مَثَلٌ من التصوير في شعر ابن الرومي
أشرتُ إلى مَلَكَة التصوير في هجو ابن الرومي وسائر شعره، وقلتُ في مقدمة مختاراته إنه «ينظر إلى الأشياء بعين مصوِّر صناع لا يفوتها لونٌ من الألوان التي تنسجها خيوط الشمس في ائتلافٍ أو اختلافٍ وفي سطوعٍ أو خفوتٍ، فإذا أضفتُ إلى ذلك مقدرته في تصوير الحدب والصلع والقصار وأصحاب اللحى الكثيفة والأنوف الغليظة، أمكنك أن تقول أيضًا: ولا يفوتها شكلٌ من الأشكال، فهو فنان لا تنقصه إلا الريشة واللوحة، بل لا تنقصه هاتان؛ لأنه استعاض عن الريشة بالقلم وعن اللوحة بالقرطاس، فاكتفى بهما وأثبت في النظم البديع ما لا تثبته الألوان والأشكال.»
وقد استشهدتُ بابن الرمي في هذه الخصلة؛ لأن مَلَكَة التصوير الصادق أظهر ما تكون في شعره بين عامة شعراء العرب من المشارقة والمغاربة والأقدمين والمحدثين، ولا أعرف شاعرًا يسبقه في هذه الخصلة البارزة المتجلية على غير قصدٍ في كلامه الجيد والرديء على السواء، والتي أحسبه من أجلها قد خُلِقَ على فطرة المصور، وطُبِعَ على الإتقان في صناعة الرسم لو ساعفته أسبابها وأملت له البيئة في دواعيها. فلو أنه نبغ في أمةٍ تُروَّج فيها هذه الصناعة لشهدنا من آثار ريشته مثل ما نشهد الآن من آثار لسانه، ولضارع المصور منه الشاعر إن لم يَفُقْهُ ويغمره بالشهرة والإتقان.
وليست مَلَكَة التصوير غريبة عن الشعر؛ فإن النفس الفنية جِبِلَّة واحدة تختلف ما تختلف ولكنها تتفق في المَعْدِن الأصيل الذي يجمع بينها عند دقة الإحساس وحب الجمال، وهي إنما تختلف من ناحية «الحاسة» التي تُبلِّغها رسائل الجمال والوسيلة التي تعبر بها عما يخامرها من إلهاماته وخواطره، فالشاعر لا يخلو من مَلَكَة الألوان والأشكال والفطنة إلى الحركات والأنغام، والمصوِّر لا يخلو من معاني الشعر وأصداء النغم التي تراها العين معكوسة على صور الأشياء، والموسيقيُّ لا يخلو من السرور بمحاسن المناظر والمعاني التي يترجم عنها في أصواته وألحانه، وكلهم — لو أمكننا أن نتخيل قرائحهم بمعزلٍ عن الأبصار والأسماع والأيدي والألسنة — أسرة من التوائم لا تعرف الواحد منها إلا حين يرتدي علامته من اللباس.
أما ابن الرومي فقد كانت المَلَكَتان فيه — الشعر والتصوير — متقاربتين أيما تقارب ممزوجتين أيما امتزاج، وكان لا يُعجب بشيءٍ إلا ولمَلَكَة المصور نصيبٌ من ذلك الإعجاب، ولا يشتهي شيئًا إلا وللنظر حظٌّ منه حتى الطعام! ولقد شهروه بالنهم لكثرة وصف الطعام في شعره، ولكني أراه منهومًا بحواسه ومذاوقه — وبالنظر منها على التخصيص — أكثر مما أراه منهومًا بمعدته وأحشائه.
فانظر إلى قوله في الأكلة التي يشتهيها:
أو انظر إلى قوله في «الزلابية»:
أو قوله في الرقاق:
بل انظر إلي كل ما قاله في أوصاف الطعام تجد نَهَمَ النظرِ والذوق منه أشد من نهم المعدة والأحشاء، وسرور المصور فيه حاضرًا عند كل سرورٍ يتملاه وكل لذةٍ يشتاق إليها، وهذه هي المَلَكَة الشاعرة المصورة الشفافة التي تحدثك عن شعورٍ وحياةٍ في أجد الجد وأهزل الهزل بلا اختلافٍ بين الموضوعات والأطوار.
وقد أحببتُ أن أُورد له في هذا المقال نخبًا من قصيدةٍ واحدةٍ في المدح أبيِّن بها الفرق بين الشاعر الذي ينظم ويقلد ولا ينظر، والشاعر الذي يستوحي نفسه وينظر إلى الدنيا حتى في قصائد المدح التي نعدها أخلى الكلام من أغراض الشعر ومعاني الحس وبدائع النظر الفنان، ولو شئت لأتيت على عشرات من مدائحه كلها تصلح للاستشهاد بها في هذا السياق، ولكني أنقل ما يتسع له المقام وأعني النونية التي قالها في تهنئة عبيد الله بن عبد الله يوم المهرجان، وهذه بعض أبياتها على غير اطراد:
•••
فتأمل هذه الأبيات هل ترى فيها إلا صورًا تتوالى عليك بالمناظر التي تبصرها العين، والخواطر التي تتلقاها النفس، والحركات التي تؤلف بين ما ترى وما تحس تأليف الشريط المتحرك لما انطبع عليه من الأشكال والفصول؟ وتأمل الشاعر هل تراه في قصيدته إلا كالرسام الذي بسط أمامه لوحته، وأقبل على الوجوه والأشكال يتفرسها ويطيل النظر في ملامحها وشاراتها، وما تشف عنه من المعاني وتشير إليه من الدلائل ويراقبها في التفاتاتها ومواقفها وحركاتها؛ لينثني بعد ذلك إلى لوحته فيثبت عليها ما توارد على بصره وقريحته من الألوان والمعارف والهيئات من حيث هي تحفة فنية تستهوي الحواس والأذواق؟! فهو يبدأ برسم زينة المهرجان واختيال الدنيا بمنظرها فيه، وبرود الوشي التي أذالتها للناظرين، واللهو والسرور الذي شمل كل شيءٍ وأديل له من جميع الهموم والأحزان، ثم يرسم حجرات الأمير بزخارفها وتهاويلها وقيام الكماة فيها صفًّا بعد صفٍّ مطرقين إلى الأرض مُغضِّين بالأبصار حانين على السيوف، ثم يرسم حجرات الأمير على سريره وقد طلع على الجمع بوجهٍ مهيبٍ يُمكِّن العين منه لحظة ثم ينهاها عن إدامة اللحظان فيه، وعليه وقار الإمارة وسمات الحلم والرزانة بين قومٍ يعنون له، ويجلِّون قدره من الحب والتبجيل لا من الصلف والكبرياء، ثم يرسم المادحين بين يديه يرتلون عليه الثناء «ضاربين الصدور بالأذقان» وينصرفون من حضرته بالعطايا والحملان، ثم يرسم القيان الكواعب حانيات على العيدان حنو الأمهات على الأطفال بنهودٍ مفعماتٍ ولكنها «صفر من درة الألبان»، ثم يرسم أثر الغناء على وجوه السامعين فإذا هو شجن وسلوى وأَمَرات من الحزن والجذل، وطرب يشوبهُ السكون وسكون يشوبه الطرب، ثم يرسم الصوت نفسه فإذا هو يهتز «مثلما هزت الصبا غصن بان»:
فلا تزال في القصيدة تتنقل بين أبياتها من صورةٍ إلى صورةٍ ومن منظرٍ إلى منظرٍ ومن حركةٍ إلى حركةٍ حتى تأتي عليها، وقد استعرضت في خيالك متحفًا واسعًا من الأشكال والخطوط عملت فيه القريحة والنظر واشترك فيه الفن والإحساس وروى لك أصدق الرواية عن عينٍ تلمح فتعي، ونفس تحس فتستوعب، وخيال يدخر الجمال المنظور فيثرى بالألوان والسمات، ولو وقف مصور فى موقف ابن الرومي من ذلك المهرجان لما زاد عليه بعد ذلك التفرس والإنعام إلا أن يُجري الريشة على اللوحة بصورةٍ بعد صورةٍ مما قد امتلأت به عينه، وانطبع فى قريحته.
•••
وإذا بلغ من تهافت النفس على التهام الأشكال المختلفة هذا المبلغ فلا جرم تترك فيها أثرًا قويًّا من حُسنها وقبحها، ومما توحيه من بواعث الفرح والنشاط أو بواعث الفزع والوجوم، فأما الحُسن في تلك الأشكال فيزدهيها ويُطربها ويحتث آمالها وتأنس منه البشرى الجميلة والفأل السعيد، وأما القبيح فيقبضها ويروعها وتتوجس منه العاقبة السيئة والطالع المشئوم، وهي إذا غلت في الانقباض خليقةٌ أن تتطير بالقبح، وأن تقرن بينهُ وبين كل شرٍّ تتوقعه وكل نذيرٍ تخشاه، ومن هنا خطر لي أن «التشاؤم» الذي اشتُهِر به ابن الرومى بالإفراط فيه قد يكون قريب العلاقة جدًّا ﺑ «ذوق الجمال» الذي طُبِعَ عليه أو «مَلَكَة التصوير» التي تَفْتأُ تزحم خياله بالمناظر والهيئات.
ولم أقرأ نادرةً من نوادر «التشاؤم» التي تُروَى عن ابن الرومى إلا رأيت السبب الأكبر فيها للتشاؤم أحد عاميلن اثنين: هذه «المَلَكَة التصويرية» ومَلَكَة أخرى فنية هي «تداعي الفكر وتساوق المعاني» التي كان ابن الرومي يؤلف بها بين أقصى الخواطر وأقصاها بحرفٍ يصحفهُ أو معنى يعكسهُ أو مناسبة تهيئها له قريحته المتوثبة الحافلة.
فهو كان يتشاءم ﺑ «التشويه» حيث رآه، وكان يكره أن يقع نظره على أحدب أو أعور أو دميم أو أصلع، بل كان يكره أن يَطَّلِع الناس منهُ على الصلع حين أصابه «فكان لا يزال معتمًّا ويغضب إذا سُئِلَ عن ذلك، وسأله بعض الرؤساء لِمَ تعتمَّ؟ فقال بديهيًّا»:
وممَّن كان يتشاءم منهم ابن طالب الكاتب، وفيه يقول:
ومن قوله «إن الفأل لسان الزمان والطيرة عنوان الحدثان»، ونظمه شعرًا فقال:
فهو يربط بين الظواهر والبواطن بذلك الرباط المهموم ولا يرى الظاهر القبيح إلا عنوانًا لحادثٍ مشئومٍ يُنذِر به الزمان.
وقال ابن الناجم: «دخلتُ عليه فى علَّتهِ التي مات بها وعند رأسه جام فيه ماء مثلوج وخنجر مجرد لو ضرب به صدر خرج من ظهر، فقلتُ: ما هذا؟
قال الماء أبلُّ بهِ حلقي فقلما يموت إنسان إلا وهو عطشان، والخنجر إن زاد عليَّ الألم نحرتُ نفسى، ثم قال: أقص عليك قصتي تستدل بها على حقيقة تلفي، أردتُ الانتقال من الكرخ إلى البصرة فشاورتُ صديقنا أبا الفضل، وهو مشتق من الأفضال، فقال: إذا جئت القنطرة فخذ عن يمينك وهو من اليمن، واذهب إلى سكة النعيمة وهي من النعيم، فاسكن دار ابن المعافى وهو مشتق من العافية، فخالفتهُ لتعسي ونحسي!»
«وشاورتُ صديقنا جعفرًا وهو مشتق من الجوع والفرار، فقال: إذا جئت القنطرة فخذ عن شمالك وهو من الشؤم، واسكن دار ابن قلابة وهي هذه. لا جرم قد انقلبت بي الدنيا! وأضر ما عليَّ العصافير في هذه السدرة تصيح سيق سيق … فها أنا في السياق …»
وهذا مَثَلٌ من الطيرة التي كان يوسوس له بها «تداعي الفكر» وهي مَلَكَة تكثر في أصحاب الفنون يضمون بها الخاطر إلى الخاطر بتصحيفٍ يسيرٍ في اللفظ أو المعنى وبمناسبة دقيقة من الخيال الصحيح أو الوهم الكاذب، فيصلون بها بين الطرفين يراهما عامة الناس على أشد البعد والتناقض، ويلتمسون بها المشابه والمغازي حيث لا شبه ولا مغزى لمَن لم يُوهَبُوا هذه السرعة في توارد الفكر وتساوق المعاني والألفاظ.
فغيرُ بعيدٍ أن تكون «طِيَرَةُ» ابن الرومى مبالغة منحرفة من ذوق الجمال، وسرعة الخاطر تَناهى بها إلى هذا الشطط خبلُ الأعصاب ومضاضة الغبن وقلة فهم الناس إياه، وطوارق أحداث لم تدعهُ حتى أسلمتهُ إلى ذلك المصرع الحزين.