في ذكر المغفلين من الأمراء والولاة
قال محمد بن زياد: كان عيسى بن صالح بن علي يحمق، وكان له ابنٌ يقال له عبد الله من عقلاء الناس، فتولى عيسى جند «قنسرين» فاستخلف ابنه على العمل، قال ابنه: فأتاني رسوله في بعض الليل يأمرني بالحضور في وقت منكر لا يُحضَر فيه إلا لأمر مهمٍّ، فتوهمت أن كتابًا ورد من الخليفة في بعض الأشياء التي يحتاج فيها إلى حضوري وحضور الناس، فلبست السواد وتقدمت بالبعثة إلى وجوه القُوَّاد وركبت إلى داره، فلما دخلتُها سألت الحُجَّاب: هل ورد كتاب من الخليفة أو حدث أمر؟ فقالوا: لم يكن من هذا شيء. فصرت من الدار إلى موضع تخلُّف الحُجَّاب عنه فسألت الخُدَّام أيضًا فقالوا مثل مقالة الحُجَّاب، فصرت إلى الموضع الذي هو فيه فقال لي: ادخل يا بني. فدخلت فوجدته على فراشه فقال: علمت يا بني أني سهرت الليلة في أمر أنا مفكر فيه إلى الساعة. قلت: أصلح الله الأمير، ما هو؟ قال اشتهيت أن يصيرني الله من الحور العين ويجعل في الجنة زوجي يوسف النبي. فطال في ذلك فكري قلت: أصلح الله الأمير فالله عز وجل قد خلقك رجلًا فأرجو أن يدخلك الجنة ويزوِّجك من الحور العين، فإذا وقع هذا في فكرك فهلَّا اشتهيت محمدًا ﷺ أن يكون زوجك، فإنه أحق بالقرابة والنسب وهو سيد الأولين والآخرين في أعلى عليين؟ فقال: يا بني لا تظن أني لم أفكر في هذا؛ فقد فكرت فيه ولكن كرهت أن أغيظ السيدة عائشة.
حدثنا المدائني قال: جاء رجل من أشراف الناس إلى بغداد فأراد أن يكتب إلى أبيه كتابًا يخبره فلم يجد أحدًا يعرفه، فانحدر بالكتاب إلى أبيه وقال: كرهت أن يبطئ عليك خبري ولم أجد أحدًا يجيء بالكتاب فجئت أنا به. ودفعه إليه.
قال ابن خلف: واختصم رجلان إلى بعض الولاة فلم يحسن أن يقضي بينهما، فضربهما وقال الحمد لله الذي لم يفتني الظالم منهما.
أخبرني سعيد بن جعفر الأنباري قال: سمعت أبي يقول غضب أبو الخيثم على عامل له فكُلِّم في الرضاء عنه فقال: لا واللهِ أو يبلغني عنه أنه قبَّل رجلي.
قال عثمان الجاحظ: كان فزارة صاحب مظالم البصرة وكان أطول خلق الله لحية وأقلهم عقلًا، وهو الذي قال فيه الشاعر:
وأخذ الحجام يومًا من شعره فلما فرغ دعا بمرآة فنظر فيها فقال للحجام: أما شعر رأسي فقد جوَّدتَ أخذه، ولكنك واللهِ يا ابن الخبيثة سلحت على شاربي. ووضع يديه عليه.
وسمع فزارة يومًا صياحًا فقال: ما هذا الصياح؟ فقالوا قوم يتكلمون في القرآن. فقال: اللهم أرحنا من القرآن.
واجتاز به صاحب دراج فقال: بكم تبيع هذا الدراج؟ فقال: واحد بدرهم. قال: لا. قال: كذا بعت. قال: نأخذ منك اثنين بثلاثة دراهم. قال: خذ. فقال: يا غلام، أعطه ثمن اثنين ثلاثة دراهم فإنه أسهل للمبيع.
ثم نزل عن المنبر.
وبلغنا أن يزيد بن المهلب ولَّى أعرابيًّا على بعض كور خراسان، فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر وقال: الحمد لله. ثم أُرْتِجَ عليه فقال: أيها الناس إياكم والدنيا، فإنكم لم تجدوها إلا كما قال الله تعالى:
فقال كاتبه: أصلح الله الأمير هذا شعر. قال: فالدنيا باقية على أحد؟ قال: لا. قال: فيبقى عليها أحد؟ قال: لا. قال: فما كلفتك إذن؟
وبلغنا أن بعض العرب خطب في عملٍ وَلِيَهُ فقال في خطبته: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أشهر، فقيل له: في ستة أيام. فقال: والله أردت أن أقولها ولكن استقللتها.
قال: حدثنا أبو بكر النقاش قال: كتب كاتب منصور بن النعمان إليه من البصرة أنه أصاب لصًّا فكَرِهَ الإقدام على قطعه دون الاستطلاع على أمره وإنه خياط. فكتب إليه: اقطع رجله ودع يده. فقال: إن الله أمر بغير ذلك! فكتب إليه: أنفذ ما أمرتك به فإن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
وأتى منصورًا نخاس ببغل فقال: هذا شراؤه أربعون دينارًا. فقال: لا تربح عليَّ شيئًا هذه المرة، يا غلام أعطه ألفًا وخمسمائة دينار.
ودخل على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين، الموت فاشٍ بالكوفة ولكنه سليم.
ودخل على أحمد بن أبي حاتم وهو يتغدَّى برءوس، فقال له أحمد: هلم يا أبا سهل فإنها رءوس الرُّضَّع. فقال: هنيئًا، أطعمنا الله وإياك من رءوس أهل الجنة.
وقال له المأمون: يا منصور قد مدت دجلة فأشر علينا. فقال: تكتري مائة سقَّاء يستقون ذا الماء يرشون الطريق. فقال له المأمون: حرت فيك.
قال: حدثنا محمد بن خلف قال: قال بعض الولاة لكاتبه: اكتب إلى فلان وعنِّفه وقل له: بئس ما صنعت يا خرا. فقال الكاتب: أعزك الله لا يحسن هذا في المكاتبة. قال: صدقت الْحسْ موضع الخرا بلسانك.
أخبرني الأمير أبو بكر بن بدر قال: شغب رجال على الحسين بن مخلد يومًا وطالبوه بالمال فقال: أنا ما معي مال في بيتي أخرجه، وإنما أنا للسلطان كالمرملة إن صَبَّ في أعلاي شيئًا أخذتموه من أسفلي، فإن صبرتم إلى أن تَرِدَ الأموال فرَّقت عليكم وإلا فالأمر لكم.
حدثنا أبو علي محمد بن الحسن الكاتب قال: كنت أكتب لأبي الفضل بن علان وهو بأرجان يتقلَّدها فقيل له: قدم أبو المنذر النعمان بن عبد الله يريد فارس والوجه أن تلقاه في غدٍ. وكان ابن الفضل يُحَمُّ حُمَّى الربع فقال: كيف أعمل وغدًا يوم حُمَّايَ ولا أتمكن من لقاء الرجل؟! ولكن الوجه أن أُحَمَّ الساعة حتى أقدر عليه غدًا، يا غلام هات الدواج حتى أحم الساعة، فإذا عنده أنه إذا أراد أن يقدم نوبة الحمى ويصح غدًا تأخرت عنه الحمى.
حدثنا المدائني قال: كان عبد الله بن أبي ثور والي المدينة فخطبهم فقال: أيها الناس اتقوا الله وارجوا التوبة، فإنه أهلك قوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم. فسموه مقوم الناقة وعزله الزبير.
قال: وكتب حيان عامل مصر إلى عمر بن عبد العزيز: إن الناس قد أسلموا، فليس جزية. فكتب إليه عمر: أبعدَ اللهُ الجزيةَ؛ إن الله بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا للجزية.
حدثنا سليمان بن حسن بن مخلد قال: حدثني أبي قال: كنت عند شجاع بن القاسم، وقد دخل قوم من المتظلِّمين خاطبهم في أمورهم فقال: ليس النظر في هذا الآن والأمير يجلس للنظر في هذا ومثله أول من أمس فتصيرون إليه.
دخل شجاع على المستعين مرة وطرف قبائه مخرق، فسأله عن سبب ذلك فقال: اجتزت في الدرب وكان فيه كلب فوطأت قباءه فخرق ذنبي. فما تمالك المستعين أن ضحك.
وعن جرير بن المقفع عن وزير كسرى قال: كان قباذ أحمق، كان يأتي البستان فيشم الريحان في منبته ويقول: لا أقلعه رحمة له.
وبلغنا عن نصر بن مقبل — وكان عامل الرشيد على الرقة — أنه أمر بجلد شاةٍ الحدَّ فقالوا: إنها بهيمة. قال: الحدود لا تعطل وإن عطلتها فبئس الوالي أنا. فانتهى خبره إلى الرشيد فلما وقف بين يديه قال: من أنت؟ قال: مولًى لبني كلاب. فضحك الرشيد وقال: كيف بصرُك بالحكم؟ قال: الناس والبهائم عندي واحد في الحق ولو وجب الحق على بهيمة وكانت أمي أو أختي لحَدَدْتُها ولم تأخذني في الله لومة لائم. فأمر الرشيد أن لا يُستعان به.
حضر بعض حكماء الهند مع وزير ملكهم وكان الوزير ركيكًا فقال للحكيم: ما العلم الأكبر؟ قال: الطب. قال: فإني أعرف من الطب أكثره. قال: فما دواء المبسم أيها الوزير؟ قال دواؤه الموت حتى تقل حرارة صدره، ثم يعالج بالأدوية الباردة ليعود حيًّا. قال: ومن يحييه بعد الموت؟ قال: هذا علم آخر، وُجِدَ في كتاب النجوم أن الحياة للإنسان خير من الموت. فقال الحكيم: أيها الوزير الموت على كل حال خير للجاهل من الحياة.
عرض أبو خندف دوابَّه فأصاب فيها واحدة عجفاء مهزولة فقال: هاتوا الطبَّاخ، فبطحه وضربه خمسين مقرعة وقال له: ما لهذه الدابة على هذه الحال؟! قال: يا سيدي، أنا طباخ ما علمي بأمر الدواب؟! قال: بالله أنت طباخ فلم لَمْ تقل لي؟ اذهب الآن فإذا كان غدًا أضرب السائس ستين مقرعة يفضل عشرون، فطب نفسًا.
وروى أبو الحسن محمد بن هلال الصابي قال: خرج قوم من الديلم إلى إقطاعهم فظفروا باللص المعروف بالعراقي، فحملوه إلى الوزير أبي عبد الله المهلبي فتقدم بإحضار أبي الحسين أحمد بن محمد القزويني الكاتب، وكان ينظر في شرطة بغداد، فقال له المهلبي: هذا اللص العَيَّار العراقي الذي عجزتم عن أخذه فخذوه واكتب خطك بتسليمه. فقال: السمع والطاعة إلى ما يأمر به الوزير، ولكنك تقول ثلاثة وهذا واحد فكيف أكتب خطي بتسليم ثلاثة؟ فقال: يا هذا هذا العدد صفة لهذا الواحد. فكتب: يقول أحمد بن محمد القزويني الكاتب: تسلمت من حضرة الوزير اللص العيار العراقي ثلاثة وهُم واحد رجل وكُتِبَ بخَطِّه في التاريخ. فضحك الوزير وقال لنصراني هناك: قد صحح القزويني مذهبكم في تسليم هذا اللص.
وقال بعض الكتاب لمغنية: اكتبي لي هذا الصوت فقالت: أنت الكاتب. فقال: أنت تكتبينه بلحنه وأنا لا أحسن أكتبه بلحنه.
قال أبو الحسن بن هلال الصابي: عَرضُ على الوزير ذي السعادات أبي الفرج محمد بن جعفر بعضُ التجار المسافرين ثلاثَ شقاق حرير، فبقيت عنده مدة فجاء صاحبها وطلبها ففتح الوزير الدواة وكتب على هذه بخط غليظ: هذه لا تصلح. وكتب على أخرى: وهذه غير مرضية. وعلى أخرى: وهذه غالية. وقال: ادفعوها إليه. فأخذها الرجل وقد تلِفت عليه، قال: وكان إذا أخطأ الفرس تحته يأمر بقطع علفه تأديبًا له، فإذا قيل له في ذلك قال: أطعموه ولا تُعلموه أنني علمت بذلك.
وجاء بعض النصارى إلى عبد الله بن بشار، وكان عامل المدينة فقال: أريد أن أسلم على يدك فقال: يا ابن الفاعلة ما وجدت في عسكر أمير المؤمنين أهون مني جئت تريد أن تلقي بيني وبين عيسى بن مريم كلامًا إلى يوم القيامة.
صعد بعض الولاة المنبر فخطب فقال: إن أكرمتموني أكرمتكم وإن أهنتموني ليكونن أهون عليَّ من ضرطتي هذه. وضرط ضرطة.
جاز بعض الأمراء المغفلين على بياع الثلج فقال: أرني ما عندك. فكسر له قطعة وناوله فقال: أريد أبرد من هذا. فكسر له من الجانب الآخر فقال: كيف سعر هذا؟ فقال: رطل بدرهم ومن الأول رطل ونصف بدرهم. فقال: زن من الثاني.
وجاز يومًا بطينٍ في شارع باب الشام فقال لأصحابه: السلطان يريد أن يركب فإن أنا رجعت ورأيت هذا الطين موضعه ضربته بالنار ولا ينفعكم شفاعة أحد.
خطب قبيصة وهو خليفة أبيه على خراسان، فأتاه كتابه فقال: هذا كتاب الأمير وهو واللهِ أهل أن يُطاع وهو أبي وأكبر مني.
وحكى أبو إسحاق الصابي أن رجلًا من كبار كُتَّاب العجم يُعرَف بأبي العباس بن درستويه حضر مجلس أبي الفرج محمد بن العباس وهو جالس للعزاء بأبيه أبي الفضل، وقد ورد نَعِيُّهُ من الأهواز وعند أبي الفرج رؤساء الدولة وقد ولي الديوان مكان أبيه، فلما تمكن ابن دستوريه في المجلس تباكى وقال: لعلَّ هذا إرجاف. ورَدَّ كتابه فقال له أبو الفرج: قد ورد عدة كتب. فقال: دع هذا كله ورد كتابه بخطه؟ فقال: لو ورد كتابه بخطه ما جلسنا للعزاء. فضحك الناس.
وأنشد عبد الله بن فضلويه عامل «قرميسين» في مجلسه والمجلس غاصٌّ بأهله هذا البيت:
فقال بعض الحاضرين: إنما هو يوم الحجامة. فقال: اعذروني فإني لا أحسن النحو.