الرفض العظيم
كانت النظرية النقدية دافعًا فكريًّا مهمًّا للحركة الطلابية الأوروبية في ستينيات القرن العشرين. ومع ذلك، في الولايات المتحدة، لم تُتَرْجَم معظَم الأعمال المؤثرة عن النظرية النقدية إلا في سبعينيات القرن العشرين. وكان ذلك حين بدأت دوريات مثل «تيلوس» و«نيو جيرمان كريتيك» في تشكيل قاعدة جماهيرية والدعاية لممثلي النظرية الأَبْرَزِين. إن الأفكار المعقَّدة عن الاغتراب وهيمنة الطبيعة والانتكاس واليوتوبيا وصناعة الثقافة التي تتضمَّنها تلك النظرية جعلتْها مهمة للمفكرين الشباب الذين كانوا يشبون وسط الأحوال المضطربة في ذلك الوقت، والذين كانوا يحاولون فهم ما يحدث حولهم. لكن تمرد وتضامن الشباب استخدما صناعة الثقافة، وذلك لم يجعل طابعها الراديكالي أقلَّ واقعية. وسرعان ما أصبح من الواضح أن الفن ليس قضية خاسرة حتى بعد ظهور معسكر أوشفيتز. كما أن تماهي الثقافة والوعي السعيد لم يكن يومًا — أو لم يَكُن بعدُ — مطلَقًا كما قد يرغب بعضُهم في الاعتقاد.
الإدراك الجديد
كان النشطاء خلال ستينيات القرن العشرين لا يزالون يفهمون النظرية النقدية في سياق الماركسية. وقد أكَّد هربرت ماركوزه على أن تغيير المجتمع الصناعي المتقدم كان يتطلب تحرُّكَ الطبقة العاملة، لكنه شعر أن رؤيتها قد تغيرت بفعل صناعة الثقافة والمكاسب الاقتصادية والتركيب السياسي، وهكذا، لا يمكن للوعي الثوري أن ينشأ بين صفوفها. قد تُمِدُّ النساء والملونون والحركات المناهضة للإمبريالية في محيط النظام والمفكرون والبوهيميون الطبقةَ العاملة، ليس فقط بشرارة ثورية، ولكن بشيءٍ أقل تحديدًا من ذلك؛ إنه إدراك جديد. هذه العوامل المحفِّزة الجديدة للثورة كانت ستجسِّد ما أَطلَق عليه أندريه برتون من البداية «الرفض العظيم».
هنا، مرةً أخرى، توضِّح النظرية النقدية علاقتها بالحداثة؛ إذ كان برتون أسطورةً بين الجماعة الطليعية الأوروبية، وكان مشعلًا هاديًا للسريالية. وقد دعا إلى التمرد على العادات الراسخة الخاصة بالحياة اليومية، وإلى التحرك المباشر من قِبَل البروليتاريا ضد الدولة. ومع ذلك — وفوق كل شيء — كان برتون يدعم شكلًا فنيًّا يرفض كل ما هو مألوف وتوافقي وتقليدي، فكانت رؤيته الجمالية مكرِّسة للهجوم على السرد والعقلانية الخطية.
كان كلٌّ من بنجامين وأدورنو مفتونَيْن بالسريالية خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وكانا أيضًا يدعمان تقنيات المونتاج وتيار الوعي والتجلِّي وتحرير اللاوعي. وكان بنجامين على وجه الخصوص يرى أن السريالية تُثِير نوعًا من «النشوة الثورية» التي كان عدوها الحياة اليومية للمجتمع البرجوازي. وكان ماركوزه يرى أن الرفض العظيم يحرِّك المقاومة ضد القسوة والاستغلال والقِيَم غير الإنسانية التي يتبنَّاها المجتمع الصناعي المتقدم.
وقد رأى «مقال عن التحرر» — وهو من بين أشهر أعمال ماركوزه — أن الرفض العظيم يولِّد إدراكًا يوتوبيًّا. لكن القول بأن المتمردين الشباب كانوا يجسدون هذا مِن قَبيل المبالغة بالتأكيد، فربما لم تكن الجماعات المُهمَّشة يومًا مهمشة تمامًا بالدرجة المتصورة. وربما من الأفضل التحدث عن ظهور حركات اجتماعية جديدة — نتجت جزئيًّا بسبب التوسع في أسواق العمل — وتجريدها من المزاعم الثورية واليوتوبية. فقد تحققت أكثر نجاحاتها إبهارًا من خلال المحاكم والتشريع السياسي، لكن من السهل أن نكون متشككين لذلك الحد المفرط، فقد كانت هناك حالة منتشرة من النفور من الحرب و«المجمع الصناعي العسكري». كما كانت هناك مطالب راديكالية بالشفافية والمساءلة الديمقراطية.
وقد كانت برامج «المجتمع العظيم» التي أطلقها الرئيس ليندون جونسون استجابةً لضغوط مارستْها منظمات مجتمعية وحركات اجتماعية جديدة. وكان أفراد حركة «ركاب الحرية» التي قاتلتْ من أجل الحقوق المدنية في الولايات الجنوبية لأمريكا من خارج تلك الأنحاء، وفي أوروبا وأمريكا اللاتينية، كان المفكرون الراديكاليون مثل رودي دوتشكه وداني كون-بنديت اللذين أشعل أتباعهما فتيل موجة الإضرابات الكبرى التي اندلعت عام ١٩٦٨ التي تميزت بنموذج الإدارة التلقائية الديمقراطي الذي أعاد ذكرى مجالس العمال وكومونة باريس.
كان الحفاظ على البيئة وحقوق الحيوان والهجوم على الشوفينية الذكورية جميعًا نتاج هذا الإدراك الجديد. وقد اختلط ضرب راديكالي من الإصلاح التعليمي بمطالبات الحداثيين الثقافيين بتغيير الحياة اليومية. وتغيرت الأعراف الجنسية والعلاقات بين الأعراق. وبدت جودة الحياة موضوعًا ذا أهمية جوهرية، ومما لا ريب فيه أن المفاهيم الجمالية قد تغيرت أيضًا. وقد أبدى اليسار الجديد تقديرًا عميقًا للذاتية، وسعى الملونون والنساء والشواذ والمفكرون إلى فهم العالم والحصول على قدر من المعنى والغرض الوجوديَّيْن لأنفسهم. وقد كان اليسار الجديد أول حركة جماهيرية تقدر التحول الثقافي، وكان ذلك هو ما خلق ارتباطه بالنظرية النقدية ومدرسة فرانكفورت.
وقد صاحب الهجومَ المحافظ على الثقافة المعادية في ثمانينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة، ثم مرة أخرى في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر هجومٌ شامل على دولة الرفاهية والحريات المدنية باسم القومية والنظام العسكري والإمبريالية. وقد توقَّع ماركوزه شيئًا من هذا القَبِيل في كتابه «الثورة المضادة والتمرد» (١٩٧٢)، فقد توقَّع حدوث محاولات رجعية لتقويض الاهتمامات والمُثُل السياسية المرتبِطة بالإدراك الجديد. أما إدراكه هو نفسه فلم يتغير إلا بقدر تغير محور تركيزه. ويشير آخر أعماله المنشورة — «البُعد الجمالي» (١٩٧٨) — إلى أن «اعتماده على النظرية الجمالية لتيودور في أدورنو لا يتطلب أي شكر وتقدير خاص.» كانت لا تزال هناك بارقة أمل، لكنها كانت تتلاشى. وذلك الرفض العظيم الذي تجسد في الفن الحداثي ذي النزعة السياسية الواضحة (مثل فَنِّ بِريشت) اختفى آنذاك من المشهد. وحينئذٍ، لم يكن على الجماليات أن تؤكد على وعي حركة ما أو شكل جديد ما من الموضوع التاريخي، وإنما على الفردية الأصيلة التي يهدِّد وجودَها قوًى أكبر كثيرًا مما تخيل متمردو عام ١٩٦٨.
دائمًا ما تكون اليوتوبيا صُبُوًّا إلى السمو أكثر منها منتجًا مكتملًا، وبخاصةٍ حيث تُعرِّف صناعةُ الثقافة الحياةَ العامة، وحيث تُبَسَّط المبادئ باستمرار وتُحوَّل المُثُل إلى أفكار بديهية، ربما يُعَدُّ زرع هذا الصُّبُوِّ قيمةً في حدِّ ذاته. وكان ذلك بالتأكيد ما انتَهَى ماكس هوركهايمر إلى اعتقاده في السنوات الأخيرة من حياته، هذا علاوة على أنه عرف أن التجربة الفردية يمكن أن تُبَدَّل بسهولة، وأن الدافع النقدي في إطار السعي إلى السمو لا يمكن أن يُعتَبَر أمرًا مُسَلَّمًا به، فثمة عقاقير، وثمة واعظون، وثمة طوائف؛ ودائمًا هناك الوعود بالخلاص والنعيم. إن صناعة الثقافة تعيش على السعادة؛ تلك السعادة المُنَمَّطة والمُعَدَّة سابقًا، لكن السعادة الحقيقية هي التي تُحارِب الواقعَ الشقيَّ، وهي لا تعبر إلا عن تجربة الفرد المستقل، تمامًا مثل مفهوم الفضل في الدين.
أكَّد هوركهايمر في عمله «الأنا وحركات الحرية» (١٩٣٦) على أن السعادة غير المشروطة ليس لها وجود، لا وجود إلا للصُّبُوِّ إليها. وهذا الصُّبُوُّ يرفض كل المحاولات التي يقوم بها الشكل السلعي والعقلانية الأداتية لتحويل الكيفي إلى كمي والمقدَّس إلى دنيوي. إن كلًّا منَّا يحمل بين جَنَبَاته تَوْقًا طبيعيًّا للخلود والجمال والسمو والخلاص والإله؛ أو ما أَطلَق عليه هوركهايمر في النهاية «التَّوْق للآخَر الكامل»، وهو لا يقدم أي وعود، ولا يصف أي طقوس، ولا يشترط أي كنيسة، لكن هذا التوق يقدِّم أساسًا لمقاومة المجتمع الخاضع للإدارة الشمولية والتأكيد على الفردية، ولا يوجد أي شيء مشترك يجمع بين هذا التوق والديانات المنظمة. مع ذلك، فإن اعتماده على النفي يجمع بين آماله في بلوغ الفردوس وقدرته على تأكيد الذات تأكيدًا تجريبيًّا.
قال إرنست بلوخ ذات مرة إن الحقيقة ما هي إلا صلاة. غير أن أفضل وسيلة للتعبير عن الأشياء التي لا يمكن التعبير عنها هي الموسيقى، فهي تدفعنا إلى مواجهة مع الأشياء التي تكمن في أعماقنا. بالمثل، كان واضحًا أن أدورنو في عمله الكلاسيكي «فلسفة الموسيقى الحديثة» (١٩٥٨) يشير إلى الخلاص حين أصرَّ على أن الإشارة إلى «عودة شخص ما» «معبرة عن كل أشكال الموسيقى، ولو في عالم يستحق الموت.» ثمة طريقة عادةً ما يربط من خلالها كل هذا بين النفي واليوتوبيا من جهة والتجربة الوجودية من جهة أخرى. ويمكن استنباط الإشارات الخاصة بالوضوح والأمل (على الرغم من عدم تعريفهما أبدًا) من خلال الدين والفن والفلسفة، وذلك بعد تجريدها من كل التحديدات والتأملات. وكان هيجل يرى أن هذه المجالات العقلية تزداد وضوحًا بفعل التقدم التاريخي، إلا أن مدرسة فرانكفورت قد قلبت هذا المنظور رأسًا على عقب؛ فقد بات الدين والفن والفلسفة الآن تبادلية تقريبًا في إطار الحقيقة التي تُبرِزها والتي يتعذر التعبير عنها.
إن مدى الاختلافات القائمة بين هذه المجالات الثلاثة ليس له أي أهمية عملية. إن الحرية تتجاوز المحاكاة — شأنها في ذلك شأن الإله — والأمر نفسه ينطبق على جهنم. وحين أشار أدورنو إلى أنه «لا يمكن أن يوجد شِعر بعدَ معسكر أوشفيتز» — تلك العبارة التي كثيرًا ما تُقتَبَس وكثيرًا ما تُراجَع، والتي اختتم بها مقاله «النقد الثقافي والمجتمع» (١٩٥١) — كان يقصد تمامًا ما أشرنا إليه، واليوم تتخذ أحكام الدين اليهودي شكلًا جماليًّا. كذلك تجسُّد الشر — شأنه شأن تجسد الخير — يُلمَّح إليه ولا يُصوَّر أبدًا: فلا تشيؤ الإله يمكن أن يكون كاملًا بالقدر الكافي ولا تشيؤ محرقة الهولوكوست يمكن أن يكون مُرعِبًا بالقَدْر الكافي. وقد استنتج أدورنو الآثار الراديكالية المترتِّبة على هذا الموقِف في كتابه «الحد الأدنى للأخلاق» حين كتب يقول: «بقدْر ما تبتعد الثقافة عن الإنسان؛ تستطيع أن تكون مخلصةً له.»
تبنِّي النَّفْي
تنفَّست مدرسة فرانكفورت هواء الحداثة الأوروبية. فبدءًا من الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى فوز هتلر في انتخابات عام ١٩٣٣، بدا أن ثمة جماعة طليعية دولية تقاوم المجتمع الجماهيري الناشئ وتأكيده على البيروقراطية والتنميط والعقلانية العلمية والشكل السلعي. فقد سَعَتْ أعداد لا تُحصَى من الانطباعيين والتكعيبيين والتعبيريين والمستقبليين والدادائيين والسرياليين إلى اختبار العالم على نحو جديد، وعبْر موجة عارمة من البيانات الفلسفية الجمالية، شنُّوا هجومًا على كل شيء مرتبط بالأهداف «الواقعية» للفن باسم الخيال اليوتوبي وتحرير الفردية، وانتقلت المقاومة من ساحة السياسة إلى ساحة الثقافة. أو كما في حالة مدرسة فرانكفورت، تمتزج اللحظة التي تقدم فيها الفلسفة تأملًا نقديًّا بالقوة التجريبية التي تسلط الجماليات الضوء عليها، فتحول النفي إلى مرحلة من المقاومة المتسامية التي تكافح فيها الذاتية أنطولوجيا الأوضاع الخاطئة.
لطالما كانت مدرسة فرانكفورت متشككة في السياسة المنظمة. فقد كانت آراؤها عن الاغتراب والتشيؤ تنطوي على الاعتقاد بأن ربط النظرية بالتطبيق من شأنه توسيع خطط هؤلاء الذين ينزعون إلى التبسيط الساذج والخطير للأمور. وبَدَتْ مخاطر معاداة الفكر واضحة، وقد عبَّر أدورنو في مقال «اعتزال» وفي المقالات الأخرى التي يضمها كتاب «نماذج نقدية ٢» (١٩٦٩) عن احتقاره لهؤلاء الذين يقولون «كفى حديثًا»، فالتطبيق الذي تمنَّى هؤلاء «الاشتراك فيه» لم يُقدَّر له أبدًا أن يكون راديكاليًّا بالقدر الكافي بالنظر إلى الطريقة التي كانت صناعة الثقافة تقدِّمه بها، وكانت هناك دروس مستفادة يجب على الشباب أن يتعلموها من الحركات الشمولية بأجهزتها الدعائية واحتقارها للفرد. وكان التأكيد على الفردية أفضلَ سبيل لمواجهة المجتمع الخاضع للإدارة الشمولية. لكنَّ ثمة شيئًا يخدم المصلحة الذاتية في كل هذا.
إن النشاط الذي يُظهِر وجود علاقة معقولة بين الغايات والوسائل ليس هو نفسه النشاط الذي هو غاية في حد ذاته أو ما يطلق عليه أدورنو «الاتجاه الفعلي». بالتأكيد، لا يمكن اختزال النظرية في التطبيق. إلا أن هذا لا يَعنِي أنه ينبغي لها أن تتجاهل إلقاء الضوء على القيود المفروضة على التغيير والفُرَص السانحة لتحقيقه. إن كون النشاط السياسي لا يؤدِّي دائمًا إلى تأمل لَدَرْسٌ صعب، وقد أصاب أدورنو حين درسه. لكن دعوته ﻟ «التفكير» تبدو كأنها تكليف صارم من معلم ريفيٍّ؛ فهي تصير كلمةً رمزيةً للبقاء بمعزلٍ عن الجدل. وهكذا يبقى الاعتزال كما هو: رفض الاشتراك في المشروع المنظم للتغيير المؤسسي والانسحاب منه.
ويُعَدُّ مقال أدورنو المنشور بعنوان «انخراط» المتضمَّن في كتابه «ملاحظات على الأدب» (١٩٦٩) هجومًا مباشرًا على برتولت بريشت وجان بول سارتر. كان كلاهما متعاطفًا مع الشيوعية، وأكد كلاهما على الحاجة إلى ربط الأدب برؤية متحيِّزة للاتجاهات السياسية. وقد كتب سارتر في مقاله «ما هو الأدب؟» (١٩٤٧) يقول إنه لا يمكن كتابة رواية تؤيِّد معاداة السامية ثم تُوصَف بالعظمة. وقد رد أدورنو عليه — واضعًا نُصب عينيه مسرحيات بريشت التعليمية مثل «الإجراءات المتخذة» (١٩٣٠) التي تضم السطر الشهير «إن للحزب ألفَ عين وليس لنا سوى عينين» — بقوله إنه كذلك لا يمكن كتابة رواية تثني على محاكمات موسكو ثم تُوصَف بالعظمة. ولطالما كان يظن أن فكرة الأدب المنخرط في السياسة تمثِّل تناقضًا لفظيًّا؛ إذ لا يمكن للأدب حينئذٍ أن يقدم نقدًا للكل (حيث إن العمل الفني دائمًا ما يكون متحيزًا في رؤيته السياسية) أو أي رؤية يوتوبية ذات مغزًى (حيث إن السعادة الحقيقية دائمًا ما تتجاوز التشيؤ).
إن القدرة على تصوير استئصال الذاتية في مجتمع خاضع للإدارة الشمولية — هذا العالم الكابوسي الذي تسوده البيروقراطية والذي لا فكاك منه ولا مغزى له — هي بالتحديد ما جعلت كتابات فرانس كافكا بالغة الأهمية بالنسبة إلى هذا التوجه المختلف للنظرية النقدية. هناك دائمًا شيءٌ مراوغٌ في أعمال كافكا، ما هو؟ ليست الذاتية فقط، سواءً كانت ذاتية الشخصية أو ذاتية المشاهد، وإنما الأسلوب الذي تُقدم به هذه الذاتية.
يوضح كتاب «النظرية الجمالية» (١٩٦٩) مفاهيم الذاتية والحرية واليوتوبيا التي تقاوم كلَّ أشكال التشيؤ. يلفت هذا العمل العظيم لأدورنو — الذي يُبرز قدراته الفكرية الاستثنائية ويبرر جاذبيته الدائمة — الانتباه إلى التوترات التي تظهر في العمل الفني باعتباره كيانًا اجتماعيًّا؛ ومن ثَم تقوم رؤية كانط للتجربة الجمالية على أنها تبرز نوعًا من العشوائية المتعمدة في إطار الظاهرة نفسها التي تجسد أشكالًا محددة من القمع، وفقًا لماركس. ينطوي العمل الفني على تناقضات بين الشكل والمضمون، والتأمل والتجربة، والأسلوب والإلهام، والأمل اليوتوبي والنفي الأنثروبولوجي؛ ومن ثَم يكون العمل الفني بمنزلة «مجال قوى» للتوترات المتعارضة. وينبغي على الجماليات النقدية أن تلقي الضوء على هذه التوترات. وليس الهدف الحقيقي من هذا خلقَ تصور مشترك للعالم عبر نوعٍ من التماهي المشترك مع الشخصيات أو القصص أو الموضوعات، وإنما يتمثَّل الهدف الحقيقي في تكثيف التجربة. وهذا هو السبب وراء أن اللحظة النموذجية في الفن تتمثل في «تصاعد حدة التوتر»، وفقًا لأدورنو.
لا يوجد كثير من الفنانين القادرين على توليد هذه اللحظة، ويتصف مقال أدورنو «فهم «نهاية اللعبة»» (١٩٦١) الذي يتناول فيه مسرحية لصامويل بيكيت بأنه تقصٍّ بحثي محترف للأسلوب الدرامي وتلخيص رائع لرؤية أدورنو الجمالية العامة. إن بيكيت يخلق عالمًا وهميًّا يختبره كل فرد بنحو مختلف. ويتجلى «محتوى الحقيقة» لهذا العالم في مقاومته المنسوجة من الجماليات للعالم الذي يسوده التشيؤ والاغتراب، ومع ذلك، يتعذر التعبير عن طبيعة استجابته؛ فكل فرد من الجمهور يراها على نحو مختلف.
يعبر ذلك التوق للآخر الكامل عن نفسه ضمنيًّا. كان أدورنو بالتأكيد واعيًا لهذا الأمر. ومع ذلك، تعلم أدورنو من بنجامين أن النقد الجمالي يعتمد على الأمل (اليائس) في الخلاص. فليست هناك أيام خوالٍ رائعة كما يَمِيل الرومانسيون والمحافظون إلى الاعتقاد. وتوجِّه مسرحية بيكيت «أيام سعيدة» (١٩٦١) هجومًا شديدًا على تلك الفكرة من خلال شخصياتها التي دُفِنَت — في النهاية — في الرمال حتى أعناقها، وهي لا تزال تتذكر ذكريات الماضي التي لم تحدث أبدًا. كلتا هاتين المسرحيتين لبيكيت فقيرتان في الإخراج المسرحي والحوار. ينبغي ملاحظة أن أدورنو طالما كان يسعى إلى الحيلولة دون انحطاط استخدام الشكل الجمالي إلى الشكلانية، ودون سقوط التوق إلى اليوتوبيا في فخ اللاعقلانية، ويكمن أسلوبه الإصلاحي في الربط النقدي بين العمل الفني وأنطولوجيا الأوضاع الخاطئة ورفضه كافة المحاولات الساذجة لعيش الحياة الخاطئة على نحو صحيح.
يمثِّل كتاب أدورنو «الجدل السلبي» (١٩٦٦) التعبيرَ الفلسفي عن هذا التوجه. ينطلق هذا الكتاب من «نقد» المثالية الذي يقوم على كتاب أدورنو «ثلاث دراسات عن هيجل» (١٩٦٣). ومرة أخرى يصبح الانفصال بين التاريخ والحرية محورَ الحديث. ولا يمكن وجود تناغم جاهز بين الفرد والمجتمع. ولا يمكن خلق وحدة بين الذات والموضوع. التاريخ هو ميدان انعدام الحرية والخنوع المتزايد للذاتية وانتصار الضرورة والعقلانية الأداتية على السعادة والذاتية. وقد قضى انتصار الشمولية على الاعتقاد في مسيرة التقدم. وكان وضع مفهوم للفرد في سياقٍ كونيٍّ خطأً منذ البداية.
وقد استسلم كانط لتلك الفكرة، وحذا هيجل وماركس حذوه. فبدا أن رؤيتهم الغائية تبرر كل تضحية باسم تحقيق وحدة مشئومة بين الذات والموضوع. وبات الفرد مجردًا من وسائل الحماية التجريبية، وعمليًّا لا سلطة له ولا تأثير، وخاضعًا لروح العالم أو للطبقة العاملة.
يقاوم عملا أدورنو «الجدل السلبي» و«ثلاث دراسات عن هيجل» هذه المجموعة من الافتراضات. فكلاهما يُظهِر كيف يقوِّض «نفي النفي» الهيجلي — الذي يُفْتَرَض أنه يُنتج محددات أكثر إيجابية للحرية — الاستقلالَ في واقع الأمر عبر التشيؤ المتزايد. ويؤيد هذان العملان النفيَ في حد ذاته دون الإشارة إلى تصور تاريخي للتقدم. من المستحيل حلُّ هذه التوترات بين الفرد والمجتمع؛ لذا، فإن محاولة إبراز ذلك فكرة فاشلة، على الجانب الآخَر، يؤكد الجدل السلبي على اللاهوية بين الذات والموضوع، والفرد والمجتمع، وكذلك بين الخاص والعام. ومع ذلك، فإنه لا يمكن ببساطة الإعلان عن هذه اللاهوية؛ لذا، يلزم التأمل النقدي لشرح كيفية التعبير عن اللاهوية في أي ظرف بعينه وكيفية تجنب التجربة المعنية للتشيؤ.
يعبر أدورنو عن المسألة بوضوح في إحدى محاضراته التي قدمها في عام ١٩٦٥، والتي تناول خلالها عمله «الجدل السلبي»، حيث قال: «إن الفلسفة هي المجهود المتناقض المتمثل في قول ما لا يمكن قوله، عبر التوفيق والسياقية.» ويعزز التَّوْقُ للآخَر الكامل موقفًا يجب أن يسعى فيه المفاهيمي باستمرار لإدراك اللامفاهيمي، وتتجلَّى هذه العلاقة بين رؤية أدورنو ورؤية بيكيت في روايته «اللامسمى» (١٩٥٣): «لا أستطيع الاستمرار. وسأستمر!»
تتضمن المقاومة رفض أنطولوجيا الأوضاع الخاطئة دون الاعتقاد بإمكانية تغييرها. فيمتزج ما هو فلسفي بما هو جمالي وديني كذلك. وهكذا لم يتم تغيير فكر هيجل بالكامل فحسب، بل انقلب رأسًا على عقب: فقد أُلغيت الاختلافات الكيفية بين اللحظات الثلاث التي تنطوي عليها فكرته المُطلَقة. فلم يَعُدْ يتبقَّى هناك سوى التأمل في ذلك التوق غير المحدد، الذي لا يمكن تعريفه، إلى الحرية، والذي أثاره الواقع الذي ينكر إدراك هذه الحرية. هنا كانت آخر بقايا التضامن. ليست هناك مساحة في نقد النقد للمؤسسات أو المنظمات القادرة على دعم (أو إعاقة) التضامن في عالم يغلب عليه الشكل السلعي والتسلسل الهرمي البيروقراطي وصناعة الثقافة.
إن التضامن — شأنه شأن المقاومة — يتخذ شكلًا ميتافيزيقيًّا جديدًا. ويصر منطق المادية التاريخية على نحو جوهري على مثل هذا التغيير. فقد اختفتِ الشيوعية، ورُوِّضَت الديمقراطية الاشتراكية، وجعلت صناعة الثقافة تصور وجود عامل محدِث للتحول أمرًا مستحيلًا. والواقع نفسه ينادي بتفضيل الميتافيزيقا على المادية؛ ومن ثَم، كتب أدورنو في عمله «الجدل السلبي» يقول: إن «الفلسفة — التي بدا يومًا أنها اندثرت — ما زالت موجودة؛ لأن لحظة إدراكها قد فاتت.»