في ذكر أخبار من ضرب المثل بحمقه وتغفيله
هؤلاء ينقسمون إلى رجال ونساء؛ فمنهم هبنقة واسمه يزيد بن ثروان ويقال ابن مروان أحد بني قيس بن ثعلبة، ومن حمقه أنه جعل في عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف وقال: أخشى أن أضل نفسي ففعلت ذلك لأعرفها به. فحُوِّلَت القلادة ذات ليلة من عنقه لعنق أخيه فلما أصبح قال: يا أخي أنت أنا فمن أنا؟
وأضلَّ بعيرًا فجعل ينادي: من وجده فهو له. فقيل له: فلم تَنشُده؟ قال: فأين حلاوة الوجدان؟! وفي رواية: من وجده فله عشرة. فقيل له: لِمَ فعلت هذا؟ قال: للوجدان حلاوة في القلب.
واختصمت طفاوة وبنو راسب في رجل ادَّعى كل فريق أنه في عِرَافتهم، فقال هبنقة: حكمه أن يُلقى في الماء فإن طفا فهو من طفاوة وإن رسب فهو من راسب. فقال الرجل: إن كان الحكم هذا فقد زهدت في الديوان. وكان إذا رعى غنمًا جعل يختار المراعي للسمان ويُنحِي المهازيل ويقول: لا أصلح ما أفسده الله.
ومنهم أبو غبشان، وهو رجل من خزاعة كان يلي الكعبة، فاجتمع مع قصي بن كلاب بالطائف على الشرب، فلما سكر اشترى منه قصي ولاية البيت بزِقِّ خمر، وأخذ منه مفاتيحه وسار بها إلى مكة وقال: يا معشر قريش، هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل ردَّها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم. وأفاق أبو غبشان فندم فقيل: «أندم من أبي غبشان» وأخسر من أبي غبشان، وأحمق من أبي غبشان. قال بعضهم:
ثم جاءت خزاعة فغالبوا قصيًّا فغلبهم.
ومنهم «شيخ مهو» وهي قبيلة من عبد القيس واسمه عبد الله بن بيدرة، وكانت إياد تُعيَّر بالفسو، فقال رجل منهم بعكاظ ومعه برد حبِرة فنادى؟ ألا إنني من إياد فمن يشتري مني عار الفسو ببرديَّ هذين. فقام عبد الله بن بيدرة فقال: أنا. واتَّزر بأحدهما وارتدى بالآخر وأشهد الإيادي عليه أهل القبائل، وانصرف عبد الله إلى قومه فقال: جئتكم بعار الأبد. فلزم العار بذلك عبد القيس.
ومنهم عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، من حمقه أنه قيل له: ما سميت فرسك؟ فقام إليه ففقأ إحدى عينيه وقال: سميته الأعور. قال العنزي:
ومنهم «حمزة بن بيض» عن أبي طالب عمر بن إبراهيم أنه قال: دعا حمزة بن بيض حجَّامًا وكان الحجام ثقيلًا كثير الكلام، فلما أرهف المشاريط قال له: الساعة توجعني! قال: لا. قال: فانصرِفِ اليوم. قال: لا تفعل فإنك محتاج إلى إخراج الدم وذلك بين في وجهك وهي سُنَّة نبوية. قال: انصرف وعد إليَّ غدًا. قال: لست أدري ما يحدث إلى غد والمشاريط حادة، وإنما هي لحظة. قال: إن كان كما تقول فأعطني فردة بيضة من خصيتك تكون في يدي رهينة إن أوجعتني أوجعتك. فقام الحجَّام وقال: أرى أن تدع الحجامة في هذا العام. وانصرف.
عن محمد بن العلاء الكاتب أنه قال: قال حمزة بن بيض لغلام له: أي يوم صلينا الجمعة في الرُّصَافة؟ ففكَّر الغلام ساعة، ثم قال: يوم الثلاثاء. وقيل لحمزة بن بيض: كم تشرب من النبيذ؟ قال: أكثر من رطلين شيء.
ومنهم «أبو أسيد» عن محمد بن رجاء قال: قال أبو أسيد وحدَّث بحديث: كان ذلك في خلافة المهدي قبل موت المنصور. وقال: مر على أبي أسيد بعيران فقال قوم كانوا حوله: ما أفرههما! فقال أبو أسيد: أحدهما أفره من الآخر. قالوا: أيهما أفره؟ قال: القدامي أفره من الأول. وعزى أبا أسيد رجل عن مصيبته فقال له: رزَقنا الله مكافأتك. وعن محمد بن عبد المطلب قال: قال أبو أسيد ونظر إلى رجل نائم: قم فكم تنام كأنك بعير ناد! وقيل لأبي أسيد حدثنا عن ابن عمر فقال: كان يحف شاربه حتى يبدو بياض إبطيه.
ومنهم «جحا» ويكنى أبا الغصن، وقد روي عنه ما يدل على فطنة وذكاء، إلا أن الغالب عليه التغفيل، وقد قيل: إن بعض من كان يعاديه وضع له حكايات والله أعلم. عن مكي بن إبراهيم أنه يقول: رأيت جحا رجلًا كيسًا ظريفًا، وهذا الذي يقال عنه مكذوب عليه، وكان له جيران مخنثون يمازحهم ويمازحونه فوضعوا عليه. وعن أبي بكر الكلبي أنه قال: خرجت من البصرة فلما قدمت الكوفة إذا أنا بشيخ جالس في الشمس فقلت: يا شيخ أين منزل الحكم؟ فقال لي: وراءك. فرجعت إلى خلفي، فقال: يا سبحان الله! أقول لك وراءك وترجع خلفك! أخبرني عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا. قال: بين أيديهم. فقلت أبو من؟ قال: أبو الغصن. فقلت: الاسم؟ قال: جحا. وقد رويت لنا هذه الحكاية على غير هذه الصفة.
وعن عباد بن صهيب قال: قدمت الكوفة لأسمع من إسماعيل بن خالد، فمررت بشيخ جالس فقلت: يا شيخ كيف أمر إلى منزل إسماعيل بن خالد؟ فقال: إلى ورائك. فقلت: أرجع؟ فقال: أقول لك وراءك وترجع! فقال: أليس ورائي خلفي؟ قال: لا. ثم قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس وَكَانَ وَرَاءَهُمْ أي بين أيديهم. قال: قلت: بالله من أنت يا شيخ؟ قال: أنا جحا.
قال المصنف: وجمهور ما يروى عن جحا تغفيل نذكره كما سمعناه.
عن أبي الحسن قال رجل لجحا: سمعت من داركم صراخًا! قال: سقط قميصي من فوق. قال: وإذا سقط من فوق؟ قال: يا أحمق لو كنت فيه أليس كنت قد وقعت معه؟
وحكى أبو منصور الثعالبي في كتاب غرر النوادر قال: تأذَّى أبو الغصن جحا بالريح مرة فقال يخاطبها: ليس يعرفك إلا سليمان بن داود الذي حبسك حتى أكلت خراك.
وخرج يومًا من الحمام في يوم بارد فضربته الريح فمس خصيته، فإذا إحدى بيضتيه قد تقلصت فرجع إلى الحمام وجعل يفتش الناس فقالوا: ما لك؟ فقال: قد سرقت إحدى بيضتيَّ، ثم إنه دُفِّئَ وحمي فرجعت البيضة، فلما وجدها سجد شكرًا لله وقال: كل شيء لا تأخذه اليد لا يُفقَد.
ومات جار له فأرسل إلى الحفار ليحفر له، فجرى بينهما لجاج في أجرة الحفر، فمضى جحا إلى السوق واشترى خشبة بدرهمين وجاء بها فسئل عنها فقال: إن الحفار لا يحفر بأقل من خمسة دراهم، وقد اشترينا هذه الخشبة بدرهمين لنصلبه عليها، ونربح ثلاثة دراهم ويستريح من ضغطة القبر ومسألة منكر ونكير.
وحكي: أن جحا تبخر يومًا فاحترقت ثيابه فغضب وقال: والله لا تبخرتُ إلا عريانًا.
وهبت يومًا ريح شديدة فأقبل الناس يدعون الله ويتوبون فصاح جحا: يا قوم لا تعجلوا بالتوبة وإنما هي زوبعة وتسكن.
وذكر أنه اجتمع على باب دار أبي جحا تراب كثير من هدم وغيره فقال أبوه: الآن يلزمني الجيران برمي هذا التراب واحتاج إلى مؤنة وما هو بالذي يصلح لضرب اللبن، فما أدري ما أعمل به. فقال له جحا: إذا ذهب عنك هذا المقدار فليت شعري أي شيء تحسن؟ فقال أبوه: فعلمنا أنت ما تصنع به. فقال: يحفر له آبار ونكبسه فيها.
واشترى يومًا دقيقًا وحمله على حمَّال، فهرب الحمال بالدقيق فلما كان بعد أيام رآه جحا فاستتر منه فقيل له: ما لك فعلت كذا؟ فقال: أخاف أن يطلب مني كِرَاه.
ووجهه أبوه ليشتري رأسًا مشويًّا فاشتراه وجلس في الطريق فأكل عينيه وأذنيه ولسانه ودماغه وحمل باقيه إلى أبيه فقال: ويحك! ما هذا؟ فقال: هو الرأس الذي طلبته، قال: فأين عيناه؟ قال: كان أعمى. قال: فأين أذناه؟ قال: كان أصم. قال: فأين لسانه؟ قال: كان أخرس. قال: فأين دماغه؟ قال: كان أقرع. قال: ويحك! رده وخذ بدله. قال: باعه صاحبه بالبراءة من كل عيب.
وحكي: أن جحا دفن دراهم في صحراء وجعل علامتها سحابة تظلها. ومات أبوه فقيل له: اذهب واشتر الكفن. فقال: أخاف أن أشتري الكفن فتفوتني الصلاة عليه.
وحكي: أن المهدي أحضره ليمزح معه، فدعا بالنطع والسيف فلما أُقعِد في النطع قال للسياف: انظر لا تصب محاجمي فإني قد احتجمتُ.
ورأوه يومًا في السوق يعدو فقالوا: ما شأنك؟ قال: هل مرت بكم جارية رجل مخضوب اللحية؟
واجتاز يومًا بباب الجامع فقال: ما هذا؟ فقيل مسجد الجامع. فقال: رحم الله جامعًا ما أحسن ما بنى مسجده!
ومر بقوم وفي كمه خوخ، فقال: من أخبرني بما في كمي فله أكبر خوخة. فقالوا: خوخ. فقال: ما قال لكم هذا إلا من أمه زانية.
وسمع قائلًا يقول: ما أحسن القمر! فقال: أي والله خاصة في الليل.
وقال له رجل: أتحسن الحساب بإصبعك؟ قال: نعم. قال: خذ جريبين حنطة. فعقد الخنصر والبنصر، فقال له: خذ جريبين شعيرًا. فعقد السبابة والإبهام وأقام الوسطى، فقال الرجل: لِمَ أقمت الوسطى؟ قال: لئلا يختلط الحنطة بالشعير.
ومر يومًا بصِبيانٍ يلعبون ببازي ميت فاشتراه منهم بدرهم وحمَله إلى البيت فقالت أمه: ويحك! ما تصنع به وهو ميت؟ فقال لها: اسكتي فلو كان حيًّا ما طمعت في شرائه بمائة درهم.
وخرج أبوه مرة إلى مكة فقال له عند وداعه: بالله لا تُطِل غيبتك واجتهد أن تكون عندنا في العيد لأجل الأضحية.
وقال مزبد لرجل: أيَسُرُّك أن تُعطَى ألف درهم وتسقط من فوق البيت؟ قال: لا. قال مزبد: ودِدت أنها لي وأسقط من فوق الثريا. فقال له الرجل: ويلك! فإذا سقطت مت. قال: وما يدريك! لعلي سقطت في التبانين أو على فرش زبيدة.
وقيل له: أيَسُرك أن تكون هذه الجبة لك؟ قال: نعم وأضرب عشرين سوطًا. قالوا: ولِمَ تقول هذا؟ قال: لأنه لا يكون شيء إلا بشيء.
ومنهم «أزهر الحمار» كان جالسًا بين يدي الأمير عمرو بن الليث يومًا يأكل بطيخًا فقال له عمرو: كيف طعمه يا أزهر: أحلو هو؟ قال: ما أكلت الخرا قط؟
وقدم على الأمير عمرو رسول من عند السلطان فأحضر مائدته فقال لأزهر: جمِّلْنا بسكوتك اليوم. فسكت طويلًا، ثم لم يصبر فقال: بنيت في القرية برجًا ارتفاعه ألف خطوة. فأومأ إليه حاجبه أن اسكت. فقال له الرسول: في عرض كم؟ قال: في عرض خطوة، فقال له الرسول: ما كان ارتفاعه ألف خطوة لا يكفي عرضه خطوة. قال: أردت أن أزيد فيه فمنعني هذا الواقف.
وقدم رسول آخر فقيل لأزهر: لا تتكلم اليوم وتجمَّل لهذا الرسول. فسكت ساعة فعطس الرسول فأراد أزهر أن يشمته فيقول: يرحمك الله. فقال: صبحك الله. فقال الأمير: أليس قد قدمت إليك أن لا تتكلم؟! فقال: أردت أن لا يرجع الرسول إلى بغداد فيقول إن هؤلاء لا يعرفون العربية.
وقال له الطبيب: خذ رمانتين فاعصرهما بشحمهما واشرب ماءهما، فعمد إلى رمانتين وقطعة شحم ودقهما في موضع واحد وعصرهما وأخذ ماءهما فشربه.
ومنهم «أبو محمد جامع الصيدلاني» قال علي بن معاذ: كتبت إلى جامع الصيدلاني كتابًا فكتب جوابه وجعل عنوانه: «إلى الذي كتب إليَّ». وجاء إليه قوم في أمر حائط فقالوا: يا أبا محمد منذ كم تعرف هذا الحائط؟ فقال: أعرفه منذ كان وهو صغير لفلان.
وقيل له يومًا: كم سنة تعد؟ فقال: إحدى وسبعين سنة، قيل له: فمن تذكر من ولد العباس؟ قال: إيتاخ.
وركب زورقًا فأعطى الملاح قطعة فاستزاده فقال: مسخني الله ذا أربع قوائم مثلك إن زدتك شيئًا.
ومضى إلى السوق ليشتري لابنه نعلًا فقيل له كم سِنُّه؟ فقال: ما أدري ولكنه وُلِدَ أول ما جاء العنب الداراني. ومحمد ابني أستودعه الله أكبر منه بشهرين ونصف سنة.
وكانت له بنت فقيل له: كم سنها؟ فقال: ما أدري إلا أنها ولدت أيام البراغيث.
وانبثق كنيف لجامع الصيدلاني فقال لغلامه: بادر وأحضر من يصلحه حتى نتغذى به قبل أن يتعشى بنا.
وحج ابنه في بعض السنين فقال له: يا بني أنت تعلم أنني لا أصبر عنك فأجهد نفسك أن لا تضحي إلا عندنا؛ فإنك تعلم أن أمك لا تأكل شيئًا في العيد حتى تجيء من الصلاة.
ومنهم «أبو عبد الله بن الجصاص» حكي عنه أنه كان يومًا يأكل مع الوزير، فلما فرغ من الأكل قال: الحمد لله الذي لا يُحلف بأعظم منه. ونظر يومًا في المصحف وجعل يقول: رخيص واللهِ! وهذا من فضل ربي آكل وأتمتع بدرهم. وإذا في المصحف: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا فصحف ذرهم فظن أنه درهم.
ودخل ابن الجصاص يومًا على ابن الفرات الوزير الخاقاني وفي يده بطيخة كافور، فأراد أن يعطيها الوزير ويبصق في دجلة فبصق في وجه الوزير ورمى البطيخة في دجلة، فارتاع الوزير وانزعج ابن الجصاص وتحير وقال: واللهِ العظيم لقد أخطأت وغلطت أردت أن أبصق في وجهك وأرمي البطيخة في دجلة. فقال له الوزير: كذلك فعلت يا جاهل. فغلط في الفعل وأخطأ في الاعتذار.
ونظر يومًا في المرآة فقال: اللهم بيِّض وجوهنا يوم تبيض وجوه وسوِّدها يوم تسود وجوه.
وقال يومًا: أشتهي بغلة مثل بغلة النبي ﷺ حتى أسميها دلدل.
وقال يومًا: خريت على يدي فلو غسلتها ألف مرة لم تنظف حتى أغسلها مرتين.
ونظر يومًا في المرآة فقال لإنسان عنده: ترى لحيتي طالت؟ فقال له: المرآة في يدك. فقال: صدقت ولكن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.
وكسر يومًا لوزًا فطارت لوزة فقال: لا إله إلا الله، كل شيء يهرب من الموت حتى البهائم.
وكان ابن الجصاص يسبح كل يوم فيقول: نعوذ بالله من نعمه، ونتوب إليه من إحسانه، ونستقيله من عافيته، ونسأله عوائق الأمور، حسبي الله وأنبياؤه والملائكة الكرام. ومن دعائه اللهم أدخلنا في بركة القصور على قبورهم والبِيَع والثغور والكنائس، سبحان الله قبل الله سبحان الله بعد الله.
وأتاه غلامه يومًا بفرخ فقال: انظروا إلى هذا الفرخ ما أشبهه بأمه! ثم قال: أمه ذكر أم أنثى؟
واعتل مرة فقيل له: كيف تجدك؟ فقال: الدنيا كلها محمومة.
وذكر محمد بن أحمد الترمذي قال: كنت عند الزَّجَّاج أعزيه بأمه وعنده الخلق من الرؤساء والكُتَّاب، إذ أقبل ابن الجصاص فدخل ضاحكًا وهو يقول: الحمد لله قد سرني والله يا أبا إسحاق. فدهش الزَّجَّاج ومن حضر وقيل له: يا هذا كيف سرك ما غمه وغمنا؟ فقال: ويحك! بلغني أنه هو الذي مات، فلما صح عندي أنها هي التي ماتت سرني ذلك. فضحك الناس جميعًا.
وكتب ابن الجصاص إلى وكيل له يحمل إليه مائة مَنٍّ قطنًا فحملها، فلما حلجها خرج منها ربع الوزن فكتب إلى الوكيل: لم يحصل من هذا القطن إلا خمسة وعشرون مَنًّا فلا تزرع بعد هذا إلا قطنًا محلوجًا وشيئًا من الصوف أيضًا.
ودخل يومًا بستانًا فثار به المرار فطلب بصلًا بخَلٍّ ليطفئ المرار، ولم يكن عند البستاني فقال له: لِمَ لَمْ تزرع لنا بصلًا بخل.
وكان يومًا خلف الإمام فقال الإمام: وَلَا الضَّالِّينَ. فقال ابن الجصاص: أي لعمري.
وكان إذا سبح يقول: حسبي الله وحدي.
وقال يومًا: ينبغي للإنسان أن يصير إلى المقابر ليغتاظ. أراد يسير ليتعظ.
وقال يومًا: كان الفأر يؤذينا في سقوفنا فوصف لي إنسان دواء فما سمعت لهم حسوة، أراد حسًّا.
وذكر يومًا ثلاثة أصناف من الثياب، ثم قال: إذا لبست واحدًا من هؤلاء فما أبالي بغيرها.
وقال يومًا: كان الهواء البارحة باردًا إلا أني لم أجده.
وقُدِّمَتْ له هريسة من نعامة فاستطابها فقال: كيف لو أكلتها بقرية؟ أراد سكباجًا. ومرض فقيل له: لعلك تناولت شيئًا ضارًّا؟ فقال: لا والله ما أكلت إلا مزورة بفرخ فروج.
وذكر بين يديه رجل فقال: أخبرتني أمه أنه ولد أبوه وله ثمانون سنة.
وقدمت إليه اسفيداجة فقال لمن حوله: كلوا فهذه أم القرى.
وقال يومًا: قمت البارحة إلى المستراح وقد انطفأ القنديل فما زلت أتلمظ المقعدة حتى وجدتها.
ودخل يومًا على مريض فجلس عنده فشكا إليه الكتف فقال: والله ما أغفل من وجع كتفيَّ هذين. وضرب بيديه على ركبتيه.
وقد نقل عن ابن الجصاص ما يدل على أنه كان يقصد التطابع لا أنه كان بهذه المثابة. عن علي بن أبي علي التنوخي عن أبيه قال: اجتمعت ببغداد سنة ستٍّ وخمسين وثلاثمائة مع أبي علي بن أبي عبد الله بن الجصاص، فرأيته شيخًا حسنًا طيب المحاضرة فسألته عن الحكايات التي تُنسَب إلى أبيه مثل قوله خلف الإمام حين قرأنا وَلَا الضَّالِّينَ. فقال: أي لعمري. بدلًا عن آمين، ومثل قوله أراد أن يقبل رأس الوزير فقيل له: أفيه ذهب؟ فقال: لو كان في رأس الوزير خرَا لقبَّلته. ومثل قوله وقد وصف مصحفًا بالعتق فقال: كسروي!
فقال: أما أي لعمري ونحو هذا فكذب، وما كان فيه سلامة تخرجه إلى هذا وما كان إلا من أدهى الناس، ولكنه يطلق بحضرة الوزراء قريبًا مما يُحكَى عنه لسلامة طبع كان فيه، ولأنه كان يحب أن يصور نفسه عندهم بصورة الأبله ليأمنه الوزراء لكثرة خلواته بالخلفاء فيسلم عليهم. وأنا أحدِّثُك عنه حديثًا حدَّثَنا به تعلم معه أنه كان في غاية الحزم، فإنه حدثني فقال: إن أبا الحسن بن الفرات لما ولي الوزارة قصدني قصدًا قبيحًا، فأنفذ العمال إلى ضياعي وأمر بقبض معاملاتي، وبسط لسانه بثلبي وتنَقَّصَني في مجلسه، فدخلت يومًا داره فسمعت حاجبه يقول وقد وليت: أي بيت مال يمشي على وجه الأرض ليس له من يأخذه؟ فقلت: إن هذا من كلام صاحبه وإني مسلوب. وكان عندي في ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار عينًا وجواهر سوى ما يحتوي عليه ملكي. فسهرت ليلتي أفكر في أمري معه، فوقع لي الرأي في الثلث الأخير فركبت إلى داره في الحال، فوجدت الأبواب مغلقة فطرقتها فقال البوابون: من هذا؟ قلت: ابن الجصاص. فقالوا: ليس هذا وقت وصول والوزير نائم. فقلت: عرِّفوا الحجاب إني حضرت في مهم. فعرفوهم فخرج أحدهم فقال: إنه إلى ساعة ينتبه فيجلس. فقلت: الأمر أهم من ذلك فنبِّهه وعرِّفه عني.
فدخل وأبطأ ساعة، ثم خرج وأدخلني إلى دار حتى انتهيت إلى مرقده، وهو جالس على سرير له وحواليه نحو خمسين فراشًا وغلمان كأنهم حفَظة، وهو مرتاع قد ظن أنه حادثة حدثت وأني جئته برسالة الخليفة وهو متوقع لما أورده، فقام فرفعني وقال: ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟ حدثت حادثة أو معك من الخليفة رسالة؟ قلت: خير، ما حدثت حادثة ولا معي رسالة ولا جئت إلا في أمر يخصني ويخص الوزير ولم تصلح المفاوضة فيه إلا على خلوة. فسكن وقال لمن حوله: انصرفوا. فمضوا وقال: هاتِ. قلت: أيها الوزير إنك قد قصدتني أقبح قصد وشرعت في هلاكي وإزالة نعمتي، وفي إزالتها خروج نفسي وليس عن النفس عوض ولعمري إني أسأت في خدمتك، وقد كان في هذا التقويم بلاغ وجد عندي وقد اجتهدت في إصلاحك بكل ما قدرت عليه، وأبيتَ إلا الإقامة على إيذائي وليس شيء أضعف في الدنيا من السنور، وإذا عوينت في دكان البقال وظفر صاحبها بها ولزَّها إلى زاوية ليخنقها وثَبَت عليه فخدشت وجهه وبدنه ومزقت ثيابه وطلبت الحياة بكل ما يمكنها، وقد وجدت نفسي معك في هذه الصورة ولست أضعف من السنور بطشًا، وقد جعلت هذا الكلام عذرًا بيِّنًا، فإن نزلت تحت حكمي في الصلح وإلا فعليَّ وعليَّ وحلفت أيمانًا مغلظة لأقصدن الخليفة الساعة، ولأحولنَّ إليه من خزائني ألفي ألف دينار عينًا وورقًا ولا أصبح إلا وهي عنده وأنت تعلم قدرتي عليها، وأقول: خذ هذا المال وسلم ابن الفرات إلى فلان واستوزره. وأذكر له أقرب من يقع في نفسي أنه يجيب إلى تقليده ممن له وجه مقبول ولسان عذب وخط حسن، ولا أعتمد إلا على بعض كتابك فإنه لا يفرق بينك وبينهم إذا رأى المال حاضرًا، فيسلمك في الحال ويراني المتقلد بعين من أخذه وهو صغير فجعله وزيرًا وغرم عليه هذا المال الكثير، فيخدمني ويتدبر برأيي، وأسلمك إليه فيُفرغ عليك العذاب حتى يأخذ ألفي ألف الدينار منك بأسرها، وأنت تعلم أن حالك تفي بهذا ولكنك تفتقر بعدها ويرجع المال إليَّ ولا يذهب مني شيء، وأكون قد أهلكت عدوِّي وشفيت غيظي واسترجعت مالي وصفَت نعمتي وزاد محلي بصرفي وزيرًا وتقليدي وزيرًا.
فلما سمع هذا الكلام سقط في يده وقال: يا عدو الله أوَتستحل هذا؟ قلت: لست عدو الله بل عدو الله من استحل مني هذا الذي أخرجني إلى الفكر في مثل هذا، ولِمَ لا أستحل مكروه من أراد هلاكي وزوال نعمتي؟ فقال: أو إيش؟ فقلت: أو تحلف الساعة بما أستحلفك به من الأيمان المغلَّظة أنك تكون لي لا عليَّ في صغير أمري وكبيره، ولا تنقص لي رسمًا ولا تغير لي معاملة ولا تدسس عليَّ المكاره، ولا تشر لي في سوء أبدًا ظاهرًا ولا باطنًا. فقال: وتحلف أنت أيضًا لي بمثل هذا اليمين على جميل النية وحسن الطاعة والمؤازرة؟ فقلت: أفعل. فقال: لعنك الله فما أنت إلا إبليس، والله لقد سحرتني. واستدعى دواة وعملنا نسخة يمين فأحلفته أولًا بها، ثم حلفت له، فلما أردت القيام قال: يا أبا عبد الله لقد عظمتَ في نفسي وخففتَ ثقلًا عني، والله ما كان المقتدر يفرق بين كفاءتي وبين أخس كُتَّابي مع المال الحاضر فليكن ما جرى مطويًّا. فقلت: سبحان الله! فقال: إذا كان غدًا فصر إلى المجلس لتَرَ ما أعاملك به. فنهضت فقال: يا غلمان بأسركم بين يدي أبي عبد الله، فخرج بين يدي نحو مائتي غلام وعدت إلى داري، ولما طلع الفجر واسترحت جئته في المجلس فعرفني الذين كانوا بحضرته وعرفهم ما جرى من التفريط التام وعاملني بما شاهده الحاضرون، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي بإعزازي وإعزاز وكلائي وعمالي وصيانة أسبابي وضياعي، فشكرت الله وقمت فقال: يا غلمان بين يديه. فخرج الحجاب يجرِّدون سيوفهم بين يديَّ والناس يعجبون ولم يعلم أحد سبب ذلك. فما حدَّثت بذلك إلا بعد القبض عليه.
قال لي أبو علي: هل هذا فعل من يُحكى عنه تلك الحكايات؟ قلت: لا.
وقد حكى التنوخي أن ابن الجصاص صودر في أيام المقتدر، فارتفعت مصادرته سوى ما بقي له من الظاهر وكانت ستة آلاف ألف دينار.
فقالت لي: أنا فلانة جارية أبي الحسن فعرفتُها وبكيت لما شاهدتها عليه ودعوت غلماني ليحضروا لي شيئًا أغيِّر به حالها فقالت: لا تدعُ أحدًا فإني أظنك دعوتهم لتغير حالي وأنا في غنية وكفاية ولم أقصدك لذلك، ولكن لحاجة هي أهم من هذا. فقلت: ما هي؟ فقالت: تعلم أن أبا الحسن لم يكن يعتقد لنا إلا الجوهر فلما جرى علينا بعده من تطلب السلطان ما جرى وتشتتنا وزال عنَّا ما كنَّا فيه، كان عندي جوهر قد سلمه إليَّ ووهبه لي ولابنته مني فلانة وهي معي ها هنا فخشيت أن أظهره بمصر فيؤخَذ مني، فتجهزت للخروج وخرجت مستخفية وابنتي معي فسلم الله تعالى ووصلنا هذا البلد وجميع مالنا سالم، فأخرجت من الجواهر شيئًا قيمته خمسة آلاف دينار وسرت به إلى السوق فبلغ ألفي دينار، فقلت: هاتوا فلما أحضروا المال قالوا: أين صاحب المتاع؟ قلت: أنا هي. قالوا: ليس محلك أن يكون هذا لك وأنت لصة. فعلقوا بي ليحملوني إلى صاحب الشرطة، فخشيت أن أقع فأُعرَف فيؤخذ الجوهر وأطالب أنا بمال، فرشوت القوم دنانير كانت معي وتركت الجوهر عليهم وأقبلت، فما نمت ليلتي غمًّا مما جرى عليَّ من خشية الفقر؛ لأن مالي هذا سبيله فأنا غنية فقيرة فلم أدرِ ما أفعل، فذكرت ما بيننا وبينك فجئت، والذي أريد منك جاهك وبذله لي حتى تخلص لي حقي وما أُخِذَ مني وتبيع الباقي وتخلص لي ثمنه، وتشتري لي ولابنتي به عقارًا نقتات من غلته. قال: فقلت: من أخذ منك الجوهر؟ قالت: فلان. فأنفذت إليه فأحضرته فاستخليت به وقلت: هذه امرأة من داري وإنما أنفذت المتاع لأعرف قيمته ولئلَّا يراني الناس أبيع شيئًا بدون قيمته فلِمَ تعرضتم لها؟ فقالوا: ما علمنا ذلك ورسمنا كما تعلم لا نبيع شيئًا إلا بمعرفة، ولما طالبناها بذلك اضطربت فخشينا أن تكون لصة. فقلت له: أريد الجوهر الساعة فجاء به، فلما رأيته عرفته وكنت أنا اشتريته لأبي الحسن بخمسة آلاف دينار، فأخذته منه وصرفته وأقامت المرأة في داري وتلطفت لها في بيع الجوهر بأوفى ثمن، فخصها منه أكثر من خمسة آلاف دينار فابتعت لها بذلك ضياعًا ومسكنًا، فهي تعيش في ذلك وولدها إلى الآن.
فنظرت فإذا الجوهر لمَّا كان معها بلا صديق حجر، بل كان سببًا لمكروه، ولما وجدت صديقًا يعينها حصل لها منه هذا المال الحليل، فالصديق أفضل من العقد. فقال ابن الفرات: أجدت يا أبا عبد الله.
ينسبون هذا الرجل إلى التغفيل وقد سمعتم ما قال، فكيف يكون هذا مغفلًا؟!
ومنهن «دغة» بنت مغنج، ومغنج هو ربيعة بن عجل، واسم دغة ماوية ودغة لقب، وكانت قد تزوجت صغيرة في بني العنبر فحبلت، فلما جاءها المخاض ظنت أنها تريد الخلاء، فبرزت فولدت فاستهل الولد فانصرفت إلى الرحل تعد أنها أحدثت فقالت لضرتها: يا هنَّتاه! هل يفتح الجعر فاه؟ قالت: نعم ويدعو أباه. فمضت ضرتها فأخذت الولد فبنو العنبر تنسب إليها، فسموا بنو الجعر لذلك.
ورأت يافوخ ولدها يضطرب فشقته بسكين وأخرجت دماغه وقالت: أخرجت هذه المادة من دماغه ليسكن وجعه، وذكر عنها أنها كانت حسنة الثغر، فولدت غلامًا وكان أبوه يقبله ويقول وا بأبي دردرك! فظنت أن الدردر أعجب إليه فحطمت أسنانها، فلما قال: وا بأبي دردرك. قالت: يا شيخ كلنا ذو دردر. فقال: أعييتني بأشر فكيف بدردر؟ والأشر التحزيز في أطراف أسنان الأحداث، والدردو مغارز الأسنان. فضرب المثل بحمق دغة.
ومنهن ريطة بنت عامر بن نمير، كانت تعلِّم رأس أولادها بالقزع لتعرف أولادها من أولاد غيرها.
ومنهن حذنة وقد مضى الخلاف في هذا الاسم وذكرنا في أحد الأقوال أنه اسم امرأة كانت تمتخط بكوعها.