اليوم الثالث قبل الأخير
١
هكذا فاجأنا السيد بونوا، ووجدناه واقفًا في ركنه المعهود، لكن من غير الوقت المعهود. كنت منهمكًا في قراءة الصحيفة المسائية، منجذبًا إلى حوادث السرقة، وحركة إضرابات العمال احتجاجًا على إغلاق المصانع، والاعتداءات المتزايدة للتلاميذ على مدرسيهم، وما إلى ذلك مما أصبحت تعجُّ به باريس والضواحي، الضواحي خاصة من حوادث مقلقة. أتصفح هذه الأخبار، وأحمد الله أني أسكن بعيدًا عن هؤلاء القوم، وأستطيع أن أعود إلى بيتي كل مساء، وبعد أن أعرج من عملي على هذا المقصف، أتناول ما تيسَّر من شرابي المفضل، ثم أفرنقع بسلامٍ، عمومًا مثل كل هؤلاء الناس الذين هم هنا هذا المساء، وكل مساء تقريبًا.
٢
نحن نعرف بعضنا، والأغلب بالنظرة، نتبادلها إما بالصدفة، أو خلسة على الأكثر. الزبناء متعجلون من أمرهم، ربما يخافون إن انتقلوا إلى سين وجيم أن تتطور العلاقة، وسيتبادلون الأنخاب، ويثرثرون، وربما بعد ذلك يختلفون، في السياسة خاصة، هذا اليمين، هذا اليمين المتطرف، هذا اليسار، هؤلاء الخضر، أولئك الجن الأزرق، لا، لن يتشابكوا، هم متحضرون، إنما الغضب، الخصومة، وصاحب المحل لا يحب هذا، ويتظاهر بالحياد، رغم أنه يميني مقيت، ليكسب الجميع ويبقوا هنا، مثلما هم موجودون هذا المساء، وكل مساء.
٣
وبونوا يعرف جميع مرتادي المحل، واحدًا، واحدًا، وبالاسم أيضًا، وكل نادل له به علاقة خاصة، لأظن أنه يرشوهم ليحملوا إليه أخبار العالمين، لهَوَسِه بمعرفة كل ما يجري حوله؛ لذا سمعت أحدهم يلقِّبه همسًا بالغستابو الألمانية، وهو لا يعبأ بأحدٍ لأنه زبون محترم عند نفسه، يستهلك هنا جيدًا، وليس مقترًا على نفسه مثل من يقفون ساعة وراء الكونتوار يشربون قهوة أو جعة فاترة وهم يقرءون صحيفة المحل، وفوق هذا هؤلاء السفلة يتأفَّفون من الطقس وكل شيء، ولكن من يستطيع أن يرفع نحوه نظرة استغراب أو استنكار، حتى وهو يلعن جهرًا اليمين واليمين المتطرف، والوسط، واليسار طولًا وعرضًا، وجميع الألوان الأخرى، مَن؟!
٤
٥
في الحقيقة لا ألتقي بوني أيام الأسبوع إلا لمامًا، ويوم الأحد دائمًا حين نتراهن على الخيل والكلاب، أحيانًا، فأنا زبون مسائي، لأني ببساطة أعمل في النهار، ولا يحلو لي الشرب في ضوئه، وخاصة لأني أحب الليل أستريح فيه، ويكون الزبائن الذين يتشاجرون لأي سببٍ قد غيَّبهم السبات، أو وقعوا — على الأغلب — تحت نعال زوجاتهم طالبين السلامة وحسن العاقبة، أما أنا الأعزب فأتمتع بالمقصف كاملًا، ويخدمني نادل النوبة على خاطري، أشرب كأسي، أيضًا، من غير أن أضطر للتعليق، لا على الطقس، ولا اليمين، لا الوسط، ولا الجن الأصفر!
٦
في يوم الأربعاء السابق، أي مثل هذا الذي أجلس فيه لأدوِّن هذه الحكاية، والساعة الثامنة، وبين يدي صحيفة «لوباريسيان» الشعبية، وأمامي جعَّتي من نوع ١٦٦٤، ونحن أربعة خلف الكونتوار، وبضعة حول مناضد متفرقة، وفي الخارج مطرٌ نثيث يلائم نهاية شهر مارس، والنادل مبتئسٌ لقلة الزبائن، والنادل ها هو يفتح فاه واسعًا، كنت أنظر إليه وحده دون سواه.
فتساءلت لمَ انقلبَ فجأة دهِشًا، وهو ينظر مركزًا إلى شخص يعرفه، كأنه يريد أن يتأكد منه، وأنا لا أنظر إلى الشخص، ولكن أسمع صوته ولا أصدق أنه هو، أو أستبعد، لمَ لا أستغرب، رغم أني صرت أقول إن لا شيء بات مستغربًا في عالمنا اليوم، بما في ذلك، أجل، لِمَ لا، بما في ذلك دخول السيد بونوا ووقوفه بيننا وهو يومئ طلبًا، غالبًا، لمشروبه الاعتيادي.
٧
غطست في صحيفتي، متجنبًا أن أحرجه، فلا شك لاحظ استغراب النادل الليلي، وهو له نوبة نهارية، ومن مخبريه المفضَّلين، هو نفسه الذي تطوَّع مرة ليعلن استنكاره وحشة بوني، تأفُّفه الدائم، بينما هو شخص ميسور، شقته يملكها، وكل شيء على ما يرام، و… يتوقف لا يحب المضي أبعد عندما يقول: لولا … يعضُّ على كلماته، يقطعها، تنحبس في حلقه، يستأنف: أنا لا أحب النميمة … لولا … لا أحبها، ربما هو يحبها، وهي لا تحبه، [من ترى تكون هاته؟!] وظل يدخل ويخرج في كلماته، وأنا، أيضًا، لا أرفع رأسي عن «البارسيان»، وأحدس أن جميع مَن يقفون هنا من رجالٍ هذه الساعة يدور في رأسهم أكثر من سؤال.
٨
«في الحقيقة أنا …» سمعت العبارة قريبًا مني، فصاحبها على بُعد خطوتين فقط، وكما تبادلنا النظرات وظللنا صامدين في موقعنا، كالعادة، بلا سلامٍ ولا كلامٍ. تنزَّلت العبارة في كلماتٍ منفصلة، هادئة، تظنها مُقطَّعة بالمقص قطعة، قطعة، لتعود تتردد خارجة من فم صاحبها الذي لا أحتاج للنظر إليه لأعرف من هو، فهذا صوت بوني الذي لا يتوقف عن التأفُّف يسري الآن بهدوء، بسكينة، وبترددٍ كذلك، بينما يشتم عادة بغضبٍ جازمٍ ولا يعبأ … «في الحقيقة لا شك أنك …» كان الكلام موجهًا لنادل الليل الذي أراه يحاول تجميع تركيزه، يرى — للمرة الأولى — زبونًا نهاريًّا كبيرًا منذ سنوات وهو يقف أمامه في هذه الساعة، وهو يرتعش!
٩
«في الحقيقة، إنها كلير …» لم يُسأل ما بها، ليواصل ما بدا بَوحه، والنادل يظن أنه يسرُّ له: «إنها كلير سافرت، قبل قليل سافرت …»، وينقطع الكلام، صاحبه ينظر إلى نقطة غير مرئية في البعيد، وأنا أراه قريبًا مني، يمرِّر أصابعه على شعره الكثيف، ثم يلتقط نفَسَه: «هي سافرتْ إلى الجنوب … وﺳ … تغيب …». هنا لاحظت النادل قد انشدَّ إليه، سمع ما روَّعه، ظننته بدوري مروعًا فنظرت إليه بلا مواربة، وهو ما فهمه للتوِّ فانتقل مباشرة يهدئ روعنا، بينما نبرة صوته تزداد خفوتًا، أقرب إلى الصمت والاستسلام لما لا نعرف: «أوه، لا خوف، بتاتًا، ليس ما قد يخطر بالبال، كلا، … أجل، هي سافرت»، وباسترخاء أضاف: «وستمضي ثلاثة أيام في السفر» ثم بعد أن جمدت شفتاه ثواني، عاد يقول، لكن هذه المرة مدمدمًا: «وبعد ثلاثة أيام، ستعود طبعًا.»
١٠
لا تكاد تعرف هل قال عبارته الأخيرة غاضبًا أو مستسلمًا، لأني لاحظت وجهه المحمر دائمًا بفعل إدمان الخمرة، يزداد احتقانًا، وقد تدلَّى رأسه على صدره وهو يطلب كأسًا أخرى. هو الذي بادر بالطلب ولم ينتظر، خلافًا لعادته، أن يجدد له النادل مشروبه. عبَّه بسرعة كالأول منشرحًا هذه المرة، ثم شرع يفرك يديه، ويتململ في وقفته. خفضت بصري أتجنَّب عينيه تحومان حولي، فيما كان من قبل يتجاهل حتى وجودي، عمومًا هو يزدري كلَّ مَن لا ينحدرون من إقليم الألزاس؛ هؤلاء عنده هم أصلاء فرنسا والشجعان. سأل النادل بنبرة ودٍّ، وإن بتعالٍ: «قل لي، أنت من الجنوب، هل تعرف هذه النقطة من الأرض التي تبعد ثمانمائة كلم عن باريس، قرب الحدود، عند هونداي، إنها على طرف لساني …»
١١
استجاب له النادل شبه المتعطل هذا المساء، بسبب قلة الزبائن، بسرعة، وأخذ يفكر معه، وهو ينكش رأسه: أظن، أظن أنها بلدة سان جان … اسم كهذا.
– تقريبًا، المهم هو كم ساعة يقضي القطار ليصل إلى هناك، القطار السريع.
– أوه، ست ساعات أو خمسًا، لأن السكة ليست كلها مهيأة للسرعة، منها ما لا يقل عن مائتين سكك عادية، والشركة تجعلنا ندفع ثمن السريع، تصور!
– وهل الطريق المؤدية إلى بلدتكم آمنة، بلا مخاطر؟
بدا النادل لا يفهم، فاستأنف بونوا ينوي التوضيح: أنت تعلم أن الأمن مشكلتنا اليوم في فرنسا، خاصة مع هؤلاء السود والعرب الذين يهجمون من الجنوب، وكلير، زوجتي، سافرت قلِقة، ومضطرة، فشجعتها على السفر رغم أني أخاف عليها ولا …
١٢
وبما أنها سافرت، قلت لمَ لا أغيِّر الجو، وأتناول كأسًا في الخارج، ها أنت ترى، ما رأيك؟
لم يكن يطلب في الحقيقة رأي أحدٍ، فهي مجرد طريقة في الكلام، وهو يكلم نفسه، وإن لم تخلُ حالته من رغبة في أن نستمع إليه، فأظهرتُ الاهتمام الذي راقه فواصل: «وهي فرصة فعلًا للتغيير، كلير لا تمنعني من الخروج ليلًا، لكن، وبما أنها سافرت فما المانع، ما قولكما؟»
لم نعلِّق، لا أنا، ولا النادل، منبهرين بالحبور الذي يغمره، ويدفعه لمواصلة عبِّ الكئوس، حتى أدهشني منه إشارته للنادل يدعوني لكأسٍ على حسابه، وقبل أن أعتذر رفع نخبي مرددًا عبارة فغر لها فمي: «بصحة صداقتنا الجديدة!»
١٣
«هل تعتقد أن طريق الجنوب آمن، سمعت أن خط السكة الحديدي يتعرض لإتلاف، وماذا لو زاغ القطار عن السكة؟! يا إلهي، يمكن أن يقع ضحايا، ماذا لو أن أحد المسلمين الكاميكاز فجَّر جسمه وسط الركاب، كما حدث في إسبانيا، ومات مائتان، تطايرت أشلاؤهم، هوب؛ كلير قد تكون منهم، تصور قطارًا بسرعة ٣٠٠كلم في الساعة، ماذا سيبقى منهم، منها، عندئذٍ ستمتد رحلتها إلى الأبد، وليس ثلاثة أيام فقط … وكيف سيصبح العيش بدونها؟ هل سأتحمَّل فراقها؟ أظن أني أبالغ، ربما سرعة القطار أقل بكثيرٍ، إنما لِمَ هذه الأفكار السوداء؟! لا شيء، وفي الوقت نفسه كل شيء محتمل، محتمل جدًّا؟»
١٤
«هه، ما رأيك؟» كان يخاطب النادل مباشرة هذه المرة. «رأيي، في ماذا؟ معذرة مسيو بونوا، كنت مشغولًا مثلك بزوجتي، هذه التي لا تصدق حين أخبرها بأن لي نوبة عمل ليلية، إضافة إلى النهار، تطوف بذهنها الشكوك، النساء هكذا هن، لا يفكرن إلا في خيانة أزواجهن لهن، وأنا، لكمْ أقسمت لها بأني أشقى من أجلها، ولِتقضي عطلة أطول عند أهلها، هم، أيضًا، من الجنوب، ولا أستبعد أن ترسل أحدًا ليتجسس عليَّ، مَن يدري، فقد تحضر بنفسها لتعاين تواجدي هنا، وسوف تتحداني وهي تتقدَّم كزبون لتتفحَّصني عن كثب. أووه، لكم أغبطك يا مسيو بونوا على هذه الأيام الثلاثة التي ستقضيها بدون شكوك ولا تنغيص!»
١٥
انصرف النادل يلبي طلبًا من القاعة تاركًا بوني يحرِّك رأسه يمينًا شمالًا، فوق تحت، فلا تجزم هل يوافق، أم ينكر، ومن المؤكد أن ثمة ما ينخر دماغه، بينما دماغي أنا في راحة تامة، أخرج وأدخل متى أشاء، لا امرأة تنتظرني لتصدع رأسي، ولا وساوس عن الأمانة أو الخيانة، يكفيني أن أخلص لنفسي، فلا أصير مثل هذا المهبول؛ ها هو يتحرك خطوتين باتجاه الباب، ها هو يتراجع، يتقدم، يتوقف، يتراجع، يلتفت إلى واجهة المقهى الطويلة، خلفها الرصيف يعبره متعجلون تحت نثيث مطر نهاية مارس، كأني بعينيه تخترقانها وتتوقفان عند قامة امرأة كانت تنظر بدورها إلى الداخل ربما بحثًا عن شخص بعينه، ربما عن بوني، أو هو مجرد فضول، كما يفعل السياح والفضوليون، ومَن لا شغل لهم، وهو يتقدم نحوها مرتجفًا، و…
١٦
١٧
في اليوم الثالث وجدت السيد بونوا كيسيل سبقني إلى مقصفي، وأخبرني النادل نفسه، وهو يناولني طلبي، أن صاحبنا محموم، فهو ما يكف يهذي بلا توقفٍ تقريبًا بالأرقام، يعدُّها على أصابعه، منتقلًا من واحدٍ إلى ثلاثة، ومن ثلاثة إلى رقم واحد دفعة واحدة، وفي كل مرة يسألني: «هل أنا متأكد أن وصول القطار إلى بلدة سان جان يستغرق خمس ساعات، وهل وصل فعلًا ليلة أول أمس، وهو لم يتلقَّ أي تليفون من كلير، فربما وقع حادث في الطريق، مخربون أتلفوا السكة، إرهابيون فجروا أنفسهم وقتلوا الركاب، ومنهم هي، كل شيء ممكن هذه الأيام، إنما لا ذكر لهذا في الأخبار، ولعلَّها وساوسي، ولنفرض الأمر صحيح، فمعنى هذا أن حياتي ستنقلب رأسًا على عقب، سأصبح أعيش وحدي …» وسمعنا صرخة مدوية!
١٨
كل مَن في المحل التفت إلى موقفه، هبَّ مالك المقصف نحوه مذعورًا: عزيزي بونوا، على رِسْلك!
– ولكن هذا الغرسون يعاندني، أقول له نحن في يوم الأربعاء، وهو يقول لي إنه الخميس!
– فعلًا، اليوم خميس.
– أنت أيضًا، تريد أن تجننني!
– كما تشاء، اليوم السبت إن شئت!
– لا، اليوم أربعاء، ودليلي أن كلير سافرت ليلة الأحد، وستمضي ثلاثة أيام، تنقضي الليلة، أي ستعود غدًا، كما سأعود إلى سابق عهدي.
– إنما يا عزيزي بونوا، هي حماك التي تضربك مرة في الشهر منذ … أم نسيت أن كلير ترقد منذ عام في مقبرة بيير لاشيز، بيير اسقِه كأسًا على حساب المحل، ولنشرب نخب ذكرى تلك المرأة الطيبة!