المنفلوطي والنفس الإنسانية
قرأت فى بعض ما رُثِيَ به المنفلوطي أنه كان «كاتب النفس الإنسانية» يريد القائل أنه كان — رحمه الله — يبكِي آلام النفس ويستبطن أهواءها وأشواقها ويعطف على آمالها وهمومها ويكشف عن فضائلها وأدوائها، كما يُروَى عن كبار الكُتَّاب الملهمين الذين سبروا أغوار الطبائع، واخترقوا حجب الأذهان والبصائر وعرفوا من سرائر «النفس الإنسانية» أنماطًا لا يدركها الحصر، وأحوالًا تحسب من تصفحها أن الإنسان في هذه الحياة خلائق لا نهاية لها ولا مشابهة إلا على البعد بين أنواعها وفصائلها.
ولست أرى في كل ما وُصِفَ به ذلك الفقيد صفةً هي أبعد من الحقيقة، وأدل على الجهل بالنفس من هذه الصفة التي يُظَن لأول نظرة أنها أصدق صفاته وأحراها بالقبول.
ولا أقول ذلك لأن المنفلوطي كان قليل البكاء في قصصه ومقالاته، أو كان مغلق النفس على الحزن والأسى بطبيعة مزاجه، ولكن لأنِّي أرى أن غزارة الدموع شيء والإحساس بمصائب النفس الإنسانية شيء آخر؛ فالأطفال هم أكثر الناس بكاءً وأغزرهم دموعًا، ولكنهم أغرب الناس عن الحزن وأنآهم عن لواعج الآلام وتجارب الأيام، والنفوس التي تلقى الحياة بالوجوم والانقباض ولا تعرف فيها غير الشكوى والإشفاق إنما هي نفوس عجزت عن تجربة الحياة، وابتلاء ما فيها من الخير والشر والفرح والحزن فقنعت منها بتلك الخشية الضعيفة التي تبدو للنظر القريب في ثوب الرأفة والحنان، وبتلك القشعريرة المجفلة التي تسري في الجلد لأدنى الملامسة وأهون المقاومة، مثلها في هذا مثل «السابح» المقرور يقف على شاطئ البحر فيقترب منه في خوفٍ وحذر، ويغمس فيه أطراف أصابعه في ترددٍ وأناةٍ، ثم تسري في جسده قشعريرة الماء فيرتد عنه ويحجم عن خوض عبابه، وهم يتهم البحر ويرثي للسابحين فيه! فليس ذلك الرثاء رثاء السابح الذي جرب البحر وصارع أمواجه، ومارس حيتانه، واقترب من أعماق قيعانه، وارتفع على متون أثباجه، وتذوق فيه نشوة السباحة مرة، وشارف فيه وهلة الغرق مرة أخرى، ولكنه رثاء السابح الذي لم يجرب البحر ولم يعرف منه إلا تلك القشعريرة الجلدية التي هى أول حدود البحر في عالم الإحساس، وأحرى بمثل هذه القشعريرة أن تُسمَّى «رحمة الجلد» لا رحمة القلب وصوت الشاطئ الليِّن لا صوت البحر الواسع العميق، ولو أن ذلك «السابح» قذف بنفسه في الماء قبل أن يجسه بأطراف أصابعه، وتحرك فيه بملء قوته قبل أن يقف على شاطئه؛ لعلم أن صرخة البحر الجائش غير صرخة الرمل البليل، وأن الرثاء الذي خامره على حافته هو الحقيق من السابحين بالرثاء، وأن الحزن في غمار الماء قوة وشعور، ولكنه على الحافة الندية خوف من القوة وهرب من الشعور.
•••
وربما كان أدب المنفلوطي أصدق الامثلة وأقربها إلى توضيح الفرق بين ليونة الطبع — وإن شئت فقل دماثته — وبين صدق الإحساس وسرعة العطف على الآلام والأشجان؛ فإن كثيرًا من الناس يُخيَّل إليهم أن الطبع الذي يصفونه بالدماثه والرقة هو أصدق الطبائع حسًّا، وأسرعها إلى العطف على مصائب النفوس والإصاخة إلى شكاية البائسين والمحزونين، وليس أخطأ من هذا الخطأ في فهم حقيقة العطف الصحيح الذي إنما يتفجر من سعة الإحساس وغزارة العواطف ويقظة القلب، لا من تلك الدماثة التي تفتأ باكية شاكية أو من تلك الرقة التي تشفق أن تذوب من الهباء!
وانظر إلى أبطال المنفلوطي في قصصه ومقالاته فكيف تراه يعطف عليهم ويرثي لآلام نفوسهم وأشجان ضمائرهم؟ أتراه سريع الإحساس بما يعتري النفوس ويخامر الضمائر، أم تراه لا يلتفت إليها ولا يشعر بحالها حتى يبلغ بها الرزء أقصى ما تنتهي إليه الأرزاء، ويجرعها الدهر صبابة العذاب وقرارة الكدر والبلاء؟! وما ظنك بقلبٍ لا يستدرُّ العطف على المصاب حتى يجمع عليه بين ضنك الفاقة وتبريح السقم ويأس الحب ووحشة العزلة وذلة اليتم وسائر ما يحيق بأشتات المعذبين في الأرض من صنوف الشقاء وضروب الهوان والحرمان؟! وما ظنك بعينٍ لا تجود بالدمع على السكير أو المقامر أو المنكوب حتى تخرجه من الدنيا شريدًا مسلوبًا أبًا لأيتامٍ يتضورون من الجوع وزوجًا لأيِّمٍ تتبلغ بثمن العفاف؟! أتظن أن قريحة تلد هؤلاء الأبطال المساكين وتسأل لهم الرأفة بتلك الكوارث والأهوال قريحةٌ تجيب داعي العطف القريب، وتسرع إلى الإحساس بالألم الضئيل، أو هي على خلاف ذلك قريحة لا تبصر من مصائب النفوس إلا ما جلَّ وعظم وأوشك أن يتساوى فيه القساة والرحماء، وأن يتلاقى عليه الأعداء والأصدقاء؟!
فأشقياء المنفلوطي كلهم إما فتًى مات أبوه، وجار عليه كفيله، وضَنَّ عليه بابنته التي يحبها وتحبه، ونبذه من بيته إلى حيث لا مال ولا مأوى، فما زال به الفقر والوله حتى أسلماه إلى اليأس والسقم، وما زال به اليأس والسقم حتي أسلماه إلى الموت العاجل في ريعان الشباب، وإما رجل غَرَّه الرفقاء وزيَّنوا له الخمر؛ فشرب منها كأسه الأولى فأدمنها فتلف بدنه، وضاع مورد رزقه وغدر به أصحابه ورفقاؤه، واصطلحت عليه آفات الفاقة وأوجاع العلل وعثرات الجد، ثم طال ثواؤه في البيت بلا طعامٍ ولا فراش ولا عزاء حتى ثوى في مضجعه الأخير، وإما فتاة غوت فقادتها الغواية إلى الفجور، وقادها الفجور إلى الداء وانتهي بها الداء إلى العدم، فالنسيان فالموت الشائن المهين، وهكذا وهكذا.
بحيث ترى أن ليس للناس عند المنفلوطي مصائب غير هذه المصائب الجسيمة، وأشباهها التي يبصرها الأعمى ويسمعها الأصم، ويجتمع بها الجوع والداء والذل والموت بلا افتراق ولا تنويع، وهي على فداحتها وثقل وطأتها ليست مما يُسمَّى بمصائب «النفس الإنسانية» والآم الضمائر الحية؛ لأنها مصائب وآلام يشترك فيها الإنسان والحيوان، ويعرفها كل مَن يعرف الجوع والمرض والموت من هذه الأحياء.
وإنما مصائب النفس وآلام الضمير تلك التي يتفرد بها «الإنسان» الشاعر، وهو تام المآرب من طعامٍ وشراب ومتاع وسلطان، وهي تلك التي تجلبها له نوافل الكمال التي يعلو بها عن الأحياء الدنيا وعن بني آدم الذين يشبهونها في المطالب والهموم. وليس من الضروري أن يُمنى الإنسان بالجوع والضر والتبريح جميعًا؛ ليجرع من كأس الشقاء، ويأخذ بنصيبٍ من لذعات الحزن والضيق وأشجان الأسف والكآبة، فربما ملك وساد وتمت له نعمة المال والبنين، ودانت له المتعة والصحة، وهو في ضميره مع هذا في سورةٍ لا تهدأ وحرب لا قرار لها ولا سلام، وربما عشق وأسعده العشق، وهو في حيرة السعادة نفسها على حال من القلق يشبه الكرب والشقاء، وربما شِيب له الصفو بالكدر؛ لأنه بلغ غاية الصفو أو مُذِق له النعيم بالسآمة؛ لأنه أوفى على مدى النعيم، وربما كانت خلاصة هذه الآلام الرفيعة ألمًا واحدًا يتخللها جميعًا، وترى فيه كأنما «الإنسانية» تشتاق إلى مرتبةٍ فوق مرتبتها وسعادة فوق سعادتها وحاجات من العيش والوجود فوق حاجتها، فهو ألم التشوف إلى ما وراء الإنسانية من حظ الحياة والحنين إلى «المجهول» الذي لا يحده الحس ولا تحيط به الأفكار، وذلك هو الألم الذي لم يعطف عليه المنفلوطي قط، ولم يجعل للإنسانية نصيبًا منه في كل ما ألَّف أو تَرجم.
•••
ونظرة المنفلوطي إلى الأخلاق من فضائل ورذائل كنظرته إلى ألوان الشعور من مسرَّاتٍ وآلامٍ؛ أي أنها نظرة لا تنفذ إلى بواطن «النفس الإنسانية» ولا تشملها بالعطف الواسع والفهم السديد والإدراك السليم؛ لأن الإنسان عنده إما صاحب فضيلة، وإما صاحب رذيلة ولا وسط هنالك بين الحالتين، والعمل من الأعمال عنده إما أبيض وإما أسود ولا مزيج هنالك بين الصبغتين، وحدود المحاسن والمساوئ عنده كأنها مقسومة على رقعةٍ من الورق لا في طبيعةٍ حيةٍ يتصل بعضها ببعضٍ، ويتوشج فيها الخير بالشر والحسنة بالسيئة والقوة بالضعف والصعود بالهبوط، فليس من الجائز في عُرفه أن تكون النفس الواحده معتركًا للفضائل والرذائل تنتصر فيها هذه تارة وتنتصر فيها تلك تارة أخرى، وأن يكون العمل الواحد خليطًا من الخير والشر يميل بعضه إلى الصلاح والكمال ويميل البعض الآخر إلى الطلاح والقصور؛ وذلك لأنه يحكم على الأخلاق والطبائع بأسمائها وتعريفاتها لا بما يحسه من العطف عليها وعلى أصحابها، فيُخطئ هنا في تفصيل الأخلاق كما يُخطئ هناك في تصوير الشعور، ومصدر الخطأين واحد هو أن «النفس الإنسانية» التي يعهدها ويعطف عليها نفس ساذجة محدودة، يقل فيها التركيب وتعدد الجوانب، ويُبلغ مداها في الغور والذروة بأقرب مسبار.
•••
ولكننا نُقدِّر المنفلوطي ولا نريد أن نبخسه حقه ونُنكِر عليه أثره. فلا بدَّ لنا أن نقول إن النفوس التي يعهدها ويعطف عليها أكثر عددًا، وأحوج إلى التثقيف والتعليم من النفوس التي لا عهد له بها ولا صلة عطف بينه وبينها. وإن نظرته إلى الأخلاق والشعور أقمن أن تفيد قُرَّاءه وتحظى لديهم من كل نظرةٍ سواها، ولعلها — لولا ما نأخذه عليه من الليونة والرخاوة في أكثر كتاباته — أصلح زاد لهم من غذاء الفكر والعاطفة، بل لعلهم كانوا في حاجة إلى منفلوطي يظهر لهم لو لم يظهر لهم هذا المنفلوطي الذي عرفوه وأقبلوا عليه.