الفصل السادس

الوعي السعيد

كان هيجل يعتقد أن مَن يقدِّم أقصى دعم للتقدم هو الشخص الذي يخالف الأغلبية، وحدَه ذلك الشخص، المنشق الأصيل، هو الذي يستشعر بحقٍّ القيودَ على الحرية، وحده ذلك الشخص الذي يكون في موضع التشكيك في مفاهيم السعادة السائدة، في واقع الأمر، بالنسبة لهيجل، «الوعي الشقي» هو مصدر التقدم، وتتبنَّى مدرسة فرانكفورت هذا الاعتقاد نفسه، فقد أعرب أفرادها عن انتقادات كثيرة للحياة المعاصرة وصناعة الثقافة. لكن التهديد الذي يقدمه المجتمع الصناعي المتقدم للوعي الشقي ربما يكون الأكثر دلالة. إن جوهر الذاتية والاستقلال يتعرض للتقويض؛ فتجتمع إرادة الفرد وقدرته على مقاومة القوى الخارجية على تحديد معنى الحياة وتجربتها.

وقد كتب ماكس هوركهايمر لليو لوفنتال يقول له إن الثقافة الجماهيرية كانت تسلب الفرد تجربته الخاصة بالزمن، أو ما يطلق عليه هنري برجسون «الديمومة». خشي ماركوزه أن الناس لم يَعُدْ لدَيْهم القدرة على التصرف كذوات وأنهم يُقنَعون خداعًا بالاعتقاد في أن ثمة شيئًا يعتمد على اختياراتهم. وقد عبر هوركهايمر وأدورنو عما كان سيئول إليه الموقف العام للحلقة الداخلية للمدرسة في كتاب «جدل التنوير» وذلك على النحو التالي:

الحياة في العصر الرأسمالي الحديث ما هي إلا طقس إذعان دائم، يجب على كل شخص أن يُظهِر أنه يتماهى تمامًا مع القوة التي تهاجمه، وهذا يحدث في مبدأ تأخير النبر في موسيقى الجاز، الذي يرفض الخروج عن الإيقاع ويجعله قاعدة في نفس الوقت. إن الصوت المائع للمغنِّي في الراديو، وعريس الوريثة اللطيف الذي يسقط في حمام السباحة مرتديًا بذلته الرسمية، هما نموذجان لمَن يَجِب أن يُصبح أيًّا ما أرادَ النظام. بإمكان كل فرد أن يكون مثل هذا المجتمع البالِغ القوة؛ باستطاعة كل فرد أن يكون سعيدًا، فقط إذا كان سيُذعِن تمامًا ويُضحِّي بحقِّه في السعادة.

fig7
شكل ٦-١: الإذعان وفقدان الفردية يميزان الوعي السعيد.

تصور جورج «فون» لوكاتش — هكذا كان يستخدم اللقب الأرستقراطي في ذلك الوقت، وكان يكتب بصفته متمردًا شابًّا عن باقي المتمردين الشباب، وكان حائرًا بين اشمئزازه من الثقافة القديمة وتطلعه إلى الثقافة الجديد — دورًا محدثًا للتحول للناقد في كتابه «الروح والشكل» (١٩١١). وكانت المقالات الأدبية والفلسفية التي يضمها هذا الكتاب موحية ومعقدة ومتخصصة، وغير تقليدية تمامًا. مكَّن الفن الفرد من مقاومة المجتمع، ليس فقط من خلال تحدِّي الأذواق والمفاهيم العامة — أو هكذا زعم لوكاتش — وإنما من خلال تعزيز التجربة عبر سماته الاستعارية والرمزية.

قد تكون التأويلات النقدية ضرورية لاستخلاص تلك السمات. لكن من شأن مثل هذا التقصي الفلسفي بدوره توليد تأويلات أخرى؛ لذا، فإن كلًّا من الممارسة الفلسفية في النقد الأدبي والعمل الفني ليسا مكتملَيْن بطبيعتيهما، فهما قابلان دائمًا لإعادة التأويل بتغير الجمهور مع تغير الزمان. يرجع ذلك إلى أن نتاج النشاط الإبداعي يحمل سرًّا يجب أن يُكشَف ثم يُعاد إخفاؤه مرة أخرى. ويستطيع المقال النقدي — بدرجة لا تقل عن العمل الفني — استخلاص التجارب المكبوتة للروح عبر شكله. وتبدأ الحواجز بين الفلسفة والجماليات، والتأمل والتجربة في الانهيار. هكذا يبدو الفنان في إطار تعريف لوكاتش الجديد والأشمل «إنسانًا إشكاليًّا». ليس الثوري السياسي وإنما الراديكالي المثقف الواسع المعرفة ذو النزعة البوهيمية — مثل نيتشه — هو حامل مشعل التجديد: المبشر بذاتية مفعمة بالحياة وثقافة ناشئة وواقع جديد مختلف.

آلية عمل صناعة الثقافة

زعمت مدرسة فرانكفورت أن معارضة المجتمع الجماهيري كانت تعني معارضةَ الثقافة الجماهيرية. وقد تبنَّت حلقتها الداخلية وجهةَ نظر المعارض للحياة الفكرية. وكان أفراد الحلقة الداخلية يعرفون أن وسائل الإعلام عادةً ما تُناصِر قضايا اليَمِين، لكنهم كانوا يعرفون كذلك أن صناعة الثقافة تستطيع أيضًا أن تنتج أعمالًا ذات نزعة تقدمية في ظاهرها. وكثيرًا ما كانت وسائل الإعلام تهاجم الرأسمالية والتعصب والنخبة الحاكمة، مع ذلك، وحتى حين تفعل ذلك، يبدو أنها تُنمِّط التجربة وتقوِّض التأمل النقدي. وبحسب مدرسة فرانكفورت، توحد صناعة الثقافة بطبيعتها كافة أشكال المعارضة، فضعف عمل بعينه هو أحد الوظائف المباشِرة لشهرته، ولا يوجد عمل في مأمن من ذلك: سواءً لوحات فاسيلي كاندينسكي غير الموضوعية أو موسيقى أرنولد شونبرج ذات العقلانية الصارمة.

ثمة عامل ديناميكي فاعل هنا: كانت الموسيقى الكلاسيكية تُعَدُّ يومًا خلفيةً للأفلام (مثل أفلام شارلي شابلن وفريتز لانج) في حين أنها تعمل اليوم كخلفية للإعلانات، وفي الوقت ذاته، دخلت أعمال الطليعية المناهضة للتقليدية إلى المتحف، ويستطيع الأفراد الليبراليون ذوو النوايا الحسنة الآن تأملها في هدوء، وفي بعض الأحيان، قد يُدفع الشخص المعادي للثقافة إلى الشعور بعدم الارتياح لما تقدِّمه صناعة الثقافة. إلا أن كل هذه الضجة ليست على شيء؛ فقد أُبْطِلَت الإمكانات النقدية أو اليوتوبية الكامنة في العمل الفني بالفعل، واختُزِلَت في مجرد شكل آخر من حرية التعبير في مجتمع حر ومترف.

كانت مدرسة فرانكفورت تعتقد أن صناعة الثقافة سمة جوهرية للمجتمع الخاضع للإدارة الشمولية. ولطالما رأى الماركسيون الثقافة داعمًا للطبقة الحاكمة، وقد كتب لوي ألتوسير لاحقًا عن «جهاز الدولة الأيديولوجي»، لكن مدرسة فرانكفورت أخذت تلك الرؤية في اتجاه آخر. تتضمن الافتراضات التي وضعتْها الحلقة الداخلية للمدرسة فيما يتعلق بطبيعة الثقافة الجماهيرية وهجومها المستمِر على المعايير الفكرية دمجًا للمسائل التي كان المحافظون أول مَن أثاروها.

في القرن الثامن عشر، عبَّر إدموند بيرك عن قلقه بالفعل من أن «ستائر الحياة الرقيقة» باتت تُمزَّق تمامًا، كما أصرَّ أتباعه الأقل تكلفًا والأكثر راديكالية، الذين ينتمون للقرنين التاسع عشر والعشرين مع جوستاف لوبون أن «الرعاع قد أصبحوا أسيادًا، وأن مد الهمجية آخِذٌ في الزيادة.» ولطالما حذرت النخب مما أطلق عليه خوسيه أورتيجا أي جاسيت «رجل الشارع» ودخوله إلى الحياة العامة. كل ذلك جعل من الأهمية بمكان تسليط الضوء على الاختلافات بين النظرية النقدية والهجمات المختلفة على الثقافة الجماهيرية من خلال الرجعيين الأصلاء.

لم يكن هوركهايمر وأدورنو وبنجامين وماركوزه قَلِقِين قلقًا غير مبرَّر بشأن التهديد الذي يَحِيق بالتقليد والسلطة الثقافية، فكانوا أقرب إلى نيتشه، الرجل الثوري الثقافي وليس الرجعي السياسي الذي شجب الانحدار الفيكتوري بامتثاليته ونفاقه المتزمِّتَيْن، وماديته القاتِلة وعقلانيته المُسفَّهة. وبالنسبة إلى مدرسة فرانكفورت، بقي الأمر بمنزلة مسألة متمثلة في مآل «الروح العليا» إلى سوء الفهم أو ما هو أسوأ من ذلك في يد «قطيع» عاجز عن التحكم فكريًّا في «رغبته في السلطة».

إذا كان الكل غير حقيقي، وإذا لم تكن ثمة طريقة للتأثير السياسي في المجتمع، يصبح النقد الثقافي المصدر الوحيد للمقاومة، وتنتقل الراية من هيجل إلى ماركس إلى نيتشه الذي جعلتْه راديكاليته الأرستقراطية نصيرًا للفن الراقي في مواجهة منافِسِه الشهير، وللحداثة في مواجهة معاداة الثقافة، وكان أمميًّا معارضًا لمعاداة السامية السوقية التي اعتنقها أشخاص مثل الملحِّن ريتشارد فاجنر — الذي كثيرًا ما كان يُخفِي انحيازاته تحت عباءة «القومية»، لكن نيتشه كان كذلك متشككًا في الأسس العامة المفترضة للأخلاق والعلوم. ولم يكن يحمل كثيرًا من التعاطف مع الجماهير أو الروح الديمقراطية الموجودة في الحركات الجماهيرية التقدمية. كان نيتشه — الرافض لِمَا كان يَعتَبِره الضحالة المتزايدة لمجتمعه، والواعي بشدة للمشكلة الثقافية المتزايدة العمق، والمدرِك لنهاية العالم بحدسه — يؤيد التجريب والفردية والرؤية «المنظورية» للواقع.

لقد تناول كتاب «جدل التنوير» هذه الموضوعات؛ إلا أن رؤى مؤلفَيه عن صناعة الثقافة كانت موضَّحة بالفعل في أعمال سابقة، فقد أشار أدورنو في مقاله «عن الطابع الصنمي للموسيقى وتراجع الاستماع» (١٩٣٨) إلى أن منتجات صناعة الثقافة لم تكن أعمالًا فنيةً عُبِّئت لاحقًا في شكل سلع، وإنما — على النقيض — كانت تُعتبر سلعًا منذ البداية، وقد حذا هوركهايمر حذوه من خلال الوقوف إلى جانب الفن الراقي في مواجهة أشكال الترفيه الجماهيرية في مقاله «الفن والثقافة الجماهيرية» (١٩٤١).

كان كلاهما يعتقد أن الأعمال الأكثر تعقيدًا فنيًّا وحدها كان بإمكانها دعم التأمل ومقاومة المعايير الثقافية المنحدرة، والصيحات دائمة التغير، ولا تتجسد القضية في المحتوى السياسي وإنما في الشكل الذي يعبر عنه؛ فالوسط هو نفسه الرسالة. وقد عبر أدورنو عن هذه المسألة بوضوح في عمله «الحد الأدنى للأخلاق»، قائلًا: «إن قيمة الفكر تُقاس ببُعْده عن استمرارية المألوف، وتقِلُّ قيمته موضوعيًّا مع تقلص هذه المسافة.»

كانت مدرسة فرانكفورت نخبوية في رؤيتها للحياة العامة، لكن ميول أعضائها كانت حداثية بدرجة قاطعة. فلم يكونوا يحملون أي أوهام رومانسية عن عصر ذهبي ماضٍ بعينه؛ ولم يكونوا مهتمين بالمخاوف الوجودية الخاصة بالمعهد. كانوا عازمين على التصدي لصناعة الثقافة لأنها كانت تُنمِّط التجربة؛ ومن ثَم تَزيد من قَبول العامة يومًا بعد يوم للتقليد والسلطة. وكانت مدرسة فرانكفورت ترى أن أصحاب الثروات المادية يُفقِرون الروح؛ وذلك تماشيًا مع الفكرة البوهيمية والرومانسية القديمة، وهاجموا فكرة الوعي السعيد؛ لأنها فارغة من أي مضمون ومبتذلة، وقد أصرَّ هربرت ماركوزه على أن صناعة الثقافة كان لها دور مهم في انسداد أفق الحياة السياسية.

كان خنوع الفرد وانسداد أفق الحياة السياسية يُعتَبَران نتاج الرأسمالية والدولة البيروقراطية ووسائل الإعلام. ويحلِّل يورجن هابرماس هذا في كتابه الأول الذي أحدث ضجة كبيرة «التحول البنيوي للحيز العام» (١٩٦١). وكان المُقابِل لعنوانه الفرعي المذكور على النسخة الألمانية «بحث في فئات المجتمع البرجوازي». وقد أكمل ألكسندر كلوج وأوسكار نكت — اللذان كانا طالبَين أصغر سِنًّا لأدورنو — لاحقًا هذا المشروع بدراستهما الخاصة لمُقابَله «البروليتاري». ومع ذلك، فقد كان هابرماس هو مَن قدَّم كلمة الحيز العام إلى مصطلحات علم الاجتماع.

كان يرى هذا الحيز وسيطًا بين المؤسسات السياسية المُنظمة للدولة والقوى الاقتصادية للمجتمع المدني. وقد تضمَّن الحيز العام كل الأنشطة والمؤسسات القادرة على دعم النقاش العام. ويتراوح هذا بين الصحافة الحرة واجتماعات مجالس المدن، وبين العائلة والصالونات الثقافية، وبين النظام التعليمي وإنتاج الكتب بتكلفة زهيدة. ربما يستقي الحيز العام أصولَه من مدن العصور الوسطى المستقلة، لكنه أقام قواعده خلال عصر التنوير والثورات الديمقراطية خلال الفترة فيما بين عامَيْ ١٦٨٨ و١٧٨٩. في ذلك السياق، أصبح التشاور العام قيمةً في حدِّ ذاته، واستخدمتِ الجماهير المضطهدة حسها السليم، ومارَسَ الأفراد حقوقهم المدنية. وأصبح الرأي العام مصدرًا للتمكين: عادةً ما كان يَحمِي الفرد من السلطة التعسفية للأنظمة التي كانت لا تَزَال متذبذِبة بين النظام الملكي والنظام الجمهوري.

وقد أسفرت كل الحركات العظيمة التي كانت تَسعَى من أجْل الديمقراطية السياسية والمساواة المادية — بدءًا من الحركة العمالية الديمقراطية الاشتراكية التي انطلقت في القرن التاسع عشر إلى حركة الحقوق المدنية وحركة تحرير المرأة في ستينيات القرن العشرين — عن حيز عام نابِض بالحياة. بل مِن الإنصاف أن نقول إن طبيعة حركة بعينها وقوتها يمكن أن يُستشفَّا من حيوية حيزها العام.

مع ذلك، وفيما يتعلق بتمكين الجماهير، أُثِيرت المشكلة ما إنْ أصبح الرأي العام مقترنًا بالعلانية. فمَعَ هيمنة وسائل الإعلام، بدأت النضالات الشعبية تتخلَّى عن قوتها للمؤسسات والخبراء المنضمين تحت لواء دولة الرفاهية البيروقراطية. وقد راحت الآلة الثقافية الجديدة تَمنَح قيمةً متزايدةً للإجماع وتضيِّق نطاق النقاش، وكان هابرماس منشغلًا بالدور الذي لعبه تشكيل الإرادة الديمقراطية طوال حياته المهنية، وثمة سبب وراء انضمامه في البداية للحركة الطلابية خلال ستينيات القرن العشرين، كما أنه بقي مؤمنًا بأن تغير المجتمع المدني قد يُحارِب الهيمنة المتزايدة للعقل الأداتي؛ ولا يزال كتابه «أزمة تقنين» (١٩٧٥) أحد أبرز أعماله (وإن كان الأكثر تجاهلًا من قِبَل النقاد). إلا أن أغلب أفراد الحلقة الداخلية لم يكونوا يُشارِكون هابرماس تأكيدَه على أهمية الخطاب المُحَرر والمشاركة السياسية؛ ففي رأيهم «وحدَها الكلمات التي تَصِيغها التجارة» هي التي تسود، ولا يمكن أن تُسفِر محاولات التنوير الجماهيري إلا عن خداعٍ جماهيري.

يُحكِم التشيؤ قبضتَه على الحياة العامة، والأكثر من ذلك، أنطولوجيا أوضاع خاطئة تقوِّض الذاتية وقُدْرةَ الأفراد على إصدار الأحكام الأخلاقية؛ ومن ثَم، تتحول مقاومة سلطة الوعي السعيد إلى واجب أخلاقي، أو على الأقل، ذلك ما كانت تؤمن به مدرسة فرانكفورت. ويتلخَّص السؤال فيما تنطوي عليه وتقتضيه هذه المقاومة، فإذا كان المجتمع الخاضع للإدارة الشمولية كليًّا بحق، وقادرًا على دمج وترويض كل الاتجاهات النقدية؛ فإن احتمالات التحرك السياسي حينئذٍ تكون ضعيفة، والمقاومة بوصفها ممارسة سياسية فكرة لا تكون جديرة بالجهد. ويكون النفي هو الخيارَ الوحيد المتاح، والجدل السلبي يجب أن يحدد المشروع النقدي. أما إذا تمكن النشاط المنظم من إثبات فاعليته، فإن النظام حينئذٍ لا يكون خاضعًا للإدارة الشمولية وتكون ثمة ضرورة لوجود منهج نقدي مختلف نظرًا لوجود بدائل جيدة (بالنظر إلى السياسة والبرامج). إن رؤية المجتمع الخاضع للإدارة الشمولية باعتباره نزعة خفية لا يساعد في حل الأمور؛ فالجدل السلبي ونظرية التطبيق بديلان متعارضان.

التسامح والحياة العامة

عقب عودة معهد البحث الاجتماعي إلى ألمانيا في عام ١٩٤٧، كان من المفارقة أن حلقته الداخلية تحولت إلى مجموعة من المفكرين العوام العباقرة، فقد أصبح هوركهايمر رئيسًا لجامعة فرانكفورت، وقد ساند هوركهايمر — الذي كان يخشى كلًّا من الشيوعية وذلك النوع من الاختلال الاجتماعي الذي أنتج النازية — حرب فيتنام وتبيَّن أنه ناقِد صنديد للحركة الطلابية. وفي الوقت ذاته، أصبح كلٌّ من هربرت ماركوزه وإريك فروم من ألمع المفكرين في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وكان كلاهما منتميَين لليسار الجديد وداعمَين صريحَين للحركات المعنية بالعدالة الاجتماعية، ومناهضة الإمبريالية، وحقوق الإنسان، والقضاء على الأسلحة النووية وفرض قيود على المجتمع الصناعي العسكري.

أما بالنسبة إلى يورجن هابرماس، فقد جُمِعَت مقالاته عن المسائل السياسية المعاصرة في مجلدات لا حصر لها. ولطالما كان هابرماس — الذي كان من أوائل المؤيدين للإصلاح التعليمي واليسار الجديد، رغم نقده اللاذع لتجاوزاته — يحتفي بتعهدات اليسار الجديد فيما يتعلق بالديمقراطية الراديكالية والعدالة الاجتماعية، وحتى تي في أدورنو أدَّى دورًا عامًّا. فقد قدم أدورنو — المعروف بأنه ناقِد شرس لليسار الجديد الذي كان عادة ما يُمثِّله طلاب أدورنو الراديكاليون — عشرات من اللقاءات الإذاعية والمقالات التي سَعَتْ لتوضيح أفكاره. بل إنه قدَّم تحليلًا عنيفًا للتنجيم في مقاله «هبوط النجوم إلى الأرض» (١٩٥٣).

لو كانت مدرسة فرانكفورت تشترك في الحيز العام، لجاز بالطبع السؤال هل كان ذلك يدل على وجود مجتمع مفتوح أم لا، وكان من الواضح أن التسامح قد امتدَّ إلى نقاد المجتمع الخاضع للإدارة الشمولية، وقد يُسفِر هذا الموقف عن تشوش مفاهيمي. لقد سعى هربرت ماركوزه إلى التعامل مع هذا الأمر فيما صار على الأرجح مقاله الأسوأ سمعةً الذي نُشر بعنوان «التسامح القمعي» (١٩٦٥)، في ذلك العمل، يزعم أن المفهوم الليبرالي الكلاسيكي للتسامح قد فَقَدَ طابعَه الراديكالي.

يتحول التسامح — الذي كان يومًا ما يرتبط بنقد التحيزات الدينية والسلطة السياسية، والتجريب وإصدار الأحكام — إلى حصنٍ واقٍ للوضع الراهن. تعتمد حجة ماركوزه مرةً أخرى على فكرة أن الوسط هو نفسه الرسالة، وطالما أن صناعة الثقافة تقدم كلَّ الآراء المتعلقة بأي موضوع في منتدًى عام؛ فإنها تبدو جميعًا سواءً في القِيمة؛ ومن ثَم، فإن التسامح، حسبما توضِّحه صناعة الثقافة، يجعل كلَّ ادِّعاءات الصحة نسبية، أو لنقل تحوِّل قبولها إلى مسألة تفضيل. وهكذا تكون الحقيقة، وليس الجمال، هي ما يكمن في عين الناظر. وما حدث للفن قد حدث للخطاب. فكلاهما أصبح خاضعًا للشكل السلعي الذي تحوَّلت بمقتضاه الفروق الكيفية إلى فروق كمية. وعند دراسة الإمبريالية والحرب، أو الهجوم على دولة الرفاهية ونظرية الخلق، تكون كل المواقف سواء، ووفقًا لوسائل الإعلام، لم تَعُدِ المعارضة أكثر مشروعيةً من التأييد.

إن التسامح القمعي ظاهرة حقيقية، وتُعَدُّ قناة فوكس نيوز تجسيدًا حيًّا لهذا المفهوم. إلا أن ذلك لا يخفِّف من وطأة المشكلات المرتبطة بمقال ماركوزه. ففي المقام الأول، يوجد اختلاف بين زعم أن التسامح قد فقد فاعليته الراديكالية وأن التسامح قمعي، كذلك، فإن التركيز السياسي منصبٌّ على غير موضعه. لم تكن المشكلة الحقيقية تتمثل يومًا في التسامح القمعي، وإنما في «قمع التسامح»، فالرقابة لا تزال سائدة، وعلى مدار التاريخ، عادةً ما يكون اليسار هو أكثر مَن يعاني عند تقييد الحريات المدنية في المجتمعات الصناعية المتقدمة.

لم يقدم مقال ماركوزه الكثير عن معايير الحكم على ما يستحق الرقابة، أو عن البيروقراطية اللازمة لتأسيس هذه الرقابة أو حتى احتمالية نشأة مثل هذه البيروقراطية. علاوةً على أنه تجاهل كمَّ الهجوم الذي شنَّتْه صناعة الثقافة على التعصب والقِيَم الرجعية؛ لقد بدأ المسلسل التليفزيوني «حياة عائلة» وشخصيته الرئيسية — آرتشي بانكر — اتجاهًا جديدًا، فربما لم تصور مسلسلات الست كوم التليفزيونية مثل «عرض كوسبي» و«أوقات رائعة» أو «ويل وجريس» و«إيلين» الحياة الواقعية للجماعات المضطهدة والمفترى عليها على نحو نقدي، إلا أنها كانت تقدمية الاتجاه من ناحية الأجندات الأخلاقية والسياسية الأوسع نطاقًا التي كانت تخدمها. والحديث عن تكامل المكاسب التي حققتْها هذه الجماعات التابعة، أو كيف أنها دَعمت النظام يُثِير السؤال التالي: هل رُوِّضت هذه المكاسب أم أُجْبِرَ النظام نفسه على التكيف والتغير؟

يسلط كتاب ماركوزه «الإنسان ذو البعد الواحد» الضوء على الاحتمالات المتعلقة بإعادة توجيه التكنولوجيا للتغلب على الندرة وإشاعة السلام في الوجود، مع ذلك، فلا يزال المجتمع الصناعي المتقدم يعتمد على تناقض بنيوي بين مصالح البرجوازية (التي تشتري قوة العمل وتتحكم في وسائل الإنتاج) والطبقة العاملة (التي تبيع قوة العمل خاصتها ولا تتحكم في وسائل الإنتاج). لكن هذا التناقض الموضوعي لا يُرَى بهذا النحو على المستوى الذاتي. تفتقر الطبقة العاملة إلى الوعي السياسي نظرًا للعيوب الواقعية التي تنطوي عليها الشيوعية، والوفرة الظاهرية التي تميز الرأسمالية الغربية، والأهم على الأرجح، صناعة الثقافة.

أشاع ماركوزه هذا المفهوم في الولايات المتحدة. وفي الواقع، كان منشغلًا انشغالًا عميقًا، شأنه شأن أعضاء مدرسة فرانكفورت الآخَرين، بالكيفية التي ينتج بها مقدمًا هذا المفهوم التجربة، مُلغِيًا التفكير النقدي. ومن الواضح أن وجهة نظره هذه مبنية على كتاب «جدل التنوير». فيتحول ما ينبغي له أن يمثل تهذيبًا جماليًّا للدوافع الحسية الواهبة للحياة ليكون شكلًا فنيًّا بفعل صناعة الثقافة إلى عمل يكيِّف نفسه وفقًا لمنطق التجارة. ويستنزف «الترغيب القمعي» إمكاناته المُحررة والنقدية، ويُجبَر الأفراد على الاعتماد على أنفسهم في تدبر أمورهم، وتُسفِر الوحدة والاغتراب عن اعتمادٍ أكبر من ذي قبل على صناعة الثقافة وتُسهِم في الوعي السعيد، ويدعم الفن الشعبي النظام حتى مع تقويض هذا الأخير للقدرة النفسية على ممارسة الخيال اليوتوبي، وتتسبَّب شعبية العمل الفني في احتضاره.

لكن، هل حقيقي أن شهرة العمل الفني تُبطِل بالضرورة طابعَه النقدي أو راديكاليته الفنية؟ إن الأعداد اللانهائية — على ما يبدو — من المتمردين الذين هم بلا قضية تجسد ما أسماه أدورنو «الامتثالية الانشقاقية»، في حين أن السخرية الضحلة والكفاح الزائف البطولة ضد المؤامرات الخيالية يوفران ما أسماه بول بيكوني — المحرر السريع التقلب لدورية «تيلوس» التي قدمت النظرية النقدية لأمريكا — «السلبية المصطنعة».

لكنْ، بالتأكيد هذا الأمر لا ينطبق على فنانين عظماء مثل تشارلي شابلن أو بوب ديلن أو فرانسيس فورد كوبولا. لا يمكن الهجوم على الجودة الفنية لأعمالهم إلا إذا نزعنا صفة الفن عنها. مع ذلك، فإن هذا هو الادعاء الذي ادَّعاه هوركهايمر وأدورنو وماركوزه — ولو أنه أدخل عليه بعض التعديل، فهذا هو الموقف الوحيد الذي يتناسب مع حجة التشيؤ المعروضة في كتابَيْ «جدل التنوير» و«الإنسان ذو البعد الواحد».

تُقدَّم التفسيرات، وتُحدَّد المواصفات، وتُقَدَّم المبررات المتكلَّفة. ومع ذلك في نهاية المطاف، لم تؤيد مدرسة فرانكفورت أيَّ فنان شعبي، فمعظم أفرادها ببساطة لم يحبوا يومًا الثقافة الشعبية، فلم يكونوا يحملون أيَّ مَيْل تجاهها أو يُظهِرون أي اهتمام بإنجازاتها. وقد قال أدورنو في عمله «الحد الأدنى للأخلاق»: «إن كل زيارة إلى السينما تجعلني — على الرغم من يقظتي التامة — أكثر غباءً وأسوأ حالًا.» وقد عدل أدورنو هذا التصريح لاحقًا. لكن هذا الحكم العام نفسه — نفس هذه الإدانة الشاملة — يوجد في مقاله سيِّئ السمعة «عن الجاز» (١٩٣٦). لم يكن أدورنو واضحًا أبدًا بشأن ما يعنيه بكلمة «الجاز». ومع ذلك، سواءً كان يشير به إلى ذلك اللون الخاص من الموسيقى أو الموسيقى الشعبية بوجه عام، فإن هذا ليس بالأمر المهم. ولا يقدم مقالُه هذا تصورًا لما يمثل في الواقع تقليدًا له شريعته الخاصة، لا يوجد سوى تناول وجيز عن التجربة الحية للجاز، ونقاش أوجز عن علاقته بموسيقى البلوز، ثم تناول أكثر إيجازًا عن أصوله أو استحضاره للذهن صورة حياة سادتْها العنصرية والفقر، ويكتفي هذا المقال بتسجيل حالة الانتكاس النفسي وفقدان الفردية الناتِجَين عمَّا يفترض أن يكون ارتجالًا زائفًا وتأخير نبر ساذجًا لظاهرة جماهيرية باتتِ الآن (وهو الأمر المُثير للاهتمام بدرجة كافية) أقل شعبية من الموسيقى الكلاسيكية.

يعكس مقال «عن الجاز» تشاؤمًا ثقافيًّا عميقًا. إنه يعتمد على ادِّعاءات عامة. كما أنه لا يهتم بالتفريق بين الفنانين أو الأعمال الفنية، فلا يأتِي أبدًا على ذِكر أي مقارنات بين لويس آرمسترونج وبول وايتمان مثلًا أو ديوك إلينجتون ومقلِّديه، ولا يوجد به شيء عن الأغاني الرائعة التي أُعيد أداؤها مرات ومرات بأصوات مجموعة من المطربات الرائعات.

إلى ذلك الحد — في الواقع — يعكس مقال أدورنو الصورة غير المتميزة للمجتمع الخاضع للإدارة الشمولية التي ألهمتْ كتاب «جدل التنوير». إن كلمات الأغاني التي غنَّتْها بيسي سميث وإيثيل وترز وبيلي هوليداي لا تُثِير ظاهريًّا أي مقاومة حقيقية. مع ذلك، فما ينبغي أن تَعنِيه المقاومة يَبقَى أمرًا مُبْهَمًا كما كان شأنه دائمًا. والأمر نفسه ينطبق على السياسة. وحتى ماركوزه أقرَّ بالشيء نفسه حين كتب يقول في عمله «الإنسان ذو البعد الواحد»: «لا تنطوي النظرية النقدية للمجتمع على أي مفاهيم يمكنها سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل؛ وحيث إنها لا تُقدِّم أي وعود ولا تُظهِر أي نجاح، فهي تَبقَى سلبية؛ ومن ثَم، فإنها تريد أن تظل مخلصةً لهؤلاء — فاقدي الأمل — الذين وَهَبوا ولا يزالون يَهَبون حياتهم للرفض العظيم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤