أدب المنفلوطي
لم أكتب عن أدب المنفلوطي على أثر وفاته لأسبابٍ شتى؛ يرجع بعضها إلى شواغل السياسة، وبعضها إلى التحرج من مناقشة الحزن بالنقد، والتقدم إلى تشريح الفقيد الراحل فى موقف التشييع والتأبين، فأبيت أن أقول فيه غير ما أعلم، أو أن أكذب على الموت مداراةً لجلاله وتوقيرًا لقطوبه وهيبته، وكرهت أن أشيعه إلى مرقده بغير ما يجمل في ذلك الموقف من الثناء والعزاء؛ لأني أراه أكرم وأجدر بالرفق والمجاملة من أولئك الذين تُقَال فيهم كلمة الحق وتستخلص من حياتهم عبرة الأخلاق وحكمة الحوادث، وهم بين أيدي النعاة والمشيعين. فالآن وقد مضى على وفاته عام وأيام، وقد سألني بعض الأدباء أن أخصه بكلمةٍ من الكلمات التي أكتبها في هذه الصحيفة، أرى من الواجب عليَّ أن أعرض له بالنقد والتقدير؛ لأقوم له ببعض حقه وأدل على مكانه من أدب العصر الحديث في رأيي؛ إذ لا شك أن المنفلوطي قد كان صاحب «مكان» في هذا الأدب يُعتَد به ولا يحسن إغفاله.
لقد كان المنفلوطي أحد أولئك الأدباء القلائل الذين أدخلوا «المعنى والقصد» في الإنشاء العربي بعد أن ذهب منه كل معنى وضل به الكاتبون عن كل قصدٍ.
وليس يظهر فضل هذه الخطوة المباركة إلا للذين وقفوا على بقيةٍ من أساليب الإنشاء في الجيل الذي غَبَرَ قبل نبوغ المنفلوطي وإخوانه، فقد كانت الكتابة في ذلك الجيل قوالب محفوظة تُنقَل في كل رسالةٍ ويُزَجُّ بها في كل مقامٍ وتُعرَف قبل أن يمس الكاتب قلمه ويليق ذواته، وكان للمعاني القليلة المحدودة صيغ وقوالب لا يعتورها التصرف والتبديل إلا عند الضيق الذي لا محيص عنه والإفلاس الذي لا حيلة فيه، وكانت أغراض الكتابة كخُطَب المنابر؛ تُعاد سنة بعد سنةٍ بنصِّها ولهجة إلقائها ووحدة موضوعاتها، كأنها تُعاد من آلةٍ حاكيةٍ لا تفقه ما تقول على آلاتٍ حاكيةٍ مثلها لا تفقه ما تسمع! وانحصرت الذخيرة اللفظية — التي تتناول منها الأقلام — في أسجاعٍ مبتذلة وأمثال مُردَّدَة وشواهد مطروقةٍ وآياتٍ من القرآن تُقتَبَس في غير معارضعها، ويحذر المقتبسون أن يغيروا مواضع نقلها، وترتيب الجمل التي تسبقها وتلحق بها كحذرهم من تغيير حروفها وكلماتها. فإذا جمعت هذه الذخيرة المحفوظة بين دفتي كتاب فقد جمعت عندك كل ما خطَّه المنشئون من قبل وكل ما في نيتهم أن يخطُّوه من بعد، واستغنيت عن الأقلام والأوراق والمحابر وأدوات الكتابة كلها، ومنها المنشئون والمحبرون!
هكذا كانت حالة الإنشاء في الجيل الذي سبق جيل المنفلوطي وإخوانه من المنشئين، غير أنها لم تكن كذلك حين أخذ المنفلوطي في الكتابة وظهر في عالم الأدب؛ لأن الكتابة في الصحف والمجلات وترجمة المؤلفات الغربية وانتشار الأساليب المختلفة من أسفار الآداب العربية القديمة اضطرت الأقلام قبل ذلك إلى اختيار الألفاظ المقصودة، واقتسرت المترجمين والكاتبين على العناية بالمعاني التي يفهمونها، فنشطت الكتابة في تعثرٍ وسلكت على نهجها القديم فى بطءٍ وتحيرٍ، وبقي فيها أثرٌ من ذلك الجمود كأثر النقاهة في الوجه تعرفه في نزارة المادة وصعوبة التوفيق بين المعاني الطارئة والعبارات الميسورة، وفقر الكُتَّاب وعجزهم عن التصرف فيما بين أيديهم من ثروة التعبير.
فمزية المنفلوطي فى هذا الدور الناقه الهزيل أنه بَرِئَ من آثار تلك النقاهة، ومشى بقدمين على النهج الجديد الذي دخل فيه المعنى والقصد على الإنشاء العربي. وقُل ما شئت في تينك القدمين وفي ذرع خطوهما واستقامة سيرهما على النهج الجديد؛ ليكن فيهما ما فيهما من الضعف والعيب أو ليكن عندهما ما عندهما من الرخاوة والكسل، فإنهما بعد كل ما يُقَال فيهما قدمان آدميتان وليستا بعضوين من الخشب المنجور.
وقد تقدم المنفلوطيَّ إلى هذه المزية أُدباءُ قليلون في مصر، أشهرهم المويلحي الكبير فالمويلحي الصغير، وكانا كلاهما أذكى منه جنانًا وأعرَف بفنون الأدب وأقدر على النقد الاجتماعي وأفطن إلى الفكاهة وأوسع اطِّلاعًا على شئون الحياة، ولكنه كان أحدث منهما عهدًا، وأبعد من ذلك العصر الذي وصفناه؛ فمال إلى الأسلوب المرسل وسلم من تكلف السجع ونقل الصيغ والقوالب، فكان لذلك أدنى إلى الكتابة الحديثة المطلقة وأسعد حظًّا بهذه المزية التي أحرى بها أن تُحسَب لأيامه لا لجرأته وحسن اختياره. أما المويلحي الكبير فكان يتعمد السجع حين يحتفل بالتفخيم والتنميق، وأما المويلحي الصغير فلعل الذي قيده بالسجع في كتابه «حديث عيسى بن هشام» أنه وضعه على نسق المقامات، واختار له اسم راوية كأسماء رواتها فالتزم ما كانوا يلتزمونه في مقاماتهم من الأسجاع والأوضاع.
•••
ذلك هو مكان المنفلوطي في أدب العصر الحديث على وجه الإجمال، ولكن ما مكانه في عالم «الأدب» عامة إذا أردنا أن ننظر إلى الأدب من وراء البيئة والظروف بل من وراء الأجناس واللغات؟
أقول أولًا إن المنفلوطي مُنشئ وليس بكاتب، أو هو يُحسَب مع أصحاب الإنشاء إذا قسَّمنا الأدباء الناثرين إلى كُتَّاب ومنشئين.
والفرق بين الكاتب والمُنشئ في عُرفي هو: أن الكاتب «إنسان» قبل أن يكون حامل قلم وصائغ كلام، وفضيلته فضيلة نفس شاعرة مدركة لا فضيلة لسان وعبارة، وأحسن مواهبه تبقى له كاملة ناطقة إذاهو تُرجِم من لغةٍ إلى لغةٍ أو حِيل بين قارئه وبين بلاغة لفظه وأسلوب أدائه.
وأنت تعجب بالكاتب لصفةٍ تأنسها في نفسه وعقله ثم تعجب بأسلوبه؛ لأنه وسيلة إلى إبراز تلك الصفة في الصورة التي توائمها، فإذا سُئِلتَ أن تفصل بين الكاتب وكتابته في تقديرك لم تدرِ كيف تفصل بينهما؛ لأنك تحس حينئذٍ أن كتابته جزء منه وعضو من أعضائه، بل هي ألصق به من جميع أعضائه وجوارحه لأنها خلاصة حياته وزبدة نفسه وعقله وتاريخ خلايا جسمه وروحه.
وفى كل كاتبٍ شيءٌ من طبيعة النبوة؛ لأنه يحمل رسالة «خاصة» من لدن الحياة إلى إخوانه في الحياة. ولهذا كان لا بد للكاتب من هبةٍ خارقةٍ يحس بها ما لا يحسه سواد الناس، ويفهم بها ما لا يفهمون من أسرار هذه الدنيا وعجائب الغيب والشهادة، فإن لم تكن له هذه الهبة فقوة تقدح هباته المألوفة وتستفزها إلى البروز والاحتدام، وتتجافى بها عن سبيل أمثالها المُعبَّد في نفوس الآخرين فتبدو وكأنها أجنبية غريبة عما يألفونه بينهم من هذه الهبات، فإن لم تكن له تلك القوة فجانب من جوانب الطباع يراه الناس فيه مكبرًا مشروحًا، يدرسون عليه ذلك الجانب من النفس البشرية كما يدرسون الأعضاء الدقيقة وراء المجاهر المعظمة وعلى الرسوم الواسعة المفصلة، فإذا كان التيمن أو التشاؤم أو الحب أو البغض أو الدعة أو الكبرياء أو الحسد أو البر أو غير ذلك من الخلال خفيًّا ضامرًا في عامة النفوس، فربما كان فيه ظاهرًا مفسرًا يتيح لك أن تتأمله وتفحص عن بواعثه وتستقصي غاياته كما لا يُتاح لك ذلك من مراقبة ألوف من الناس، فإن لم يكن فيه جانبٌ من هذه الجوانب المكبرة فمَلَكَة تصبغ المشاهد الدارجة بلونٍ لا تراها به كل عينٍ ولا تخلعه عليها كل بصيرةٍ. وقد تتفق هذه المزايا كلها للكاتب أو لا يتفق له إلا بعضها، ولكنه لا بد أن يكون على الحالين نموذجًا خاصًّا يحمل رسالته التي لا يغني عنه أحدٌ في إبلاغها، والتي تشعر وأنت تقرؤها أنها رسالة و«شفر» في آنٍ واحدٍ، وأنها لو انفصلت عن صاحبها لضاع معها الشفر الذي يفك رموزها وتتوقف عليه فوائدها.
والكاتب جماله في الأسلوب جمال المعدن الصحيح لا جمال الزيف والطلاء؛ فبياضه بياض الفضة، وحمرته حمرة النحاس، واصفراره اصفرار الذهب، ولمعانه لمعان الماس، وكل شيءٍ فيه له قيمته الطبيعية التي لا مبالغة فيها ولا تمويه عليها، فهو يذكِّرك أبدًا بالطبيعة الصادقة واللباب المكنون.
أما المُنشئ فيختلف عن الكاتب في هذه الخلال، فإنك تقرؤه وكأنما تشعر بالقشرة المطلية تحت يدك، ويُؤتِّي إليك أنه يخدعك ويحاول أن يبيعك الشيء الزهيد الذي تراه في كل مكانٍ باسمٍ غير اسمه وقيمةٍ أغلى من قيمته، فأنت تبصر فيه لون المعدن ولا تسمع رنَّته وتروز ثقله، وتعلم أن السر كله في الصقل الظاهر، ولا يعجبك أن تتطلع إلى اللباب المستور وراءه، ويُخيَّل إليك أنها صناعة آلية قد يبرع المخترعون غدًا فيُحدثون للآداب آلةً تصقل الكلام كالآلات التي اخترعوها لصقل المعادن! وقد يعنُّ لبعض المُنشئين أن يفتح له مكتبًا؛ لتوشية كلام غيره كهؤلاء الكتبة الذين يدبجون الرسائل للمستكتبين في أغراض نفوسهم التي لا ينوب عنها فيها سواهم.
وليس للمُنشئ رسالة خاصة يؤديها من لدن الحياة ويَضيع شفرها إذا لم يقم هو بأدائها، ولكنه — على أحسن ما يكون — صاحب زينة يَسرُّك أن تنظر إليها وتُجري يدك عليها، وتفقدها كلها إذا أردت أن تنقلها من لغتها التي كُتِبَت فيها إلى لغةٍ أخرى تحفظ معناها وتنفي قوالبها وألفاظها، فليست فضيلته فضيلة «إنسان»، يخاطب جميع الناس بلغة الحياة، ولكنها فضيلة حروفٍ لا حياةَ فيها، وأصداءٍ لا ارتباط لها بمعانيها.
وخير ما يكون المُنشئ أن يكون تزويقه في أسلوب الفكر وأسلوب الصياغة معًا، كما كان «أوسكار وايلد» في إنجلترا و«تيوفيل جوتييه» في فرنسا و«بديع الزمان» في اللغة العربية، فهؤلاء قد تبقى لهم بعض ملاحتهم إذا نقلوا من لغةٍ إلى لغةٍ وخسروا وشي أساليبهم ورنة ألفاظهم؛ لأن سوانح أفكارهم قد تبهر النظر بألاعيبها ورقصاتها ولألاء أصدافها كما تبهر الآذان نغمات كلماتها وتراكيب عباراتها، على أن المعاني المزوقة قلما تنجلي عن قيمةٍ نفيسة وجمالٍ دائم.
والمنفلوطي إذا نظرنا إليه بهذا النظر لم نقل فيه إلا أنه مُنشئ لبق الصناعة كثيرُ التزويق في الصياغة قليلُه في المعانى والأفكار، أو هو — إذا بالغنا في إنصافه — أقرب إلى جماعة المُنشئين منه إلى جماعة الكُتَّاب.