمع. حتى الفن يتحول إلى مجرد سلعة أخرى ويفقد طبيعته النقدية. ويتعامل الخطاب الجدلي مع الامتثال بصفته شيئًا أكثر من مجرد مسألة بوهيمية. بالإضافة لذلك، تتخذ الميتافيزيقا طابعًا ثوريًّا مبتكرًا. يرد هوركهايمر وأدورنو على «المجتمع الخاضع للإدارة الشمولية» بهجوم منهجي على التفكير المنهجي أو — لنَقُل — لا سرد يتحول هو نفسه إلى سرد. يقدم هذا الكتاب أيضًا محاولةً معقدةً للاستعانة بمفكرين من خارج تيار التنوير من أجْل إدراك جوانب قصوره إدراكًا أفضل. ولا يكتفي الكتاب بالتأكيد على أن ثمن التقدم باهظ، وإنما أكَّد كذلك على أن الهمجية متوطِّنة في الحضارة، وأن عصر التنوير قد خان وعده الأكثر قداسةً؛ ألَا وهو الاستقلالية.
وهْم التقدم
كان كتاب «جدل التنوير» ممتثلًا للأمر الذي ذكره ماركس الشاب، والمتمثل في أنه لكي يكون المرء راديكاليًّا أصيلًا، عليه التعامل مع «أصل» أي مشكلة. وعلى مر التاريخ، كان ذكر اليساريين يقترن اقترانًا أساسيًّا بمشروع التنوير، على المستويين النظري والتطبيقي. وحتى كتابات ماركس الشاب — التي انطوتْ على لَمْحة من الرومانسية — كانت تُصِرُّ على أنه يجب على البروليتاريا أخذ أهدافها من البرجوازية الثورية، وأنها ليس لديها أية أهداف خاصة بها لكي تحقِّقها، وقد اعتمد نقده للنظام الجمهوري الليبرالي على استحالة تحقيق مُثُلِه التنويرية المتمثِّلة في الحرية والمساواة والإخاء في إطار معايير الدولة الرأسمالية.
ومع انتصار الفاشية وانتكاس الشيوعية وتكامل الديمقراطية الاشتراكية، كان يُرى أن هذه المُثُل قد فقدتْ بريقَها، وأن هذا النوع من النقد السياسي — بناءً على ذلك — قد فقد جاذبيته. وقد شقَّ معسكر أوشفيتز تلك الهالة المحيطة بالتقدم والعصرية؛ ومن ثَم، اتضح أن المعايير القديمة المتعلقة بإصدار الأحكام، وبناء النصوص السردية، وفهْم الواقع قد عفَّاه الزمان. وتبدو ما بعد الحداثة وكأنها سابقة لعصرها. يجد التنوير والعصرية غايتهما في عالَم معسكر اعتقال نازي تُدِيره بيروقراطية غير قابلة للمساءلة، تزكِّيها عقلانية أداتية تَعِيث في الأرض الفساد، وتتجلَّى في إطلاق العِنان لغضب لا يمكن تصوره.
تضمَّن «جدل التنوير» أجزاءً من فصل أخير مُثير بعنوان «عناصر معاداة السامية» الذي أضيف إليه في عام ١٩٤٧، والذي يُوضح أن الانحياز له ديناميكيته ومَنطقه الخاص المضاد للجدل العقلاني. وتُرى معاداة السامية على أنها تعبر عن «طبيعة ثانية» للإنسانية ذات جذور أنثروبولوجية. ويؤكد هوركهايمر وأدورنو على أنه طالما كان هناك شيء «مختلف» متعلق باليهود. إذا كانت العصرية تنمِّط على نحو متزايد وقمعي للفردية؛ فإن المواجهة مع الاختلاف والاستقلالية حينئذٍ ستُسفِر منطقيًّا عن غيظٍ مصدره شعور غير واعٍ بالحَسَد، ومثل هذا الغيظ هو ما يميز الشخص المعادي للسامية. إن كراهية النازي لليهود تحقق هواجس الماضي في الوقت ذاته الذي تمثل فيه «نقطة تحول تاريخية».
والرأسمالية لها أيضًا دَوْر في ذلك. لا تُختَزَل معاداة السامية في مصلحة اقتصادية مُعَدَّة سابقًا، وإنما هي مرتبطةٌ بالشكل السلعي الذي من خلاله لم يَعُدِ الناس يُعتَبَرون غاياتٍ في حدِّ ذاتهم؛ إذ بات الناس يُعامَلون كعوامل إنتاجية في إطار عملية إنتاج بيروقراطية. في الوقت نفسه، يقوِّض التشيؤ قدرةَ الأفراد على إصدار الأحكام الأخلاقية؛ وكانت الاستقلالية قد بدأتْ تتآكَل قبلَ زمن طويل من بناء أول معسكرات الاعتقال النازية. ولَطَالَمَا كان الآخَر في خطر، ولطالما كان اليهود مُقتَرِنين بالمال وعالم التداول، ومعروف عنهم أنهم حَمَلة مشعل الرأسمالية؛ ومن ثَم، ليست فقط الرأسمالية هي التي تتطلَّب التقصِّي، وإنما الحضارة نفسُها؛ لذا، تتخذ النظرية النقدية للمجتمع شكلًا أنثروبولوجيًّا تعتمد فيه المقاومة على ذاتية تتزايد المخاطر المُحِيقة بها.
أكد «جدل التنوير» على أن الحضارة نفسها كانت متورِّطةً في الهجوم على الذاتية. وتصور «الأوديسة» لهوميروس بالفعل استعداد شخصيتها الرئيسية للتنازل عن هويته واسمه من أجل البقاء. وهكذا يرتبط العقل الأداتي وتآكل الذاتية — الاغتراب — معًا ارتباطًا جوهريًّا وثيقًا. وهذه العلاقة بينهما لم تتبلور إلا خلال الحقبة التاريخية المعروفة بعصر التنوير. وهكذا، تتخذ كلمة تنوير معنًى ثنائيًّا في كتاب «جدل التنوير»، فهي تشير إلى نظرية علمية محددة تاريخيًّا للمعرفة واجهتِ العقيدة الدينية في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتشير أيضًا، وعلى نحو أوسع نطاقًا، إلى صراع أنثروبولوجي مع الخطأ والخرافة التي ظهرتْ منذ ميلاد الحضارة. ويتمثَّل مفتاح هذا الكتاب في الطريقة التي يتحول بها النقد التاريخي للتنوير إلى أداة لتقصٍّ أنثروبولوجي للتقدم. وهذا — في الواقع — ما جعله استفزازيًّا ومثيرًا للجدل على نحو كبير.
وُظِّف العقل العلمي — الموضوعي والمتحرر من القِيَم، والعملي والقابل للاختبار — في البداية للقضاء على الخرافات والتحيزات التقليدية من أجل تعزيز الخطاب المفتوح والتجريب والتسامح. وكان المفكرون التقدميون الذين يعيشون في مجتمع ديني منشغِلِين في الأساس بحماية التقصي العلمي من تدخلات علماء اللاهوت، لكن العقلانية الأداتية التي كانت في البداية تُهاجِم الدوجمائية الدينية حوَّلتْ قوَّتها لمحاربة كافة المبادئ غير العملية والادِّعاءات المعيارية، التي تضمَّنتِ القِيَم الأخلاقية المرتبطة بالتنوير (مثل الاستقلال الأخلاقي والتصرف وفق الضمير) والتي ألهمتِ التجريب العلمي في المقام الأول، مع ذلك، وعند ذلك الحدِّ وحدَه، تقلَّصتِ الطبيعة النقدية للعقل الذي أصبح — على نحو مؤكَّد أكثر من أي وقت مَضَى (وحسبما توقَّع ديفيد هيوم) «عبدًا للأهواء والعواطف».
وقد أضاف كتاب «جدل التنوير» لأفكار هيجل وماركس رؤًى مستقاة من نيتشه وفرويد وماكس فيبر. يَقلب مؤلفا الكتاب السردَ التقليديَّ الذي يربط بين التطور التكنولوجي والتقدم رأسًا على عقب. ويربطان بدلًا من ذلك بين هيمنة العقلانية الأداتية المتزايِدة والمجتمع الخاضع للإدارة الشمولية. وتُبرز الرؤية الجديدة شكلًا من المقاومة ينادي بتصعيد حِدَّة «اللاهوية» بين الذات والموضوع — أو بعبارة أقل فلسفيةً — بين الفرد والمجتمع. وما دام الكل زائفًا والتقدم وهمًا، فإن الخيار النقديَّ الوحيد يكمن في ابتكار ما سيُعرَف لاحقًا بالجدل السلبي. وبهذا النحو وحده، ربما يُجابِه النقد الأوهام المترتبة على التنوير.
لطالما كان العلم يُعامَل على أنه متحرِّر من القِيَم ومحايِد فيما يتعلق بالادعاءات الأيديولوجية. لكنه، مثل الشكل السلعي والبيروقراطية، يسعى لبسط هيمنته؛ ومن ثَم، تنسجم العقلانية العلمية بسهولة مع إملاءات الرأسمالية والدولة البيروقراطية. تشكل الرأسمالية والبيروقراطية والعلم — وهي جميعها أشكال للعقلانية الأداتية — الجوهر الحقيقي للتنوير. وهي تحول الطبيعة إلى شيء يُنتفَع به، والتقدم إلى اغتراب، والحرية إلى سيطرة. الاستقلال في ظلِّها مصدرٌ للإزعاج، والنقد مصدرٌ للتهديد. قد يرتبط التنوير بمثل هذه المُثُل، لكن هدفَه الحقيقي هو التنميط والسيطرة. وباسم التحرُّر، انتهى الحال بمؤيدي التنوير إلى دعم عقلانية الهيمنة التقنية، وهكذا، عادت المعتقدات اللاعقلانية التي كان التنوير يسعى في البداية للقضاء عليها إلى الظهور بصفتها نتاجه الخاص.
تدفع البشرية ثمن زيادة سطوتها على الطبيعة من فقدان ذاتيتها، لم تكن إنسانية التنوير — التي عَمِيَت عليها الهيمنة التي كانت متورطةً فيها، وكذلك عَمِيَ عليها رد الفعل الذي كانت تغذِّيه — عاجزةً عن إدراك أن «في أعمق خباياها يهتاج سجين هائج يحوِّل بفاشيته العالَمَ بأسْرِه إلى سجن.» وهذا هو الإرث الحقيقي للتنوير (وإن لم يكن معترَفًا به)؛ وهو يمتدُّ بدايةً من كانط ومرورًا بماركيز دي ساد حتى نيتشه. وبينما بنى كانط حاجزًا معرفيًّا لحماية العلم من تدخل الميتافيزيقا والدِّين، وصل ماركيز دي ساد بالمعاملة الأداتية للأفراد إلى أبعد الحدود، جعل نيتشه أخيرًا العقل والضمير خاضعَيْن للرغبة في السلطة.
لا يزعم كتاب «جدل التنوير» أن الأفراد قد تحولوا ببساطة إلى روبوتات. وإنما ما يحدث هو شكل مشوَّه من الاستقلالية. فبات يُرى أن الأفراد يزدادون عجزًا عن الإتيان بأي فعل غير إطلاق الأحكام التقنية أو العاطفية. (هنا، ينبغي ملاحظة أن النقد المبكر للمادية المبتذلة والميتافيزيقا الحدسية بدأ يكون له تأثير.) وأصبح التصرف وفق الضمير وتخيل مجتمع حُرٍّ أكثر صعوبة من أي وقت مضى، وزادت جاذبية الشمولية. ويبرز تفسير اجتماعي وفلسفي — إن لم يكن تبريرًا — لهؤلاء الذين زعموا أنهم «فقط يتبعون الأوامر». ولم تَعُدِ الأشكال السياسية التقليدية للمقاومة مُجْدِية. وبينما صار التشيؤ تعريفًا للتقدم، وُضعت النظرية النقدية — في الواقع — في موقف لا يعدو الإلقاء بزجاجات بها رسائل عن التحرر في قلب فيضان الهمجية.
لقد خانت الثورة الروسية الحرية، وساومتِ الليبرالية على وَعْدها بمجتمع ليبرالي. وتولت العقلانية الأداتية فعل ذلك على نحو لا يمكن التراجع عنه. وكانت المثالية الفلسفية في البداية تعتمد على فكرة الذات العامة التي تفتقر إلى جميع المحددات التجريبية؛ كانت المرجِع الذي كان ينبغي للأفراد الاستعانة به في اتخاذ القرارات الأخلاقية. وطبقت الليبرالية مبادئ عامةً فيما يتعلق بسيادة القانون فيها ورؤيتها للحقوق، إلَّا أن هذه هي عين المشكلة؛ فبدءًا من التخلي الطوعي عن الفردية باسم الاحتياجات الأداتية وحتى نفي الادعاءات الطبقية باسم البشرية المجردة إلى الهجوم الأخير على التجريد الميتافيزيقي نفسه، صارت كل هذا خطوات منطقية في إطار منطق واحد. فليس التقدم كما عرَّفتْه دائمًا البرجوازية الطيبة على أنه تنامي الضمير الأخلاقي وتطور البشرية. بل على النقيض التام، طُمِست الاستقلالية والأخلاق. فالتقدم الحقيقي — حسبما كان أدورنو يحب أن يقول لاحقًا — هو ترك القوس والسهم لحساب القنبلة الذَّرية.
يرى كلٌّ من هوركهايمر وأدورنو أن الفكر السياسي التنويري أنتج وَهْمَ التقدم، وبتكلفة كبيرة. لم يكن النظام الجمهوري الليبرالي يروق يومًا للماركسيين الغربيين، وفي عام ١٩٣٣ بعد فوز أدولف هتلر في الانتخابات، شعرت مدرسة فرانكفورت بالأمر ذاته. حتى ماركوزه — الذي ربما كان الأكثر تفهُّمًا سياسيًّا من بين أفراد الحلقة الداخلية للمدرسة — أشار في عام ١٩٣٤ إلى وجود تشابه كبير بين الليبرالية والشمولية، ليس من ناحية موقفهما تجاه الملكية الخاصة فحسب، وإنما كذلك من ناحية رؤاهما السياسية.
وقد أوضح كتاب «جدل التنوير» هذه النقطة. فقد اعتبر مؤلفا الكتاب أن الليبرالية — على كونها فكرة جيدة — طريقة للدفاع عن الأوضاع القائمة. فتعاميها عن الوحشية واللاعقلانية جعلها ودوافعها الإنسانية، في أحسن الأحوال، عاجزةً عن مجابهة أعدائها مجابهةً فعَّالة، وفي أسوأ الأحوال متواطِئةً معهم. وقد عرضا المسألة بوضوح قائلين: «يتصرف التنوير في الأمور كما يتصرف الديكتاتور مع الناس. فهو يعرفهم في حدود أنه يستخدمهم.» وتقدم صورة شجرة البلوط الحبيبة لجوته، التي توجد في منتصف معسكر بوخنفالد النازي دليلًا رمزيًّا مُثيرًا للمَشاعر على مصير التنوير.
لم يكن اهتمام هوركهايمر وأدورنو منصبًّا فقط على الحقيقة التجريبية المتمثلة في أن الشمولية قد نشأتْ من رَحِم نظام ليبرالي مثل جمهورية فايمر. وكانا مقتنعين بأن الفاشية نَتَجَت عن الأحوال التي كانت قائمةً قبل فوزها، ليس كناتج سلبي، وإنما كاستمرار فعلي لتلك الأحوال التي أنكرتْها علانيةً (ونفاقًا)، وخان الإطار الأداتي الأفكار الليبرالية التي كانت موضوعة فيه؛ فتقويضه للضمير قد صار لأسوأ حال بفعل المُثُل التي كان من المفترض أنها تُبرِّر وجوده. وكان اليهودي هو الأشدَّ معاناةً، وذلك من الناحية الأنثروبولوجية؛ لأن الحضارة طالما وصفتْه ﺑ «الغريب»، ومن الناحية التاريخية لأنه شاع عنه أنه حامل شعلة الليبرالية والرأسمالية.
لا يمكن تجنب هذه المفارقة؛ فبالاختباء وراء مظهر المُثُل الليبرالية الخادع، حررت عملية التشيؤ مخاوفَ لا عقلانية ودوافع غريزية من قيود الضمير، وتعكس معاداة السامية الناتجة عن ذلك موقفًا يُشبِه «إطلاق سراح رجال مكفوفين سُلِبَت منهم ذاتيتهم كعناصر فاعلة.» ما من منطق لدى هؤلاء الأفراد المجوَّفين من الداخل. إن لا عقلانيتهم ضاربة بجذورها عميقًا فيهم، وهي لم تتشكَّل بفعل الفاشية وحسب، وإنما بفعل الحضارة والنتائج غير المقصودة لإرث التنوير.
الانسحاب من التاريخ
أشار فالتر بنجامين في مقاله «أطروحات حول فلسفة التاريخ» إلى أنه لا يوجد «دليل على الحضارة ليس دليلًا على الهمجية في الوقت ذاته.» ربما يكون الأمر كذلك. إلا أن هذا الزعم يثير السؤال التالي: كيف نفرق بين الاثنين ونحدد أيهما أكثر انتشارًا في عمل بعينه؟ ولم يوضح كتاب «جدل التنوير» أبدًا المعايير الضرورية لتقديم إجابة لهذا السؤال. فقد رفض مؤلفا الكتاب تناول التنوير من ناحية تأثيره على المؤسسات والحركات والمُثُل السياسية. وإنما ربطا بينه وبين شكل واحد من العقلانية، ثم تقصَّيا عن ذلك عبر سرد أنثروبولوجي واحد. لقد تعرَّض التنوير للنقد دون الإشارة إلى التنوير المناقِض. تتلاشى ببساطة الصراعات التاريخية على تقييد الممارسة التعسفية للقوة المؤسسية ودعم الممارسة الحرة للفردية، وتفقد التقاليد الفكرية علاقتها بأشكال التطبيق المنظمة، ولا يوجد سوى العقلانية الأداتية؛ العامل المحدِث للتحول، أو الأفضل أن نقول، روح العالم الجديد.
لم يتطرق كتاب «جدل التنوير» أبدًا للمفكرين السياسيين المؤثرين؛ فلن تَجِد أيَّ ذكر تقريبًا لجون لوك أو جوتهولد ليسنج أو فولتير أو بنجامين فرانكلين أو توم بين. لقد كان مؤلِّفَا الكتاب يتمتَّعان بنظرة أبعد؛ فقد كان اهتمامهما منصبًّا على ماركيز دي ساد وشوبنهاور وبرجسون ونيتشه. لم يُقرَن أي اسم منهم بالمبادئ السياسية للتنوير أو المؤسسات المخصصة لتنفيذها. لقد كان هؤلاء مناهضين للِّيبرالية، ومناهضين للاشتراكية، ومناهضين للديمقراطية، ومناهضين للمساواة، ومناهضين للعقلانية، ومناهضين للتاريخ.
إن نقد هوركهايمر وأدورنو للعقلانية العلمية مُضَلِّل على المستوى السياسي كذلك. لم يكن الفاشيون مفتونين يومًا بالعقلانية العلمية أو المعايير العمومية. وإنما استغلوا مفاهيم مثل «الفيزياء اليهودية» أو «الرياضيات الإيطالية» استغلالًا أيديولوجيًّا. وقد كان معظم دُعاة العقلانية العلمية من الوضعيين، والوضعيون الجدد في القرن العشرين ليبراليون مثل كارل بوبر؛ وكان بعضهم ديمقراطيين اشتراكيين مثل رودولف كارناب؛ وقليلٌ منهم مثل هانس رايخنباخ كانوا يومًا أعضاءً في اليسار المتطرف. لقد أصاب نوربرتو بوبيو — المفكر والناشط الاشتراكي العظيم — كبدَ الحقيقة بالتأكيد حين أشار إلى أن احتقار الوضعية (وليس اعتناقها) كان علامة مميزة للفاشية.
ومن الواضح أن كلَّ ذلك كان غير ذي صلة، كان هوركهايمر وأدورنو أكثر اهتمامًا بالعملية الجدلية الفاعلة وراء النيَّات الواعية للأفراد والجماعات. لكن جدلهما افتقر إلى التخصيص التاريخي؛ فهما لم يتقصَّيا أبدًا لحظات القرار «السياسي» التي أنتجت الهمجية الجديدة. ولم يأتِ كتاب «جدل التنوير» على ذكر قضية دريفوس أو الثورة الروسية أو الزحف الفاشي على روما أو انتصار النازية، لقد بقيتِ الصراعات المؤسسية والأيديولوجية مستترة مثل الأشخاص المتورِّطين فيها. إن العلاقة بين الشمولية والعصرية — حيث التنوير هو مصدرها، والعقلانية الأداتية هي وسطها — لم تثبت صحتها.
لا يزال السببُ وراءَ عدم تعرُّض أكثر الدول الرأسمالية تقدمًا (مثل الولايات المتحدة وإنجلترا) على الإطلاق لتهديد فاشيٍّ حقيقيٍّ، فيما استسلمَتْ دُوَل أقل تقدمًا إلى حدٍّ كبير (مثل إيطاليا ورومانيا) لقوى الرجعية غير واضح. ولا يُعرَف كذلك سبب عدم اختبار اليابان للتنوير أبدًا، وعدم مناقشة اليسار للشمولية، لم يكن ما حدث في الاتحاد السوفييتي نتيجةً للعصرية، وإنما لانعدامها؛ في الواقع اعتبر جرامشي الثورة البلشفية «ثورة ضد كتاب «رأس المال»» في حين زعم ليون تروتسكي ولينين أن فوز الحزب الشيوعي لم يتحقق إلا لأن روسيا الإمبريالية كانت «أضعف حلقة في سلسلة الرأسمالية.»
كان الماركسيون التقليديون من بين القادة الديمقراطيين الاشتراكيين أكثر وضوحًا — على نحو لا يدعو للدهشة — بشأن كل هذه الأمور من أعضاء مدرسة فرانكفورت الأعمق معرفةً بالفلسفة إلى حدٍّ كبير، ولم يتنبَّأ كلٌّ من كارل كاوتسكي وروزا لوكسمبرج بقيام النظام الحاكم في الاتحاد السوفييتي بأعمال رعب منذ عام ١٩١٨، لكنهما كذلك حلَّلاها ليتوصَلا إلى أنها ناتج التخلُّف الاقتصادي، وكان باحثون آخرون يُشيرون إلى أنه في ألمانيا لم تتفق البرجوازية مع الإقطاعية، في حين أدَّى الخوف من البروليتاريا إلى اتفاقها مع الرجعية.
لم تكن الفاشية الأوروبية ناتجًا لجدل فلسفي موضوع سابقًا، وإنما كانت ردَّ فعل أيديولوجي مرتَبِكًا لليبرالية والديمقراطية الاشتراكية. وتنتشر قاعدتها الجماهيرية في كل مكان في الأساس في طبقات ما قبل الرأسمالية — الفلاحين والطبقات الدنيا من المجتمع والطبقة الوسطى الدنيا — التي بدا أن مصالحها الوجودية والمادية مهددة بسبب عملية الإنتاج الرأسمالية وطبقتيها المهيمنتين: البرجوازية والبروليتاريا. دعمتِ الطبقات المقترنة بالعصرية على الأغلب الأحزابَ السياسية التي تتبنَّى شكلًا قاريًّا لليبرالية أو حزبًا ديمقراطيًّا اشتراكيًّا لا يزال يتبنَّى رسميًّا الماركسية التقليدية وغريمتها الشيوعية. وكانت هذه الأحزاب جميعًا فيما عدا الأحزاب الشيوعية داعمةً لجمهورية فايمار، وكانت جميعًا معاديةً للنازيين الذين أعلنوا الحرب عليها بالقول والفعل.
يلقي كتاب «جدل التنوير» بهذه الصراعات التاريخية الحقيقية في ضباب ميتافيزيقي. ويقدم عرضه الشهير لأوديسيوس — الذي يصبح إنكاره لهويته الطريقة الوحيدة لنجاته من النفي — مثالًا على ذلك، «تحدث التضحية بالوعي وفقًا لمعاييره الخاصة، عقلانيًّا.» لا توجد نقطة رجوع، فالمنطق الأداتي ضروري للبقاء على قيد الحياة، وأشكال بقائنا على قيد الحياة هي التي تُسفِر عن تدميرنا. إن التنوير قصة ديناميكية، تبلغ آثار التشيؤ التي تنتج عنها أَوْجَها في الرقم الموشوم على ذراع سجين في أحد معسكرات الاعتقال النازي. لقد حازت هذه الحجة المستفزة على نطاق واسع من التأييد والانتشار، إلا أنها تقوم على مادية زائفة وسببية في غير محلها. لم يأتِ المنطق الأداتي بالنازية، ولم يدمِّر قدرة الأفراد على إصدار الأحكام المعيارية، وإنما كان الانتصار النازي نتيجةً للصراع بين حركات حقيقية كان أفرادها قادِرين تمامًا على إصدار أحكامٍ مختلفة فيما يتعلق بكلٍّ من مصالحهم وقِيَمهم.
لم تكن الفاشية يومًا نتيجةً حتميةً، كما أنها لم تكن يومًا نتاجًا للعصرية. كانت الحركات الحقيقية والمنظمات الحقيقية والتقاليد الحقيقية والأفكار الحقيقية في صراع. وتجاهلُها يعني تبنِّي تشيؤ التفكير الذي سَعَتْ مدرسة فرانكفورت اسمًا لمعارضته. إن ما ينبثق عن كتاب «جدل التنوير» هو عملية متعنِّتة تقصي أكثر مما تُنوِّر؛ وذلك بالتحديد لأنها ليست محددة في ادِّعاءاتها التاريخية ولا دقيقة في أحكامها السياسية. إن الرغبة في توحيد ظواهر مختلفة نوعيًّا تحت قاعدة واحدة لا يمكن أن تُسفِر إلا عن تضليل تاريخي وارتباك سياسي، وبأخذ ارتباط لوكاتش بالستالينية في الاعتبار، فربما لم يكن هو الشخص الذي يُوجَّه إليه أصابع الاتهام. ومع ذلك، كان هناك جانب من الحقيقة في مقولته الساخرة بأن مدرسة فرانكفورت شاهدتِ السقوط في فخ الهمجية من «فندق الهاوية الكبير» الذي توجد فيه.
ماذا بعدُ؟
عزم كلٌّ من ماكس هوركهايمر وتيودور في أدورنو على مواجهة قيود وحدود التنوير من وجهة نظر التنوير نفسه، وكانت نقطة انطلاقهما هي تآكل الاستقلالية. وكانا يَرَيَان أن التقدم يولِّد الهمجية، وأن نقد الرأسمالية يقع في إطار «أنثربولوجيا هيمنة» أوسع نطاقًا. ويقع عملهما بالتأكيد في نطاق التقليد الجدلي للماركسية، لكن اللحظة الإيجابية التي كان يقوم عليها نقدُهما لم تتحقَّق يومًا أو تُصبح واضحة المعالم، ونظرًا لأن الكل زائف، والحلول الوسط لم تُعرَض؛ أصبحتِ النظرية النقدية مدفوعةً إلى اعتبار النفي مبدأها الإرشادي؛ فالمجتمع الخاضع للإدارة الشمولية نتاج الغائية على نحو عكسي؛ والتشيؤ يتسلَّل إلى كلِّ شقٍّ في المجتمع، والعقلانية الأداتية — أينما ظهرت — تُنتِج شكلًا آخر من الهيمنة. ولا يقدم هوركهايمر وأدورنو معايير لتمييز الفوارق، فبالنسبة إليهما، الموقف الأساسي واضح؛ العقلانية الأداتية هي المشكلة، والشكل السلعي هو المتهم، وصناعة الثقافة هي العدو. ولا يوجد بديل. لا يوجد سوى مقاومة مستمرة تُشَنُّ باسم تجربة فرديةٍ دائمًا ما كانت مراوغة، وإن كان من المفترض أن تكون أصيلة.
كان من المفترض أن يكون لكتاب «جدل التنوير» عمل مكمِّل. ربما يكون مؤلِّفا الكتاب قد شعرا أنهما تجاوَزَا الحدود، وكانت لدى هوركهايمر آمالٌ في التوصل إلى «رؤية جدلية إيجابية لم تُكتَب بعدُ.» وبدا أن التنوير يحتاج لأنْ يتمَّ إنقاذه أو استرداده، لكن هذا لم يتم أبدًا. وثمة كثير من الجدل الدائر حول سبب ذلك. يشير البعض إلى التنظيم غير المترابِط للكتاب؛ استخدامه لجوامع الكلم القصيرة وأسلوب المونتاج وطبيعته المضادة للمنهجية، فيما يُشير آخرون إلى الاستثمار الفكري للمؤلفَين في فكرة النفي. ومع ذلك، لا يزال آخرون يشيرون إلى انشقاقهما عن اليسار وخشيتهما من الانخراط في السياسة. لكن من المحتمل أن يكون هناك سببٌ آخر، فربما وجد المؤلفان ببساطة أن طرح «رؤية جدلية إيجابية» مستحيل؛ لأنه لم يَعُدْ هناك أي شيء «إيجابي» يمكن أن يقولاه.