في ذكر أخبار جماعة من العقلاء صدرت عنهم أفعال الحمقى وأصروا عليها مستصوبين لها فصاروا بذلك الإصرار حمقى ومغفلين
فأول القوم «إبليس» فإنه كان متعبِّدًا مؤذنًا للملائكة، فظهر منه من الحمق والغفلة ما يزيد على كل فعل مغفَّل؛ فإنه لما رأى آدم مخلوقًا من طين أضمر في نفسه: لئن فضلت عليه لأهلكنه ولئن فضل عليَّ لأعصينه. ولو تدبر الأمر لعلم أنه إن كان الاختيار قد سبق لآدم لم يطق مغالبته بحيلة، ولكنه جهل القدر ونسي المقدار، ثم لو وقف على هذه الحالة لكان الأمر يحمل على الحسد، ولكنه خرج عن الاعتراض على المالك بالتخطِئة للحكمة فقال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ والمعنى: لِمَ كرمته؟ ثم زعم أنه أفضل من آدم بقوله خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ومجموع المندرج في كلامه: أني أحكم من الحكيم وأعلم من العليم، وأن الذي فعله من تقديم آدم ليس بصواب. هذا وهو يعلم أن علمه مستفاد من العالم الأكبر فكأنه يقول: يا من علمني أنا أعلم منك، ويا من قدَّر تفضيل هذا عليَّ ما فعلت صوابًا. فلما أعيته الحيل رضي بإهلاك نفسه فأوثق عقد إصراره، ثم أخذ يجتهد في إهلاك غيره ويقول: لَأُغْوِيَنَّهُمْ.
وجهله في قوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ من وجهين: أحدهما أنه أخرج ذلك مخرج القاصد لتأثر المعاقب له وجهل أن الحق سبحانه لا يتأثر ولا يؤذيه شيء ولا ينفعه لأنه الغني بنفسه. والثاني: نسي أنه من أريد حفظه لم يُقدر على إغوائه، ثم انتبه لذلك فقال: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ؛ فإذا كان فعله لا يؤثر وإضلاله لا يكون لمن قدرت له الهداية، فقد ذهب علمه باطلًا، ثم رضي لخساسة همته بمدة يسيرة يعلم سرعة انقضائها فقال: أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وصارت لذته في إيقاع العاصي بالذنب كأنه يغيظ بذلك، ولجهله بالحق أنه يتأثر، ثم نسي قرب عقابه الدائم فلا غفلة كغفلته ولا جهالة كجهالته، وما أعجب قول القائل في إبليس:
وما رأيت من غير إبليس وزاد عليه في الجنون والتغفيل مثل «أبي الحسين بن الراوندي»؛ فإن له كتبًا يزري فيها على الأنبياء عليهم السلام ويشتمهم، ثم عمل كتابًا يرد فيه على القرآن ويبين أن فيه لحنًا، وقد علم أن هذا الكتاب العزيز قد عاداه خلق كثير ما فيهم من تعرَّض لذلك منه ولا قدر، فاستدرك هو بزعمه على الفصحاء كلهم، ثم عمِل كتاب الدامغ، فأنا أستعظم أن أذكر بعض ما ذكر فيه من التعريض للرد على الخالق سبحانه وذكره إياه بأقبح ما يُذكَر به آدمي، مثل أن يقول: منه الظلم ومنه الشر في عبارات أقبح من هذه قد ذكرت بعضها في التاريخ، فالعجب ممن يعترض على الخالق بعد إثباته، فأما الجاحد فقد استراح أتراه خلق لهؤلاء عقولًا كاملة وفي صفاته هو نقص، تعالى الله عن تغفيل هؤلاء.
ومثل هذا التغفيل حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ومثله أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ، ومن جنسه أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.
ومثله أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي، فافتخر بساقية لا هو أجراها ولا يدري منتهاها ولا مبتداها ونسي أمثالها مما ليس تحت حكمه، وليس في الحمق أعظم من ادِّعاء فرعون أنه الإله، وقد ضرب الحكماء له مثلًا فقالوا: أُدخِل إبليس على فرعون فقال: من أنت؟ قال: إبليس. قال: ما جاء بك؟ قال: جئت أنظر إليك فأعجب من جنونك. قال: وكيف؟ قال: أنا عاديت مخلوقًا مثلي وامتنعت عن السجود له فطُرِدتُ ولُعِنْتُ وأنت تدعي أنك أنت الإله! هذا واللهِ الجنونُ البارد.
ومن أعجب التغفيل اتِّخاذ الأصنام آلهة، فالإله ينبغي أن يَفعل لا أن يُفعل.
ومن التغفيل بنيان نمرود الصرح، ثم رميه بنشابة ليقتل بزعمه إله السماء، أتراه لو كان خصمه في مكان فرأى قوسًا موتورة إلى جهته، أما كان يمكنه أن ينزوي عنها؟
ومن أعظم التغفيل ما جرى لإخوة يوسف في قولهم: أَكَلَهُ الذِّئْبُ ولم يشقوا قميصه، وقصتهم مع يوسف في قوله: إن الصاع يخبرني بكذا وكذا.
ومن التغفيل ادِّعاء هاروت وماروت الاستعصام عن الوقوع في الذنب ومقاومة الأقدار، فلما نزلا من السماء على تلك النية نزلا.
ومن عجيب التغفيل قول بني إسرائيل لموسى وقد جاوز بهم البحر: اجعل لنا إلهًا.
وقول النصارى: إن عيسى إله أو ابن إله، ثم يقرون أن اليهود صلبوه، فادِّعاؤهم الإلهية في بشر لم يكُن فكان ولا يبقى إلا بأكل الطعام! والإله من قامت به الأشياء لا من قام بها، فظنهم أنه ابن الإله، والبُنُوَّة تقتضي البعضية والمثلية وكلاهما مستحيل على الإله، وقولهم إنه قُتِلَ وصلب فيقرون عليه بالعجز عن الدفع عن نفسه، وكل هذه الأشياء تغفيل قبيح.
ومن أعجب التغفيل اعتقاد المشبِّهة الذين يزعمون أن المعبود ذو أبعاض وجوارح وأنه يشبه خلقه، مع علمهم أن المؤلَّف لا بد له من مؤلِّف.
ومن أعجب التغفيل أن الرافضة يعلمون إقرار علي بيعة أبي بكر وعمر واستيلاده الحنفية من سبي أبي بكر وتزويجه أم كلثوم ابنته من عمر، وكل ذلك دليل على رضاه ببيعتهما، ثم فيهم من يكفرهما وفيهم من يسبهما، يطلبون بذلك على زعمهم حب علي وموافقته، وقد تركوها وراء ظهورهم.
ومثل هذا الجنس كثير إذا تتبعته رأيته، وإنما أشرنا بهذه النبذة إليه ليفكر في جنسه ولم نَرَ بسط القصص فيه؛ لأن المقصود الأكبر في هذا الكتاب غير ذلك.
عن أحمد بن حنبل أنه قال: لو جاءني رجل فقال: إني قد حلفت بالطلاق أن لا أكلم يومي هذا أحمق، فكلَّم رافضيًّا أو نصرانيًّا لقلت: ما حنث. قال: فقال له الدينوري: أعزك الله تعالى لِمَ صارا أحمقين؟ قال: لأنهما خالفا الصادقين عندهما، أما الصادق الأول فإنه المسيح عليه السلام قال للنصارى: اعْبُدُوا اللهَ وقال: إِنِّي عَبْدُ اللهِ فقالوا: لا ليس هو بعبد بل هو إله. وأما علي رضي الله عنه، فقد روى عن النبي ﷺ أنه قال لأبي بكر وعمر: «هذان سيدا كهول أهل الجنة» ثم سبهما هذا وتبرأ منهما هذا.
هذا ومن أعجب تغفيل القدماء ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «تعبد رجل في صومعة فأمطرت السماء فأعشبت الأرض فرأى حمارًا يرعى فقال يا رب لو كان لك حمار رعيتُه مع حماري. فبلغ ذلك نبيًّا من أنبياء بني إسرائيل، فأراد أن يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه: إنما أجزي العباد على قدر عقولهم.
فقال لي: قبَّحك الله ما هذه المعاشرة؟ فاستيقظت وحلفت أني ما قصدته.
ومثل هذا ما جرى لعبد الله بن حسن، فإنه كان يساير السفاح وينظر إلى مدينته التي بناها ظاهر مدينة الأنبار فأنشده:
فغضب فاعتذر إليه.
وبينا عيسى بن موسى يساير أبا مسلم يوم إدخاله على المنصور تمثل عيسى فقال:
فقال أبو مسلم: هذا مع الأمان الذي أُعطِيتُ؟ فقال عيسى: أعتقتُ ما أملك إن كان هذا شيئًا أضمرتُه. ولما حوصر الأمين قال لجاريته: غنِّي فغنت:
فاشتد ذلك عليه، ثم قال: غني غير هذا. فغنت:
فقال: لعنك الله أما تعرفين غير هذا؟ فغنت:
فقال: قومي. فقامت فعثرت بقدح بلور فكسرته، فإذا قائل يقول: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ، ولما دخل المأمون على زبيدة ليعزيها في الأمين قالت: أرأيت أن تسليني في غدائك اليوم عندي؟ فتغدى وأخرجت إليه من جواري الأمين من تغنيه فغنت:
فوثب مغضبًا فقالت له: يا أمير المؤمنين حرمني الله أجره إن كنت علمت أو دسست إليها. فصدقها، ولما فرغ المعتصم من بناء قصره دخل الناس عليه فاستأذنه إسحاق بن إبراهيم أن ينشده فأنشده شعرًا في صفته وصفة المجلس أوله:
فتطير المعتصم وعجب الناس من إسحاق كيف فعل هذا مع فَهمه، فقاموا وخرب القصر وما اجتمع فيه بعد ذلك اثنان.
وأنشد الصاحب بن عباد عضد الدولة مديحًا له من قصيدة يقول فيها:
فتطير عضد الدولة من قوله تُغلب، وقال: نعوذ بالله. فتيقظ الصاحب لقوله وتغير لونه.
وقال إسحاق المهلبي: دخلت على الواثق فقال: غنني صوتًا عربيًّا، فقلت:
قال: فتبينت الكراهية في وجهه وندمت.
ودخل أبو النجم العجلي على هشام بن عبد الملك فأنشده أبياتًا حتى بلغ فيها ذكر الشمس فقال:
فأمر أن يوجأ في عنقه وأُخرِج.
ودخل أرطأة على عبد الملك بن مروان وكان شيخًا كبيرًا فاستنشده ما قاله في طول عمره فأنشده:
فارتاع عبد الملك وظن أنه عناه، وعلم أرطأة أنه زل فقال: يا أمير المؤمنين إني أكنَّى بأبي الوليد وصدقه الحاضرون.
ودخل ذو الرمة على عبد الملك فأنشده:
واتفق أن عيني عبد الملك كانتا تسيلان فظن أنه عرَّض به فغضب وقطع إنشاده وأخرجه.
ودخل شاعر على طاهر بن عبد الله فأنشده:
وكان اسم والدة طاهر عزيزة فتغامز الحاضرون وأعلموه بهفوته فأمسك.
ودخل رجل على عقبة بن مسلم الأزدي فأنشده:
فتغير وجه عقبة فنظر الشاعر فقطع.
ودخل الرئيس أبو علي العلوي يومًا على بعض الرؤساء، فتحادثا فجاء غلام لذلك الرجل فقال: يا سيدي أي الخيل نسرج اليوم؟ فقال: أسرجوا العلوي. فقال له أبو علي: أحسن اللفظ يا سيدي. فاستحيا وقال: هفوة.
واجتاز المرتضى أبو القاسم نقيب العلويين يوم جمعة على باب جامع المنصور عند المكان الذي يباع فيه الغنم، فسمع المنادي يقول: نبيع هذا التيس العلوي بدينار. فظن أنه قصده بذلك فعاد متألمًا من المنادي، فكشف عن الحال فوجد أن التيس إن كان في رقبته حلمتان سُمِّيَ علويًّا نسبة لشعرتي العلوي المسبلتين على رقبته.
ونحو هذا ما جرى لأبي الفرج العلوي، فإنه كان أعرج أحول فسمع مناديًا ينادي على تيس: كم عليكم في هذا التيس العلوي الأعرج الأحول؟ فلم يشك أنه عناه، فراغ عليه ضربًا إلى أن تبين أن التيس أحول أعرج فضحك الحاضرون مما اتفق.
وقال أبو الحسن الصابي: دخل بعض أصدقائنا إلى رجل قد ابتاع دارًا في جواره فسلم عليه وأظهر الأنس بقربه، وقال: هذه الدار كانت لصديقنا وأخينا، إلا أنك بحمد الله أوفى منة وكرمًا وأوسع نفسًا وصدرًا، والحمد لله الذي بدلنا به من هو خير منه وأنشده:
فضحك منه الرجل حتى استلقى وخجل وصارت نادرة يولع الرجل بها.