شوكة في الحلق
١
من عادتي كلما ولجت النادي الرياضي أن أتلفَّت حولي متفقدًا المكان بنظرة شاملة، وأنا أقصد غرفة إيداع الملابس، بمجرد ما أخرج منها أجيل البصر حولي مدققًا ومميزًا كمن يبحث عن شخصٍ بعينه أو شيء محدد. وهذا صحيح تمامًا، فرغم أني أكون حريصًا بالدرجة الأولى على أداء حصتي من التدريب الجسدي في أسرع وقتٍ، وأنجع ما يكون، إلا أن انتباهي لمن حولي لا يفتر، ورواد النادي عمومًا، ورغم عياء آخر النهار، يحرصون على تبادل التحية، منهم مَن يغرق في حديثٍ طويلٍ، والثرثارون هم رياضيو الكمال الجسماني، عدا الإناث لا يبالين بأي جارٍ، تراهن، هن الممصوصات، عاكفات على التنحيف عكوف العباد والمتصوفة.
٢
لم أكن لا من هؤلاء ولا من أولئك، وإنما أحرص فقط على التحية وردِّها في حدود المجاملة، فأنا آتي إلى النادي للعناية بجسدي، وعندي من المشاغل ما يغنيني عن القيل والقال. إنما أحيانًا هي العادة، أو ما لا نفكر فيه يجعلك تخرق نظامك، ثم إن الإنسان هو من يأنس، وهو ممن يألف ويوَلِّف، وهكذا، ودون انتباه، وجدتني أقترب من جماعة الكُلَماء، وألفيتني، أيضًا، أكاد أتواد مع بعضهم وإن بقيت أتحاشى ذوي العضلات المفتولة، أنفر من بنياتهم، وأستخف بعقولهم، وهذا الذي تواددت معه بالذات لم يكن منهم، ولعلَّي اقتربت منه أكثر لأني أحسست لديه النفور نفسه، فقدَّرت أنه عاقل، لا خفيف المخ مثلهم؛ وهو رأيي على كل حال.
٣
من بعيدٍ قليلًا انتبهت إلى جسمه الضئيل، وإلى ساقيه الضامرتين، بينما رأسه أكبر ما فيه، تحيط بوجهه نظارتان بإطارين أسودين كبيرين. لم تكن ملامحه لا صامتة ولا معبِّرة، وإن أوْحت لمن يتطلَّع إليه للمرة الأولى بالثقة، مع تحفظ غامض يجلل عينيه وهما تجولان حولهما. وهكذا لاحظت أنه لم يكن يلفت النظر إليه، ولا جسمه يسمح له بأن يتضخم، أراه ينتقل من آلة إلى آلة بهدوء، وبعد تسخين أوَّلي يصعد إلى قاعة الطابق الأول حيث يشارك في حصة الفتنس الجماعية ثم ينصرف إثرها مباشرة بعد أن يمر لتغيير ملابسه. لا أخفيكم أني سجلت عدم استحمامه في الدش مثلنا جميعًا فاستهجنت ذلك منه، وإن قدَّرت له سببًا.
٤
جاء تعارفنا الأول صدفة، أو بحكم الجوار، جوار آلة البساط للمشي والركض. كنت، وما أزال، أمارس الركض بافتتان. أصعد فوق البساط، وأطلق ساقَي كأنما للريح، ولا أنزل إلا وأنا كلي ماء. لاحظت أنه يختلس النظر إلى عدَّاد آلتي فبادرت أشجعه أن يزيد من سرعته ففعل، وطفقنا نزيد درجة درجة، ونحن نتبادل كلمات متداولة في هذا الوضع، وأنهينا ركضنا أخيرًا في وقتٍ واحدٍ، ومعًا صعدنا إلى قاعة درس الفتنس كأننا على اتفاقٍ مسبقٍ، وحين انتهى الدرس نزلنا نحو مخدع الملابس، خرج بسرعة أمامي بعد أن وضع جاكيتته على كتفيه وهو يرسل إليَّ التحية مودعًا، وقصدت من جهتي الدش وأنا أستغرب كيف يحرم نفسه مما أعتبره أحلى متعة في اليوم بعد ممارسة الرياضة، إن لم تكن من بين أحلى متع الدنيا طرًّا.
٥
في اليوم التالي، وأنا ألهث فوق البساط، مرَّ بقربي، وبادر يحييني بحفاوة، وبمثلها أجبت، وانصرف كلٌّ منا خلال ساعة إلى نشاطه الرياضي، كما ينصرف الجميع في النادي، لا يكاد يأبه أحد بالثاني إلا لمامًا، أو حسب من يألفه ويستجيب. وقد لاحظت أننا معشر الأجانب هنا في الوسط الفرنسي نستجيب بسرعة لأقل بادرة تحية أو استلطاف، مرادنا أن نُفهم مضيفينا الفرنسيين بأننا نحن العرب لسنا متوحشين ولا إرهابيين، كما يشيعون إما علنًا أو يضمرون على الأغلب، وتساءلت هل صاحبي الجديد، الذي لم أعرف اسمه بعد، من جبلتنا، وزاد شكي أنه لم يقدم نفسه ولا أنا، كما نفعل نحن كل العرب، حتى وبشرته بيضاء لا سمراء مثلي.
٦
٧
في اليوم التالي، وأسابيع توالت، صار عندي لقاء ألبير في النادي عادة لا غِنى عنها، يكون أول من أتفقَّده، بقدر ما بتُّ أعرف مواعيد قدومه، وهو كذلك، وأنواع الرياضات التي يمارس، والدروس التي يحضر. إن وصلت ووجدته يمارس أحرص على تحيَّته بإشارة من بعيدٍ، وهو يفعل كذلك، وإن اتفق أن التقينا مباشرة لا بد نتبادل بعض الحديث، لنصبح لوقتٍ وجيزٍ من معشر الكلماء، رغم أن ليس عندنا كثير نقوله خلا المعتاد من حديث عن الصحة، والطقس، هذه الآفة الفرنسية، و… و، طبعًا، كيف قضيت الويكند، هذا الهوس الفرنسي، لكنه أمس لم يكن هوس ألبير، قال إن عيدنا نحن غدًا «البيساح» (عيد الفصح لدى اليهود) لذا سأعود مبكرًا.
٨
٩
قبل ذلك عادت بي الذاكرة إلى طفولة بعيدة جدًّا في مسقط رأسي، هناك في برشيد، حيث اليهود إسكافيون وصاغة، وحيث لعبتُ واختليتُ بأول صبية في سطيحة بيتنا، كانت أمها اليهودية تحضِّر لنا أكلة السخينة كل يوم سبت، وتعود بطعامٍ من عندنا وثياب للخياطة تمهرها، ولم أعرف إن أحببت الصبية، لكنني أذكر أن أمي حرمتني من يهوديتي، التي كانت بيضاء وبضة وأنا وإياها نمرح سويًّا. أذكر أني بكيت طويلًا حين لم تحضر مَن ربما اسمها جوهرة، ولا أمها أشميحة، قالت أمي بعد زمن إن أبي شم فيها رائحة، ولم أفهم شيئًا، أو قليلًا بعد ذلك.
١٠
١١
اضطرتني ظروف عملي، كوسيطٍ تجاري متنقِّل، أن أغيب عن النادي، ولما عدت وجدت ألبير متلهفًا للقائي، متطلعًا لمعرفة سبب الغياب، واستبشر لما علم، واستأنفنا كلامنا القديم وفيه جديد. ولما غاب مدة أسبوع على النادي — أو يزيد — استوحشته، ووجدتني أسأل مَن حولي، وصولًا إلى المضيفات هل رأينه، فأُصدَم كلما جاءني الجواب سلبًا، خاصة أني لم أجد مَن يعير اهتمامًا بسؤالي، فالناس يدخلون إلى النادي ويخرجون على عجلٍ، الجسد همُّهم الأول والأخير، وألبير هو الشخص الوحيد الذي استفسر عن غيابي، ولعلِّي بدوري الوحيد الذي قلق لغيابه الذي لم يطل، على كل حال.
١٢
لم أخبركم أن ألبير من أشد المواظبين على الحضور إلى النادي، وأنا مثله ما استطعت. من الطبيعي، لذلك، وحين زاد غيابه مرة ثانية عن أسبوع في مطلع شهر يونيو انتابني بعض القلق، بل أكثر. إن ألبير يقول دائمًا لمن يحب أن يسمع بأن الرياضة هي الصحة الأولى بعد التغذية المنظمة، ولذلك لا تفوته أي حصة. ثم إني مررت صدفة قرب متجره فوجدته مغلقًا، وهنا أيقنت أن في هذا شؤمًا، ولم أجد مَن يطمئنني، وقررت أن أطلب منه رقم هاتفه في المرة القادمة، بل قررت أن أدعوه، حين يعود، للعشاء والتوادد أكثر خارج محفل النادي، فهو لطيف، وكان بدوره أشار مرارًا إلى ضرورة أن نلتقي في الخارج، وكذا، وكيت … في المرة القادمة سيكون معي تليفونه، وحتمًا سنتعشى، وﺳ …