خواطر في الأخلاق
من الأبيات المنظومة التي يحفظها كلُّ تلميذٍ مصريٍّ في صغره هذا البيت المشهور في تزكية علم التاريخ:
ولكننا نظن أن التمثيل أولى بهذه التزكية من التاريخ؛ لأنه يعرض لنا الأعمار وأطوار الحياة فتشربها نفوسنا، وتتغذي بها أرواحنا ونعود بعد رؤيتها وكأننا عشنا كل عمرٍ من تلك الأعمار، واستخلصنا لأنفسنا كل طورٍ من تلك الأطوار، وإذا وُجِدَت للنفوس حالات وطبائع يعز على الحياة أن تصوغها في قالبٍ واحدٍ من اللحم والدم، فقد يخلق التمثيل ذلك الشخص الذي عز على الحياة فيُخرِج لنا الطبائع النفسية والمواهب العقلية كاسية بالجسد المنظور تعمر في الأذهان ما لا يعمره المولودون في الأجساد.
ومن «الشخصيات» التي عرضها علينا التاريخ والتمثيل معًا شخصية «قيصر بورجا» الغربية العجيبة التي ظهرت في إيطاليا في عصر النماذج النادرة من رجال السيف والريشة والقلم، والتي عَدَّ منها التاريخ في نحو جيلٍ واحدٍ أسماء كأسماء ليوناردو دافنشي وميكالانجلو ورافائيل وسافانرولا وماكيافلي وكولمبس، وكلهم — بعد استثناء رافائيل — كانوا أبطالًا غريبين عجيبين قَلَّ نصيبهم من «الإنسانية» واشتد التقارب بينهم وبين الخلائق العلوية أو السفلية؛ فهم في الخير والشر إما مَرَدَة جبابرة تعنيهم «الفكرة» التي استحوذت على قلوبهم أكثر مما يعنيهم الأحياء الذين يعيشون بينهم، وإما سحرة أبالسة يتقلبون في جو الخبث والجريمة كما تتقلب السمكة في الماء بلا استغرابٍ ولا تهيُّب ولا ندم. فليوناردو الذي كان يترك المدينة تحترق تحت عينه وينظر إلى السماء؛ ليرصد حركات الطيور ويستخرج منها قوانين الطيران، وميكالانجلو الذي كان يخلق العمالقة في الأبدان والصروح، وسافانرولا الذي كان يبغض الفن الجميل حبًّا للتقشف واحتقارًا لهذا العالم الفاتن المطرود من رحمة الله! وماكيافلي الذي كان يُبشِّر الملوك والأمراء بدين الفتك والقسوة وكتاب الخديعة والنفاق، وكولمبس الذي كانت تضيق به الأرض؛ لأنه يبتغي فيها طريقًا إلى الغرب من بحر الظلمات وينشد الهند فتعثر قدماه بعالمٍ جديدٍ، كل أولئك كانوا في مختلف المناهج والدروب رواد عوالم جديدة، أو كانوا هم أنفسهم عوالم غاصة تمشي في أثواب رجال.
وما كان للنابهين في ذلك العصر إلا أن ينبتوا كما نبت أولئك الجبابرة أخلاطًا من القوى العلوية والسفلية، لا يعنيها أمر الناس كما تعنيها مقاصد السماء وجهنم. أو لم يكن العالم كله في عصرهم ميدانًا تتقاتل فيه السماء وجهنم بما لديهما من الملائكة والشياطين ليهوي به الظافر إلى مغاور ظلام أو ينجو به إلى معارج نور؟
•••
أما «قيصر بورجا» فكان أنموذجًا غريبًا غامضًا بين هذه النماذج يستحق أن يُخلق في الدنيا؛ ليكون طُرفة من طُرف الفن إن لم يكن رجلًا من رجال التاريخ! كان وسيمًا رشيقًا قويًّا يحسن الرقص ويركب الخيل ويصارع الثيران، ويتلهى في ساعات الفراغ بطي قضبان الحديد بين يديه! وكان فارسًا شجاعًا وسائسًا حصيفًا وحاكمًا رفيقًا برعاياه جميل الإدارة والتصريف، وكان إلى كل هذا قاتلًا مجرمًا بفطرته؛ يقتل في هدوءٍ وراحة بال كإجرام الذئب والثعبان أو كإجرام السيف الذي يقطع الأعناق والفأس التي تهشم الرءوس بلا كلفة ولا تبكيت ضمير. قتل أخاه وهو في العشرين من عمره على أثر ليلة راضية قضياها عند أمهما يودعانها قبل السفر! ثم قتل زوج أخته، وقيل إنه إنما قتله وقتل أخاه من قبله؛ لأنهما كانا يقاسمانه سرير تلك الأخت التي كانت تضمد بين الأخوين! ولم يكن هذا الفتى الرشيق من طلاب المجالس وعشاق الملاهي والصبوات كدأب أمثاله «الدنيوين» ولكنه كان في حياته الخاصة كثير الخلوة يميل إلى اعتزال الرجال والنساء، ولا يُقبل على موائد الشراب، فهو دنيوي لا يألف الناس ومجرم مطبوع شديد الضراوة لا ينفر من سريرته كما ينفر المجرمون من سرائرهم، وهو عبد مخلص لمطامعه ولكنه سيد للجريمة يسوقها إلى يده غير منساقٍ إليها بدافعٍ من الغضب والاضطراب، وهو وسيم الطلعة ممسوخ الطويَّة، ولكنه قادر على إخفاء ما في قلبه فلا ينضح على وجهه الصبوح أثر من خبايا ذلك القلب المظلم الكنود، أو لعله لا قلب هناك ولا مجاهدة في الإخفاء بل خواء أصم لا يشعر بنفسه ولا يدري بما يقع فيه.
هذه صورة مجملة حفظ التاريخ خطوطها لذلك الطراز العجيب من الآدميين، غير أن المؤلف الذي أظهره على المسرح أراد أن يمحو من تلك الصورة بعض الظلال، وأن يصقل ما بقي من سوادها بصقال المعاذير.
•••
قلنا إن «قيصر بورجا» كان أنموذجًا غريبًا بين الآدميين، ولكن أستاذ الشكوكيين وشفيع النقائص في زمانه «أناتول فرانس» يقول إن بورجا موجود في كل مكانٍ مخبوء في كل إنسانٍ، كالظلم في طبائع الأحياء، القوة تُظهِرُه والضعف يُخفِيه، ويزعم «أن هؤلاء الإسبان الرومانيين (يعني أسرة بورجا) لم يُخلَقوا — على قدر ما نعلم — بقلوبٍ مخالفةٍ لقلوب كافة الناس ولا بعقولٍ مخالفةٍ لعقولهم، وإن عادة الإجرام التي طال فيهم عهدها لم تستأصل جذورهم من أرومة الإنسانية، ولم تقطع ما بينهم وبينها من عروقٍ داميةٍ يمتُّون بها إليها …»
«… كلا، إن البورجيين ما كانوا أعاجيب في الخلق بمعنى هذه الكلمة الصحيح، وما كانت طبيعتهم الخلقية مشوبة بأية آفة دخيلة مستسرة في تركيب البنية، فإنهم لم يختلفوا في أفكارهم ولا في شعورهم عن أبناء سافيلي وجايتاني وأورسيني الذين كانوا يعيشون حولهم، وإنما كانوا خلائق عنيفة في إبان عنفوان الحياة، وكانوا يشتهون كل شيء وما كانوا في هذه الخلة إلا من بني الإنسان، وكانوا قادرين على أن يفعلوا كل شيء وهذا الذي أخرج منهم أولئك الجُناة المرعبين، إلا أن من الخطر أن نعمي أنفسنا عن هذه الحقيقة، فإن في الجماعات الإنسانية كثيرًا جدًّا من البورجيين؛ أعني كثيرًا جدًّا ممَّن رُكِّب في طباعهم سعار الشره إلى المال واللذَّات، ولا يزال في جماعتنا عددٌ كبيرٌ منهم يجوزون فيه ببنيةٍ شائعة دارجة، ويخشون من رجال الشرط! إنها هي الحضارة التي تستنفد دوافع الطبيعة، أما الأساس في الإنسان فذاك لا يتغير وذاك فظ شديد الأثرة والغيرة، مطبوع على الشهوة والضراوة.»
أفكذلك الإنسان حقًّا؟ أو يبعد الإنسان من مثل الإنسانية وينفصل عن أساسها كلما ابتعد من مثال قيصر بورجا وانفصل عن طرازه؟ إن الآراء لا تتفق في هذا، ولكن الرأي الذي نقلناه من مقالات أناتول فرانس شبيه به، بل شبيه بالنغمة التي أذاعتها في هذا الزمان العقولُ المستنيرةُ التي أطفأت كل نورٍ غير ما تسميه نور العلم الحديث! وفي طليعتها زمرة العقول الفرنسية؛ لأنها عقول الطلاوة والحقائق التي يستبد بها الفكر، ويأبى عليها أن تلجأ إلى حمى السريرة وحظيرة المجهول. فالقول الفصل عند جمهورهم الآن أن الأخلاق طوارئ لا أساس لها في غير العُرف، وضعفٌ تبرأ منه الطبائع القوية والإرادة السليمة، ويقول جورج دوماس وهو باحث فرنسي آخر: «إن حالة الغم والتعب تلائم بزوغ الندم، فتنقض عقائد العُرف في هذه الحالة على الروح المتعبة لتغمرها ثم لا تزال بها تتقلب فيها وترتع في جوانبها. والندم هو العلامة على أن عقائد العُرف — وإن شئت فسَمِّها العادات الأخلاقية — قد ظفرت بغرائزنا، ولا يتم هذا الظفر على الأغلب إلا في نوبات الغم والفتور، ومن ثَمَّ يسوَّغ لنا أن نصل إلى هذه النتيجة وهي: أن الحياة الصحيحة «غير خلقية» بطبيعتها، وأن الضعف والمرض والآداب الخلقية متزاملة بطبيعتها.»
•••
وقد يكون من اللغو هنا أن نرجع الي أدوار الهمجية الأولى؛ لنتخذ منها حكمًا على أصول الأخلاق ومُثُلها العليا؛ إذ كيفما كانت أخلاق الإنسان في تلك الأدوار فليس من المُسلَّم به أن حالة الهمجية هي الحالة الطبيعية الصحيحة بأي معنًى من معاني الصحة في الجسد أو العقل، ولا من المفروض أنها الطبيعة كأحسن ما يمكن أن تكون، فماذا يريد أن يقول ذلك الباحث الذي يُنقِّب عن الضمير والآداب والأخلاق في الفطرة الهمجية فلا يجدها أو يجدها على غير ما نعرفه في هذه الأزمان؟ إنه لا يستطيع أن يصل من ذلك التنقيب إلى نتيجةٍ تنفي أي شيءٍ مما يثبته نُصراءُ الأمثلة العليا في الآداب والأخلاق.
ولا يُفيد الغاضين من أصول الآداب والأخلاق في تلك المباحث العقيمة والحقائق الناقصة أن يستكشفوا لنا رجلًا قويًّا ميت الضمير أو عبقريًّا عظيمًا يقترف الجرائم ويستبيح الموبقات. فإن هذه الكشوف المكشوفة للجميع لا تنتهي بهم إلا إلى نتيجةٍ بدهيةٍ من قبيل تحصيل الحاصل؛ لأنها لا تختلف عن القول بأن سوء الخلق عيب قد يكون في العظماء الأقوياء كما يكون في الصغار الضعفاء، ومَن الذي قال غير ذلك؟! مَن الذي كان يحسب أن العظمة تنفي جميع العيوب؟! على أن ما يُلاحَظ على أولئك العظماء قد يقابل بملاحظةٍ أخرى هي أصح وأجدى، وهي أن عيوب الخُلُق تفشو في الضعفاء كلما اشتد بهم الضعف، وعجزوا عن مكافحة الإغراء والتحريض، وأننا يجوز لنا أن نبني على ذلك أن الخُلُق قوة واضحة، وأن الجريمة والغواية ضعف وسقم.
ومن خطأ التفكير أن يفهم باحثٌ كجورج ديماس أن الأخلاق مزاملة للضعف؛ لأن الندم يظهر على النفس في نوبات الغم والفتور. فإن الندم ليس بأول ما يشعر به الإنسان من بواعث الأخلاق، ولكنه عاقبةٌ تأتي بعد شعوره بقوانينها وتمكُّن تلك القوانين من ضميره وإحساسه. وسواء أكان الندم أول الشعور الأخلاقي أم كان هو آخره فمما لا ريب فيه أنه ليس بالشعور الوحيد الذي تظهر به النزعة الأخلاقية في نفس الإنسان. فإن من الناس لَمَن تراه أقوى ما يكون حين تأخذه النزعة الأخلاقية، وحين يقدم على المكروه أو يقمع هواه عما يحب بسلطانٍ من القوة لا يقدر عليه الواهن الهزيل. وليس في استطاعة أحد أن يقول إن الضعف يخلق الآداب؛ لأنه والندم يتزاملان أو يتجاوران، فَمن قال ذلك كان كمَن يقول إن ضعف الأبدان يخلق جراثيم الأمراض لأن هذه الجراثيم تسطو على الضعفاء وتجتنب الأقوياء.
لا، ليس قيصر بورجا بالمَثَلِ الشَّائع للنفس الإنسانية، وليس من الطبيعة الصحيحة أن يتجرد الإنسان من العطف بينه وبين الطبائع الأخري حين تُتاح له أسبابه، ولْتُنكر «الحفريات» و«وظائف الأعضاء» كل واجبٍ يثبته الضمير وتؤمن به البصيرة، فلن يسعها أن تنكر هذه الحقيقة الجامعة، وهي أن الواجب أساس الحياة وأننا نصون الحياة ونحبها؛ لأننا مُقيَّدُون بواجبها لا لأننا مختارون فيما نحب ونكره منها. وما دامت للإنسان حياة فعلَيْه واجب، وما دامت تحيط به في هذه الأرض قوة أكبر من قوته وحياة أكبر من حياته فعليه — شاء ذلك أو لم يشأ — واجب فوقه ومثل عالٍ أعز من الحياة.