على بلد المحبوب ودِّيني …
١
كنتُ في الشرفة حين رأيته. الليل بهيم، والصمت مطبق، والساعة في حدود العاشرة. في مثل هذا الوقت، إما أشاهد برنامجًا تلفزيًّا منتقى سلفًا، أو أقرأ بتقطُّعٍ صفحات من كتاب. حين أضجر لا أجد أفضل من الخروج إلى شرفة الشقة، الحقيقة هي تيراس واسعة بها كراسٍ وطاولة، وحين تهجم الشمس تنسدل عليها واقية سميكة تصنع ظلًّا وافرًا. في الليل ألجأ إليها للاسترواح، لتدخين سيجارة، عمومًا في أوقات الصحو، أي عندما لا تهب الريح عاتية من علوٍّ، ولا المطر يصفع أفقيًّا، أحيانًا، لا أعبأ فأرتادها في هذه الأوقات أيضًا، أجد فيها دائمًا عديدَ مزايا.
٢
منها، مثلًا، أن التيراس مفتوحة مباشرة على السماء، وفيما تكون في الخارج ملتصقًا بالأرض، منحشرًا بين الأزقة وطوابير السيارات، وجدران العمارات العالية والواطئة معًا تخنق الهواء وتضيق النظر فتظهر لك السماء بعيدة وصغيرة ومقسَّمة إلى قطعٍ مربعة ومثلثة ومكعبة، وكثيرًا ما تراها محجوبة بالسحاب، أو مغطاة بغيومٍ في سباق مراتوني، من هنا يتغير كل شيء، ها هي مُعطاةٌ فوقك، سامقةٌ وقريبة كذلك، وتحتاج إلى أكثر من عينين ليمتد البصر في شساعتها، ويلاحق سباق الغيوم، وهي تتشكَّل في صورٍ وأوضاع غريبة، تختلف عن تلك الأشكال الهندسية المحدودة: المربع، المثلث، المستدير، فقط.
٣
منها أنك في التيراس تنفصل عن البيت الذي تقضي فيه نصف العمر تقريبًا، فتنفتح هنا على مساحة شبه فارغة، إذا استثنيت طاولة وكراسي من بلاستيك، وأُصصَ أزهار، وما تبقَّى من الجزء الأكبر فارغًا، لا حاجة لتأثيثه، تمرح العين فيه كما تشاء، والخطو يقطعه ذهابًا وجيئة بنشوة، وببعض الخيلاء كذلك؛ فأنت هنا تمرح وحدك، تملك هذه المساحة للترويح فقط، بينما آخرون مختنقون في غرفٍ معلَّبة، تراهم من علٍ، ولا تحتاج أن تتلصص عليهم كما يفعلون ببعضهم، بل أنت من مساحتك الفارهة تنطر إلى تحت، إليهم وهم يعبرون، صغارًا وقميئين، فتنفخ صدرك وأنت تستنشق هواءً نقيًّا لم تلوثه عوادم السيارات.
٤
ومنها، وهذه ميزة يغذيها الخيال دائمًا، وتنتعش مرة، مرة، وهي تلعب في مسرح أحلامك، أن هذه التيراس يمكن أن تتحوَّل إلى مطار، لا، لن تحطَّ فيه لا الطائرات ولا المروحيات، بل أنت طائرة تربض فيه بمجرد أن تترك الصالون خلف ظهرك، وتزيح الباب الزجاجي فتحط بقدميك فوق أرضيته، وتنظر إلى السماء حين تشعشع نجومها صيفًا، قد انتظم فيها شكلٌ مستطيل هو مدرجٌ مضاءٌ بمصابيح تلمع كعوينات القطط في الظلام، وحين تزفر فيك رغبات قوية تشتعل المحركات، وتصير تتهيأ وأنت تسمع دورانها يعلو، وتنتبه بإمكانك أن تستغني عنها لأن جناحين يتمددان منك للتوِّ، وزغَبًا يغمرك، وهما، رويدًا، رويدًا، يتحركان، وإلى أعلى بك يصعدان، نحو سماء أنت فيها، شيئًا فشيئًا، ستطير، ها إنك توشك ﺗ…ﻂ…ﻴ…ﺮ.
٥
٦
انتبهتُ، وقد وخزتني لسعة برد، أني لم أكن وحدي، أن هناك مَن دخل في خط وحدتي، وها أنا وإياه في وحدة الليل نصبح اثنين. البرد يهجم أحيانًا قارسًا في شهر أبريل، وفي الليل يمسي صقيعًا. سيجارة أخرى تتدلى من شفتي، ويدي اليسرى تقبض على حاجز السياج الحديدي للتيراس فيزيدني إحساسًا بالبرودة. أقبض على الحاجز بقوة، كمن يخاف من سقوطٍ محتملٍ، وربما هو يتهيأ للقفز من هذا العلو، ينظر إلى تحت متسائلًا ربما، هل تكفي الأمتار التي دون الأرض ليطلق جناحيه، وتصبح عندئذٍ الأرض والسماء سيَّين، ثم يعود البرد يلسعني فأقفز متراجعًا هذه المرة إلى الخلف، لكن دون أن أنسحب نهائيًّا من التيراس.
٧
كلا، سأبدأ، سأبدأ من حيث لم أقرر شيئًا جديدًا. لأني، لأني بالصدفة لمحته، مرَّ أمامي، على امتداد بصري السارح، والمتراجع، فدخل بلا استئذان في خط وحدتي، لنصبح، من غير أي تعارف مسبق، أو مقدمات، في وحدة الليل، اثنين. ظننتُ أنها خرقة تتقاذفها الريح، عندما مرَّ الشيء للمرة الأولى سريعًا. عدت، فحسبته منديلًا تطاير من نافذة، أو أي ورقة كلينكس رماها متهور، وخطر ببالي أخيرًا أن يكون هناك كاتب لم يعجبه ما سطر فرماه مستنكرًا، وكفى. لكن لم يخطر ببالي أن أرى في الامتداد الطويل فوق الزقاق، قد بهت ضوءُه، قطعة سوداء تشبه سكينًا، وهي تمرق كالسهم بين اتجاهين ذهابًا وإيابًا، ويُسمَع لها حزٌّ وحفيف.
٨
٩
نفذَت الأهزوجة إلى سمعي متقطعة، لكن واضحة ومغناة، سمعتها تتردد بصوت غناء شجي، فقلت هذا أخيرًا شخص حزين يعبِّر عن نفسه بالغناء، ويبوح لليل بأسراره. صوت عربي في ليلٍ فرنسي بهيم، ولم أكن أعرف في زقاقنا عربيًّا واحدًا، فلعلَّه عابر سبيل أو هو ضائع. أطللت فلم أرَ أحدًا يعبر، وليس إلا ما أحسبه منديلًا أو ورقة كلينكس يملأ فراغ الليل الصامت بين ذهابٍ وإيابٍ. أضحت الحركة متسارعة، بل هي كالسهم بين اتجاهين؛ إلى جهة اليمين تنطلق، لتعود بالسرعة ذاتها، لا منفذ لها من هناك حيث تصطدم، لا شك، ببناية السفارة الأيرلندية، وإلى جهة اليسار ترتدُّ من حيث أتت بسبب الجدار العالي لمتحف الرئيس شيراك؛ ها! هنا، كأني أفتح عيني للمرة الأولى لأرى ما يحدث في الليل البهيم، خارج التيراس.
١٠
ها هو عصفور أسود أو رمادي، سريع الطيران، مُتموجُه، كأنه يحاذر الاصطدام فيتجنبه. هل خرج من المتحف المليء بالأشجار والغضارة، وحين أُغلقتْ ممراته الزجاجية لم يعرف كيف يعود إلى أيكه؟ في عشيات الصحو يحدث أن أتسلى برؤية أسراب الطيور تتكاثف في حلقات دائرية، وهي تزعق بملء حواصلها، وتقوم بألعابٍ بهلوانية، حين تراها تتشكَّل أمامك تحسبها تخطيطَ كوريغرافيا مسبقًا، وهي ذي تؤديه بنظامها الطبيعي الخاص بها. في طُرفة عين يمرُّ العصفور فأكاد أراه وهو في حجم قبضة يدٍ؛ يدي. أقبض بها على السياج الحديدي لأحافظ على توازني وأنا أتابع تحليقه اللانهائي، مثل جماعاته، أتابعها إلى أن أصاب بالدوار، ثم وهي تقل وتتفرَّق، تباعًا، والليل يهبط تدريجيًّا، فتختفي تمامًا، فيما هو لا يكفُّ عن الطيران.
١١
الصوت منه، وهو المغني، وأنا لا أصدق، لا سمعي ولا بصري، وأنا أتعجب. أي عصفور هذا الذي يسرح وحده والساعة جاوزت العاشرة ليلًا. الصغار جميعًا ناموا الآن، وبعض الكبار، أيضًا. يفترض أن آوي بدوري إلى الفراش، فالليلة الليلُ بهيم، والبردُ يخز، والأفضل أن أنسحب من التيراس، والرؤيةُ تكاد تنعدم في الخارج، ولا نأمة، بلى، هناك حركة هذا المجنون، رفيفُ جناحيه وحده يقطع الصمت، وعيناي تعبتا من كثرة النظر إليه، والخوف عليه من أن يسقط متهاويًا بتعب تحليقِه الطويل، كما وقفت أنا طويلًا هنا وحدي، ليس في الشقة مَن سأكلمه لو دخلت، ولا خارجها، من سيرد تحية المساء لو حييت، إنما الليل يتقدم وهو بهيم، والبرد يخز، فلا مفرَّ من الدخول، لا مفرَّ.
١٢
«بسس! بسس!» وصلني النداء وأنا أرجع بخطوي إلى الصالون، ربما هو صفير في أذنَي.
«بسس! بسس!» هذا نداء حقيقي، لكن ممن؟ أنا أسكن في الطابق الأخير، ومن حسن الحظ لا من يواجهني، واللصوص لا يتطاولون علينا هنا. كل ما في الأمر أن رأسي يدور، وإلا ينبغي أن أصدق بوجود العفاريت، بكائناتٍ خفية تقيم معي في هذا البيت، وها هي الآن استيقظت، وتبدأ حياتها. الجن موجودون عند المسلمين، والأرواح عند الأفارقة، وهم يعيشون في الظلام؛ ولذا يستيقظون ليلًا، ويتنقلون في الغرف، وما أسمع هو غناؤهم، وحوارهم، مثلنا نحن البشر في ضوء النهار، لذلك سأنسحب وأترك لهم الليل، يبسبسون فيه ما يشاءون!
١٣
«هكذا تدخل إلى مضجعك وتتركني! أنت أيضًا تتخلى عني!» التفتُّ فلم أجد لا إنسًا ولا جنًّا، إلا هو. حدقت فيه، فحدق فيَّ كأننا نِدَّان. ارتبكت قبل أن أسحب رجلي من الداخل، وأعيدها إلى التيراس. متأكد من أنه هو، رغم كل الشكوك التي خامرتني، كان قد أنهى أخيرًا تحليقه ذاك، ووضع قائمتيه على السياج، وهو يكلمني معاتبًا. لكني أعرف أن الطيور حذِرة ولا تقترب هكذا من الآدميين ببساطة، فقد خبرت هذا هنا في هذه التيراس عن كثبٍ. كان يحلو لي أن أجلب الكرواسان مع الشاي وأتناول فطوري، ثم أبعثر لها الفتات، وأتظاهر بالتجاهل. ولم يكن الطائر الأول يحفل بي، اللعين يحوم حول النعمة، ثم يطير تظنُّه عافها، وها هو بعد هنيهة عاد برفقة اثنين، يستدعيان آخرين، وتتسع الحلقة إلى كثرة تزحف على الفُتات حين تطمئن أني ابتعدت، فلا أراقبها إلا من بعيدٍ، مكبرًا فيها تضامنها العظيم.
١٤
«ألا تطعمني؟ ألا تسقيني ماءً، فأنا ظمآن؟ أوَلم ترَ كيف كنت أحلق منذ ساعة، وأنت لا تبالي. الناس نيام، وأنت يقظان، منشغل بنفسك، كعادتك، لا تتخلى عنها ليلًا ونهارًا. أنا أعرفك، أرقبك من علٍ، رغم أن الشتاء الطويل باعد بيننا. لا تنكر أو تحتج بالسهو والنسيان، لعبة قديمة، هه، نحن معشر الطير لا ننسى، والدليل أني عدت إلى حيي، رغم أنهم قصُّوا الفروع المتشابكة للشجرة العملاقة التي تتوسط عمارتنا، احتجَّ السكان أننا نوقظهم باكرًا بتغريدنا، بينما نصبر على ضجيج موسيقاهم وأدخنتهم الخانقة، وروائح البشر، هل تشم هذه الروائح، فيها كثير من العطن، ألا ترى كيف ينحنون لجمع بعر كلابهم ويأنفون من ودقنا؛ تبًّا لهم، أوه، معذرة، فأنت منهم، لكنك مع ذلك مختلف عنهم، أنت وحيد، وحيد مثلي، ولذا قصدتك، ويقيني أنك لن تتخلى عني، ستطعمني، سترويني، وهناك الأهم سنفعله سويًّا.»
١٥
ألم أقل لكم إن الجن تستيقظ في الليل، وتأخذ أشكالًا وألوانًا، ولها كل الألسنة، هه!
– كلا، لستُ جنيًّا، أنا رفيقُ ليلك، نديمُك، مؤنسُ وحدتك. أشكرك على الضيافة، ولطفٌ منك أنك تريد أن تأويني. عندي طلب أهم، سأدين لك مدى حياتي إن لبَّيته لي. اقترب، أريد أن أهمس به، أن أبثَّه في قلبك، أعرف أنك مدمن حب، أنا أيضًا، ولذلك قصدتك، ولن تخيِّب أملي فيك، أليس كذلك يا صديقي؟!
– هذا هو الخبل بعينه!
– أي خبل؟ ألم تضجر من مقامك في هذه الأرض، انظر، ها أنت تأرق كل ليلة والقوم نيام. هل لك أحلام تشبه أحلامهم؟! ثم أخاف عليك إن بقيت هنا أن تفعلها، وإلا لِمَ تطيل النظر من هذا العلو إلى أسفل، وأراك تتحفز، ثم إن الأمر سهل، المَسْني بحنوٍّ، وسترى كيف سينبت لك زغبٌ، وجناحان، وفي دقائق نطير ونلتحق بهم، صدقني!
١٦
لا شك أنه سحرني، فقد شرعت فورًا في تنفيذ طلبه، أمرِه. أخذته إليَّ، ورحت أمرِّر أصابعي على جسيمه الهش، لم تكن إلا عظيمات مخفية تحت الريش، وهو يرتعش في يدي، وجسدي يرتعش فوق التيراس، وفي الزجاج المرآوي تبينتُني أتغيَّر؛ لحمي يكسوه الريش، وذراعاي يتجنَّحان، رأيتنا بعد قليلٍ ننشر أجنحتنا ونطير. ارتفعنا فوق الزقاق، واخترقنا الليل البهيم صاعدَين، محلقَين، بين نجيمات خلابة كانت تنير لنا الطريق، والمدينة هاجعة تحتنا، الأرض كلها ملكنا، وأنا أحس أنها لا تكفيني، أتبع طائري الذي صار يتقدَّمني، وهو التحق بسربه، وهم عادوا فضمُّوه إليهم، وقد أطلقوا زغاريد فرحين بلقائنا، وهو أطلق حنجرته بصوتٍ شجي، فسمعته يغني: «على بلد المحبوب ودِّيني، زاد صبري، والبعد كاويني، على بلد …» آه!