أحدب الرباط
رأيت الرجل يصل.
رأيت الرجل يصل، من حيث لا يراني.
كنت واقفًا هذا الصباح حين رأيت الرجل وهو يصل، من حيث لم يكن يراني.
كنت واقفًا هذا الصباح الباكر، كما اعتدت الوقوف في صباحاتٍ سابقة، في شرفة الشقة.
رأيته من الشرفة يصل، وهو يدفع أمامه خطوات ثابتة.
كنت واقفًا في الشرفة التي تطل على الحديقة، حديقتنا الصغيرة التي غرسناها، نحن سكان العمارة، لننعم ببعض العشب في وجه البنايات المتكاثرة، بنَتْها الدولة، فحاصرتنا من كل النواحي. وزادت المقاهي، ومحلات البقالة، والمسجد الذي يؤمُّه مصلُّون حقيقيون، ويتحجج به موظفون غشاشون، وبسببه يتربَّص بنا الشحاذون والمعوقون، معهم والمخبرون، أيضًا.
كنت.
كنت واقفًا أطلُّ من الشرفة، كعادتي، في الثامنة من صباح كل يوم.
كنت قد أطللت في الثامنة، وعدت لأطل للمرة الأخيرة في التاسعة صباحًا هذا اليوم.
ولما أطللت رأيت الرجل.
رأيت الرجل الذي حسبت — للوهلة الأولى — أني لم أره من قبل.
رأيته، بالأحرى، كمن يرى شخصًا للمرة الأولى.
أكون في الشرفة المطلة على الحديقة الملحَقة بعمارتنا، سيَّجناها بأسلاكٍ لمنع الشحاذين والنبَّاشين من احتلالها. قبالتي وزارتا الخزينة والتنمية، باتجاه موقعهما أراه يدفع خُطاه، لاهثًا ولا شك من أثر إجهاد.
لم أكن قد أعرت له انتباهًا قبل هذه المرة التي أنظر فيها الآن من الشرفة، وهو يتجه إلى الساحة التي تفصل بين وزارة الخزينة ووزارة التنمية. لم أتساءل من أي قنت من الأرض وفدَ هذا المخلوق ليصل إلى حيِّنا هذا، وأنا موقن أنه ليس من ساكنته. أغلب سكان حيِّنا لا يمشون على الأرض، يخرجون كالفئران من مرائب العمارات إلى الطريق العام، ومنها يعودون وهم لا ينظرون إلى أحد، أما النساء بينهم فأنت تقبض على السماء ولا تنال نظرة منهن، ويليييي!
كنت موقنًا أنه ليس من سكان حيِّنا. فهم كثر يتقاطرون على هذا الحي صباحًا؛ خادمات في البيوت، كنَّاسات في الإدارات، حراس سيارات، ورهط من شحاذين ومن أفارقة هائمين على وجوههم، ينتشرون حول المسجد، حتى تظن أن المساجد إنما تتناسل ليجد الأفارقة ما ينفقون.
هو لم يكن شحاذًا. الكسوة الزرقاء الباهتة التي يرتدي تفيد الناظر بمهنته، زرقاء، هي على الأغلب هندام حراس السيارات. هؤلاء في المغرب تجدهم في كل المدن، اكتسحوها، يتقاسمون الشوارع والأزقة والساحات، لا متر يكاد يفلت من سيطرتهم، يحلبون الدرهم قسرًا أو استعطافًا من كل عابر، يصلحون لكل خدمة، أنت وما تطلب، والسلطة تحتاج إليهم كمخبرين.
وكما أراه هنا، من شرفة شقتي المطلة على الحديقة تحتها، والوزارتين قبالتها، وساحة المسجد على اليسار، هو رجل باين عليه درويش، كما نقول المغاربة، عن كل مَن تعييهم الحيلة، أو أي مغفل، ساذج. هؤلاء صاروا عندنا كثرة لا يضاهيها إلا أخرى كاثرة من النصابين والمحتالين، ونحن سكان هذا الحي بِتنا في كماشة هؤلاء وأولئك، وأنا بالذات، لأني أقف كل صباح، أطل من شرفة شقتي على الخارج، أرى ما يعجب، وما لا يعجب، وأنا أتميز من الغيظ والقرف.
الرجل الذي يمرُّ في الثامنة صباحًا، يتميز عن غيره، زيادة عن لباسه الأزرق، بقصر قامته، وبنحُوله، وإن دققت لفت نظرك فيه ما يشبه انضغاط رأسه في قفصه الصدري، حتى لتحسبه بلا عنقٍ. قضيت أيامًا وأنا أحصي أوصافه، لا أعرف عن فضولٍ أم لشفقة؛ ولكن، لماذا أشفق عليه وأنا لا أحب هذا الرهط من البشر، على الأقل لأنهم يهجمون على حيِّنا، آتين من كل فجٍّ عميق؟ حاولت في البداية أن أتعاطف معه، أحس بلهاثه ينقدف أمامه عندما يمرُّ قرب الحديقة، فأقدِّر أنه قادم من إقامة بعيدة، في حي صفيحي، لا شك، بين البحر وما لم يُحطب بعد من الغابة. أقول في نفسي: المسكين، قطع مسافة أقدِّرها بسبعة كلمترات، كل هذه المسافة قطعها على قدمَين، وجسده القصير، النحيل، وساقاه الدقيقتان، كيف أسعفتاه، فأراه يمرُّ الآن تحت الشرفة.
ثم أزيد، إنما هنا يكسب، هنا عيْشه، ووحدي أتوهَّم أنه شقيٌّ، والدليل ها هو يقترب من ساحته بمرحٍ وانشراحٍ، لا أميز ملامحه، إنما حماسه للوصول بادٍ من خطوته الواثبة قدَّامه، ويده تحيي شخصًا قريبًا أو بعيدًا لا أراه، ولا شك أنه يبتسم، لا شك أنه فرح، وسيخوض نهاره الجديد.
هذا الصباح رأيت الرجل يصل.
من حيث لا يراني رأيته يصل، لأني أكون واقفًا أطل من شرفة شقتي المشرفة على مساحة واسعة من البناء الإداري، والموظفين المتسارعين إلى المقاهي المجاورة لالتهام فطور إضافي، والخدم والحراس الراكضين لتجديد السيطرة على مواقعهم، وهو القادم من بعيدٍ لاستلام نوبته في الساحة بين الوزارتين. القادم مثقلًا بأعباء الزمن، هذا ما كنت أقدر في البداية، لكني هذا الصباح بالذات رأيت شيئًا آخر، حقيقيًّا يثقل على كاهله، أعني ظهره. وما كان يبدو عليه أنه يحمل كيسًا ولا حقيبة، بينا ظهره منتفخ إلى الوراء، ثمة كتلة ناتئة فيه، من شرفتي بالطابق الخامس أميزها جيدًا مثل هرمٍ صغير، ولو كان امرأة لقلت إنها تردف ابنها خلفها، لكنه يقينًا رجل يضع طاقية ويرتدي بنطالًا ولباس الحراس الأزرق، وأظنني سمعت صوته الأحرش.
هذا الصباح، الذي كان ممطرًا بعد جفافٍ طالَ، وباردًا بعد حرٍّ طويل، رأيت الرجل القصير، قليل الجسد، نحيل الساقين، ضامر الوجه، أيضًا، يمرُّ وهو يضم ذراعيه حول صدره، يتقي البرد وهبَّة ريح قوية آتية من جهة البحر الغربية، طوَّحت بطاقيته فانحنى، ومعه انحنى جسده الذي ظهر يضغط عليه، وهو في التقاطه كأنه يحاول التقاط جسده كله من ضغط ثقلٍ ما. شغلتني لحظة الريح تضرب أعالي شجيرات نخيل غرسناها في الحديقة فخِفتُ عليها من الكسر، ولما أعدت بصري نحو الشخص كان قد استقام واقفًا، وتقدم أمامًا، وحدبتُه خلف ظهره.
هذا الصباح، من على شرفة شقتي، زدت من وقت فضولي وإطلالي على الواصلين والهاجمين على حيِّنا من أصقاع بعيدة، فأمكنني أن أتتبَّع مشاهد وحركات كثيرة، وأن أرقب خاصة الشخص وهو ينتهي من عبور الطريق المؤدية إلى إقطاعه، وفي تلك اللحظة بالذات رأيته يقفز نشوانَ فرحًا، يدور حول جسمه كخذروفٍ، وقد ألقى بطاقيته إلى علٍ، واتجه رأسًا إلى زاوية جلب منها سطلًا، ومنشفة، وعصا أيضًا، وانغرس في وسط الساحة كنصبٍ تذكاري.
ولأني نسيت منشفة أتركها للشمس قليلًا، عدت على غير العادة إلى الشرفة فلفتَ نظري أن النصب ما زال قائمًا حيث تركته، مع فارق أنه يختلف عما أعرف عنه. ما زال قصير القامة، نحيل الأطراف، لكن قامته مستقيمة، ورأسه مرفوع. فركت عيني لأتأكد مما أرى، فلم يك إلا الشخص عينه. كان الحيز الأكبر من مساحة حراسته قد امتلأ بسيارات موظفي الوزارتين، وبعصاه يشير إلى الداخل والخارج، وربما يتوعد أي لص أو منافس محتمل على موقع الحراسة، ثم بين هذه الحركات ألمحه يقفز ناحية صندوقٍ موضوع يمين الساحة، مغطَّى بثوبٍ أخضر. يقترب من الصندوق في قفزة واحدة، وبحركة بهلوانية ينقز فوقه، وقد تدلَّى رأسُه ليرى عبورًا ما يحتويه، وليعود إلى وقفة النصب التذكاري. وقفة يميل فيها جسمه ناحية الصندوق، كمَن يريد الاطمئنان على شيء فيه، بقيت دقائق أواجه المكان متحيرًا وأنا لا أفهم.
هذا الصباح وقفت أطل من شرفة شقتي، كما أفعل كل صباح. هذا الصباح رأيت الشخص يمرُّ كعادته قرب حديقة عمارتنا، وسيقطع الطريق متجهًا نحو ساحة حراسته. قررت هذا الصباح ألَّا أكتفي بإطلالتي العابرة، بأن أتتبَّع حركاته وسكناته لعلَّني أفهم ما يبدِّد حيرتي. جلب سطله، ومنشفته، وعصاه، ثم، طفق يتلفَّت بحذرٍ — تراه، ممن يخاف؟ — و… بخفة بهلوانية لا أعرف من أين جلب الصندوق، ولفَّه بمنديلٍ أخضر، قبل … قبل أن ينحني تقوسه، فيمد كلتا يديه إلى الخلف ويفكك، يفكك الحدبة التي تعلو ظهره، ويضعها في اﻟﺻ … الصندوق، وفي ثوانٍ يرجع مستقيمًا، مستأنِفًا وقوفه في نصبه التذكاري، فبقيت أواجه المشهد متحيرًا لا أفهم.
هذا الصباح، استيقظت متأخرًا إثر سهرة فاتكة، ففاتني — بالطبع — أن أرى ما اعتدت على مراقبته من الشرفة. لم يفتني إلا المعتاد؛ إذ انتزعني من سريري صراخٌ صادرٌ من خارج عمارتنا، تأكدت وأنا أطل، هذه المرة، من النافذة، فأرى بين عينَي نصف المغمضتين، جماعة متشابكة قرب الحديقة، صراخها يفوق عددها، والمارة من بعيدٍ وقريبٍ، يتوقفون مستفسرين، والجيران، أيضًا، أخرجوا رءوسهم بدورهم يستطلعون. ارتديت ملابسي على عجلٍ، ورماني فضولي على عجلٍ إلى المصعد ليرميني إلى الخارج، أنحشر سريعًا مع الراغبين، كما يحدث في كل معركة بالشارع، في معرفة ما يحدث، والانحشار ربما فيما يحدث. رأيت بطل المعركة هو الشخص النحيل، مقوس الظهر، ذو وقفة النصب التذكاري. رأيته يمسك بتلابيب شخص آخر يشبهه كأنهما توءمان، وبينهما، وحولهما اثنان، وأربعة، وستة، وثمانية، وسمعت صراخه الغاضب، المحتج: ألشفَّار، ألقمَّار، ألبَّاندي، رجِّع ليَّا ديالي، أعطني حِدبتي! رجع ليَّا حِدبتي! ويداه تتعثران ضربًا وجذبًا في ظهر خصمه، أسمعه يحتجُّ بدوره: ألا أسيدي، هذي حِدبتي أنا، من عند مولانا! والآخرون الوسطاء المتشابهون يحاولون الدخول بخيطٍ أبيض، وهم يهدِّئون الحارس الأزرق: يمكن طاح لك في الطريق، يمكن نسيتها في الدار، العن الشيطان!
هذا الصباح، لم أطل من الشرفة في وقتي المعتاد، ولا همَّني أمر الحارس في شيء. خرجت لأجلب الخبز والجرائد. صادفت في الطريق عيسى، رب مطعم بالحي، وصاحبٌ لي يهتم بتغذيتي خارج وقت هجوم الموظفين، الذي تعارفنا عليه باسم تسونامي. نظر إليَّ، بالأحرى إلى قامتي كلها، وكأنني مخلوق نادر يفحصه، فتجاوزته بعد السلام. دخلت إلى متجر مليكة فنظرت إليَّ مثله. ولما اقتنيت جرائدي من عمر الريفي اكتفى بالقول: وأخيرًا … لم أسأله أخيرًا ولا أولًا على ماذا؟ أحنيت رأسي، أحسُّ بوجعٍ في دماغي، وضغط في جسمي وبثقل على ظهري خاصة، وأنا لا أفهم.
أعود إلى شقتي من اتجاه المسجد، فلا أقابل شحاذين لأن أدان الظهر ما زال بعيدًا. أُقبلُ على العمارة من شمال الحديقة، أي بالضبط من الجهة التي اعتاد الشخص الذي سرقوا حدْبته يمرُّ منها، ومن موقع المعركة التي نشبت صباح أمس ألاحظ شخصًا، لعلَّه من سكان العمارة، يقف في شرفة شقتي، أو الشقة الرابعة تحتها، وهو ينظر ناحيتي، يتفحَّصني كما فعل عيسى قبله، ومليكة، وحارس بنايتنا الذي لا يتوقف عن التدخين، ومراقبة الداخل والخارج والعابر. يغيظني من يذهب ويجيء في الشرفة وعيناه تأكلانني، كما كنت أحيانًا آكل الحارس الأزرق.
أدير له ظهري لتصلني للتوِّ قهقهاته قبل أن أصل إلى العمارة، فإلى شقتي، ومنها إلى الشرفة حيث لا أجد أحدًا، ومنها إلى الساحة بين الوزارتين أراها خلوًّا من النصب التذكاري، فأذهب إلى الحمام لأغسل وجهي كي أتأكد من صحوي، وهنا أتكشَّف لنفسي، كما لو أني أراني للمرة الأولى؛ أراني أتفحصني في المرآة الطويلة، وجهي هو وجهي، وأعضائي هي أعضائي، وطولي وعرضي، فأحمد الله لا شيء تغير مني، بلى، ربما، لا، بلى، قفصي الصدري، عنقي.
ثقل ما يضغط على ظهري فيجذبه إلى الوراء، ويضيق كتفي بين عنقي، شيءٌ لم يسبق أن رأيته، ولكنه الآن هنا، لا بد أنه كان هنا قديمًا، دائمًا، إنما كيف لم أره، لم أحس به من قبل؟! كيف؟ لا أفهم.
هذا الصباح دائمًا، وهو الثلاثاء ٢٣ نونبر ٢٠١٠م، الموافق ﻟ ١٧ ذي الحجة ١٤٣١ﻫ، عدت إلى الشرفة، أريد أن أنظر إلى الخارج عساني أفهم، وقد ضاق بي الداخل، فاستقبلتني عاصفة تصفيق صاعدة من الحديقة، حيث احتشد نفر من أناس أعرفهم، بينهم جيران، ومليكة، وعيسى، وعمر الريفي، والحارس الأزرق، وحارسنا البرقاق، وأنا أيضًا كنت معهم، وكانت ظهورنا جميعًا مقوسة، وأقفاصنا الصدرية ضيقة، وأنا بعد أن رددت لهم التحية، أحسُّ بالاختناق، فأسرع إلى مكتبي، وأفتح حاسوبي، وأجلس لأكتب هذه القصة، لعلَّ وعسى أن أفهم.